منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#42833

مفهوم العنف ومشكلة الصراع السياسي في الفقه السياسي الإسلامي مقاربة منهجية





ظل العنف ظاهرة متفشية في الاجتماع البشري عبر التاريخ؛ فعنف الإنسان ضد أخيه الإنسان ليس طارئا في حياتنا اليوم، بل هو سلوك بيولوجي وسياسي واجتماعي وديني وثقافي صاحب رحلة الإنسان في الحياة. وبرغم أن رسالة الأديان عامة ومقاصدها الكبرى كانت ومازالت هي إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس، والسعي لتجفيف منابع العنف والعدوان والتعصب، إلا أن الطرق التكوينية لأنصار الأديان من الوجهة المعرفية والنفسية، ذات الطابع الأحادي، مسخت الروح التسامحية والتطهيرية و التنزيهية الرقيقة للأديان، فاستحال التدين إلى إعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحطم كافة المكاسب الحضارية والمعرفية للبشرية، في إطار سادية وجدانية ومعرفية تتلذذ بقتل الضحايا واستباحتهم.

وعليه فإن ثقافة العنف المبثوثة في أركان كثيرة من تراثنا الفقهي والفكري تحتاج إلى مجهودات كبيرة لكنسها عبر الاستيعاب المنهجي والتاريخي لسيرة الرسول (ص) أكبر دعاة اللاعنف،وكذا استيعاب الحياة الروحية الخصبة في الدين. وتعميق الأبعاد الإيمانية الحقة عوض الطقوس العقدية والفقهية الجافة. أبعاد إيمانية ممتلئة بالمعنى، يتخلق فيها الإنسان بأخلاق الله، كما تغدو صفاته تعالى مؤشرات وغايات عظمى لمخلوقاتهu.

والحديث عن موضوعة العنف في الفكر الإسلامي، وخصوصا في حسم الصراع السياسي يدخل في إطار عرض إمكانات الفكر الإسلامي في ضوء معطيات الفقه وسقفه المعرفي، كما أن البحث في هذا الموضوع هو إخضاع البعد العام في الشخصية المسلمة وفي المجتمع للدراسة والبحث والنقد. وسنحاول هنا عرض تصور أبرز المنظرين الإسلاميين لفكرة إسلامية المعرفة، وهو الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، صاحب التخصص في الفكر الإسلامي والعلاقات الدولية، من خلال كتابه "العنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي".v

وقد عمل أبو سليمان على دراسة موضوعة العنف في الفكر السياسي الإسلامي من خلال دراسة الأحاديث النبوية التي يسميها أهل الحديث ب"أحاديث الفتن"، وهي روايات شائعة في أدبيات الثقافة الدينية عند عموم المسلمين، خصوصا السّنة منهم. وهي أحاديث يذهب ظاهرها إلى منع مقاومة الانحراف والفساد في الدولة والمجتمع بكل الوسائل المادية والمعنوية، كما يحكي تفاصيل ما سيقع بعد وفاة النبي بين المسلمين من فتن وصراعات سياسية عنيفة. فهذا النوع من الأحاديث لا يمنع كل أشكال المبادرة إلى العنف فحسب، بل يمنع كل أنواع العنف ولو كان باسم حق الدفاع عن النفس. وهذا النوع من الأحاديث والروايات يغري بالدراسة والبحث خصوصا وأن تاريخ المسلمين منذ بداية تشكل دولتهم زاخر بالفتن والثورات والصراعات الدامية، مع فشل كل محاولات الإصلاح السياسي السلمي والمدني في تغيير أوضاع المجتمع وحمل الدولة على احترام الحقوق.

وقد حاول أبو سليمان فهم أحاديث الفتن وقضايا العنف السياسي في ظل تجربة النبي عليه السلام، وكيفية إدارته للصراع السياسي العقدي الإصلاحي في المراحل المختلفة؛ سواء في مكة ضد الملأ القرشي أو في المدينة حيث استكملت دولة الإسلام شروط البناء. فكثير من الباحثين في السيرة النبوية يظنون أن النبي (ص) لم يواجه دولة قريش الكافرة في مكة لأن موازين القوى لم تكن في صالحه، إلا أن أبا سليمان يؤكد أن النبي عليه السلام لم يواجه الملأ القرشي بالقوة، معتمدا أسلوب الصبر والمقاومة السلمية داخل مجتمع مكة، لأن موقفه مبدئي من نبذ العنف ورفضه وسيلة للتعامل مع مشاكل المجتمع الواحد ولو كان قادته كفارا، كحال قريش في مكة، والتزام، ضرورة، الحلول السياسية السلمية للصراع السياسي داخل المجتمع الواحد، مع ترك التعامل مع أي انحراف أو ظلم من السلطة السياسية أو من فئة من فئات المجتمع إلى رحم الأمة عامة وقادة الرأي والمجتمع المدني فيها.

إن القراءة المنهجية والشمولية والتحليلية التي قدمها أبو سليمان للتجربة النبوية انتهت به إلى نتائج مفاجئة بالنظر إلى ما كان وما يزال سائدا بين عامة المسلمين في التعامل مع الاختلافات السياسية داخل المجتمع الواحد؛ فالتجربة النبوية في الإصلاح تأسست على قاعدة أن المشاكل السياسية داخل المجتمع الواحد، مع وجود الانتماءات السياسية المختلفة والمذاهب العقدية الفرعية، وما يستتبع ذلك من اختلاف توجه المشاعر الوجدانية والروابط الاجتماعية والمصالح المادية الفئوية والأدبية، هذه المشاكل لا تحل إلا بشكل سياسي إيجابي بناء. ولا يصح إعطاء المشروعية لأي حل من الحلول، يقوم على أساس وسائل القهر والإكراه والعنف، من قبل أي فئة من فئات المجتمع حاكمة كانت أم محكومة. أما إذا لجأت أية فئة من فئات المجتمع حاكمة كانت أم محكومة إلى العنف والعدوان فمسؤولية التصدي لها تنبثق من داخل رحم الأمة.

إن فهم ظاهرة العنف السياسي الذي يعصف بأمن كثير من البلدان الإسلامية لا يتم إلا ضمن نظرة شمولية ثقافية شجاعة في إطار كليات الدين وانتظارات الإنسان منه، والانتماء الشامل والواسع لنادي الإنسانية. في غياب هذا الوعي لن تزداد حركات الإصلاح السياسي في الأمة إلا مراكمة للفشل والدخول في انسدادات فكرية وحركية لا حدود لها.

العنف في الفكر السياسي الإسلامي: المبدأ والخيار.

فشلت ثورة الحسين بن علي وعبد الله ابن الزبير ومحمد النفس الزكية. وسقطت دولة الأمويين والتي تأسست بدورها على الدهاء حينا وعلى العنف أحيانا كثيرة. وجاءت الدولة العباسية فاستعملت نصيبها الوافي من العنف في حق معارضيها. كل هذا انتهى بالفقهاء خصوصا من مدرسة المدينة إلى تحريم الفتنة والخروج على السلطان ولو كان ظالما. هذا الموقف على غرابته وصعوبة قبوله بالمنطق السياسي الحقوقي اليوم، لأنه بسهولة يفهم على أنه يكرس الظلم ويحمي الظالم، إلا أنه في حقيقته يعبر عن نتيجة طبيعية لفشل ثورات الإصلاح على الأنظمة المستبدة في التاريخ السياسي الإسلامي؛ فقد مرت ثورات لم تغير وضعا، أو بالأحرى، لم تحق حقا ولم تزهق باطلا، ولم تنتج إلا المزيد من إراقة الدماء وتمزيق خرائط الأمة.

وبدأ تيار الفقهاء السياسيين يتحول من دعم تيار الثورة والرفض إلى العزلة والمعارضة، ولو بالصمت وعدم المشاركة؛ مع تجنب دعم أي نزعة في اتجاه العنف وإراقة الدماء. وعليه وقعت مفارقة كبيرة وخطيرة في التاريخ السياسي للمسلمين وهي القطيعة بين العلماء، وهم عادة القادة الفكريون والعقديون لجمهور الأمة، وبين السلاطين، وهم عادة القادة السياسيون للأمة. فاستقل العلماء بالجوانب الفردية لشخصية المسلم ونجحوا في الانفراد بتوجيهها مستثمرين مصداقيتهم الأخلاقية والسلوكية، علما وإخلاصا وطهر اليدين، وابتعدوا عن شؤون الحكم وقضايا النظام العام؛ إذ تركوا الحكام يتصرفون في غالب الأحيان بمحض أهوائهم ودعم مساعديهم من المتملقين والانتهازيين والوصوليين. كان من نتيجة ذلك الانفصام تشكل نفسية سلبية عند عموم المسلمين تعتبر أنظمة الحكم والنظام العام أنظمة اغتصاب غير مشروعة، فتعمل على مقاطعتها وعدم الصدق معها، كل هذا أضعف البعد الوجودي والجماعي والتكافلي العام في تكوين نفسية الفرد المسلم، وغيب الحس النفسي الإيجابي من النظام والمصالح العامة للمجتمع؛ يمكن أن نفهم ذلك اليوم في ضعف حس المواطنة والغيرة على المصلحة العامة والإحجام على المشاركة في تدبير الشأن العام وحالات العنف الخفي الشعوري والمادي ضد كل ما له علاقة بالنظام العام؛ طرقات، منشآت ...

لذلك كله أصبح المجتمع المسلم يعيش في هجنة تصورية ويعاني من تشوه إدراكي؛ فبات اللجوء إلى العنف أو عدمه في أي موقف داخل المجتمع يخضع لأهواء فردية أو فئوية من دون استحضار مصلحة المجتمع. وعند عدم اعتماد العنف فذلك لا يكون عادة من منطلق مبدئي يرفض العنف بل لضعف أو حرج ذاتي مؤقت. وعليه ظل موقف أبناء الأمة، بنظر عبد الحميد أبو سليمان، في المراوحة بين الاستسلام والمقاومة المدنية والمقاومة المسلحة في مواجهتهم للأنظمة المستبدة ومظالمها، من دون تفريق بين ما هو من قضايا الإصلاح السياسي داخل المجتمع والكيان السياسي الواحد، وبين ما هو من قضايا الصراع الخارجي مع أنظمة أخرى، أو ما قد يتولد من مواجهات بسبب التصدي لمهمة الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر والحض على مكارم الأخلاق في حدود ما تقضي به طبيعة التعامل مع السلطة والسياسة الشرعية، مما لا يرقى إلى مرتبة الصراع السياسي وتنازع السلطة داخل المجتمع.

إن الحركات السياسية الإسلامية ما زالت مضطربة في الموقف من العنف بين المبدأ والخيار رغم مرور قرون طويلة على تجربة النبي (ص) السلمية في مكة أو المدينة، ومرور السنين الطويلة على تجارب العنف السياسي في تاريخ المسلمين التي لم تزد الأمة إلا تخلفا وارتباكا حضاريا وسياسيا. ويذهب محمد مهدي شمس الدين، أبرز المفكرين والعلماء الإسلاميين المعاصرين، في كتابه "فقه العنف المسلح في الإسلام"u إلى أن شدة الضغوط على الأمة جعلت الحركات الإسلامية تعيش في "مناخ العنف"؛ ذلك ما أثر على أفكارها ومناهجها وطبعها بطابع العنف؛ فأصبحت تبحث عن أساس فقهي لشرعية استعمال العنف المسلح، فوقعت في أخطاء كثيرة على مستوى المفاهيم وكذا التطبيقات، كما وقعت ضحية بعض علماء الدين الذين استجابوا لبعض نوازعهم وحاجاتهم النفسية، أو لفهمهم الخاطئ فأباحوا العنف المسلح.

إن الانضباط المنهجي والرؤية الشمولية للنص في تداخله مع التاريخ هو المدخل الرئيس في تكوين وعي مفاهيمي سليم في قضية العنف لحل النزاعات السياسية.





فنصوص القرآن وتجربة النبي (ص) والمرويات المصححة تميز بين قضايا الصراع السياسي داخل المجتمع الواحد، وبين قضايا الصراع السياسي بين المجتمعات والأمم، وبين قضايا الدعوة والنصح والتربية الأخلاقية مما لا يدخل في صلب قضايا صراع الحكم والسياسة. كما أن هذه النصوص المرجعية عند عموم المسلمين وكذلك التجربة النبوية تعتبر العنف والدخول فيه فتنة محرقة للمجتمع بعامة، وتمنع من المشاركة فيها والصبر على آذاها ومنع الاشتراك في أعمال العنف طلبا لحلها، ولو كان ذلك بدعوى الدفاع عن النفس. هذه النصوص اختلطت عند الكثيرين بنصوص تتعلق بالجهاد ودفع العدوان والانتصار للمستضعفين في الأرض، كما اختلطت بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين. كلها تحتاج اليوم إلى فهم منتظم ونسقي يضع كل مجموعة في مجالها الصحيح بعيدا عن الخلط الذي يتحول إلى مواقف أبرزها العنف والعدوان وسفك الدماء.

إن فهم العلاقة بين النصوص المرجعية والمواقف السياسية والحركية المختلفة بشأن استخدام القوة والعنف على عهد النبوة يحتاج إلى دراسة منهجية شمولية تحليلية منضبطة للخروج برؤية مبدئية ومفاهيمية في الأمر. فلا ينبغي الاقتصار على النصوص وحدها خارج سياقاتها وملابساتها التاريخية كما يفعل كثير من مرضى الهوس الديني من المتنطعين، بل لا بد من استعراض التجربة النبوية بجملتها داخل سياقها التاريخي؛ فأحاديث الفتن التي رويت عن الرسول (ص) قبيل وفاته ينهي فيها مطلقا عن المشاركة المسلحة في الفتن وما يدور فيها من الصراعات السياسية المسلحة، وبالمقابل يدعو إلى ضبط النفس ضبطا كاملا ولو تعرض الطرف الداعي إلى الاصلاح للعدوان من قبل الآخرين، وهذا انسجاما مع قوله تعالى: "قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" (المائدة 27-30). وقوله تعالى: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان 17). وقول النبي (ص) كما روى البخاري: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". وفي صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري (رض) أن رسول الله (ص) أوصاه عند حدوث الفتنة والصراع المسلح داخل المجتمع بقوله: "عليك بالصبر ... تلزم بيتك::: قال أبو ذر، فإن دخل علي بيتي، أي مقاتل، قال له النبي (ص) فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق توبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه".

فهذه النصوص المرجعية تثبت أن المسلمين تعرضوا للعنف والعدوان في مكة وفي المدينة ولكنها، أي هذه النصوص، ظلت تدعو المسلمين إلى الإصرار على الدعوة وعدم اللجوء إلى الرد بالعنف مهما أوذوا من قبل صفوة قريش وملئها. فظلت حركة النبي (ص) في مكة حركة دعوة إصلاحية سلمية، برغم توفر جماعة المسلمين على طاقات مالية وقتالية جديدة دخلت في الإسلام أمثال حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب. ولكن كان شعار المنهج القرآني المؤطر لسيرة النبي (ص) هو "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ" (غافر 55) وقوله تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" (المزمل 8-10) وقوله تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ" (الروم 58-60) وقوله تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان 17) وقوله تعالى: "وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" (يونس 104-109) وقوله تعالى "إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون" (المؤمنون 109-111).

وعند الانتقال إلى المدينة تغير نهج المسلمين بقيادة النبي (ص) لما استكملوا تأسيس دولتهم المفاصلة لدولة قريش فرخص لهم الدفاع عن أنفسهم وعن دعوتهم وعن المستضعفين. وحتى في لحظة القتال المرخص والمحدود كان النبي (ص) لا تتاح له فرصة للتفاوض أو التعاهد أو الجنوح للسلم إلا استثمرها وأعطاها الأسبقية على المواجهات المسلحة؛ نموذج صلح الحديبية، وفتح مكة...؛ وكان هدف العنف في هذه اللحظة هو الدفاع عن النفس وإعطاء الناس حرية الخيار في العقيدة ونهج الحياة. قال تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله" (الحج 39-40) وقوله تعالى: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" وقوله تعالى: "ولا زالوا يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" (البقرة 216-218) وقوله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" (التوبة 36)، وقوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل" (التوبة 36-37).

وقوله تعالى: "أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" (التوبة 13-14)، وقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّار" (التوبة 123) وقوله تعالى "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا" (النساء: 90-91). وقوله تعالى: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا" الأنفال: 61)، وقوله تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الممتحنة: 8-9). فالآيات القرآنية ومن خلال نموذجها الاستدلالي تثبت أن تربية النبي (ص) لأصحابه على أسس سلمية ومدنية عميقة جعلت القتال بينهم شيئا مستهجنا ومكروها. (كتب عليكم القتال وهو كره لكم).

فالنبي (ص) منع أصحابه من الرد بقوة وعنف على الملأ القرشي عندما كان في مكة، لأنه كان ملتزما بموقف مبدئي وثابت في منهج الدعوة وفي منهج التغيير والإصلاح داخل المجتمع الذي كان المسلمون جزءا منه وهو المجتمع المكي القرشي الكافر، ولم يكن أمر خيار وسياسة؛ فالصراع في مكة بين النبي (ص) وأصحابه وبين الملأ القرشي كان صراعا داخليا سياسيا داخل مجتمع واحد، حاولت فيه الدولة القرشية قمع حركة النبي (ص) الإصلاحية الإسلامية السلمية والقضاء عليها؛ حركة نبوية تصر على إعلان مبادئها والجهر بالتوحيد وإشاعة المفاهيم الإصلاحية التي تدعو إلى الخير والمعروف، وتنهى عن الفساد والمنكر والطغيان، مستعملة كل الأساليب السلمية والتواصلية، والدعوة بالحسنى والصبر على الأذى وعدم اللجوء إلى أية وسيلة من وسائل القوة والعنف. فالتجربة النبوية في مكة أثبتت أن لا مجال في الإصلاح الإسلامي لأساليب العنف ولو كان تحت شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالأمر السياسي هنا لا يترك للأفراد أو الطوائف المحدودة لتتخذ المواقف العدوانية باسم الأمة، ولكنها من أمور شورى المجتمع وممثليه الشرعيين؛ سواء كانوا في الحكم أو في مؤسسات المجتمع المدني. وعليه لا يحق لأي أحد من الأفراد أو الفئات والطوائف أو الحركات السياسية الإصلاحية أن ينصبوا أنفسهم حكاما غير شرعيين يمزقون الأمة باستخدام العنف، ويجعلون من أنفسهم عصابات سياسية تتناحر باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



كما أن أحاديث الفتن، من دون الدخول في قوتها الاستدلالية وامتلائها بمضامين غريبة وإثارتها مشكلة المعرفة الغيبية في علم النبيu، هذه الأحاديث من وجهة أخرى توقفنا عند الموقف الإسلامي المبدئي من العنف سواء في مكة أو في المدينة؛ أي منع استخدام القوة والعنف في حسم الصراعات السياسية داخل المجتمع الواحد. أما صراع المدينة مع مكة في بداية الدعوة الإسلامية فكان صراعا بين دولتين مختلفتين، بتعبير اليوم، كان محدودا في الزمان والمكان، وانتهى في الأخير إلى وحدة اندماجية من خلال عملية سلمية ضخمة هي فتح مكة.

إن الدراسة المنهجية والشمولية والتحليلية لتيمة العنف في الفكر الإسلامي السياسي يحتاج إلى الانضباط لقواعد أساسية يأتي في مقدمتها استحضار بعدي الزمن والمكان أو ما يمكن تسميته ب "التاريخ" الذي أحاط بالنصوص والمواقف، في إطار حاكمية المبادئ العامة لحركة الإسلام والسقف المعرفي للطبائع والسنن. فالفكر السياسي لكثير من الجماعات الإسلامية السياسية ما زال يعاني من أحادية المعرفة وجزئيتها وضعف الانضباط المنهجي في الدراسة والتحليل وصياغة المواقف، إذ ما زال التفكير المدرسي، بجزئيته وسطحيته وتاريخانيته وعاطفيته وتقليديته، هو الموجة لكثير من الإسلاميين ولجمهورهم قديما وحديثا.

إن المنهجية الضابطة أساسية عند النظر في النصوص المرجعية خاصة عندما يتعلق الأمر بتنظيم الشأن العام الاجتماعي وإدارة شؤون الحكم والسياسة وعند النظر في أحاديث الفتن والعنف السياسي، وفي أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأي خلل في الربط بين هذه النصوص وبين المفاهيم الكبرى للقرآن الكريم، مع استبعاد التاريخ الذي أحاط بتلك النصوص وبآفاقها مما كان يوجه النبي (ص)، أي إغفال لهذا المعطى يقود إلى أخطاء في التصور والاستنتاج وإلى كوارث عند اتخاذ المواقف وتطبيقها. إن غياب الوعي المفاهيمي في دراسة الفكر الإسلامي عبر التاريخ هو المسؤول الأول عن سوء استخدام مكانة المقدس ومتعلقاته في ضمير الأمة، وتمزيقها فكريا وماديا. فتنزيل النصوص بشكل آلي على أساس لغوي محدود على الحوادث والمجالات المفارقة في الزمان والمكان يؤدي إلى مخاطر لا حدود لها. ولعل هذا من الأسباب التي دفعت كبار الصحابة إلى النهي عن الإكثار في التحديث (أي رواية الأحاديث) والخوض في "السنة" ذات الدلالات المختلفة والمتناقضة؛ وكانوا يقللون من إشهار قدسية مصادر السنة في وجه عامة المسلمين في غياب وعي تاريخي بحدودها وآفاقها.

وعليه، ينتهي المفكر الإسلامي عبد الحميد أبو سليمان إلى أن جل ما تعلق بالنصوص النبوية بشؤون السياسة والحكم والسلطة وما يتعلق بها من قضايا الصراع السياسي والفتنة والدعوة إلى الإصلاح والسعي إلى حماية المجتمع والحقوق والأخلاق العامة وكذا مستويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي نصوص محدودة في الزمان والمكان؛ فهي ترتبط بالعرب وطبائعهم وسقفهم المعرفي على صدر الإسلام؛ إذ كانوا بدأة متناحرين تعوزهم التنظيمات الاجتماعية والسياسية والحضارية الكبرى على شاكلة الأمم الأخرى المجاورة لهم. ففهم نصوص الفتنة يستلزم فتح كتاب التاريخ، أو بالأحرى قراءتها في ضوء التاريخ، لاكتشاف مقاصدها وغاياتها التي توخاها الرسول (ص)؛ إذ كان همه (ص) إخراج العرب من بدائيتهم الاجتماعية وإخضاعهم لنظام اجتماعي حضاري، عكس تعامله (ص) مع اليهود أو النصارى أو الصابئة أو المجوس عبدة النار والذين ورثوا نماذج اجتماعية حضارية كبيرة.

إن التغيير السياسي في المنهج النبوي، عكس ما تروج له بعض الحركات السياسية الإسلامية، يتم في ظل مقاصد الشريعة الهادفة بالأساس إلى حماية المجتمع وتوفير الاستقرار والنماء دون عنف ولا فساد ولا بغي.

فأحاديث الفتنة كانت في شق منهجي منها متناغمة مع نصوص القرآن الكريم المحرمة للعنف والمواجهة المسلحة داخل المجتمع الواحد؛ وفي شق آخر كانت ملزمة للمسلمين في بداية تشكل كيانهم السياسي والاجتماعي؛ فهي لا يجب أن تفهم اليوم على أساس تكريس الاستبداد وحماية الحاكم الظالم، بل من هذه الناحية هي مرتبطة بسياقها التاريخي لا تتجاوزه. فهي تؤكد، يومذاك، على ضرورة الخضوع للسلطة العامة ومقاومة بقايا الهمجية والتوحش الصحراوي القبلي وكل آفات التمرد والتمزق والانفصال عن جماعة المسلمين، وهذا ما بدأت مؤشراته في نهاية حياة الرسول (ص) في الثورات المضادة ورفض قبائل الخضوع لسلطة الدولة ونظام المجتمع المدني، خاصة في وسط الجزيرة العربية وجنوبها قادها المتنبؤون الكذابون، مسيلمة والأسود وسجاح. كما رفعت بعض القبائل راية العصيان على الدولة وامتنعت عن أداء الزكاة، وهي الأسباب الحقيقية التي فجرت حروب الردة لتستعيد الدولة هيبتها وسلطتها. فطبيعة الحياة العربية البدوية هي التي أوجبت تلك التوجيهات الانضباطية الصارمة للجماعة في ذلك التاريخ. فأوليات النبي (ص) كانت تثبيت دعائم المجتمع ومحو كل نوازع الأنانية والفوضى والتوحش والصراع. على هذا الأساس يفهم أبو سليمان أحاديث الفتن من مثل قول النبي (ص) من حديث أم سلمة "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع؛ قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم، قال: لا ما صلوا" (رواه مسلم: 3446). وقول النبي (ص) في حديث سلمة بن يزيد الجعفي: "اسمعوا وأطيعوا [أي الحكام] فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " (رواه مسلم:3433). وقول النبي (ص) في حديث عوف بن مالك الاشجعي: سمعت رسول الله (ص) يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة".(رواه مسلم: 3448) فهذه النصوص تثبت أن النبي(ص) لم يكن يرى في نقائص الأحكام الشرعية ذريعة لاستعمال العنف والمواجهة المسلحة لتسوية النزاعات وحسم الصراع داخل المجتمع، فكان موقفه مبدئيا من العصيان المسلح ومن العنف. إلا أن هذا الموقف المبدئي لرسول الإسلام من العنف، استغله كثير من المتفيهقين ممن ساروا في ركب السلطة والحكم، مرة بحسن نية، ومرات كثيرة بسوء نية للاصطفاف مع الظلمة في تاريخ الإسلام، واستغلال التوجهات النبوية التي كانت محكومة بسياقاتها التاريخية، استغلوا كل ذلك لتمكين مظالم الحكم الفاسد والاستسلام لأصحاب القوة، وقتل روح المقاومة المدنية والسلمية الحازمة في الأمة ومواجهة الفساد والانحراف. إن الفهم المنهجي لتلك النصوص يفيد تحريم العنف والمواجهة المسلحة داخل المجتمع الواحد، مع الإبقاء على المقاومة المدنية مع تحميل الحكام مسؤولياتهم. لكن حق المقاومة ومعاقبة المفسدين ليس حقا للأفراد ولا الحركات السياسية، بل هو حق الأمة والمجتمع بكل فئاته ومؤسساته، لأن انفراد فصيل دون الآخر بالعملية واختطافه لحق الأمة هو المدخل الكبير لبث الأحقاد والضغائن في رحم المجتمع، وأنواع الثأر المدمر، مما يغيب القضايا الكبرى للأمة ويدخل المجتمع في حلقات مغلقة من العنف والنزاع الذاتي المجنون.

إن من أساسيات المقاومة المدنية السلمية داخل المجتمع الواحد نبذ العنف وتحريم رفع السلاح داخل المجتمع الواحد، مع الخضوع لتواضعات المجتمع المدني دستوريا وثقافيا، ورفض كل انفراد بالتمرد والفوضى والعصيان المسلح والرجوع إلى حياة البادية المتوحشة، والإيمان الراسخ بقوة أساليب المقاومة السلمية في الإصلاح وإحقاق الحق وقمع البغي والفساد مصادقا لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وقول النبي (ص) لما سئل أي الجهاد أفضل فقال: "كلمة حق عند سلطان جائر". وليس الذهاب إلى السلطان بسيف أو رمح أو حزام ناسف للقتل أو الاغتيال، ولكن بصدر مفتوح يقول الحق وليستشهد بعدها!

إننا في حاجة اليوم إلى ترسيخ مفاهيم الإسلام الأصيلة في التغيير، وهي الأساليب السياسية المدنية والتزام معالجة المشاكل السياسية بالأدوات السياسية وليس بالعنف وسفك الدماء، فلا يليق أن يلصق بمنهج الإسلام تغيير، مهما توفرت لأصحابه النيات الصادقة، يقوم على جرائم القتل أو الذبح أو التعذيب أو التفجير أو التدمير أو التخريب، لتحقيق مكاسب سياسية. فمنهج الإسلام في التغيير مدني بالكامل تدعمه تربية سياسية شجاعة مستقرة في ضمير الأمة وفي وعيها الديني وثقافتها وأساليبها التربوية.

إن المقاومة المدنية ترسخ المشاعر الإصلاحية عند عموم المسلمين وتنزع المشاعر الانتقامية، وتنمي حس المسؤولية واحترام الحياة الإنسانية. إن الثورات الإصلاحية الكبرى عبر تاريخ الإنسانية لم تقم إلا على أكتاف وعقول المفكرين الأحرار بعد اقتناع الأمة بفكرهم ورؤيتهم ورفضها للأنظمة الشمولية والمستبدة المتدثرة بأقنعة دينية أو قومية أو ثورية.

إننا في حاجة اليوم إلى لاهوت ديني للتحرير يقتلع موجات العنف التي اختلطت بالأفكار الدينية السامية والرقيقة، ويعمق النهج المدني والسلمي للتغيير؛ فالحركات السياسية الإسلامية مسؤولة اليوم عن جزء من هذا الإنجاز الكبير، وتجسيده في فكرها وممارستها وتكوين أفرادها وتوجيه كوادرها وبناء مؤسساتها الداخلية؛ فالتجارب الإسلامية الأعجمية في إيران وتركيا وماليزيا، تجارب سلمية ناجحة، في مقابل التجارب الإسلامية العربية في مصر وسوريا والجزائر كانت كارثية لاعتماد العنف، زاد من خطر نتائجها على المجتمع الواحد انغماس أصابع الأيادي الأجنبية والمحلية العميلة فيها. وقد أكد محمد مهدي شمس الدين في كتابه "فقه العنف المسلح في الإسلام"، وهو عالم دين شيعي لبناني، أن اللجوء إلى العنف وسيلة فاشلة في العمل السياسي مما يفرض على الحركة الإسلامية استبعاده وعدم اللجوء إليه بأي وجه من الوجوه. كما أّكد من الوجهة الفقهية عدم مشروعية استعمال العنف المسلح ضد الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية، كما أن استعمال العنف المسلح ضد الأحزاب العلمانية المنافسة غير مشروع، بل هو من المحرمات العظيمة. كما حرم استهداف الأجانب غير المسلمين المستقرين في البلاد الإسلامية، تحت غطاء الجهاد، لأنهم أهل عهد وأمان؛ بل تجب شرعا حمايتهم. كما حرّم استعمال العنف ضد محلات الخمور والقمار؛ لأن محاربة ذلك يتم عبر النضال السلمي والتوعية الثقافية والاجتماعية والتعليمية.

فالتزام المنهج السلمي المدني في التغيير والإصلاح هو الخيار الأساس، ولا تحسم الخلافات إلا بخيار الأمة والمجتمع عبر مؤسسات الديمقراطية والانتخابات العامة النزيهة، ولا مكان للمنازعات المسلحة لا من الناحية الشرعية التأصيلية ولا من الوجهة الحركية الواقعية، إذ دائما يكون ثمنها باهظا للجميع.

والمنهج السلمي في التغيير في الحركات السياسية الإسلامية ليس مجرد قضية هيكلية تنظيمية وإنما هو تربية فكرية وحركية تمس التنظيم والتعليم والتعامل الفردي أو الجماعي، لأن مقاصد الإسلام الكبرى هي إعطاء الإنسان حق الاختيار وتقرير المصير أيا كان اختياره للدين أو الشريعة التي يطمئن لها؛ إذ "لا إكراه في الدين" (البقرة: 256). إن التحدي اليوم أمام الحركات الإسلامية هو ترسيخ عدم مشروعية استخدام العنف في الإصلاح والتغيير في المجتمع الواحد، وأن لا سبيل إلا الصبر والمصابرة والمثابرة والمدافعة السلمية في التعامل مع الشأن العام السياسي؛ فلا نلمك اليوم أي تجربة تثبت نجاح العنف في تحقيق الإصلاح والقضاء على الظلم والاستبداد على الرغم مما بدل من جهود وسالت من دماء، بل نملك نماذج كثيرة تؤكد أن باب العنف هو المدخل إلى جهنم.

خاتمة

في الأخير إن قتل بذور العنف في ثقافتنا وفقهنا هو تشييد لمنهج أصيل في التغيير هو المقاومة المدنية السلمية، والتي تحترم اختيارات الإنسان.

والمقاومة المدنية السلمية من خلال الحافز الديني هي تعميق للنزعة الإنسانية في الدين وتحريره من الفهم المتوحش؛ فهم يختطفه ويحيله إلى منبع للعنف والتعصب والعدوان.

قد يرفض عموم المتدينين المدرسيين مفهوم النزعة الإنسانية في الدين، وسيعتبرون الأمر مجرد استيلاب لنزعات فلسفية وفكرية غربية علمانية، ناسين، أو بالأحرى غافلين عن أن الدين جاء من أجل الإنسان؛ كرمه ورفع من مكانته، واعتبره أهم موجود خلقه الله في العالم، بل خلق كل شيء تسخيرا له، وجعل حياته أغلى رأسمال في الوجود. "ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا". فحياة الإنسان هي مناط الخلافة وموطن المسؤولية والأمانة الإلهية. ثم إن إلغاء البعد الإنساني في الدين، مما تسعى إلى تنفيذه النزعات السلفية واللاهوتية الكلاسيكية، هو تكثم على مساحات شاسعة في النص المرجعي الإسلامي تملؤها الرحمة والرفق والعدالة والمحبة والجمال. وكم كان المفكر الإسلامي الكبير جودت سعيد شجاعا في الرد على كتابات سيد قطب، خاصة كتابه "معالم في الطريق"؛ فألف جودت سعيد كتاب "مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي". معتبرا مجهوده يدخل في مدرسة الإصلاح الديني التي أسسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. وقد تميز جودت سعيد، من دون كثير من المفكرين الإسلاميين، بنزعته الإنسانية والتي جعلته يعلن بشجاعة أن جميع الأديان "تجليات تاريخية لحقيقة واحدة ". كما عبر عن أن وظيفة المقدس هي لتجنب معاناة الإنسان وتحريره وليس لاستلابه.

أما منابر السلفية التقليدية فتقصفنا كل يوم بمفاهيم غريبة ومغلوطة بخلفياتها وبمسبقاتها وقبلياتها وأطرها الذهنية. فقد حولت الدين إلى مقولات وشعارات مغلقة سوداء تستنزف الطاقة الحيوية الإبداعية لرسالة الدين، بل تنسخ الدين وتستبدله بمفهومات وأفكار مقطوعة الجذور عن روح الدين وجوهره، وتحوله إلى مجموعة من الأغلال والقيود المضايقة لحركية الإنسان، فتعطل دينامية التطور البشري، وتستدعي القيم الرديئة الممتدة في البداوة، وتحييها وتدافع عنها بمنطق دوغمائي على أساس أنها هوية وخصوصية وأصالة، وهي ليست في حقيقتها إلا تمثلات وتعبيرات وتقاليد بيئية قاسية وغليظة، جاء القرآن الكريم ليمحوها ويتجاوزها إلى ما هو أنفع وأجمل.