منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#43546
]انواع الحركـــــــــــــة الصهيونية[/b](4)
بدأت الصهيوينة كحركة رؤيوية في أوروبا الشرقية الصهيونيين الأوائل كانوا من أبناء الجيل الناشئ في الستينات والسبعينات للقرن التاسع عشر, تأثروا إلى حد عميق بالتفكير الراديكالي للعصر. وهذا الجيل شكل حركة المسكالا "التنوير اليهودي" والتي كانت تنتظر حلول عصر عادل تنال فيه جميع الاقليات مكانًا متساويًا وتحقيق الحكم الذاتي لكن فريقا آخر من أمثال سمولنسكي (1842-1885) وليلينبلوم (1843-1910) دعا إلى قيام قومية يهودية علمانية في فلسطين كشرط لتطور اليهود في العصر الحديث ومن رحم هذا الاتجاه اليهودي ولدت حركة "أحباء صهيون" التي تزعمها ليونبسكر (1821-1891) وإعتمدوا على فكرة "التحرر الذاتي" عن طريق الهجرة إلى فلسطين وتأسيس المستعمرات الزراعية هناك, وبالفعل فقد أنشأوا المستوطنة الصهيونية الأولى "بتاح تكفا 1881"
1. الصهيونية العملية : طورت تقليد أحباء صهيون، اقامة تعاونيات زراعية في فلسطين حيث أصبح غوردون (1856-1922) القائد الفعلي لها، وقد نادى بضرورة العمل في أرض إسرائيل.
2. الصهيونية السياسية : التشديد على قيام الدولة اليهودية المستقلة سياسيا، تزعمها بنسكر وهرتزل (1860-1904).
3. الصهيونية الثقافية : علمانية الاتجاه , اتخذت مضمونا أكثر ميتافيزيقية للفكرة الصهيونية عملت على إنهاض ثقافة يهودية والبحث عن معنى جديد للهوية اليهودية.
ترأس هذا الجناح أحدها عام (1856-1927) قام أيضا كما فعل من قبله بنسكر بتكييف الحركة على أساس هيغلي ففي مقالة عنوانها "اليهودية ونيتشه" أكد فيه آحادها عام على أن اليهود شعب متفوق في جوهره واتفق مع رأي نيتشه القائل بان "الغاية الأخلاقية الأسمى ليست في تقدم الجنس البشري ككل, بل في تحقيق إنسان أكثر كمالا بين النخبة المختارة "
كما أنه يؤكد في فقرة أخرى من المقال المذكور بأن اليهود "إعتبروا إختيارهم بمثابة غاية تعلو على كل ما عداها , وليس كوسيلة لإسعاد باقي البشرية ".


الإيديولوجية الصهيونية :
تعريف الأيديولوجية :

مجرد تزيف أو تعميه للواقع , إنها نسق من الآراء والأفكار السياسية والقانونية , والأخلاقية والجمالية والدينية والفلسفية ( ).
وهي مجموعة متماسكة من المبادئ والمثل والمعايير التي تعبر عن نظرة جماعة معينة إلى الغرض أو الأغراض الأخيرة للحياة الاجتماعية والسياسية والروحية، ومن مجموعة متماثلة من المعتقدات التي تعبر عن موقف هذه الجماعة عن طبيعة الواقع الاجتماعي والاتجاهات التاريخية( ).
والأيديولوجية باعتبارها منظومة متماسكة من المعتقدات والأفكار تتكون من :
1- العنصر المعياري : المبادئ والمثل والمعايير التي تعبر عن نظرة الجماعة الى الحياة السياسية والاجتماعية.
2- عنصر نظري : معتقدات الجماعة المعبرة عن موقفها من طبيعة الواقع الذي تحيا في كنفه.
3- فلسفة الجماعة : في نظرتها للحياة ومركز الانسان فيه.
تعريف الأيديولوجية الصهيونية:
هي مجموعة من المعتقدات الزائفة والتي لا تتطابق مع الواقع، وهي نسق كاذب وغير منطقي وبعيدًا عن الحقيقة , اعتمدت على الفلسفة للبرهنة على نتائج سياسية، وهي تحقيق لرؤية سياسية اعتمادا على الأساس الديني , وقوى ذرائعية .
أسس الأيديولوجية الصهيونية
تعتمد الايديولوجيا الصهيونية على مقولات زمانية أهمها:
1- لليهود جسد واحد متناسق , ممتد في الزمان والمكان , والمشكلة اليهودية ولدت من رحم الدياسبورا.
2- ضرورة تجميع اليهود في مكان واحد "العودة لأرض الميعاد".
3- حفاظ اليهود على تمايزهم عبر التاريخ.
المقولات الفلسفية الصهيونية ودحضها :
1. اعتبرت الحركة الصهيونية أن الفكر يخلق الواقع الاجتماعي وينتجه، وهذه المقولة خالية من الصحة ولا أساس علمي لها، لأن العلم ومناهجه المختلفة يؤكدان أن الواقع الاجتماعي هو الذي يخلق الفكر، وهو إفراز له، الصهيونية رفضت ذلك وإدعت أنها كفكرة هي القوة الخالقة للواقع الاجتماعي الذي عملت على تجسيده فوق أرض فلسطين "تجميع اليهود".
2. رفضها لفكرة الرابط المنطقي للظواهر، وإنكارها للتأثير المتبادل فيما بينها "الظواهر" وهذا ما يتعارض كليا مع منطق وأسس المنهج العلمي الذي يقول أنه يستحيل معرفة وفهم الظاهرة بشكل صحيح بعد عزلها عما يحيطها أو تجريدها من ظروفها العضوية واقتلاعها من بيئتها التاريخية لأنه لا يوجد جوهر ثابت للصهيونية التي لا يمكن إسقاطها على مجرى التاريخ، فلا وجود لجوهر ثابت للصهيونية يبقى ولا يتغير عبر التحولات التاريخية التي تؤثر على الظواهر والأعراض فقط وليس على الجوهر الدائم نفسه، فهذه رؤية نقدية للتاريخ، فالصهيونية بقولها أن اليهود جوهر ثابث لا يتغير ولا يتأثر بالظواهر الاجتماعية التي تحيط به كلام خال من الصحة، ولو كان ذلك صحيحا، فلماذا تأثر وجودهم في أروبا بعد تحولها من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي فلو كان اليهود جوهر لا يتأثر فلماذا برزت المسألة اليهودية ولماذا تغير وضعهم في النظام الرأسمالي ولماذا غادروا أروبا باتجاه أماكن متعددة من العالم" أمريكا مثلا" ؟.
3- رفض التغير والانتقال من حالة إلى أخرى والأدعاء بالاستقرار, علما أن الكون بكافة ظواهره الاجتماعية والمادية في حالة تغير مستمر فحسب هراقليطس فإن كل شيئ في تغير مستمر, والمرء لا يستطيع ان ينزل إلى النهر مرتين ( ).
4- إزالة فكرة التناقض من الدائرة اليهودية "لا تناقض بين ذات يهودية وذات يهودية أخرى لا في الزمان أو المكان وبالتالي فلا يوجد تناقض بين اليهود والصهيونية.

الأغيـار
الـعالـم
الـيهـود

تناقض جدلي منعكس في الفكر
و بالطبع فإن ذلك يعتبر منهجا ميتافيزيقيا.
وكأن المقولات الصهيونية لا تدركها الحواس ولا يستوعبها العقل المفكر العقل الإنساني وهذا خال من الصحة لأن تلك المقولات ما هي إلا مقولات وضعية تم فهمها فلسطينيا بل وتم تجاوزها وعلى هذا الاساس نخوض الصراع بكافة الوسائل ومختلف السبل.
و مهما حاول الصهاينة الوقوف في وجه الحقيقة الفلسطينية ومحاربتها , فإنهم لن ينجحوا في استمرار تبريرهم لاغتصابهم للحق الفلسطيني النقيض الرئيسي لهم ولمقولاتهم.
دراسة في الصهيونية السياسية(5)
مقدمة
في فرنسا يمكن توجيه انتقاد الكنيسة الكاثوليكية او الماركسية، كما يمكن مهاجمة الإلحاد والقومية، وشتم نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتبشير بالفوضوية او بعودة الملكية، دون التعرض لمخاطر تتعدى الجدل او التفنيد المألوفين. اما نقد الصهيونية فانه يفضي بصاحبه الى عالم آخر، ينقله من عالم الأدب والفكر الى عالم التحقيق والقضاء…. فبموجب القانون الصادر في 29/7/1981، بشأن ذم اي شخص بسبب انتمائه لجنس او لعرق او لأمة او لديانة، يعرض كل انتقاد لسياسة دولة إسرائيل وللصهيونية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة، للمساءلة القضائية وهو الأساس هنا لانه لا يطال تصرفاً معيناً يدعو لتجريم صاحبه الان بتناول نقد المنطق البنيوي لدولة أرسيت أسسها على مبادىء الصهيونية السياسية ويؤدي على الفور، الى معاملتك كـ"نازي"… او معادٍ للسامية ويجر عليك تهديداً بالموت! ويستطيع كاتب هذا البحث الادلاء بشهادته حول ذلك ولطالما قد تعرض، لهذا السبب، الى ملاحقات قضائية واتهام "بالنازية" وتهديدات بالقتل. فما هو المسار الذي اتبع من اجل دراسة الصهيونية السياسية على صعيد الحروب الدينية؟ لقد قام على سلسلة من المداخلات والمتداعيات والاشتقاق في المعاني، كان بيغن قد دلل عليها في الشعار القائل "باستحالة التفريق بين المناهضة لاسرائيل، والمناهضة للصهيونية، والمناهضة للسامية". وهو شعار، بادر زعماء "المنظمة الصهيونية العالمية" الى تلقفه وترديده على مسامع الدنيا جمعاء ! وقبل اي فحص للنواحي النظرية والعملية في الصهيونية السياسية، لا بد من التدقيق في تحديد مجال نقدنا، وذلك بالتعريف بالموضوعات والتمييز بينها وهي:
- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.
- الصهيونية واليهودية.
- إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل الصهيونية.
أ - الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية:
يصعب الخلط بين مشروعين متمايزين تماماً هما: مشروع الصهيونية الدينية ومشروع الصهيونية السياسية. فالصهيونية الدينية، غالباً ما انطلقت من خرافات اسرائيلية، اذ تتعلق بامل اليهودية الاكبر في انتظار مجيء مسيح آخر الزمان، حينما تدعى "جميع شعوب الارض" (سفر التكوين: 12/3) الى حكم الرب، الذي سيتحقق من اجل البشرية جمعاء، متوجهاً الى المواقع المعينة في التوراة لمآثر ابراهيم وموسى. وقد اوجدت هذه الصهيونية الدينية تقليداً يقضي بالحج الى "الارض المقدسة" بل ان قيام طوائف روحانية، وخاصة في صفد في وقت اشتداد حملات الاضطهاد التي كان يقوم بها في اسبانيا "ملوكها شديدو التمسك بكاثوليكيتهم"… (بعد طول التعايش الهانىء، في ذلك البلد، بين المسلمين واليهود).. دفع بعض الاتقياء الى العيش في فلسطين طبقاً لايمانهم. وحتى عهد قريب (في القرن 19 م.) كان هدف "عشاق صهيون" استحداث مركز روحي، في ارض صهيون هذه، يشع بالايمان وبالثقافة اليهودية. والملفت للنظر هو ان هذه الصهيونية الدينية (والتي لم تنتشر الا بين مجموعات يهودية محددة) لم تصطدم بمعارضة المسلمين الذين يعتبرون انفسهم منحدرين من ذرية ابراهيم، وينتمون لعقيدته. ثم ان هذه الصهيونية الروحانية، البعيدة كل البعد عن اي برنامج سياسي يهدف الى تكوين دولة، وعن فرض اي سيطرة على فلسطين، لم تثر مطلقاً مجابهات او منازعات بين الطوائف اليهودية وبين السكان العرب.. المسلمين والمسيحيين.
أ - الصهيونية السياسية:
وهذه ابتدعها تيودور هرتزل (1860-1904) وعكف في فيينا، منذ عام 1882 على تشكيل المذهب حتى انتهى من ارساء منهجه عام 1894 في كتابه عن "الدولة اليهودية" ثم وضعه موضع التنفيذ في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، بمدينة (بال) في سويسرا، عام 1897. هذه الصهيونية بالذات، بمبادئها ونتائجها، تشكل دون غيرها موضوع دراستنا… ومن المناسب هنا، ومنذ البداية، التعريف بها، بصورة دقيقة. ولكن وقبل ذلك نود ان نشير الى ان تيودور هرتزل يخالف الصهيونية الدينية في كونه، اصلاً، من دعاة "اللاادرية" ومعارضاً شديداً لاولئك الذين يعرفون اليهودية على انها ديانة. فاليهود، بنظر الصهيونية السياسية، "امة" قبل اي شيء آخر وعلى كل حال وعند دراسة القوانين الاساسية لدولة إسرائيل، سنلحظ الغموض في التعريف "اليهودي" والتذبذب المستمر بين التعريف المبني على العرق، وذلك المبني على الدين .
وتيودور هرتزل، الذي لم يكن شاغله الاساسي دينياً، بل سياسي، فقد طرح قضية الصهيونية بشكل جديد. وقال بانه - نتيجة لتأثره بقضية دريغوس - استخلص منها النتائج التالية:
1) اليهود عبر العالم، وفي اي بلد يقطنون، يشكلون شعباً واحداً.
2) وقد كانوا هدفاً للاضطهاد، في كل زمان ومكان.
3) وهم غير قابلين للاندماج في الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها.
(وهذه من مسلمات العنصريين واللاساميين).
ويمكن تلخيص النتائج العملية التي استخلصها تيودور هرتزل، والحلول التي طالب بها لوضع حد نهائي لهذا العداء والتنافر - الذي هو كما رأى، تنافر دائم وقطعي - على النحو التالي:
1 - رفض الاندماج، الذي لم يكن مسموحاً به آنذاك في دول اوروبا الشرقية (وخاصة في الامبراطورية الروسية على الاخص)، تحقق على نطاق واسع وبصورة متزايدة في اوروبا الغربية (وخاصة في فرنسا، حيث كشفت اللاسامية عن وجهها القناع المخزي بعد قضية دريفوس).
2 - إنشاء "دولة يهودية" يتجمع فيها كل يهود العالم… وهي ليست "بؤرة" روحانية او مركز اشعاع للعقيدة وللثقافة اليهوديتين. وقد عرفت اوروبا في اواخر القرن التاسع عشر، عصر القوميات، قيام افكار جديدة، بأسلوب غربي خالص، تمثل في تلك القومية التي برزت بكل زخمها في المانيا، وكان تأثيرها على هرتزل عميقاً، لا سيما وان ثقافته كانت جرمانية.
3 - هذه الدولة، ينبغي اقامتها في مكان "خال" وهذا المفهوم المميز للاستعمار الذي كان سائداً في تلك الحقبة، كان يقضي بعدم الاخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين اصليين. وقد اعتمد هرتزل وقادة الصهيونية السياسية من بعده، على هذه المسلمة الاستعمارية التي سوف تتحكم بمستقبل المشروع الصهيوني كله، ودولة إسرائيل التي انبثقت عنه. اما المكان فلم يكن له اية اهمية في نظر تيودور هرتزل، الذي كان، كما سنتبين فيما بعد، امام ان يختار مقراً لشركته الاستعمارية ذات الامتياز وجنين الدولة المقبلة، بين الارجنتين وفقاً لاقتراح البارون هيرش وبين اوغندا، التي اقترحتها بريطانيا. وانه لأمر ذو مغزى ان يقوم هرتزل باستشارة "سيسيل رودس" الذي كان ينفذ مشروعه طابعاً استعمارياً، على حد تعبير هرتزل نفسه. غير ان هرتزل فكر بإيلاء فلسطين الافضلية بين الاراضي المرشحة لغرس الدولة اليهودية فيها، من منطلق اهتمامه باجتذاب تيار "عشاق صهيون" وتقوية الحركة الناشئة عنه، واضعاً في خدمة اغراضه تراثاً دينياً لم يكن هو شخصياً ليؤمن به. وكان من صالحه، ولفائدة مخططاته، ان يظل الالتباس قائماً، وابلغ مثال على مدى استغلال هذا الغموض، فقد ظهر بعد وفاة هرتزل في "تصريح بلفور" عام 1917، حينما اعلنت الحكومة البريطانية انها تؤيد اقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لا يلحق الضرر بالسكان الاصليين، بينما استغل زعماء الصهيونية هذا التصريح في اتجاه انشاء "دولة فلسطين اليهودية" بإلغاء كل وجود للسكان الاصليين، تأميناً لبسط سيادة الدولة الصهيونية على فلسطين كلها. هذا الطابع الاستعماري للصهيونية السياسية، بالاضافة الى "اسسه الوهمية" وعواقبه الوخيمة المضرة بالشعب الذي قيده نير الاستعمار، المضرة ايضاً بالسلام العالمي، هو ما سيكون الموضوع الاساسي لتحليلنا الانتقادي.
ب - الصهيونية الدينية:
يتم الانتقال من ميدان الكتابة الى ساحة القضاء، ومن الجدل السياسي الى المحاربة بالدين، انطلاقاً من بلبلة ثانية ومزج آخر، لا يكتفي معهما بالتسلل خفية من الصهيونية السياسية (تسلل يسخر الدين لخدمة السياسة، ويتيح اضفاء القداسة على سياسة معينة بقصد اعتبارها من المحرمات التي لا يجوز المساس بها) بل تستغل القرابة القائمة بين الصهيونية السياسية وبين الديانة اليهودية، من اجل توجيه تهمة مناهضة السامية الى كل من ينتقد السياسة الصهيونية التي يتبعها القادة الاسرائيليون. وقد برزت افكار اساسية حول اللاسامية في كتاب برنار لازار "اللاسامية، تاريخها واسبابها" المنشور عام 1894 ، في اجواء مشبعة بأحداث قضية دريغوس، ونشوء الصهيونية السياسية على يد تيودور هرتزل. وكان كتاب "برنار لازار" هذا رداً على اوسع المؤلفات عن اللاسامية انتشاراً "فرنسا اليهودية" لكاتبه درومون (1886).
وخلافاً لرسالة الهجاء المقذع الجاهل من (درومون)، تبدو دراسة (برنار لازار) حتى بنظر من لا يشاطره الرأي (وما يطرحه من فرضيات على البحث) قائمة على تحليلات تاريخية متأنية داعية للتأمل، تأخذ بعين الاعتبار مدى مسؤولية الطوائف اليهودية عما كان ينزل بها من اضطهاد، من جهة واستغلال اللاساميين الدنيء لظواهر انكماش هذه الطوائف وتفردها من جهة اخرى.
ويميز "برناد لازار" النزعة المعادية لليهودية الصادرة عن المسيحية، بشكل عام، والمستمرة منذ القرن الرابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر الاخير، عن ظاهرة مناهضة السامية، وقد ظهرت هذه التسمية لاول مرة، في كتاب صحفي من همبورغ هو "ولهلم مار" بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" عام 1873. كما ان معاداة المسيحية لليهودية هي من مخلفات الفكر القسطنطيني العقائدي والسياسي، الذي تبنته الكنيسة المنتصرة، الوارثة لتقاليد كهنة المعابد اليهودية، ولتقاليد الامبراطورية الرومانية، والتي تحولت، منذ امتلاكها للسلطة، من معاناة الاضطهاد، الى ايقاع الاضطهاد بغيرها من الديانات كالوثنية واليهودية، وقد وجدت في اليهودية - التي كان التبشير قد حقق لها سعة الانتشار - منافساً لا بد من دحره. وراحت تتهم بحماقة اليهود بانهم من ذاك الشعب الذي اصبح - برفضه الاعتراف بان يسوع هو نفسه المسيح المخلص - في عداد "قتلة" الرب… لان مجمع نيقيا اعتبر المسيح من "جوهر" الله ذاته. وبين برنار لازار كيف ان سخافة تقوقع الطوائف اليهودية وانغلاقها على اضيق وادق تفاسير الشريعة قد وفر خلال تعاقب القرون، معطيات قابلة للإتهام بيسر.. وحول هذا، يقول برنار لازا في كتابه المشار اليه اعلاه:
- "لقد انعزل اليهود وراء اسوار كان قد رفعها حول التوراة (اسدراس) والكتبة الاولون (دبر سوفريم) والفرنسيون والتلموديون.. ورثة اسدراس، ومشوهو الموسوية الاولى، واعداء الرسل" وهذا، خلافاً للموسوية الحقيقية، التي اصطفاها واكبرها ارميا، واشعيا. وحزقيال، والتي وسع اليهود اليونانيون ايضاً من نطاقها الشمولي" (ص 14 و16) ويضيف برنار لازار (ص 13) قوله بان خطورة هذه العزلة قد تفاقمت بسبب طبع فريد يتسم به اليهودي، ويدفعه الى التباهي بامتياز توراته، وبالتالي، الى اعتبار نفسه فوق البشر ومغايراً لباقي الشعوب وقد عمل على ترسيخ هذا المسلك، حدة القومية المنتشرة في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، "اذ رأى اليهود في انفسهم الشعب المختار المتفوق على الأمم كافة. وهذه حالة الشعوب، المتطرفة في تعصبها القومي، كالألمان والفرنسيين والبريطانيين في وقتنا الحاضر" (ص 13).
هذا الانغلاق على الذات لم يكن جديداً.. فقد حارب الحاخامون، "بتلموديتهم المتصلبة" جميع محاولات الانفتاح عبر العصور المتعاقبة. وينوه برنار لازار بمسعى ابن ميمون ، اكبر فلاسفة اليهود في جميع العصور، في تبيان التوافق بين الايمان والعقل، مشيراً الى محاربة المتطرفين له بشراسة، واستنكار التلموديين والسبتيين لأهم مؤلفاته: "دلالة الحائرين" حتى ان الحاخام سليمان، من مدينة (مونبلييه) استنزل في عام 1232، التحريم ضد قراء هذا الكتاب، وحصل على الاذن بحرقه. "وعمل التلموديون على ان يحصر اليهود دراساتهم في شريعتهم دون غيرها" وفي نهاية القرن، وبإيعاز من الحاخام الالماني عشير بن يحيال، اتخذ مجمع سينودس وهو المكون من ثلاثين حاخاماً، وقد انعقد في برشلونة برئاسة بن عزرا) قراراً بتحريم كل يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر، يقرأ كتباً غير التوراة والتلمود" (ص65). ويلخص برنار لازار، ما ادى اليه هذا التيار، فيقول: "لقد بلغوا هدفهم وعزلوا إسرائيل عن مجموع الشعوب".
وفي القرن السابع عشر، عادت النزعة نفسها، التي كانت قد حاولت خنق صوت ابن ميمون، الى الظهور مع من تصدى، من بين التلموديين، لقتل الفيلسوف سبينوزا. وكذلك مع اولئك الذين هاجموا (مندلسون) في القرن الثامن عشر، لان ترجمة هذا الاخير للتوراة الى اللغة الالمانية، جرت عليه عقاب الحاخامين الذين كانوا مصممين على احتكار التفسير التلمودي لشريعتهم، والحؤول دون افساح المجال امام الشعب للوصول الى التوراة. وسنرى ما عمدت اليه، حاخامية الاحزاب الدينية اليمينية المتطرفة اليوم في دولة إسرائيل، من حصر تلك القراءة "الانتقائية" المتعصبة للتوراة في النصوص التي تخدم غايات سياسية جديدة، ومن نجاحها في فرض توجيهاتها على الدولة. ويظهر برنار لازار صورة اخرى مزرية هي نتيجة للتقاليد الموروثة، فيقول: "من الحماقة جعل إسرائيل مركزاً للعالم وخميرة للشعوب، ومحركاً للأمم. ومع ذلك، فالى هذا يسعى اصدقاء اليهود واعداؤهم، اذ هم يسرفون ويغالون في تقدير اهمية إسرائيل، سواء كانوا من امثال (بوسويه) او (درومون) (ص 191). وفي "عرض تاريخ الكون" يشير بوسييه الى يهودا بأنها مركز العالم. لذا، فان لجميع احداث التاريخ ولقيام الممالك وسقوطها سبباً وحيداً محصوراً في ارادة رب وفيّ لأبناء إسرائيل، المكلفين بقيادة البشرية الى مبتغاه الاوحد: هو مجيء المسيح المخلص المنتظر؟!
ويكفي للحصول على "بروتوكولات حكماء صهيون" قلب هذه التطورات المزيفة التي وضعتها اجهزة البوليس الروسي السرية، عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي في بال، عام 1897، بغية تعزيز الاعتقاد بوجود "تآمر" يهودي ماسوني، يرمي الى اقامة مملكة عالمية، تمثل انتصار الشر في دنيانا. وهذا يسير في خط مواز تماماً لمفاهيم بوسييه ونحن، حينما نتصدى مع برنار لازار للتيارات الفكرية اليهودية التي تبرز الاستثنائية اليهودية (وليس الشمولية)، وعقلية الفتح والسيطرة المستقاة من ملاحم يوشع وتمييز (اسدراس) العنصري، والميل لجعل إسرائيل مركزاً للعالم ولتاريخه… انما نقصد في تبديد الغموض الذي يعتمد اللاساميون بثه، عند محاولتهم استنتاج صدور الفساد الصهيوني عن آفة اساسية مزعومة، كامنة في صلب الديانة اليهودية. وتنطوي التقاليد الكثيرة في اليهودية كما هي الحال في المسيحية وفي الاسلام على تيارات متناقضة. وكما وجد في المسيحية "نزعة قسطنطينية" وتطرف، وفي الاسلام تطرف و"غلق باب الاجتهاد" فقد قامت عبر مسار اليهودية نزعات الى التطرف والانغلاق والاصولية يستغلها اليوم اشد الصهاينة تعصباً في يهودية لا يؤمن بها معظمهم. وما نشجبه ايضاً تلك القراءة الانتقائية للتوراة اليهودية، تلك القراءة التي تعزل اليهود عن بقية الشعوب. ولا ننسى ابداً ان هناك في الاصولية اليهودية ومساهماتها في اعلاء شأن الانسان مقابل نزعات الفناء تلك، بذور ازدهار الهي للحياة، عبر مسائل التحلف والوعد… المسائل التي يرى (سفر التكوين) ان جميع شعوب العالم مدعوة الى تبنيها، "فالتاريخ انما هو انبثاق دائم لكل جديد كل الجدة في حياة البشر، يضيئه الوعد بظهور المسيح في نهاية الزمان" . وكنت قد ذكرت في مكان آخر: "ان من كبريات مآسي الدولة الاسرائيلية الحالية خضوعها لاحكام الحاخامات المتطرفين، في وقت تحتاج فيه الى رسل" . فبذرة النبوة بقيت، طوال قرون بعد نزول الكتب السماوية على كبار الانبياء، حية في نفوس اولئك الذين يشير اليهم (جيرشون شولم) في كتابه المشهور عن: "كبرى تيارات الروحانية اليهودية" (نشر عام 1977 في باريس). كغنوصية "فيلون" اليهودي. اي نزعته الى كنه الاسرار الربانية، عرفت في الاسكندرية ملتقى افكار الشرق واليونان. وفي المانيا نحا الحاخام "يهودا" منحى معاصره القديس "فرنسوا دسيز" في الاحساس بحضور الله والمحبة. وهذا من المذاهب "الحسيدي" (نسبة الى حسيداي).
وفي اسبانيا، كان لقاء اليهودية بتصوف مسلمي الاندلس ومحاولاتهم الاتصال الذاتي والمباشر بالله… وهو ما يقربهم - كما يؤكد جيرشون شولم - من البوذية التبتية وروحانية الهندوس. وقد طرح هذا اللقاء انضر ثمار اليهودية، ممثلاً في اوسع عرض شامل للعقيدة اليهودية كتبه بالعربية ابن ميمون (ابو عمران موسى 1135-1204) صديق الفيلسوف المسلم ابن رشد وتلميذه.
- "الزهو" (كتاب الاشراق) الفه موسى الليوني في نهاية القرن الثالث عشر وجعل فيه حب الله محل الخشية من الله كما فعل معاصره قس كالبريا المسيحي يواكيم دي فلور. واخيراً آخر المذاهب "الحسيدية" الذي نشأ في بولونيا في القرن السادس عشر قريباً من روحنيات سكان نهر الرين والمعلم ايكهارت، والذي ازدهر كذلك خلال التاسع عشر عبر "رسائل الى اتباع حسيداي حول "نشوة الروح" مذكياً في كل انسان قبسه من الله" ثم شمولية الانبياء الواسعة، التي بعثت في كتاب "الاخلاق" لسبينوزا نفحة قوية رغم قيود الشكلية الرياضية الديكارتية، كما كان الوعد بانتظار المسيح "المخلص" دافعاً لكارل ماركس في شبابه، فجعل من تآليفه نواة للنزعات الثورية طوال قرن من الزمان. وحتى رسالة (مارتن بوبر) الروحانية، التي استمرت خمسة قرون من الفردية القاتلة، حثتنا على التذكير بان مركز "الانا" كائن في الآخر "في البداية تكون العلاقة، ونحن نعيش في سيل من المبادلة الشاملة" ، والروح بنظره، ليست في "الانا". بل في علاقتي بالآخر، وكذا الحال بالنسبة للحضارات فهي شبيهة بالحال لدى الافراد: فهي لا تحيا ولا تزدهر الا باخصاب متبادل بينها. ويجد الالهام الالهي محكماً له في العلاقة بالآخرين.
بالنسبة لهذه الاصولية الشاملة التي اتبعتها اليهودية منذ القدم، تشكل الصهيونية السياسية تعسفاً قومياً واستعمارياً يدين بالتوجيه للقومية والنزعة الاستعمارية المنتشرتين في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، كما انها لا تستخدم القراءة الانتقائية والقبلية للتوراة، بتحول صريح عن صراط الله ، لتزوير مقاصدها السياسية وتمويهها.
ج - إسرائيل التوراتية واسرائيل الصهيونية الحالية..
يتخذ استخدام الحجج التوراتية ابعاداً جديدة في هذه المرحلة من تاريخ الدولة الصهيونية.. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الصهيونية العسكرية ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل ـ وفقاً لتقرير البنك الدولي ـ ثلاثين بالمئة من صافي ناتجها القومي، على جهازها العسكري (على سبيل المقارنة) فان معدل مثل هذا الانفاق لدى دولة حلف الاطلسي لا يتعدى 4 % … وفي وقت بات الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة، ليس الدفاع عن إسرائيل، بل تفتيت جميع الدول العربية استناداً لتصريح آرييل شارون نفسه، وطبقاً لمشروع الحركة الصهيونية كما سنرى في الصحفات القادمة،… في هذا الوقت، يجري الاستناد الى نصوص توراتية لتبرير امرين في آن واحد:
- التوسع المستمر في الحدود.
- والطرق التي تتبعها الدولة في التقتيل والارهاب.
وهذه الواقعة في حد ذاتها، ليست جديدة . فقد سبق لبن غوريون في عام 1937 ان رسم حدود إسرائيل مستنداً لنص "توراتي" يقضي بان تضم "ارض اسرائيل" خمس مناطق:
1 - جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، (او ما يسميه بالجزء الشمالي من إسرائيل الغربية).
2 - جنوب سوريا.
3 - شرقي الاردن (او ما يعرفه اليوم بالاردن).
4 - فلسطين (التي يدعوها بأرض الانتداب البريطاني).
5 - سيناء.
ووفقاً لهذا المخطط، يفترض ان تمر الحدود الشمالية بخط عرض مدينة حمص السورية، التي ماثلها بمدينة حماة، المشار اليها في (سفر الاعداد) كحد شمالي لأرض كنعان. وثمة صهاينة آخرون، "توراتيون" متحمسون ظاهرياً فقط، يطابقون بين حماه وحلب، بينما يجعلها غيرهم في تركيا.. اما الحاخام "أدين شتنسالز"، المقرب من حزب "شلي"، فقد طالب خلال ندوة كان "سارتر" قد عقدها في إسرائيل، "بحقوق تاريخية" لليهود في جزيرة قبرص - وفي عام 1956، اعلن بن غوريون، وسط تصفيق مجلس الكنيست وتهليله ان سيناء كانت تشكل جزءاً من مملكة داوود وسليمان. وبعد قيام الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي، خلال الهجوم على قناة السويس، بعملية كبح الجماح، ارجىء البحث في تلك الجغرافية التوراتية الى ان طغت على سطح الاحداث عام 1967، وحيث حددت ارض الميعاد على الشكل التالي: نهر الفرات ونهر مصر (حسب سفر الاعداد) - وهو الاخير - بين ان يكون: نهر النيل (ولكن اي فرع منه؟) او وادي العريش ) وفي ظل هذا المفهوم المطاطي للحدود، يستعان دائماً بالتوراة لإضفاء الشرعية سلفاً على اي عدوان مبيت او لتبرير اي الحاق او ضم للاراضي. وفي المرحلة الراهنة من التوسع الصهيوني تم اشراك الخيال المريض المهيمن على حاخامات "الاحزاب الدينية" من غلاة المتعصبين للغزو نظراً لمساعدتهم في تبرير اشد مطالب المتطرفين تعسفاً واستبداداً. وليس من قبيل المصادفة ان يقرر بيغن خلال الحملة الدموية على لبنان، ايقاف رحلة شركة العال ايام السبت احتراماً للعطلة المقدسة. ومثل هذه الضمانات المقدمة للمتطرفين، تعوض بسخاء على صعيد المبررات الايديولوجية: فلا يكفي ما تم احتلال من لبنان كأرض "قبيلة آشور" بل اضفيت القداسة على المذابح من اجل ضرورات القضية. ولم يكن تدمير مدينتي صور وصيدا، ودك بيروت بالقنابل، ومجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، امتداداً لمذابح دير ياسين، التي ارتكبتها عصابة السيد بيغن (ارغون) عام 1948، ولمذابح قبية، وكفر قاسم، وقتلة "الوحدة 101" بقيادة ارييل شارون، بل وجد ذلك كله نصيباً من اكاليل الغار… لان الدولة القائمة حالياً في إسرائيل برسالة إسرائيل التوراتية، انما تكرر الحركة المقدسة التي سبق لاسرائيل التوراتية ان قامت بها في استئصالها لشأفة الكنعانيين، بسلوكها اليوم مع العرب نفس السبيل الذي سلكته مع الكنعانيين وغيرهم من شاغلي هذه المنطقة السابقين: "ان مدن هذه الشعوب، الموروثة اليك من مولاك الرب، هي الوحيدة التي لن تدع مخلوقاً حياً يعيش فيها… بل ستجعلها محظورة على الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفريزيين، كما امرك الرب مولاك". وفقاً لعزرا ونحميا وكما نصت عليه قوانين محكمة نورمبرغ العنصرية: يعتبر يهودياً من ولد من ام يهودية (برهان عنصري)، او من اعتنق الدين اليهودي (برهان لاهوتي) ولا يستطيع ان يفيد من "قانون العودة" ومن المزايا المترتبة عليه في دولة إسرائيل سوى من تنطبق عليه هذه المعايير. هذا اذن لا ينطبق فقط على مجرد تعريف عنصري، بل على تمييز عنصري لان الانتماء الى مجموعة عرقية معينة - كما سنرى فيما بعد - ينطوي اما على امتيازات او انتقاصات… والعنصرية لا تقوم على اي اساس علمي. فمن وجهة النظر البيولوجية، تبين عدم امكان تطبيق النظرية القديمة حول "الدليل الدماغي" وهي نظرية تميز بين ذوي الجماجم المستطيلة، وذوي الاحجام الاخرى. كما ان علم الوراثة الحديث الذي يرى ان لبعض "الجينات" او المورثات تأثيراً على خصائص الخليط الدموي، قد اظهر بطلان المدلول البيولوجي للجنس والسلالة. والاسطورة البالية في سفر التكوين (10/18/27) استخدمت، كغيرها من الاساطير العنصرية، "لتبرير" الطبقية والتسلط ايضاً: فأبناء نوح الثلاثة الذين "عمروا الارض بنسلهم"، بعد خروجهم من الفلك، كانوا اصلاً: اسيويين (من سام) واوروبيين (من يافث)، وافارقة (من حام). وجرى تكريس الاخرين للعبودية والعنف. ورأت العصور الوسطى الاقطاعية في (حام) جداً اعلى لعبيد الارض، وفي (يافت) جد الاسياد، وفي (سام) جد العلماء، وهو يقف على رأس جميع الطبقات. ويؤكد "ليون بولياكوف" في كتابه عن (الخرافة الأرية الصادر سنة 1971) انه "وتمشياً مع التقاليد العبرية (او بالأحرى الحاخامية) فان للحرب ذاتها قيمة، حتى ولو لم تقم صراحة كحرب دفاعية.. وفي مسالك "الخلاص" هذه بلغنا في لبنان مرحلة ارفع من مرحلة حرب الايام الستة بواسطة حرب لبنان هذه، كشفنا عن مدى قوتنا العسكرية… واننا مسؤولون عن النظام في الشرق الاوسط وفي العالم على السواء". وامام هذيان جنون العظمة هذا لدى قوميي إسرائيل وعسكرييها، نتبين صدق نبوءة ومخاوف احد اوائل الصهيونيين:
"مارتن بوبر" وهو احد كبار مفكري عصرنا، وصاحب مؤلفات مثل: "الايمان اليهودي" و"الديانة التوراتية" و"الانسانية العبرية" و "إسرائيل والعالم"، وقد اشار في سنة 1958، في رده على بن غوريون في القدس عام 1957، قائلاً:
- "حينما انخرطت في الحركة الصهيونية قبل ستين عاماً قال لنا بن غوريون: ان فكرة المسيح المخلص هي حية وستحيا حتى مجيء المسيح. اجبته قائلاً: كم قلباً من قلوب هذا الجيل سيحتفظ بهذه الفكرة حية ومغايرة لشكلها القومي الضيق المقتصر على "عودة المنفيين"؟… ذلك ان فكرة المخلص، عند افتقارنا للتطلع الى خلاص البشرية، والى الرغبة في المساهمة لتحقيقه، ليست اطلاقاً رؤيا الخلاص لدى انبياء اسرائيل". وبوبر لم يكف طوال حياته كداعية صهيوني وحتى وفاته في إسرائيل، عن فضح انحرافات الصهيونية الدينية في المجال السياسي والقومي ويقول:
- "نتحدث عن روح إسرائيل، ونعتقد اننا لسنا كباقي الأمم.. ولم تكن روح إسرائيل اكثر من بوتقة تنصهر فيها هويتنا القومية، ولا اكثر من تبرير جميل لأنانيتنا الجماعية فقد تحولت الى معبود لدينا نحن الذين رفضنا القبول بأي مولى غير سيد الكون، فنحن اذن كبقية الأمم نستقي معها من الكأس التي تنهل منها نشوتها".
- "الأمة ليست هي القيمة العليا. والايديولوجيا او الروح القومية، لن تكون مشروعة ما دامت تجعل من الامة غاية بذاتها. ان اليهود ابعد من ان يكونوا امة، انهم اعضاء جماعة عقيدة". وفي سعيه لتحديد السبب الجذري للانحراف في الصهيونية السياسية النابعة، بل من القومية الاوروبية في القرن التاسع عشر لا من اليهودية. والتي جعلت منها الصهيونية السياسية بديلاً للدين او مذهباً لعبادة الدولة - تلك المسماة: دولة إسرائيل. وحول هذا كتب بوبر:
- "لقد اقتلعت جذور اليهودية الدينية. وهذا هو جوهر الداء الذي ظهرت اعراضه في قيام قومية يهودية اواسط القرن التاسع عشر وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الرغبة في الارض، انما هو الخلفية البعيدة التي تخفي كل ما استقته اليهودية المعاصرة من قومية الغرب الحديثة. اذاً فما هو دور "اصطفاء إسرائيل في كل هذا الاصطفاء؟" اوليس هو نوعاً من الاستعلاء، بل احساساً بالقدر والمصير.. احساس لا ينشأ من مقارنة بالآخرين، بل من نداء داخلي يحثه على انجاز مهمة لم يكف الرسل عن التذكير بها: "فاذا تفاخرتم بأنكم المختارون المصطفون، بدلاً من ان تحيوا في ظل طاعة الله، فان ما تفعلونه انما هو الغدر والخيانة" ثم ختم بوبر مشيراً الى "ازمة القومية" في الصهيونية السياسية، الازمة المفسدة لروحانية اليهودية، فقال:
- "كنا نأمل ان ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل الشعب الى معبود… فأخفقنا…"
و(مارتن بوبر) هو واحد ممن كان تعلقهم بأرض صهيون متقد الحماسة، وقد اوضح ذلك في رسالة كتبها عام 1939 الى غاندي، الذي كان قد تساءل عن سبب عدم شعور الصهيونيين بترابطهم من اجل محاربة الطغيان والاضطهاد مع اي شعب ينتمون اليه وفي اي موطن ولدوا فيه.. بدلاً من البحث عن "وطن قومي" آخر. اجاب (بوبر) بان العقيدة اليهودية لا تستطيع العيش الا في نطاق تجمع طائفي تطبق فيه احكامها الخاصة، فوق ارضها الخاصة: "الاساسي، بنظرنا، ليس وعداً بأرض، بل مطلباً يرتبط تحقيقه بالارض وبوجود مجتمع يهودي في هذه البلاد". كما اجاب هذا ما اجابه بوبر على غاندي القائل بان فلسطين تخص العرب، وبانه من "الظلم واللاإنسانية فرض سيطرة يهودية على العرب"، فقال: - لا نريد انتزاع ملكياتهم، بل العيش معهم". وحدد بحزم، في محاضرة في نيويورك عام 1958، موقفه الثابت من قضية العلاقات مع العرب. وحسب رأيه فان "بعث الشعب اليهودي" يجب ان يمضي بموازاة "الاندماج بعالم الشرق الادنى"، وبما يستبعد اللجوء الى القوة: "اشد النظريات خطأً وفساداً، هي تلك التي تزعم بان مسالك التاريخ انما تشقها القوة".. القوة التي هي دائماً: "تغليب لما هو دون الانساني على الانساني".. "وخيانة لعقيدة الايمان"… وافدح الاخطاء بنظر بوبر، كان اعتبار إسرائيل "قطعة من العالم الغربي". واشار في سنة 1958، الى انه قدم منذ سنة 1921 فكرة اقامة اتحاد فيديرالي في الشرق الادنى، يشارك فيه اليهود.
ولكن، "خلافاً لإقامة دولة ثنائية القومية او مشاركة اليهود في اتحاد للشرق الادنى، صدر القرار التعيس بتقسيم فلسطين.. وكانت القطيعة بين الشعبين، وبدايات الحروب". ويشير "بوبر" الى انه ليس ضد العنف، من حيث المبدأ، ولا يعارض قيام دولة إسرائيل، لكنه يشدد - بعدما شهد الحربين الاوليين بين إسرائيل والعرب - على ان السلام بين اليهود والعرب لا يمكن ان يحل بمجرد توقف الاعمال العدوانية. اذ لن يكون هناك سلام الا بتعاون فعلي بين الطرفين".. "واذا كان التفكير باشتراك إسرائيل في اتحاد فيدرالي في الشرق الادنى، يبدو اليوم للكثيرين محالاً وغير واقعي، وهناك في المستقبل امكانية لتحقيقه". واقوال كهذه كانت ستكفي اليوم لان يعتبر بيغن واعوانه مطلقو الصلاحية في المؤسسة الصهيونية صاحبها: بوبر، معادياً لاسرائيل ومعادياً للسامية.. "ومارتن بوبر" هو بحق اعظم نبي يهودي عاش في دولة إسرائيل منذ انشائها.. ومن حسن الحظ ان هذا المسلك، يثبت وجوده بين الحين والاخر، رغم نتيجة التحكم بالتوجيه الفكري لدى النشء الاسرائيلي منذ دخوله في المدرسة، ولدى الجنود بواسطة الحاخامية العسكرية، ولدى الشعب بواسطة الدعاية الرسمية. فقد امكن سماع صرخة صادقة، اثناء الهجوم الاسرائيلي الذي ارتكب المذابح في لبنان.. هي صرخة الاستاذ (بنيامين كوهين) من جامعة تل ابيب الى (فيدال ناكيه) يوم الثمن من حزيران 1982:
- اكتب اليك وانا استمع الى مذياعي الصغير يعلن باننا على وشك تحقيق هدفنا في لبنان.. الا وهو: توفير السلام لسكان الجليل.. ان هذه الاكاذيب الجديرة بغوبلز تكاد تذهب بعقلي… اذ من الواضح ان هذه الحرب الوحشية، والاشد وحشية من كل سابقاتها، لا علاقة لها البتة بمحاولة القتل في لندن، ولا بأمن الجليل. ترى، ايستطيع يهود من احفاد ابراهيم طالما كانوا ضحايا الجور الا ان يصلوا الى هذه الدرجة من الوحشية؟؟ الا يعني هذا ان اعظم انجازات الصهيونية انما هو نزع اليهودية من قلوب اليهود؟ إبذلوا ايها الاصدقاء، كل ما في وسعكم من اجل عدم تمكين البيغنيين والشارونيين من بلوغ غرضهم المزدوج: "التصفية النهائية (وهذه العبارة رائجة كثيراً هذه الايام..) للفلسطينيين كشعب. وللإسرائيليين ككائنات بشرية ..
ان هذه الادانة هي بعنف ادانات الرسل الغابرين.. كتلك التي لعن فيها (ارميا) اولئك "الذين يتحدثون زوراً باسمي لديك.. خطيئتهم انهم يجلبون العار لاسرائيل.." (ارميا: 29/21-23). او تلك التي ادان بها (ميخا) قادة إسرائيل بقوله: "اسمعوا اذن، يا قادة يعقوب، يا قضاة دار إسرائيل.. يا من تخشون الاستقامة، وتلوون كل مستقيم بتشييدكم كياناً لصهيون وسط الدماء، واشاعتكم الجرائم في وسط اورشليم.." (ميخا: 3/9-10).
ويعتبر في الوقت الحاضر، كل من يشكو من سياسة "قضاة الدار الاسرائيلية" وسياسة الدولة الصهيونية في اسرائيل معادياً للسامية. وعلى هذا القياس يصح التشهير بالرسل الكبار جميعاً: من عموس الى اشعيا، الى ميخا، الى ارميا.. كمعادين للسامية لم يصطف القادة الصهيونيون الحاليون سوى ما من شأنه تبرير سياستهم: كحكاية المذابح التي ارتكبها (اشعيا) بين الكنعانيين.. لما فيها من توقعات لما سيحدث من تقتيل للعرب في كل من فلسطين ولبنان. اما اللعنات التي استنزلها ارميا وميخا فيتم استبعادها وابراز احكام عزرا (اسدراس) في وجوب التمييز العنصري، مع تجاهل طموحات (حزقيال) و(اشعيا) نحو خلاص الكون على يد المسيح المنتظر. وبسبب اختيار "الاحبار الذين يقتلون رسل الرب" وبسبب هذا التضليل، الذي يرى في كل انتقاد لسياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل فعلاً معادياً للسامية، يخشى ان تنطلق حملة فعلية ضد السامية. ومثلما يخشى اليوم ان يولد العداء للسامية، ولا يقتصر هذا عند شجب سياسة العدوان وسفك الدماء. بل يتعداه الى الدعم الاعمى واللامشروط لتلك السياسة. وباستطاعة مناحيم بيغن، او آرييل شارون، او اسحاق شامير، وحدهم، ابتعاث المعاداة للسامية كنتيجة لفظائعهم. علماً بانه لا يمكن، في الواقع، الجمع بين مجرمي الحرب هؤلاء ذوي التاريخ العريق في الاجرام ، وبين مجمل الشعب الاسرائيلي، بل وبين مواطنينا من معتنقي الديانة الاسرائيلية او المؤتمنين بالتراث اليهودي.. (علماً بان المذابح التي ارتكبها اولئك المجرمون في لبنان، هي النتيجة المنطقية والحتمية لمثلهم الفكرية، وميتولوجيتهم، ومخططاتهم الرامية الى التوسع الاستيطاني). ان الذين يقفون وراء خطر تغذية النزعة المعادية للسامية، هم موجهو بعض المنظمات، ذات الصفة التمثيلية، التي تتصرف كوكيل مطلق للحكومة الصهيونية في اسرائيل، وهم جاهزون لان يقر جرائمها واكاذيبها المشهورة.. وترديد شعاراتها.. وللزعم، فوق كل ذلك وخلافاً للحقيقة، بتحدثهم باسم مجموع "الطائفة اليهودية".. بينما يتبرأ الكثير من افراد هذه الطائفة على غرار مئات الآلاف من الاسرائيليين، داخل اسرائيل نفسها من تلك الجرائم وهؤلاء المجرمين.
لقد نشأت، دون ادنى شك، التباسات خطيرة، حينما عمد بيغن وزمرته - وبدعم من الحاخامات المتعصبين في "الاحزاب الدينية" الداعية "للحرب المقدسة" - الى الاقتباس القبلي من التوراة، والى الاستخدام الشاذ لفكرة "الشعب المختار" و"ارض الميعاد" لإفساد الوضع ما بين الاسرائيليين والمسيحيين، ولتبرير الاغتصاب الدموي للحقوق الانسانية، باسم حق الهي مزعوم. ان العمل في صالح اليهودية والمسيحية ينطلق من رفض الانخداع بذلك التلاعب بالمقدسات.. وعدم الخلط بين اليهودية، اي عقيدة ابراهيم وموسى وبقية الرسل، وبين تزمت الصهيونية العنصري. تماماً كإطلاق صفة "مسيحيي لبنان" على جلادي (سعد حداد) او امثالهم من منفذي الافعال المنحطة لحكومة تل ابيب. اننا نرمي الى محاربة هذه الالتباسات، والى التمييز بين دولة اسرائيل وسياستها وبين سواد الشعب الاسرائيلي الذي بدأ يعي الألاعيب التي اوقعه حكامها ضحية في براثنها. نرمي ايضاً الى التمييز بين اليهودية والميثولوجيا التي تحرفها الصهيونية من اجل اغراض سياسية. والى رفض الرضوخ للإرهاب الفكري الصادر عن عملاء التمييز العنصري الاسرائيليين، الساعين الى تقسيم العالم بين: صهاينة ومعادين للسامية.. كعنصريي الماضي الزاعمين بتقسيمه الى يهود وغير يهود! ونحن انما نحارب الصهيونية السياسية، لأننا ضد التمييز العنصري.. ومعاداة الصهيونية ليست هي السبب في نشوء العداء للسامية، بل ان السبب كامن في الصهيونية نفسها. ولهذا نحارب صهيونية تدعي بانها تستخدم الدين من اجل اضفاء هالة من القداسة على السياسة. وتجنباً للوقوع في هذه الالتباسات الخطيرة بين:
- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.
- اليهودية والصهيونية.
- اسرائيل التوراتية والدولة الصهيونية في اسرائيل.
سنحاول ازالة الوهم المحيط بالصهيونية السياسية، عبر تفحص الميثولوجيا التي تقوم عليها: كالأساطير المنسوبة زوراً الى التوراة.. ثم عبر الواقع السياسي الناشىء عن الحاجة الماسة، التي تشعر بها الصهيونية السياسية، لتوفير المسلمات الميثولوجية اللازمة مثل:
- السياسة الداخلية القائمة على التمييز العنصري.
- السياسة الخارجية المتمثلة في العدوان والتوسع من اجل فتح "مجال حيوي" لهجرة محتملة.
- العمل السياسي القائم على ارهاب الدولة.


دراسة في الصهيونية اليهودية(6)
1- مقدمة
إننا نعالج هنا موضوعاً "محرما " أي: الصهيونية و "إسرائيل".
ففي فرنسا - مثلا - يمكن انتقاد الكنيسة الكاثوليكية أو الماركسية، كما يمكن مهاجمة الإلحاد والقومية، وشتم نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتبشير بالفوضوية أو بعودة الملكية، دون التعرض لمخاطر تتعدى الجدل أو التفنيد المألوفين ، أما نقد الصهيونية فإنه يفضي بصاحبه إلى عالم آخر، ينقله من عالم الأدب والفكر إلى عالم التحقيق والقضاء….
فبموجب القانون الصادر في 29/7/1981، بشأن ذم أي شخص بسبب انتمائه لجنس أو لعرق أو لأمة أو لديانة، يعرض كل انتقاد لسياسة دولة إسرائيل وللصهيونية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة، للمساءلة القضائية ، وهو الأساس هنا لأنه لا يطال تصرفاً معيناً يدعو لتجريم صاحبه الآن بتناول نقد المنطق البنيوي لدولة أرسيت أسسها على مبادئ الصهيونية السياسية ، ويؤدي على الفور إلى معاملتك كـ"نازي"… أو معادٍ للسامية ، ويجر عليك تهديداً بالموت! ويستطيع كاتب هذا البحث الإدلاء بشهادته حول ذلك ، ولطالما قد تعرض لهذا السبب إلى ملاحقات قضائية واتهام "بالنازية" وتهديدات بالقتل...
فما هو المسار الذي اتبع من أجل دراسة الصهيونية السياسية على صعيد الحروب الدينية؟ لقد قام على سلسلة من المداخلات والمتداعيات والاشتقاق في المعاني، كان بيغن قد دلل عليها في الشعار القائل "باستحالة التفريق بين المناهضة لإسرائيل والمناهضة للصهيونية، المناهضة للسامية".
وهو شعار بادر زعماء "المنظمة الصهيونية العالمية" إلى تلقفه وترديده على مسامع الدنيا جمعاء ! وقبل إي فحص للنواحي النظرية والعملية في الصهيونية السياسية لا بد من التدقيق في تحديد مجال نقدنا، وذلك بالتعريف بالموضوعات والتمييز بينها وهي:
- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.
- الصهيونية واليهودية.
- إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل الصهيونية.
2 - الصهيونية السياسية:
ابتدعها تيودور هرتزل بناء على تعاليم اليهودية (1860-1904) وعكف في فيينا منذ عام 1882 على تشكيل المذهب حتى انتهى من إرساء منهجه عام 1894 في كتابه عن "الدولة اليهودية" ثم وضعه موضع التنفيذ في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، بمدينة (بال) في سويسرا عام 1897.
هذه الصهيونية بالذات بمبادئها ونتائجها تشكل دون غيرها موضوع دراستنا… ومن المناسب هنا ومنذ البداية التعريف بها، بصورة دقيقة ، ولكن وقبل ذلك نود أن نشير إلى أن تيودور هرتزل معارض شديد لأولئك الذين يعرفون اليهودية على أنها ديانة ، فاليهود بنظر الصهيونية السياسية، "أمة" قبل أي شيء آخر، وعلى كل حال وعند دراسة القوانين الأساسية لدولة إسرائيل سنلحظ الغموض في التعريف "اليهودي" والتذبذب المستمر بين التعريف المبني على العرق وذلك المبني على الدين .
تيودور هرتزل لم يكن شاغله الأساسي دينياً بل سياسيا، فقد طرح الصهيونية-اليهودية بناء على الإيمان بأن اليهود عبر العالم، وفي أي بلد يقطنون يشكلون شعباً واحداً منفصلا ، وبأنهم غير قابلين للاندماج في الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها ؛ نظرا للعداء الذي يكنه اليهود لهم . (وهذه من مسلمات كل العنصريين واللاساميين).
ويمكن تلخيص النتائج العملية التي استخلصها تيودور هرتزل، والحلول التي طالب بها لوضع حد نهائي لهذا العداء والتنافر - بين اليهود وغير اليهود الذي هو كما رأى، تنافر دائم وقطعي - على النحو التالي:
1 - رفض الاندماج في المجتمعات الغير اليهودية.
2 - إنشاء "دولة يهودية" يتجمع فيها كل يهود العالم.
3 - هذه الدولة ينبغي إقامتها في مكان "خال" ، وهذا المفهوم المميز للاستعمار الذي كان سائداً في تلك الحقبة كان يقضي بعدم الأخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين أصليين ، وقد اعتمد هرتزل وقادة الصهيونية السياسية من بعده على هذه المسلمة الاستعمارية التي سوف تتحكم بمستقبل المشروع الصهيوني كله، ودولة إسرائيل التي انبثقت عنه.
أما المكان فلم يكن له أية أهمية في نظر تيودور هرتزل الذي كان كما سنتبين فيما بعد أمام أن يختار مقرا لشركته الاستعمارية ذات الامتياز وجنين الدولة المقبلة بين الأرجنتين وفقا لاقتراح البارون اليهودي هيرش وبين أوغندا التي اقترحتها بريطانيا ، وأنه لأمر ذو مغزى أن يقوم هرتزل باستشارة "سيسيل رودس" الذي كان ينفذ مشروعه طابعا استعماريا على حد تعبير هرتزل نفسه ، غير أن هرتزل فكر بإيلاء فلسطين الأفضلية بين الأراضي المرشحة لغرس الدولة اليهودية فيها، بناء على التعاليم اليهودية لاجتذاب "عشاق صهيون" اليهود.
في "تصريح بلفور" عام 1917، حينما أعلنت الحكومة البريطانية أنها أن تؤيد إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لا يلحق الضرر بالسكان الأصليين بينما استغل زعماء الصهيونية هذا التصريح في اتجاه إنشاء "دولة فلسطين اليهودية" بإلغاء كل وجود للسكان الأصليين؛ تأميناً لبسط سيادة الدولة اليهودية على فلسطين كلها.
3- الصهيونية "الدينية"
يميز "برناد لازار" النزعة المعادية لليهودية الصادرة عن المسيحية بشكل عام والمستمرة منذ القرن الرابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر الأخير عن ظاهرة مناهضة السامية، وقد ظهرت هذه التسمية لأول مرة في كتاب صحفي من همبورغ هو "ولهلم مار" بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" عام 1873. كما إن معاداة المسيحية لليهودية هي من مخلفات الفكر القسطنطيني العقائدي والسياسي الذي تبنته الكنيسة ضد اليهود لكونهم الشعب الذي أصبح - برفضه الاعتراف بان يسوع هو نفسه المسيح -هو الذي قتل المسيح ، وحول هذا يقول برنار لازار:
- "لقد انعزل اليهود وراء أسوار كان قد رفعها حول "التوراة" (اسدراس) والكتبة الأولون (دبر سوفريم) والتلموديون ورثة اسدراس، ومشوهو الموسوية الأولى، وأعداء الرسل" وهذا خلافاً للموسوية الحقيقية التي اصطفاها وأكبرها أرميا، وأشعيا."
ويضيف برنار لازار قوله بان خطورة هذه العزلة قد تفاقمت بسبب طبع فريد يتسم به اليهودي، ويدفعه إلى التباهي بامتياز توراته، وبالتالي إلى اعتبار نفسه فوق البشر ، ومغايراً لباقي الشعوب ، وقد عمل على ترسيخ هذا المسلك حدة القومية المنتشرة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، "إذ رأى اليهود في أنفسهم الشعب المختار المتفوق على الأمم كافة ، وهذه صفة العصابات الطوائف المتطرفة في تعصبها القومي، في وقتنا الحاضر .
هذا الانغلاق على الذات لم يكن جديداً فقد حارب الحاخامات "بتلموديتهم المتصلبة" جميع محاولات الانفتاح عبر العصور المتعاقبة ، وعمل التلموديون على أن يحصر اليهود دراساتهم في شريعتهم دون غيرها ، وفي نهاية القرن وبإيعاز من الحاخام اليهودي الألماني عشير بن يحيال، اتخذ مجمع سينودس وهو المكون من ثلاثين حاخاما ـ وقد انعقد في برشلونة برئاسة بن عزرا ـ قراراً بتحريم كل يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر أن يقرأ كتباً أخرى غير كتب اليهود "التوراة والتلمود" .
ويلخص برنار لازار ما أدى إليه هذا التيار فيقول: "لقد بلغوا هدفهم وعزلوا اليهود عن مجموع الشعوب".
وسنرى ما عمدت إليه حاخامية الأحزاب الدينية اليهودية اليوم في دولة إسرائيل، من حصر تلك القراءة "الانتقائية" المتعصبة للتوراة في النصوص التي تخدم غايات سياسية جديدة، ومن نجاحها في فرض توجيهاتها على الدولة.
ويظهر برنار لازار صورة أخرى مزرية هي نتيجة للتقاليد الموروثة فيقول: "من الحماقة جعل إسرائيل مركزاً للعالم وخميرة للشعوب، ومحركا للأمم ، ومع ذلك فإلى هذا يسعى أصدقاء اليهود وأعداؤهم، إذ هم يسرفون ويغالون في تقدير أهمية إسرائيل، سواء كانوا من أمثال (بوسويه) أو (درومون).
وفي "عرض تاريخ الكون" يشير بوسييه إلى يهودا بأنها مركز العالم ؛ لذا فإن لجميع أحداث التاريخ ولقيام الممالك وسقوطها سبباً وحيداً محصوراً في إرادة رب اليهود لنصرة إسرائيل واليهود المكلفين بقيادة البشرية إلى مبتغاهم الأوحد: هو انتصار اليهود على غير اليهود لإخضاع جميع شعوب العالم للهيمنة الصهيونية! .
ويكفي هذا أساسا لصحة "بروتوكولات حكماء صهيون" التي تنسب إلى المؤتمر الصهيوني العالمي في بال، عام 1897، بغية تعزيزا للاعتقاد بوجود "تآمر" يهودي يرمي إلى إقامة سلطة يهودية عالمية، تمثل انتصار الشر في دنيانا، وهذا يسير في خط مواز تماماً لمفاهيم بوسييه ونحن، حينما نتصدى مع برنار لازار للتيارات الفكرية اليهودية التي تبرز الاستثنائية اليهودية (وليس الشمولية)، وعقلية الغزو والسيطرة المستقاة من ملاحم يوشع وتمييز (اسدراس) العنصري، والميل لجعل إسرائيل مركزاً للعالم ولتاريخه ؛ تدعيما لاستنتاج صدور الفساد الصهيوني عن آفة أساسية كامنة في صلب الديانة اليهودية.
فقد قامت عبر مسار اليهودية نزعات إلى التطرف والانغلاق والأصولية يستغلها اليوم اشد الصهاينة تعصباً في يهودية لا يؤمن بها معظمهم ، وتلك القراءة الانتقائية للتوراة اليهودية، تلك القراءة التي تعزل اليهود عن بقية الشعوب ، وكنت قد ذكرت في مكان آخر: "أن من كبريات مآسي الدولة الإسرائيلية الحالية خضوعها لأحكام الحاخامات المتطرفين في وقت تحتاج فيه إلى رسل" .
وتشكل الصهيونية السياسية تعسفاً قومياً واستعمارياً يدين بالتوجيه للقومية والنزعة الاستعمارية المنتشرتين في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، كما إنها تستخدم القراءة الانتقائية والقبلية للتوراة بتحول صريح عن صراط الله ، لتزوير مقاصدها السياسية وتمويهها.
4 - إسرائيل التوراتية وإسرائيل الحالية
يتخذ استخدام الحجج التوراتية أبعادا جديدة في هذه المرحلة من تاريخ الدولة الصهيونية.. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الصهيونية العسكرية ، ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل ـ وفقاً لتقرير البنك الدولي ـ ثلاثين بالمائة من صافي ناتجها القومي على جهازها العسكري (على سبيل المقارنة) فان معدل مثل هذا الإنفاق لدى دولة حلف الأطلسي لا يتعدى 4 % …
وفي وقت بات الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة ليس الدفاع عن إسرائيل بل تفتيت جميع الدول العربية استناداً لتصريح آرييل شارون نفسه، وطبقاً لمشروع الحركة الصهيونية كما سنرى في الصفحات القادمة، في هذا الوقت يجري الاستناد إلى نصوص توراتية لتبرير أمرين في آن واحد:
- التوسع المستمر في الحدود.
- والطرق التي تتبعها الدولة في التقتيل والإرهاب.
وهذه الواقعة في حد ذاتها ليست جديدة ، فقد سبق لبن غوريون في عام 1937 أن رسم حدود إسرائيل مستنداً لنص "توراتي" يقضي بان تضم "أرض إسرائيل" خمس مناطق:
1 - جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، (أو ما يسميه بالجزء الشمالي من إسرائيل الغربية).
2 - جنوب سوريا.
3 - شرقي الأردن (أو ما يعرفه اليوم بالأردن).
4 - فلسطين (التي يدعوها بأرض الانتداب البريطاني).
5 - سيناء.
ووفقاً لهذا المخطط يفترض أن تمر الحدود الشمالية بخط عرض مدينة حمص السورية، التي ماثلها بمدينة حماة، المشار إليها في (سفر الأعداد) كحد شمالي لأرض كنعان ، وثمة صهاينة آخرون، "توراتيون" متحمسون ظاهرياً فقط، يطابقون بين حماه وحلب، بينما يجعلها غيرهم في تركيا..
أما الحاخام "أدين شتنسالز"، المقرب من حزب "شلي"، فقد طالب خلال ندوة كان "سارتر" قد عقدها في إسرائيل، "بحقوق تاريخية" لليهود في جزيرة قبرص - وفي عام 1956، أعلن بن غوريون وسط تصفيق مجلس الكنيست وتهليله أن سيناء كانت تشكل جزءاً من مملكة داوود وسليمان.
وبعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي خلال الهجوم على قناة السويس بعملية كبح الجماح أرجئ البحث في تلك الجغرافية التوراتية إلى أن طغت على سطح الأحداث عام 1967، وحيث حددت أرض الميعاد على الشكل التالي:
نهر الفرات ونهر مصر (حسب- التوراة اليهودية - سفر الأعداد) - وهذا الأخير بين أن يكون: نهر النيل (ولكن أي فرع منه؟) أو وادي العريش، وفي ظل هذا المفهوم المطاطي للحدود يستعان دائماً بالتوراة لإضفاء الشرعية سلفاً على أي عدوان مبيت أو لتبرير أي إلحاق أو ضم للأراضي.
وفي المرحلة الراهنة من التوسع الصهيوني تم إشراك الخيال المريض المهيمن على حاخامات "الأحزاب الدينية" من غلاة المتعصبين للغزو ؛ نظراً لمساعدتهم في تبرير أشد مطالب المتطرفين تعسفاً واستبداداً.
وليس من قبيل المصادفة أن يقرر بيغن خلال الحملة الدموية على لبنان إيقاف رحلة شركة العال أيام السبت احتراماً للعطلة المقدسة.
ومثل هذه الضمانات المقدمة للمتطرفين تعوض بسخاء على صعيد المبررات الأيديولوجية ، فلا يكفي ما تم احتلال من لبنان كأرض "قبيلة آشور" بل أضفيت القداسة على المذابح من أجل ضرورات القضية.
ولم يكن تدمير مدينتي صور وصيدا، ودك بيروت بالقنابل، ومجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، امتدادا لمذابح دير ياسين، التي ارتكبتها عصابة بيغن (أرغون) عام 1948، ولمذابح قبية، وكفر قاسم، وقتلة "الوحدة 101" بقيادة آرييل شارون، بل وجد ذلك كله نصيباً من أكاليل الغار…
لان الدولة القائمة حالياً في إسرائيل برسالة إسرائيل التوراتية إنما تكرر الحركة المقدسة التي سبق لإسرائيل التوراتية أن قامت بها في استئصالها لشأفة الكنعانيين، بسلوكها اليوم مع العرب نفس السبيل الذي سلكته مع الكنعانيين وغيرهم من شاغلي هذه المنطقة السابقين حيث تقول التوراة اليهودية:
"إن مدن هذه الشعوب المعطاة إليك من ربك التي لن تدع مخلوقا حياً (من غير اليهود) يعيش فيها ، بل ستجعلها محظورة على الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفريزيين، الذين ستبيدهم جميعا كما أمرك الرب مولاك"
وفقاً لعزرا ونحميا وكما نصت عليه قوانين محكمة نورمبرغ العنصرية: يعتبر يهوديا كل من ولد من آم يهودية (برهان عنصري)، أو من اعتنق الدين اليهودي (برهان لاهوتي) لا يستطيع أن يستفيد من "قانون العودة" ومن المزايا المترتبة عليه في دولة إسرائيل سوى من تنطبق عليه هذه المعايير.
هذا إذن لا ينطبق فقط على مجرد تعريف عنصري، بل على تمييز عنصري ؛ لأن الانتماء إلى مجموعة عرقية معينة - كما سنرى فيما بعد - ينطوي إما على امتيازات أو انتقاصات. والعنصرية لا تقوم على أي أساس علمي ، فمن وجهة النظر البيولوجية تبين عدم إمكان تطبيق النظرية القديمة حول "الدليل الدماغي" وهي نظرية تميز بين ذوي الجماجم المستطيلة، وذوي الأحجام الأخرى.
كما أن علم الوراثة الحديث الذي يرى أن لبعض "الجينات" أو المورثات تأثيراً على خصائص الخليط الدموي قد أظهر بطلان المدلول البيولوجي للجنس والسلالة ، والأسطورة البالية في سفر التكوين اليهودي التوراتي (10/18/27) استخدمت كغيرها من الأساطير العنصرية لتبرير الطبقية والتسلط أيضا ، فأبناء نوح الثلاثة الذين "عمروا الأرض بنسلهم" بعد خروجهم من الفلك كانوا أصلا: أسيويين (من سام) وأوروبيين (من يافث)، وأفارقة (من حام).
وجرى تكريس الآخرين للعبودية والعنف ، ورأت العصور الوسطى الإقطاعية في (حام) جدا أعلى لعبيد الأرض، وفي (يافت) جد الأسياد، وفي (سام) جد العلماء، وهو يقف على رأس جميع الطبقات. ويؤكد "ليون بولياكوف" في كتابه عن (الخرافة الآرية الصادر سنة 1971) أنه:
"وتمشياً مع التقاليد اليهودية (أو بالأحرى الحاخامية) فان للحرب ذاتها قيمة، حتى ولو لم تقم صراحة كحرب دفاعية.. وفي مسالك "الخلاص" هذه بلغنا في لبنان مرحلة أرفع من مرحلة حرب الأيام الستة بواسطة حرب لبنان هذه، كشفنا عن مدى قوتنا العسكرية… وإننا مسئولون عن النظام في الشرق الأوسط وفي العالم على السواء".
وأمام هذين ، جنون العظمة هذا لدى قوميي إسرائيل وعسكرييها نتبين صدق نبوءة ومخاوف أحد أوائل الصهيونيين "مارتن بوبر" وصاحب مؤلفات مثل: "الإيمان اليهودي" و"الديانة التوراتية" و"الإنسانية العبرية" و "إسرائيل والعالم"، وقد أشار في سنة 1958 في رده على بن غوريون في القدس عام 1957، قائلاً:
- " لتحديد السبب الجذري لانحراف إسرائيل التي جعلت منها الصهيونية بديلاً للدين و مذهباً لعبادة الدولة" "لقد اقتلعت جذور اليهودية الدينية بقيام قومية يهودية في أواسط القرن التاسع عشر ، وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الرغبة في السيطرة على غير اليهود إنما هو الخلفية البعيدة التي تخفي كل ما استقته اليهودية المعاصرة من قومية الغرب الحديثة.
إذا فما هو دور "اصطفاء إسرائيل في كل هذا الاصطفاء؟" أو ليس هو نوعاً من الاستعلاء، بل إحساسا بالقدر والمصير.. إحساس لا ينشأ من مقارنة بالآخرين، بل من نداء داخلي يحثه على الهيمنة و الافتخار بأنكم المختارون المصطفون، فان ما تفعلونه أنما هو الغدر والخيانة" ثم ختم بوبر مشيراً إلى "أزمة القومية" في الصهيونية السياسية، الأزمة المفسدة ، فقال:
"كنا نأمل أن ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل الشعب إلى معبود… فأخفقنا…"
و(مارتن بوبر) هو واحد ممن كان تعلقهم بأرض صهيون متقد الحماسة، وقد أوضح ذلك في رسالة كتبها عام 1939 إلى غاندي، الذي كان قد تساءل عن سبب عدم شعور الصهيونيين بترابطهم من أجل محاربة الطغيان والاضطهاد مع أي شعب ينتمون إليه وفي أي موطن ولدوا فيه.. بدلاً من البحث عن "وطن قومي" آخر.
أجاب (بوبر) بان العقيدة اليهودية لا تستطيع العيش إلا في نطاق تجمع طائفي تطبق فيه أحكامها الخاصة، فوق أرضها الخاصة: "الأساسي، بنظرنا، ليس وعدا بأرض، بل مطلباً يرتبط تحقيقه بالأرض ، وبوجود مجتمع يهودي في هذه البلاد".
كما أجاب هذا ما أجابه بوبر على غاندي القائل بان فلسطين هي للفلسطينيين العرب، وبأنه من "الظلم واللاإنسانية فرض سيطرة يهودية على العرب".
و هذه صرخة صادقة أثناء الهجوم الإسرائيلي الذي ارتكب المذابح في لبنان.. هي صرخة الأستاذ (بنيامين كوهين) من جامعة تل أبيب إلى (فيدال ناكيه) يوم الثامن من حزيران 1982: "أكتب إليك وأنا أستمع إلى مذياعي الصغير يعلن بأننا على وشك تحقيق هدفنا في لبنان.. ألا وهو: توفير السلام لسكان الجليل اليهود ، إن هذه الأكاذيب الجديرة بغوبلز تكاد تذهب بعقلي… إذ من الواضح أن هذه الحرب الوحشية، والأشد وحشية من كل سابقاتها، لا علاقة لها البتة بمحاولة القتل في لندن، ولا بأمن الجليل ، ترى كيف يستطيع اليهود أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الوحشية؟؟ ألا يعني هذا أن أعظم انجازات الصهيونية إنما هو بلوغ غرضهم المزدوج: "التصفية النهائية للفلسطينيين كشعب ، وللإسرائيليين ككائنات بشرية" .
ويعتبر في الوقت الحاضر كل من ينتقد سياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل معادياً للسامية ، وعلى هذا القياس يصح اتهام جميع الرسل الكبار: من عموس إلى أشعيا، إلى ميخا، إلى أرميا.. كمعادين للسامية.
لم يصطف القادة الصهيونيون الحاليون سوى ما من شأنه تبرير سياستهم: كحكاية المذابح التي ارتكبها (أشعيا) بين الكنعانيين.. لما فيها من تحريض لما يرتكب الآن من تقتيل للعرب في كل من فلسطين ولبنان. وإبراز أحكام عزرا (اسدراس) في وجوب التمييز العنصري وبسبب اختيار "الأحبار الذين يقتلون رسل الرب" وبسبب هذا التضليل، الذي يرى في كل انتقاد لسياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل فعلاً معادياً للسامية، يمكن أن تنطلق حملة فعلية ضد اليهود.
ومثلما يخشى اليوم أن يولد العداء الفعلي لليهود، ولا يقتصر هذا عند شجب سياسة العدوان وسفك الدماء ، وباستطاعة آرييل شارون وحده ابتعاث المعاداة لليهود نتيجة لفظائعه.
لقد عمد شارون وزمرته - وبدعم من الحاخامات المتعصبين في "الأحزاب الدينية" الداعية "للحرب المقدسة" - إلى الاقتباس القبلي من التوراة، وإلى الاستخدام الشاذ لفكرة "الشعب المختار" و"أرض الميعاد" لتبرير الاغتصاب الدموي للحقوق الإنسانية باسم حق إلهي مزعوم من أجل إضفاء هالة من القداسة على سياسة إجرامية .
وتجنباً للوقوع في هذه الالتباسات الخطيرة سنحاول إزالة الوهم المحيط بالصهيونية السياسية، عبر تفحص الميثولوجيا التي تقوم عليها: كالأساطير المنسوبة زوراً إلى التوراة.. ثم عبر الواقع السياسي الناشئ عن الحاجة الماسة، التي تشعر بها الصهيونية السياسية لتوفير المسلمات الميثولوجية اللازمة مثل:
- السياسة الداخلية القائمة على التمييز العنصري.
- السياسة الخارجية المتمثلة في العدوان والتوسع من أجل فتح "مجال حيوي" لهجرة محتملة.
- العمل السياسي القائم على إرهاب الدولة.
5:أسطورة "الحقوق التاريخية"
الأسطورة التاريخية:
"هذه الأرض هي الموطن التاريخي لليهود!…" هذا ما جاء في مذكرة المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر السلام في جنيف عام 1919 وكان إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 مايو (ايار) 1948 قد أكد بأنه "بموجب الحق الطبيعي والتاريخي للشعب اليهودي" قد أنشئت هذه الدولة في فلسطين.
وهذا المفهوم "للحقوق التاريخية" يرتبط دائماً عبر الدعاية الصهيونية بمفهوم "الوعد" بالأرض الذي يعطي للإسرائيليين: "حقاً إلهيا" صريحاً في امتلاك فلسطين والسيطرة عليها ، مع ذلك سنتناول المسألتين كلاً على حدة ذلك لان التفريق بينهما سهل، نظراً لأنه ليس هناك خارج نصوص التوراة، أية إشارة لروايات العهد القديم قبل القرن العاشر (قبل الميلاد)، لا في مدونات شعوب الشرق الأوسط، ولا في الحفريات الأثرية ، بل إن عالماً كالأب "ديفو" حرص على إنقاذ عراقة العهد القديم التاريخية، فقد اعترف كغيره من الناس بأنه ليس هناك خارج التوراة، "أية إشارة واضحة للعبريين وإقامتهم بمصر، وخروجهم منها.. ولا حتى غزو أرض كنعان".
ومن المشكوك فيه اكتشاف نصوص جديدة تبدد هذا الصمت ، أما "الوعد" بأرض فلسطين - في صورته الراهنة - فلم يظهر إلا في كتابات المنتفعين به ، وكان مفسرون آخرون طوال قرن من الزمان قد توصلوا أيضا إلى استنتاجات أكثر حسماً ، كما نلاحظ لاحقاً بصدد أسطورة "الوعد" في التوراة لدى الكثيرين من أمثال: فون راد. ونوث، وطومبسون، وفان سيتر، والبير دي بوري، وغيرهم…
وأول ما يلاحظ دونما تسليم أو تفحص ناقد لصحة الأجزاء التاريخية من العهد القديم أن تاريخ العبريين - بدلاً من تشكيلة "محوراً" للتاريخ، كما تزعم نظرة الاستثناء التي تنادي بها الصهيونية السياسية وتساندها بعض التعاليم المسيحية - لا يبدو في أي وقت من الأوقات متميزاً عن تاريخ ممالك بلاد ما بين النهرين، والحثيين، والمصريين.
وعند استعراضنا للمرحلة التاريخية التي تنوه إليها الوثائق المدونة نتبين ما يلي:
- العصر البرونزي القديم في الإلف الثالث ق.م، حيث ثبت وعلى الأخص بعد اكتشاف ألواح "ايبلا" عام 1976 وجود سابق في أرض كنعان لحضارة مدينة كبرى لدى الشعوب الناطقة بلغة العرب السامية: كالآرامية، ولغة كنعان التي يدعونها بـ"العبرية".
- ثم المرحلة الممتدة ما بين 2200 و 1900 ق.م. والمتميزة بتسلل البدو الرحل.
- والسيطرة المصرية اعتباراً من منتصف القرن السادس عشر ق.م. حينما جعل فراعنة الأسرة الثامنة عشرة من فلسطين "ثغراً مصرياً".
وهذه المنطقة الواقعة في قلب الهلال الخصيب، والممتد من النيل إلى الفرات عبرت فيها وتمازجت مجموعات بشرية من كل نوع ودين… إلى أن دخلها بدو أو رعاة في سبيلهم إلى الاستقرار ؛ بحثاً عن المراعي، قادمين من بلاد ما بين النهرين أو من شرقي الأردن، ليصلوا إلى أرض كنعان في بداية الألف الثاني، في العصر البرونزي القديم، وليجدوا بين سكانها الأصليين أولئك الكنعانيين الذين شادوا حضارة مدنية، وكشفوا، في نهاية الألف الثاني عن معدن الحديد والكتابة الأبجدية.
وخلافاً للصورة التوراتية التقليدية فان "العبرانيين" لم يشكلوا عنصراً متميزاً قبل دخول البدو أرض كنعان.. بل تشكلت تجمعاتهم من وحدات عرقية مختلفة، كانت جزءاً من هجرات بدوية واسعة (من الأموريين، او الآراميين، حسب قول الأب ديفو). وبين أولئك البدو الرحل استقر في أرض كنعان، فيما تابع الآخرون سيرهم إلى أرض مصر.
هؤلاء البدو - ومنهم الذين عرفوا فيما بعد العبرانيين - أخذوا عن الكنعانيين لغتهم وكتابتهم، ومعتقداتهم… حتى حوالى (1400) ق.م. حينما سعوا إلى مراع جديدة في مصر، مقتفين على الأرجح أثر الغزاة الهكسوس.
وعندما طرد الهكسوس من مصر تأزم موقف الذين جاؤوا بحمايتهم وتمتعوا بالتالي بوضع مميز.. إذ اعتبروا أعوانا للعدو، وتم إخضاعهم لأحوال معيشية ازدادت قسوتها مع الأيام.
وهؤلاء الأخصام الهامشيون الذين لم يكونوا يشكلون عرقاً معيناً، بل مجموعة من معارضي الفراعنة، عرفت باسم "عابيرو" (ومنه اشتق بلا شك اسم "العبريين" حسب رأي الأب ديفو) لم يروا بداً من الفرار من مصر ، ولا بد أن "خروج" هؤلاء الأتباع الساخطين كان مألوفاً وتافهاً إلى حد أن الحوليات المصرية قد أغفلت كلياً ذكر هذا "الحدث الجاري" ولو في تقرير لأحد حراس الحدود (بينما تتوفر تقارير كهذه عن حالات "مرور" عديدة منذ القرن 19 ق.م.)
إن عدد "المصادر" الوحيدة المتوفرة بين أيدينا خارج نصوص "العهد القديم" لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة: فأقدم إشارة إلى اسم "إسرائيل" هي المدونة على مسلة (حوالى 1225 ق.م.) تمجد انتصارات الفرعون (مرنبتا). وتذكر دون تفاصيل أخرى أنه استولى على المدن الفلسطينية وهدم إسرائيل أيضا"إسرائيل دمرت، ولم يعد لساكنيها من وجود!..".
كما يقول الأب ديفو في كتابه: "التاريخ القديم لإسرائيل" - الجزء الأول ص 366 - "لا يمكن أن يشمل "كل إسرائيل" ذات الاثنتي عشر قبيلة، التي لم تكن قد قامت بعد ، بل إنه يتعلق حتماً بجماعة محددة العدد".
كذلك هناك (400) لوح فخاري تتابع اكتشافها منذ عام 1887 في تل العمارنة العاصمة التي أنشأها الفرعون أمينوفيس الرابع (اخناتون: بين 1375 و1385 ق.م.) وتقدم لنا سجلاً لمراسلات الفرعون مع تابعيه من أمراء فلسطين وسورية… وهي تخلو من أي ذكر لإسرائيل، رغم أنها تحفل بمعلومات هامة عن دول المدن في أرض كنعان، وعن التنافس القائم فيما بينها...
"تهويد القفز":