منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#43477
حين اندلعت شرارة الحرب الأهلية بلبنان في أبريل (نيسان) 1975، انقسم الرأي العام الإقليمي والدولي حول الكيفية التي يمكن من خلالها وقف الحرب، فهناك من كان يرى أن الأزمة اللبنانية مسألة داخلية وعربية، ولهذا فإن التدخل العسكري الدولي مرفوض، وهناك - رأي ثان - كان يطالب بالتدخل العسكري المباشر، أو على الأقل تقديم مساعدات عسكرية ولوجيستية للجيش اللبناني، بحجة أنه لا يمكن للحكومة المركزية القضاء على سلاح الميليشيات اللبنانية والفلسطينية، أو حملهم على قبول وقف إطلاق النار من دون وجود تحالف دولي قادر على ردع الأطراف الخارقة للهدنة، أو حفظ الأمن في بلد مليء بالأحقاد التاريخية والثارات الطائفية.

كان هناك طرفان يقودان الحوار، ويؤثران بشكل مباشر على خيارات الرئيس الراحل سليمان فرنجية، فمن جهة كان الرئيس السوري حافظ الأسد يحذر ويهدد فرنجية من تدويل الأزمة، لكي لا يتحول لبنان إلى الوصاية الأميركية والفرنسية، ومن جهة أخرى كان بعض المسؤولين الأميركيين يحاولون إقناعه بضرورة اللجوء لمجلس الأمن، أو على الأقل مواجهة الميليشيات الفلسطينية بالقوة، في مقابل تأمين الدعم المادي والعسكري له.

اختار فرنجية - مكرها - طلب التدخل السوري في يونيو (حزيران) 1976، ولم يمض شهران حتى منحت القمة العربية في الرياض، سوريا شرعية البقاء على الأراضي اللبنانية. طبعا، استمر الاحتلال السوري للبنان لأكثر من ثلاثة عقود، بحيث دمرت هوية الدولة المدنية، وانتهكت سيادتها، وأصبحت مركزا للمنظمات الإرهابية تحت ذريعة «المقاومة». في سياق استذكاره للخطأ التاريخي بتفويت فرصة التدخل الدولي لحفظ سيادة الدولة اللبنانية من الانهيار، كتب هنري كيسنجر في 2005 حاثا القوى الدولية على التدخل في لبنان لطرد الجيش السوري ونزع سلاح حزب الله: «ثلاث مرات منذ عام1958، تمكن التدخل الأجنبي من المحافظة على وحدة لبنان، والحيلولة دون الانزلاق إلى العنف واللجوء إلى التحكيم بين الطوائف.. وسوف يتم اختبار ما إذا كانت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي جادين في حشد تدخل دولي لضمان ألا تنفجر المشاعر المتضاربة مجددا» (هيرالد تربيون 15 مايو/ أيار 2005).

اليوم، وعلى مقربة من بداية العام 2012، تواجه سوريا السيناريو ذاته، إذ قادت عشرة أشهر من المظاهرات وحالات العصيان المدني، إلى انقسام البلد طائفيا ومناطقيا، بحيث بات يتحول تدريجيا نحو الحرب الأهلية. حتى الآن سقط ما يفوق الخمسة آلاف قتيل، وتم تهجير الآلاف أو إيداعهم السجون، وتحمل الأخبار كل يوم المزيد من أخبار القتل، والانشقاقات المستمرة في الجيش والوظائف الحكومية، والانهيار الدراماتيكي للاقتصاد والخدمات الأساسية. أمام حالة الفشل في سوريا، واستمرار نظام الرئيس بشار في رفض المبادرات الإقليمية والدولية، وتغليب منطق العنف المسلح، فإن الخيار العسكري المباشر - أو عبر تسليح الثورة - بات مطروحا بشدة، كوسيلة ضرورية للحفاظ على وحدة الدولة السورية، ومنعها من الانزلاق في أتون حرب طائفية وإقليمية ستحولها بالضرورة إلى دولة «فاشلة»، بحيث تكون مركزا جديدا يضاف إلى عواصم زعزعة الاستقرار الإقليمي، وملاذا للجماعات الإرهابية.

حاليا، هناك طرحان يسيطران على جدل الأزمة السورية: أحدهما مع التدخل العسكري - أو عبر تسليح الثوار - قياسا على النموذج الليبي، الذي لم يكن ليتمكن من إزاحة نظام القذافي إلا بالاستعانة بطيران الناتو، وقيادته اللوجيستية والاستخباراتية للمقاتلين المتطوعين. أما الرأي الآخر فيحذر من التدخل العسكري الأجنبي، وضد تدويل الأزمة، تحت ذريعة صيانة الثورة السورية من الانزلاق إلى العنف المسلح، أو فتح المجال أمام الدول الغربية للنفاذ إلى صياغة مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي، بما في ذلك الموقف من إسرائيل. أنصار التدخل العسكري، أو تسليح الثورة - سواء عربيا أو دوليا - يجادلون بأن الثمن الإنساني الباهظ في الوقت الراهن يحتم التدخل لأجل حماية المدنيين، لذا، فحجتهم لتبرير التدخل قائمة بشكل رئيسي على دواعي حقوق الإنسان، وتغيير النظام الديكتاتوري القائم، كما حدث في بلدان أخرى كتونس ومصر.

أما المحذرون من غلواء تدويل الأزمة السورية عسكريا، فهؤلاء يجادلون بأن مصير التدخل سيكون الفشل لأسباب، منها: وجود اعتراضات دولية (كفيتو روسي أو صيني)، أو أن من شأنه أن يدفع نحو تدخل إيراني مباشر أو عبر حلفائها، كحزب الله وحماس، لدعم النظام القائم أو نشر الفوضى والإرهاب في حال سقط النظام. هم أيضا يحذرون من أن التكلفة الإنسانية ستكون فادحة، كما حدث في العراق وأفغانستان.


وأخيرا، فإن نتائج التدخل العسكري غير مضمونة، إذ إن سقوط نظام الأسد قد يقود إلى تفتت البلد إلى كانتونات طائفية مسلحة لن تعدم العثور على ممول أو متبن لسلاحها من الدول الإقليمية، ثم إن بناء دولة ديمقراطية جديدة بدستور توافقي، وعقد اجتماعي جديد تحفظ فيه حقوق الأقليات، أمر غير مضمون. هذا الاعتراض الأخير يحمل قدرا كبيرا من الأهمية، فقد يقود التغيير في سوريا إلى صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة، وهؤلاء لا يختلفون كثيرا عن تسلط حزب البعث؛ نظرا لتاريخهم الدموي الانقلابي، ولاستخدامهم - كما بقية الأحزاب الإسلامية - لورقة «المقاومة»، حيث من الممكن أن يستمر «الإخوان» في ذات السلوك التحريضي على العنف، ودعم الميليشيات الدينية المسلحة، وتبرير اختطاف الدولة تحت ذريعة تحرير الأرض، ومواجهة إسرائيل. الدول العربية - بالطبع - لها آراء متباينة مع وضد فكرة التدخل، فهناك دول - كالجزائر واليمن - لا تريد أن يتكرر السيناريو الليبي، فقد يتهدد التغيير بقاءهم في السلطة، وهناك من الدول من يؤمن - أو يرغب - في نهاية النظام السوري الحالي لأسباب تتعلق بحلفه مع إيران، وتدخله السلبي في لبنان وغزة، ويشيرون إلى أن إضعاف نظام الأسد، وإشغاله بنفسه، أقل ما يمكن أن يحدث.

حتى نكون منصفين لا بد أن نؤكد أن هناك دولا مؤمنة حقا بضرورة التدخل العسكري لأسباب إنسانية، وهذا لا ينفي في الوقت ذاته أن تكون لديها مصالح استراتيجية قد تتحقق بشكل مصاحب لرؤيتها الأخلاقية «المثالية» للأزمة. في رأيي، التدخل العسكري المباشر في هذه المرحلة هو الخيار الحقيقي - والواقعي - إذا كان المجتمع الدولي والدول العربية جادين في تجنيب الدولة السورية الانهيار السياسي، وتفسخ النسيج الاجتماعي الذي يربط الطوائف والأعراق السورية بعضها ببعض. الشهور العشرة الأخيرة أثبتت أن المتظاهرين السوريين غير قادرين على إسقاط الأسد وحدهم، ثم إن تسليح المدنيين السوريين ستكون له نتائج سلبية على المدى البعيد، لأنه سيقود إلى عسكرة المجتمع السوري، وتوفير الأسلحة اللازمة لاستمرار الحرب الأهلية بين السوريين. طبعا، لسنا نقلل من التأثيرات السلبية للتدخل العسكري المباشر، ولا من العقبات الدولية والإقليمية التي ستواجهه، ولكن يبدو أن سوريا لم تعد تحتمل المزيد، فبغير تغيير النظام قد لا يمكن الحفاظ على سيادة الدولة السورية واستقرارها كما نعرفها.

تذكروا أن تدخل آيزنهاور العسكري في 1958 أنقذ لبنان من التفكك، وأن فشل التدخل 1975 قاد إلى تدمير البلد. إن الضمانة الحقيقة التي قد توفرها الجامعة العربية، والدول المجاورة لسوريا، هي في تغيير النظام عسكريا إذا لزم الأمر، عبر المؤسسات الدولية، ولكن قبل ذلك عليهم أن يعملوا على صياغة بديل مدني (علماني) من المعارضة الداخلية والخارجية أكثر تمثيلا من المجلس الوطني الانتقالي الحالي، ملتزم بالتحول الديمقراطي تحت رعاية المؤسسات الدولية، وتوفير الضمانات للطائفة العلوية والمسيحيين لكي لا يتم التمييز ضدهم، أو حرمانهم سياسيا واقتصاديا.

إذا لم يلتزم السوريون المعارضون بإصدار عفو عام عن أعضاء البعث، والتعهد بالمحافظة على مؤسسات الدولة والتزاماتها الدولية، فإن فرص إنقاذ سوريا غير مضمونة. قد يرى البعض أن تبرير التدخل العسكري ضد سوريا هو أمر انتقائي مقارنة بغيره من النماذج. حسنا، هذا صحيح، إلا أن المطالبة به ليست إنسانية - على الرغم من أهمية ذلك - ولكن مطلب استراتيجي لئلا يستعيد هذا النظام الراعي للإرهاب عافيته من جديد. يقول كمال جنبلاط (1978) في كتابه «هذه وصيتي»: «لعبت دمشق دور العروبة والقومية والموقف الفلسطيني المتشدد.. كل ذلك أسهم في جعل الحملة السياسية السورية غير فعالة عمليا على المدى الطويل. فالتسوية الغامضة غير المحددة، هي تسوية سيئة دائما».