- الأحد ديسمبر 18, 2011 10:01 pm
#43509
"الديمقراطية" بشروط
قضايا ومناقشات الانتفاضات التي اجتاحت عدداً من الدول العربية بدءاً من تونس، والتي لم تنطفئ نار بعضها حتى اليوم، اندلعت بعد أن فاض كأس ظلم الأنظمة الحاكمة ولم تعد هناك قدرة على الاحتمال أكثر. لقد استشرى الفساد وعمت شروره، فأثرى اللصوص وعزّت اللقمة على الجماهير، وقضت سياسات النهب والإفقار على فرص الحياة الكريمة حتى تساوى الموت والحياة في نظر الأغلبية المسحوقة. تحقق ذلك بتكميم الأفواه، ومنع الحريات، وتغوّل أجهزة الأمن والمخابرات على الناس، فضاعت الحقوق وديست الكرامات، وتحول المجتمع إلى غابة. هكذا ولدت الشعارات في الشوارع والميادين حاملة مطالب “الحرية والعدالة والعيش الكريم”، لكن حامليها قوبلوا من جانب معظم الأنظمة بالرفض والقتل، فتحولت إلى شعارات “إسقاط النظام”.
كانت دوافع الذين فجروا تلك الانتفاضات “اجتماعية”، جوهرها “الحرية والكرامة”، لكنها على الطريق تم تجاهلها حيناً وطمسها حيناً آخر، ثم أخذت اسم “الديمقراطية وحقوق الإنسان”. جاء هذا الاستبدال للشعارات في سياق “عملية سياسية” حملت معها “تزييفاً” للوعي، و”اختراقاً” للانتفاضات لصالح المتنفذين منهم.
لقد ثبت من مسلمات القرن الماضي أن لا ديمقراطية سياسية قبل الديمقراطية الاجتماعية، فالفقير لن يصل إلى حقوقه الديمقراطية قبل أن يتحرر من ضغوط الفقر وسيطرة المال. ولم يكن لصندوق الاقتراع هذه القدرة المزعومة على التغيير، لكن التحولات السياسية التي تحققت على مستوى العالم في العقدين الماضيين، أعطته ادعاء هذه القدرة، في ظل رأسمالية “معولمة” ومتوحشة. ولأن هذه الانتفاضات كانت عفوية، ولأن الذين فجروها كانوا يفتقرون إلى “آليات” التغيير الحقيقية، وقبلها يفتقرون إلى “تصور عملي” للتغيير، منطلقين من “سلمية الثورات” لمواجهة أنظمة وسيلتها الوحيدة للبقاء القمع وأجهزته، بدت “الديمقراطية” وبدا “صندوق الاقتراع”، بعد كثير من الأخذ والرد، كأفضل الوسائل المتاحة أمام الذين يحلمون بالتغيير، وأصبح الأقدر على تحقيق هذا الحلم، المرشح للفوز، هو الأقدر تنظيمياً ومالياً، من قبل إجراء الانتخابات.
على تلك الخلفية لم يكن مفاجئاً فوز التيارات الإسلامية في تونس ومصر والمغرب، ولن يكون مفاجئاً تقدمها، ومن ثم فوزها في ليبيا، ومن بقي من الدول العربية. لكن المفاجأة كانت في حجم ذلك الفوز، ما أثار المخاوف من وصولهم إلى السلطة وإقامة دول “دينية” لدى أوساط كثيرة، سياسية و”إثنية”، محلية وإقليمية، ودولية. وبالرغم من كل التصريحات المتكررة على ألسنة زعماء تلك التيارات، المؤكدة على توجهاتهم “المدنية” وعدم وجود أية نوايا لديهم لإقامة دول “دينية”، إلا أن الخوف والتخويف ظلا يسيطران على الخطاب السياسي لمن يطلق عليهم “العلمانيون والليبراليون الديمقراطيون”. ونتيجة لذلك، احتدم النقاش في تونس، وصولاً إلى “الدستور الصغير” وقبل الشروع في وضع الدستور الجديد، وارتفع مستوى التوتر بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري في مصر حول تشكيل “المجلس الاستشاري” حتى تساءل البعض ما إذا كان سيتكرر سيناريو “جبهة الإنقاذ” الجزائرية في مصر. وحتى في المغرب، الذي أجريت فيه الانتخابات وفقاً للتعديلات الدستورية التي اقترحها الملك محمد السادس، وفاز في انتخاباتها “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي، وحيث لا دستورَ جديدَ يراد وضعه، تتسع الخلافات ويتعثر فيها تشكيل الحكومة على خلفية الاعتبارات والمخاوف ذاتها.
إن ما يجري في هذه الدول يشير إلى “التناقض” الذي يخبئه أولئك “الديمقراطيون”. فمن جهة، يقولون إن “الديمقراطية هي الحل”، ومن جهة أخرى، يتبين أنهم يقصدون “ديمقراطية” بعينها، “ديمقراطية” تحقق لهم أغراضهم هم، بصرف النظر عن النتائج التي أفرزها “صندوق الاقتراع” الذي أعطوه سلطة التغيير. إن التعامل “الانتقائي” مع أي “مفهوم”، يخلق التناقض عندما أقبلُ ما يناسبني ويلائم أهدافي، وأرفض ما كان غير ذلك. وحتى لا يقع هذا التناقض، على القابلين بالمفهوم أن يقبلوه كما هو، وبالتالي أن يقبلوا ما يفرزه من نتائج، وإلا فسنجد أنفسنا أمام عدد لا ينتهي من “صور” للمفهوم. وفي حالة مفهوم “الديمقراطية”، سنجد أنفسنا أمام عدد من المفاهيم للديمقراطية، لكل مفهوم معناه، وكل يضعه لنفسه.
لقد فازت التيارات الإسلامية في الانتخابات التي أجريت حتى الآن، وقد يفوزون في الانتخابات التي ستُجْرَى في المستقبل، لأسباب عدة، لعل في مقدمتها أنهم لم يحكموا حتى اليوم، ولم يجربوا، ولم يعرف أحد كيف سيمارسون السلطة عندما تكون لهم. وما داموا قد وصلوا إلى هذه السلطة عبر “الديمقراطية”، فلماذا لا يُعْطَون الفرصة ليكشفوا عن نواياهم، وما يمكن أن يقدموه، أو يضيفوه إلى تجارب الآخرين الذين سبقوهم في الوصول إليها؟ وفي كل الأحوال، فإن منعهم من نيل “حق” استحقوه، وفق قواعد كانت كل القوى والأطراف السياسية قد قبلتها، قد يضع هذه الأطراف جميعاً، ومعها جماهير الشعب، أمام احتمالات هي أكثر سوءاً مما يمكن أن يترتب على توليهم السلطة، وسيكون إعطاؤهم هذه الفرصة هو السبيل إلى سد الطريق أمام هذه الاحتمالات السيئة.
وباختصار، لِيُعْطَ الإسلاميون فرصة تولي السلطة، إن كان هذا ما أعطاه لهم “صندوق الاقتراع”. إن هذا يضعهم أمام أحد احتمالين: إما أن يكونوا صادقين في نواياهم وما يقولونه في خطابهم السياسي “المدني”، ويثبتوا بالدليل المادي أنهم “أصدق” مما توقع ويتوقع الكثيرون، فيكون الشعب و”عملية التغيير” المطلوبة هما الرابح من وصولهم إلى السلطة، وبذلك تسقط التخوفات المتداولة وتنتهي “الفزاعة” المتمثلة فيهم، وإما أن يظهروا على “حقيقتهم” التي يحاولون إخفاءها، كما يقال، وعندها سيخسرون الانتخابات المقبلة.
قضايا ومناقشات الانتفاضات التي اجتاحت عدداً من الدول العربية بدءاً من تونس، والتي لم تنطفئ نار بعضها حتى اليوم، اندلعت بعد أن فاض كأس ظلم الأنظمة الحاكمة ولم تعد هناك قدرة على الاحتمال أكثر. لقد استشرى الفساد وعمت شروره، فأثرى اللصوص وعزّت اللقمة على الجماهير، وقضت سياسات النهب والإفقار على فرص الحياة الكريمة حتى تساوى الموت والحياة في نظر الأغلبية المسحوقة. تحقق ذلك بتكميم الأفواه، ومنع الحريات، وتغوّل أجهزة الأمن والمخابرات على الناس، فضاعت الحقوق وديست الكرامات، وتحول المجتمع إلى غابة. هكذا ولدت الشعارات في الشوارع والميادين حاملة مطالب “الحرية والعدالة والعيش الكريم”، لكن حامليها قوبلوا من جانب معظم الأنظمة بالرفض والقتل، فتحولت إلى شعارات “إسقاط النظام”.
كانت دوافع الذين فجروا تلك الانتفاضات “اجتماعية”، جوهرها “الحرية والكرامة”، لكنها على الطريق تم تجاهلها حيناً وطمسها حيناً آخر، ثم أخذت اسم “الديمقراطية وحقوق الإنسان”. جاء هذا الاستبدال للشعارات في سياق “عملية سياسية” حملت معها “تزييفاً” للوعي، و”اختراقاً” للانتفاضات لصالح المتنفذين منهم.
لقد ثبت من مسلمات القرن الماضي أن لا ديمقراطية سياسية قبل الديمقراطية الاجتماعية، فالفقير لن يصل إلى حقوقه الديمقراطية قبل أن يتحرر من ضغوط الفقر وسيطرة المال. ولم يكن لصندوق الاقتراع هذه القدرة المزعومة على التغيير، لكن التحولات السياسية التي تحققت على مستوى العالم في العقدين الماضيين، أعطته ادعاء هذه القدرة، في ظل رأسمالية “معولمة” ومتوحشة. ولأن هذه الانتفاضات كانت عفوية، ولأن الذين فجروها كانوا يفتقرون إلى “آليات” التغيير الحقيقية، وقبلها يفتقرون إلى “تصور عملي” للتغيير، منطلقين من “سلمية الثورات” لمواجهة أنظمة وسيلتها الوحيدة للبقاء القمع وأجهزته، بدت “الديمقراطية” وبدا “صندوق الاقتراع”، بعد كثير من الأخذ والرد، كأفضل الوسائل المتاحة أمام الذين يحلمون بالتغيير، وأصبح الأقدر على تحقيق هذا الحلم، المرشح للفوز، هو الأقدر تنظيمياً ومالياً، من قبل إجراء الانتخابات.
على تلك الخلفية لم يكن مفاجئاً فوز التيارات الإسلامية في تونس ومصر والمغرب، ولن يكون مفاجئاً تقدمها، ومن ثم فوزها في ليبيا، ومن بقي من الدول العربية. لكن المفاجأة كانت في حجم ذلك الفوز، ما أثار المخاوف من وصولهم إلى السلطة وإقامة دول “دينية” لدى أوساط كثيرة، سياسية و”إثنية”، محلية وإقليمية، ودولية. وبالرغم من كل التصريحات المتكررة على ألسنة زعماء تلك التيارات، المؤكدة على توجهاتهم “المدنية” وعدم وجود أية نوايا لديهم لإقامة دول “دينية”، إلا أن الخوف والتخويف ظلا يسيطران على الخطاب السياسي لمن يطلق عليهم “العلمانيون والليبراليون الديمقراطيون”. ونتيجة لذلك، احتدم النقاش في تونس، وصولاً إلى “الدستور الصغير” وقبل الشروع في وضع الدستور الجديد، وارتفع مستوى التوتر بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري في مصر حول تشكيل “المجلس الاستشاري” حتى تساءل البعض ما إذا كان سيتكرر سيناريو “جبهة الإنقاذ” الجزائرية في مصر. وحتى في المغرب، الذي أجريت فيه الانتخابات وفقاً للتعديلات الدستورية التي اقترحها الملك محمد السادس، وفاز في انتخاباتها “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي، وحيث لا دستورَ جديدَ يراد وضعه، تتسع الخلافات ويتعثر فيها تشكيل الحكومة على خلفية الاعتبارات والمخاوف ذاتها.
إن ما يجري في هذه الدول يشير إلى “التناقض” الذي يخبئه أولئك “الديمقراطيون”. فمن جهة، يقولون إن “الديمقراطية هي الحل”، ومن جهة أخرى، يتبين أنهم يقصدون “ديمقراطية” بعينها، “ديمقراطية” تحقق لهم أغراضهم هم، بصرف النظر عن النتائج التي أفرزها “صندوق الاقتراع” الذي أعطوه سلطة التغيير. إن التعامل “الانتقائي” مع أي “مفهوم”، يخلق التناقض عندما أقبلُ ما يناسبني ويلائم أهدافي، وأرفض ما كان غير ذلك. وحتى لا يقع هذا التناقض، على القابلين بالمفهوم أن يقبلوه كما هو، وبالتالي أن يقبلوا ما يفرزه من نتائج، وإلا فسنجد أنفسنا أمام عدد لا ينتهي من “صور” للمفهوم. وفي حالة مفهوم “الديمقراطية”، سنجد أنفسنا أمام عدد من المفاهيم للديمقراطية، لكل مفهوم معناه، وكل يضعه لنفسه.
لقد فازت التيارات الإسلامية في الانتخابات التي أجريت حتى الآن، وقد يفوزون في الانتخابات التي ستُجْرَى في المستقبل، لأسباب عدة، لعل في مقدمتها أنهم لم يحكموا حتى اليوم، ولم يجربوا، ولم يعرف أحد كيف سيمارسون السلطة عندما تكون لهم. وما داموا قد وصلوا إلى هذه السلطة عبر “الديمقراطية”، فلماذا لا يُعْطَون الفرصة ليكشفوا عن نواياهم، وما يمكن أن يقدموه، أو يضيفوه إلى تجارب الآخرين الذين سبقوهم في الوصول إليها؟ وفي كل الأحوال، فإن منعهم من نيل “حق” استحقوه، وفق قواعد كانت كل القوى والأطراف السياسية قد قبلتها، قد يضع هذه الأطراف جميعاً، ومعها جماهير الشعب، أمام احتمالات هي أكثر سوءاً مما يمكن أن يترتب على توليهم السلطة، وسيكون إعطاؤهم هذه الفرصة هو السبيل إلى سد الطريق أمام هذه الاحتمالات السيئة.
وباختصار، لِيُعْطَ الإسلاميون فرصة تولي السلطة، إن كان هذا ما أعطاه لهم “صندوق الاقتراع”. إن هذا يضعهم أمام أحد احتمالين: إما أن يكونوا صادقين في نواياهم وما يقولونه في خطابهم السياسي “المدني”، ويثبتوا بالدليل المادي أنهم “أصدق” مما توقع ويتوقع الكثيرون، فيكون الشعب و”عملية التغيير” المطلوبة هما الرابح من وصولهم إلى السلطة، وبذلك تسقط التخوفات المتداولة وتنتهي “الفزاعة” المتمثلة فيهم، وإما أن يظهروا على “حقيقتهم” التي يحاولون إخفاءها، كما يقال، وعندها سيخسرون الانتخابات المقبلة.