- الأحد إبريل 22, 2012 10:33 am
#48724
ابن خلدون.. البداوة والحضارة
2012/02/23
- نبيل فرج*
عاش ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادى من 1332 إلى 1406وفى ضوء معرفته بتاريخ البشرية وأخبار الأمم، وصف .الإنسان فى أعماله التي تقوم على الإدراك والتحقيق والتحليل بأنه حيوان (إجتماعي، مدنى) بالطبعوهذه فكرة أساسية فى التراث العربى واليونانى قبل ابن خلدون، عبر عنها الفيلسوف اليونانى أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وطرحها بالوضوح نفسه فى القرن الحادى عشر الميلادى وبعده الفلاسفة العرب: ابن باجة في كتابه »تدبير المتوحد« ومعاصرة ابن رشد، ثم ابن تيمية في القرن الثاني عشر.
وبسبب كثرة الأغراض بين الأفراد، وتضارب المصالح وتعدد الطبقات، لا يخلو مجتمع من النزاعات. ولكى تدوم حياة الإنسان، ولا يفقد صفائه المجلوب عليه، يتعين عليه أن يكون مرتبطا بالعالم والتاريخ، متمسكا بالأخلاق والدين، مستجيبا لطبيعته ولخلاله الأقرب للخير وليس للشر.
علي أن الدين فى فلسفة ابن خلدون لا يأخذ مساحة أكبر من دوره فى المجتمع، ودوره أن يجعل الدنيا مطية للآخرة، دار القرار. ومتي كانت هذه المطية طيبة، منصرفة للحق، كانت الآخرة كذلك. والغضب في نظر ابن خلدون قوة ونزعة إنسانية محمودة إذا كانت انتصاراً للحق. ولا وجود فى عالم ابن خلدون للصدفة التى لا نعرف أسبابها، أو لما يقع بناء علي أسباب خفية.
ولكل حياة منطقها، كما أن لكل ظاهرة اجتماعية أسبابا عديدة، وليس سببا واحدا. وهذه الأسباب تكمن وتتفاعل في داخلها أو في باطنها الذى يصوغ كيفيتها.
وعلي من يريد فهم الحياة وظواهرها أن يتأملها ويتأمل منطقها، لا تأمل الماضى أو الغيب أو الوهم وخرافات العامة، ورد الشئ إلى أصوله، وقياسه بأشباهه، بحثا عن الدليل أو البرهان الذي اهتدي إليه علماء العرب حين خلصوا درسهم للفلك من التنجيم. وتغير الأحوال يؤدى بالضرورة إلى خلق جديدة أو نشأة جديدة. وقلة الأكل أصح للبدن من الإكثار فيه، كما أن نوعه يؤثر فى صفاء العقل أو عدم صفائه.
وهناك فرق كبير في التاريخ بين الحياة البدوية والحياة الحضرية. وعلينا أن نتذكر أن البداوة أقدم من الحضر، وأنها أصل للمدن أو للحضر. وبقدر ماتتصف البداوة بالفطرة والخشونة والجرأة، فإن الحضر يتميز بالدعة والرقة والنعمة، وإن فقد الحشمة التى يتمسك بها البدو كخلق رفيع.
أما المعرفة عند ابن خلدون فإنها لاتٍٍٍٍُِسَلِّم بالأخبار الواهية، والبعيدة عن الصحة والموضوعية، التى تفيض بها كتابات المؤرخين. وكثيرا مايتجاوز ابن خلدون في ميزانه الحسى والجزئى إلى المادى والكلى. والواقع الخارجى عنده أسبق من كل فكر، وأغنى من أى تعريف.
ولابد للإنسان من رئاسة زمنية، حتي لايعدو البعض على البعض، وتسود الفوضى، ويعم الفساد. ودور هذه الرئاسة الحاكمة، التى لا تعلو عليها رئاسة هو المحافظة على التطور من الحياة البدوية إلى الحياة المدنية، ومن القديم إلي الحديث، وذلك بتنمية الشروط المحققة لهذا التطور الذي يحمي الفرد والملكية الفردية، لأنه إذا ذهب الأمن ذهبت معه الآمال، وتوقف الإنتاج، وتعرض المجتمع للهلاك. ومايعرض السلطة للانهيار هو الترف، وانعدام الجدل فى المجتمع، ونقص العلم والثقافة والعمران. ولتحقيق هذا الأمن دعا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي كتبها في قمة نضجه الفكري، فى سن الخامسة والأربعين، إلي إلغاء الرق، وتخفيف الضرائب، وتحديد مساحات الأرض التي يملكها الأفراد، منعاً لأن يتحولوا إلي سلطة إقطاعية.
كما دعا ابن خلدون إلى إنشاء علاقات حسنة مع دول الجوار، لتبادل المنافع معها، واتساع الأحوال. ومن ناحية مقابلة، شدد ابن خلدون على عدم احتكار الدولة للإنتاج أو للتجارة، لأن الاقتصاد لا يمكن أن يكون كله اقتصاد دولة. ولا يمكن للاقتصاد أيضا أن يكون اقتصادا حرا، أو اقتصادا رأسماليا، لا يوفر فيه السوق الحر للرعية العدالة الاجتماعية.
ويعد ابن خلدون أول من طرح فى التاريخ فى مقدمته الجمع العادل فى الاقتصاد بين السوق الحر والبعد الإجتماعي لمن يريد التقدم والرخاء.وهذا ما تأخذ به الفلسفات السياسية المعاصرة، بعد أن انهار فى العالم شرقه وغربه التجارب الرأسمالية الضخمة، والتجارب الاشتراكية البحتة.
ومثلما تخضع حياة الفرد لدورة الطفولة فالشباب فالرجولة فالشيخوخة فالموت، فللدولة أيضا دورتها المماثلة وفق قانون الكون والفساد الذي يتطور فيه النظام بوسائل الإنتاج من البداوة إلي الحضارة، أو من الإمارة والخلافة إلى الملك الذى يليه خراب العمران. وطالما أن النظام الملكى يراعى مصالح الرعية، ولا يحيد عن الحق أو يتجه إلي الباطل، فلا غبار عليه، وهو ما يؤكده التراث العربي الذي يتجاوز في مراجعته أصل السلطان أو طبيعته، مادام قادرا على تحقيق المصلحة العامة، فى سياق الوعى بأن الحكم الاستبدادى الذى يقوم على السطوة والقهر يضعف الدولة، وينذر بانهيارها، كما أن انصراف الحاكم أو الرئيس أو الملك إلي ملذاته، أو عزلته وانفراده بالحكم والتشريع، يجعله لا يصيب فى حكمه، ويؤدى إلي أوخم العواقب. والمغلوب مولع بتقليد الغالب والاقتداء به نتيجة تعظيمه له.
ويستنكر ابن خلدون على الحاكم ممارسة التجارة ولو كان لزيادة إيرادات الدولة، ويعتبره عملا مشينا وغلطة سافرة لا ينبغي أن يتورط فيها، لأنه يضر بالرعية، وذلك بمزاحمة العاملين فى هذا المجال، ومنافسته لهم، دون أن يكون لهؤلاء العاملين إمكانات صاحب السلطة. ومثل هذا الوضع عند ابن خالدون عدوان على الناس، يذهب بجهدهم وأموالهم. وليس هناك حياة أو تقدم بلا عمل وبلا إنتاج.
وعنده أن فرض الضرائب العادلة لزيادة موارد الدولة أفضل من هذه التجارة، لأن منافسة الدولة للقطاع الخاص ــ كما نقول بالمصطلحات الحديثة ــ إجحاف له، لما هو معروف ومسلم به من أن أصحاب الامتياز لا يتنازلون بسهولة عن امتيازاتهم.
وإذا كانت الطبيعة كالأنهار والأمطار تعين على الزراعة، فإنها لا تكفي، ولا غني عن الرعاية البشرية وبذل الجهد لجني أو اقتناء ثمار هذا الجهد وتل الرعاية. وقيمة كل إنتاج يرتبط بمدي الجهد والرعاية التي تبذل فيه، فكلما زاد الجهد أو الرعاية زادت قيمة الانتاج.
ولم يفت ابن خلدون التحذير من مغبة الدولة الدينية التي تدعو إليها اتجاهات ليس من أجل الإيمان بشرع الله وسنة نبيه، ولكن من أجل اعتلاء سدة الحكم أو الرئاسة بلا محاسب أو معقب من أحد، استناداً إلى أن الحكم الدينى حكم استبدادى لا يقبل المناقشة لأنه يستمد شرعيته من السماء المنزهة عن الخطأ أو النقص، ولا يستمد هذه الشرعية من القانون الوضعى الذي يحتمل الصواب والخطأ، ويمكن مناقشته وتغبيره وفق حاجات البشر.
ولابن خلدون سيرة ذاتية هامة، لم تنل شهرة المقدمة، وضعها في كتابة »التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا«، وهي سيرة تتميز بالصدق والجرأة، مليئة بالعبر، يتحدث فيها ابن خلدون عن نشأته فى تونس لأسرة عربية عريقة، تبوأ بعض أفرادهامناصب رفيعة، كما تبوأ ابن خلدون نفسه فى شبابه مناصب رفيعة، اضطلع بأدائها بكفاءة عالية، وأتاحت له أن يختلط بالسلطة فى أكثر من بلد، ممثلة فى رجالها وفى السلاطين والأمراء والعلماء، وأن يبلور أفكاره السياسية عن الحكم وتقلباته من أرض الواقع.
ولعل أهم هذه المناصب تولى القضاء الذى يحتاج، كما يقول ابن خلدون، إلي علو اليد، والرهبة العظيمة التي تفصل فى القضايا الهامة، ولا تهاب وضع الحق في نصابه بين الخصمين، وزجر المعتدي.
ويفهم من مقدمة ابن خلدون أنه يتعين على المتخاصمين الدفاع عن أنفسهم، لأن إصدار الأحكام أو وقوع العقاب بغير دفاع النفس يصيب المحكوم عليه بالذلة. ولعدله فى الأحكام، وعدم قبوله للشفاعة أو الرشوة من أحد، تعرض للتشهير، والتأليب من قبل الجهلاء وأصحاب المصلحة حتي عزل.
وبعد سنوات النشأة انتقل ابن خلدون إلي المغرب، وفيها توسع فى اتصاله بالفلاسف،ة وفي قراءاته التى تجلت في اتجاهه العقلانى، وفي الأخذ بالأسباب من خلال تناوله للأحداث، وفي مراسلاته العديدة التي تميزت بجودة الأسلوب ووضوح الرؤية.
ويروي ابن خلدون فى هذه السيرة المصائب التى نزلت به، وأفدحها وفاة أبيه وأمه وأساتذته فى وباء الطاعون الجارف، وغرق زوجته وبناته الخمس فى بحر الإسكندرية، وتحول السلطان عنه فى أكثر من ظرف، بفعل السعايات المعادية له بدافع الغيرة، خوفا من نفوذه، والتى أدت به إلي السجن فى فاس مايقرب من سنتين.
ولم يكن أمام ابن خلدون ازاء هذه المحن سوي الابتعاد مؤقتا عن السياسة، والعكوف في داره على القراءة والكتابة، خدمة للعلم والمجتمع.
تنقل ابن خلدون بزيه المغربي بين عدد من المدن، كان للقاهرة منها النصيب الأكبر، حين كانت حاضرة الدنيا، ومقر الخلافة الإسلامية وأقام فيها أربعة وعشرين عاماً، ابتداء من 1382م حتي رحيله عام 1406، وهو في منتصف العقد الثامن من عمره.
وتحت سماء القاهرة نَقَّح ابن خلدون المقدمة، وكتب سيرته الذاتية التى تضمنت بعض أشعاره التى كان يكتبها، ولايطلع أحدا عليها، لأنها تراوحت حسب تعبيره بين الإجادة والقصور.
وتؤلف الأعمال التي كتبت عن ابن خلدون فى اللغة العربية فقط مكتبة كاملة سواء ككتب أو فصول فى كتب، أو مقالات في الدوريات الصحفية.
ورغم صعوبة حصر من كتب عن ابن خلدون من الكتاب والباحثين العرب، القدماء والمحدثين، فلا يستطيع من يريد التعرف علي هذا الاسم الخالد أن يغفل عن المئات الذين كتبوا عنه: طه حسين، محمد عبدالله عنان، علي عبدالواحد وافي، ساطع الحصري، جرجي زيدان، أحمد محمد الحوفي، بشر فارس، مصطفى الشكعة، بنسالم حميش، محمد جميل بيهم، محسن مهدى، شوقي ضيف، لويس عوض، رشدي صالح، محمد عبدالغني حسن، الجمال البشبيشى، محمود أمين العالم، مصطفي نبيل.
وينبغى أن أذكر عن الأسماء الثلاثة الأولي، طه حسين، ومحمد عبدالله عنان، وعلى عبد الواحد وافي، أن مؤلف طه حسن عن ابن خلدون عبارة رسالة دكتوراة قدمها بالفرنسة إلى جامعة السوربون فى عام 1917، وقام بترجمتها إلي اللغة العربية فى عام 1925 محمد عبدالله عنان، الذي ألف بدوره كتابا ثمينا عنوانه » ابن خلدون حياته وتراثه الفكرى« صدرت طبعته الأولي فى خمسينيات القرن الماضى، وأعيد طبعه بعدها ثلاث مرات.
أما على عبد الواحد وافي، فهو الذى حقق مقدمة ابن خلدون وشرحها، وعلق عليها، واستكمل الفصول والفقرات الناقصة في طبعاتها السابقة، وصدر له أيضا في العدد الرابع من سلسلة أعلام العرب كتاب » عبد الرحمن بن خلدون«.
2012/02/23
- نبيل فرج*
عاش ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادى من 1332 إلى 1406وفى ضوء معرفته بتاريخ البشرية وأخبار الأمم، وصف .الإنسان فى أعماله التي تقوم على الإدراك والتحقيق والتحليل بأنه حيوان (إجتماعي، مدنى) بالطبعوهذه فكرة أساسية فى التراث العربى واليونانى قبل ابن خلدون، عبر عنها الفيلسوف اليونانى أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وطرحها بالوضوح نفسه فى القرن الحادى عشر الميلادى وبعده الفلاسفة العرب: ابن باجة في كتابه »تدبير المتوحد« ومعاصرة ابن رشد، ثم ابن تيمية في القرن الثاني عشر.
وبسبب كثرة الأغراض بين الأفراد، وتضارب المصالح وتعدد الطبقات، لا يخلو مجتمع من النزاعات. ولكى تدوم حياة الإنسان، ولا يفقد صفائه المجلوب عليه، يتعين عليه أن يكون مرتبطا بالعالم والتاريخ، متمسكا بالأخلاق والدين، مستجيبا لطبيعته ولخلاله الأقرب للخير وليس للشر.
علي أن الدين فى فلسفة ابن خلدون لا يأخذ مساحة أكبر من دوره فى المجتمع، ودوره أن يجعل الدنيا مطية للآخرة، دار القرار. ومتي كانت هذه المطية طيبة، منصرفة للحق، كانت الآخرة كذلك. والغضب في نظر ابن خلدون قوة ونزعة إنسانية محمودة إذا كانت انتصاراً للحق. ولا وجود فى عالم ابن خلدون للصدفة التى لا نعرف أسبابها، أو لما يقع بناء علي أسباب خفية.
ولكل حياة منطقها، كما أن لكل ظاهرة اجتماعية أسبابا عديدة، وليس سببا واحدا. وهذه الأسباب تكمن وتتفاعل في داخلها أو في باطنها الذى يصوغ كيفيتها.
وعلي من يريد فهم الحياة وظواهرها أن يتأملها ويتأمل منطقها، لا تأمل الماضى أو الغيب أو الوهم وخرافات العامة، ورد الشئ إلى أصوله، وقياسه بأشباهه، بحثا عن الدليل أو البرهان الذي اهتدي إليه علماء العرب حين خلصوا درسهم للفلك من التنجيم. وتغير الأحوال يؤدى بالضرورة إلى خلق جديدة أو نشأة جديدة. وقلة الأكل أصح للبدن من الإكثار فيه، كما أن نوعه يؤثر فى صفاء العقل أو عدم صفائه.
وهناك فرق كبير في التاريخ بين الحياة البدوية والحياة الحضرية. وعلينا أن نتذكر أن البداوة أقدم من الحضر، وأنها أصل للمدن أو للحضر. وبقدر ماتتصف البداوة بالفطرة والخشونة والجرأة، فإن الحضر يتميز بالدعة والرقة والنعمة، وإن فقد الحشمة التى يتمسك بها البدو كخلق رفيع.
أما المعرفة عند ابن خلدون فإنها لاتٍٍٍٍُِسَلِّم بالأخبار الواهية، والبعيدة عن الصحة والموضوعية، التى تفيض بها كتابات المؤرخين. وكثيرا مايتجاوز ابن خلدون في ميزانه الحسى والجزئى إلى المادى والكلى. والواقع الخارجى عنده أسبق من كل فكر، وأغنى من أى تعريف.
ولابد للإنسان من رئاسة زمنية، حتي لايعدو البعض على البعض، وتسود الفوضى، ويعم الفساد. ودور هذه الرئاسة الحاكمة، التى لا تعلو عليها رئاسة هو المحافظة على التطور من الحياة البدوية إلى الحياة المدنية، ومن القديم إلي الحديث، وذلك بتنمية الشروط المحققة لهذا التطور الذي يحمي الفرد والملكية الفردية، لأنه إذا ذهب الأمن ذهبت معه الآمال، وتوقف الإنتاج، وتعرض المجتمع للهلاك. ومايعرض السلطة للانهيار هو الترف، وانعدام الجدل فى المجتمع، ونقص العلم والثقافة والعمران. ولتحقيق هذا الأمن دعا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي كتبها في قمة نضجه الفكري، فى سن الخامسة والأربعين، إلي إلغاء الرق، وتخفيف الضرائب، وتحديد مساحات الأرض التي يملكها الأفراد، منعاً لأن يتحولوا إلي سلطة إقطاعية.
كما دعا ابن خلدون إلى إنشاء علاقات حسنة مع دول الجوار، لتبادل المنافع معها، واتساع الأحوال. ومن ناحية مقابلة، شدد ابن خلدون على عدم احتكار الدولة للإنتاج أو للتجارة، لأن الاقتصاد لا يمكن أن يكون كله اقتصاد دولة. ولا يمكن للاقتصاد أيضا أن يكون اقتصادا حرا، أو اقتصادا رأسماليا، لا يوفر فيه السوق الحر للرعية العدالة الاجتماعية.
ويعد ابن خلدون أول من طرح فى التاريخ فى مقدمته الجمع العادل فى الاقتصاد بين السوق الحر والبعد الإجتماعي لمن يريد التقدم والرخاء.وهذا ما تأخذ به الفلسفات السياسية المعاصرة، بعد أن انهار فى العالم شرقه وغربه التجارب الرأسمالية الضخمة، والتجارب الاشتراكية البحتة.
ومثلما تخضع حياة الفرد لدورة الطفولة فالشباب فالرجولة فالشيخوخة فالموت، فللدولة أيضا دورتها المماثلة وفق قانون الكون والفساد الذي يتطور فيه النظام بوسائل الإنتاج من البداوة إلي الحضارة، أو من الإمارة والخلافة إلى الملك الذى يليه خراب العمران. وطالما أن النظام الملكى يراعى مصالح الرعية، ولا يحيد عن الحق أو يتجه إلي الباطل، فلا غبار عليه، وهو ما يؤكده التراث العربي الذي يتجاوز في مراجعته أصل السلطان أو طبيعته، مادام قادرا على تحقيق المصلحة العامة، فى سياق الوعى بأن الحكم الاستبدادى الذى يقوم على السطوة والقهر يضعف الدولة، وينذر بانهيارها، كما أن انصراف الحاكم أو الرئيس أو الملك إلي ملذاته، أو عزلته وانفراده بالحكم والتشريع، يجعله لا يصيب فى حكمه، ويؤدى إلي أوخم العواقب. والمغلوب مولع بتقليد الغالب والاقتداء به نتيجة تعظيمه له.
ويستنكر ابن خلدون على الحاكم ممارسة التجارة ولو كان لزيادة إيرادات الدولة، ويعتبره عملا مشينا وغلطة سافرة لا ينبغي أن يتورط فيها، لأنه يضر بالرعية، وذلك بمزاحمة العاملين فى هذا المجال، ومنافسته لهم، دون أن يكون لهؤلاء العاملين إمكانات صاحب السلطة. ومثل هذا الوضع عند ابن خالدون عدوان على الناس، يذهب بجهدهم وأموالهم. وليس هناك حياة أو تقدم بلا عمل وبلا إنتاج.
وعنده أن فرض الضرائب العادلة لزيادة موارد الدولة أفضل من هذه التجارة، لأن منافسة الدولة للقطاع الخاص ــ كما نقول بالمصطلحات الحديثة ــ إجحاف له، لما هو معروف ومسلم به من أن أصحاب الامتياز لا يتنازلون بسهولة عن امتيازاتهم.
وإذا كانت الطبيعة كالأنهار والأمطار تعين على الزراعة، فإنها لا تكفي، ولا غني عن الرعاية البشرية وبذل الجهد لجني أو اقتناء ثمار هذا الجهد وتل الرعاية. وقيمة كل إنتاج يرتبط بمدي الجهد والرعاية التي تبذل فيه، فكلما زاد الجهد أو الرعاية زادت قيمة الانتاج.
ولم يفت ابن خلدون التحذير من مغبة الدولة الدينية التي تدعو إليها اتجاهات ليس من أجل الإيمان بشرع الله وسنة نبيه، ولكن من أجل اعتلاء سدة الحكم أو الرئاسة بلا محاسب أو معقب من أحد، استناداً إلى أن الحكم الدينى حكم استبدادى لا يقبل المناقشة لأنه يستمد شرعيته من السماء المنزهة عن الخطأ أو النقص، ولا يستمد هذه الشرعية من القانون الوضعى الذي يحتمل الصواب والخطأ، ويمكن مناقشته وتغبيره وفق حاجات البشر.
ولابن خلدون سيرة ذاتية هامة، لم تنل شهرة المقدمة، وضعها في كتابة »التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا«، وهي سيرة تتميز بالصدق والجرأة، مليئة بالعبر، يتحدث فيها ابن خلدون عن نشأته فى تونس لأسرة عربية عريقة، تبوأ بعض أفرادهامناصب رفيعة، كما تبوأ ابن خلدون نفسه فى شبابه مناصب رفيعة، اضطلع بأدائها بكفاءة عالية، وأتاحت له أن يختلط بالسلطة فى أكثر من بلد، ممثلة فى رجالها وفى السلاطين والأمراء والعلماء، وأن يبلور أفكاره السياسية عن الحكم وتقلباته من أرض الواقع.
ولعل أهم هذه المناصب تولى القضاء الذى يحتاج، كما يقول ابن خلدون، إلي علو اليد، والرهبة العظيمة التي تفصل فى القضايا الهامة، ولا تهاب وضع الحق في نصابه بين الخصمين، وزجر المعتدي.
ويفهم من مقدمة ابن خلدون أنه يتعين على المتخاصمين الدفاع عن أنفسهم، لأن إصدار الأحكام أو وقوع العقاب بغير دفاع النفس يصيب المحكوم عليه بالذلة. ولعدله فى الأحكام، وعدم قبوله للشفاعة أو الرشوة من أحد، تعرض للتشهير، والتأليب من قبل الجهلاء وأصحاب المصلحة حتي عزل.
وبعد سنوات النشأة انتقل ابن خلدون إلي المغرب، وفيها توسع فى اتصاله بالفلاسف،ة وفي قراءاته التى تجلت في اتجاهه العقلانى، وفي الأخذ بالأسباب من خلال تناوله للأحداث، وفي مراسلاته العديدة التي تميزت بجودة الأسلوب ووضوح الرؤية.
ويروي ابن خلدون فى هذه السيرة المصائب التى نزلت به، وأفدحها وفاة أبيه وأمه وأساتذته فى وباء الطاعون الجارف، وغرق زوجته وبناته الخمس فى بحر الإسكندرية، وتحول السلطان عنه فى أكثر من ظرف، بفعل السعايات المعادية له بدافع الغيرة، خوفا من نفوذه، والتى أدت به إلي السجن فى فاس مايقرب من سنتين.
ولم يكن أمام ابن خلدون ازاء هذه المحن سوي الابتعاد مؤقتا عن السياسة، والعكوف في داره على القراءة والكتابة، خدمة للعلم والمجتمع.
تنقل ابن خلدون بزيه المغربي بين عدد من المدن، كان للقاهرة منها النصيب الأكبر، حين كانت حاضرة الدنيا، ومقر الخلافة الإسلامية وأقام فيها أربعة وعشرين عاماً، ابتداء من 1382م حتي رحيله عام 1406، وهو في منتصف العقد الثامن من عمره.
وتحت سماء القاهرة نَقَّح ابن خلدون المقدمة، وكتب سيرته الذاتية التى تضمنت بعض أشعاره التى كان يكتبها، ولايطلع أحدا عليها، لأنها تراوحت حسب تعبيره بين الإجادة والقصور.
وتؤلف الأعمال التي كتبت عن ابن خلدون فى اللغة العربية فقط مكتبة كاملة سواء ككتب أو فصول فى كتب، أو مقالات في الدوريات الصحفية.
ورغم صعوبة حصر من كتب عن ابن خلدون من الكتاب والباحثين العرب، القدماء والمحدثين، فلا يستطيع من يريد التعرف علي هذا الاسم الخالد أن يغفل عن المئات الذين كتبوا عنه: طه حسين، محمد عبدالله عنان، علي عبدالواحد وافي، ساطع الحصري، جرجي زيدان، أحمد محمد الحوفي، بشر فارس، مصطفى الشكعة، بنسالم حميش، محمد جميل بيهم، محسن مهدى، شوقي ضيف، لويس عوض، رشدي صالح، محمد عبدالغني حسن، الجمال البشبيشى، محمود أمين العالم، مصطفي نبيل.
وينبغى أن أذكر عن الأسماء الثلاثة الأولي، طه حسين، ومحمد عبدالله عنان، وعلى عبد الواحد وافي، أن مؤلف طه حسن عن ابن خلدون عبارة رسالة دكتوراة قدمها بالفرنسة إلى جامعة السوربون فى عام 1917، وقام بترجمتها إلي اللغة العربية فى عام 1925 محمد عبدالله عنان، الذي ألف بدوره كتابا ثمينا عنوانه » ابن خلدون حياته وتراثه الفكرى« صدرت طبعته الأولي فى خمسينيات القرن الماضى، وأعيد طبعه بعدها ثلاث مرات.
أما على عبد الواحد وافي، فهو الذى حقق مقدمة ابن خلدون وشرحها، وعلق عليها، واستكمل الفصول والفقرات الناقصة في طبعاتها السابقة، وصدر له أيضا في العدد الرابع من سلسلة أعلام العرب كتاب » عبد الرحمن بن خلدون«.