منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

#48724
ابن خلدون.. البداوة والحضارة‮
2012/02/23
- نبيل فرج*


عاش ابن خلدون في‮ ‬القرن الرابع عشر الميلادى من‮ ‬1332‮ ‬إلى‮ ‬1406‮‬وفى ضوء معرفته بتاريخ البشرية وأخبار الأمم،‮ ‬وصف .الإنسان فى أعماله التي‮ ‬تقوم على الإدراك والتحقيق والتحليل بأنه حيوان‮ (‬إجتماعي،‮ ‬مدنى‮) ‬بالطبعوهذه فكرة أساسية فى التراث العربى واليونانى قبل ابن خلدون،‮ ‬عبر عنها الفيلسوف اليونانى أرسطو في‮ ‬القرن الرابع قبل الميلاد،‮ ‬وطرحها بالوضوح نفسه فى القرن الحادى عشر الميلادى وبعده الفلاسفة العرب‮: ‬ابن باجة في‮ ‬كتابه‮ ‬»تدبير المتوحد‮«‬ ومعاصرة ابن رشد،‮ ‬ثم ابن تيمية في‮ ‬القرن الثاني‮ ‬عشر‮.


وبسبب كثرة الأغراض بين الأفراد،‮ ‬وتضارب المصالح وتعدد الطبقات،‮ ‬لا‮ ‬يخلو مجتمع من النزاعات‮. ‬ولكى تدوم حياة الإنسان،‮ ‬ولا‮ ‬يفقد صفائه المجلوب عليه،‮ ‬يتعين عليه أن‮ ‬يكون مرتبطا بالعالم والتاريخ،‮ ‬متمسكا بالأخلاق والدين،‮ ‬مستجيبا لطبيعته ولخلاله الأقرب للخير وليس للشر‮.


علي‮ ‬أن الدين فى فلسفة ابن خلدون لا‮ ‬يأخذ مساحة أكبر من دوره فى المجتمع،‮ ‬ودوره أن‮ ‬يجعل الدنيا مطية للآخرة،‮ ‬دار القرار‮. ‬ومتي‮ ‬كانت هذه المطية طيبة،‮ ‬منصرفة للحق،‮ ‬كانت الآخرة كذلك‮. ‬والغضب في‮ ‬نظر ابن خلدون قوة ونزعة إنسانية محمودة إذا كانت انتصاراً‮ ‬للحق‮. ‬ولا وجود فى عالم ابن خلدون للصدفة التى لا نعرف أسبابها،‮ ‬أو لما‮ ‬يقع بناء علي‮ ‬أسباب خفية‮.


ولكل حياة منطقها،‮ ‬كما أن لكل ظاهرة اجتماعية أسبابا عديدة،‮ ‬وليس سببا واحدا‮. ‬وهذه الأسباب تكمن وتتفاعل في‮ ‬داخلها أو في‮ ‬باطنها الذى‮ ‬يصوغ‮ ‬كيفيتها‮.


وعلي‮ ‬من‮ ‬يريد فهم الحياة وظواهرها أن‮ ‬يتأملها ويتأمل منطقها،‮ ‬لا تأمل الماضى أو الغيب أو الوهم وخرافات العامة،‮ ‬ورد الشئ إلى أصوله،‮ ‬وقياسه بأشباهه،‮ ‬بحثا عن الدليل أو البرهان الذي‮ ‬اهتدي‮ ‬إليه علماء العرب حين خلصوا درسهم للفلك من التنجيم‮. ‬وتغير الأحوال‮ ‬يؤدى بالضرورة إلى خلق جديدة أو نشأة جديدة‮. ‬وقلة الأكل أصح للبدن من الإكثار فيه،‮ ‬كما أن نوعه‮ ‬يؤثر فى صفاء العقل أو عدم صفائه‮.


وهناك فرق كبير في‮ ‬التاريخ بين الحياة البدوية والحياة الحضرية‮. ‬وعلينا أن نتذكر أن البداوة أقدم من الحضر،‮ ‬وأنها أصل للمدن أو للحضر‮. ‬وبقدر ماتتصف البداوة بالفطرة والخشونة والجرأة،‮ ‬فإن الحضر‮ ‬يتميز بالدعة والرقة والنعمة،‮ ‬وإن فقد الحشمة التى‮ ‬يتمسك بها البدو كخلق رفيع‮.‬
أما المعرفة عند ابن خلدون فإنها لاتٍٍٍٍُِسَلِّم بالأخبار الواهية،‮ ‬والبعيدة عن الصحة والموضوعية،‮ ‬التى تفيض بها كتابات المؤرخين‮. ‬وكثيرا مايتجاوز ابن خلدون في‮ ‬ميزانه الحسى والجزئى إلى المادى والكلى‮. ‬والواقع الخارجى عنده أسبق من كل فكر،‮ ‬وأغنى من أى تعريف‮.


ولابد للإنسان من رئاسة زمنية،‮ ‬حتي‮ ‬لايعدو البعض على البعض،‮ ‬وتسود الفوضى،‮ ‬ويعم الفساد‮. ‬ودور هذه الرئاسة الحاكمة،‮ ‬التى لا تعلو عليها رئاسة هو المحافظة على التطور من الحياة البدوية إلى الحياة المدنية،‮ ‬ومن القديم إلي‮ ‬الحديث،‮ ‬وذلك بتنمية الشروط المحققة لهذا التطور الذي‮ ‬يحمي‮ ‬الفرد والملكية الفردية،‮ ‬لأنه إذا ذهب الأمن ذهبت معه الآمال،‮ ‬وتوقف الإنتاج،‮ ‬وتعرض المجتمع للهلاك‮. ‬ومايعرض السلطة للانهيار هو الترف،‮ ‬وانعدام الجدل فى المجتمع،‮ ‬ونقص العلم والثقافة والعمران‮. ‬ولتحقيق هذا الأمن دعا ابن خلدون في‮ ‬مقدمته الشهيرة التي‮ ‬كتبها في‮ ‬قمة نضجه الفكري،‮ ‬فى سن الخامسة والأربعين،‮ ‬إلي‮ ‬إلغاء الرق،‮ ‬وتخفيف الضرائب،‮ ‬وتحديد مساحات الأرض التي‮ ‬يملكها الأفراد،‮ ‬منعاً‮ ‬لأن‮ ‬يتحولوا إلي‮ ‬سلطة إقطاعية‮.


كما دعا ابن خلدون إلى إنشاء علاقات حسنة مع دول الجوار،‮ ‬لتبادل المنافع معها،‮ ‬واتساع الأحوال‮. ‬ومن ناحية مقابلة،‮ ‬شدد ابن خلدون على عدم احتكار الدولة للإنتاج أو للتجارة،‮ ‬لأن الاقتصاد لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون كله اقتصاد دولة‮. ‬ولا‮ ‬يمكن للاقتصاد أيضا أن‮ ‬يكون اقتصادا حرا،‮ ‬أو اقتصادا رأسماليا،‮ ‬لا‮ ‬يوفر فيه السوق الحر للرعية العدالة الاجتماعية‮.


ويعد ابن خلدون أول من طرح فى التاريخ فى مقدمته الجمع العادل فى الاقتصاد بين السوق الحر والبعد الإجتماعي‮ ‬لمن‮ ‬يريد التقدم والرخاء.وهذا ما تأخذ به الفلسفات السياسية المعاصرة،‮ ‬بعد أن انهار فى العالم شرقه وغربه التجارب الرأسمالية الضخمة،‮ ‬والتجارب الاشتراكية البحتة‮.


ومثلما تخضع حياة الفرد لدورة الطفولة فالشباب فالرجولة فالشيخوخة فالموت،‮ ‬فللدولة أيضا دورتها المماثلة وفق قانون الكون والفساد الذي‮ ‬يتطور فيه النظام بوسائل الإنتاج من البداوة إلي‮ ‬الحضارة،‮ ‬أو من الإمارة والخلافة إلى الملك الذى‮ ‬يليه خراب العمران‮. ‬وطالما أن النظام الملكى‮ ‬يراعى مصالح الرعية،‮ ‬ولا‮ ‬يحيد عن الحق أو‮ ‬يتجه إلي‮ ‬الباطل،‮ ‬فلا‮ ‬غبار عليه،‮ ‬وهو ما‮ ‬يؤكده التراث العربي‮ ‬الذي‮ ‬يتجاوز في‮ ‬مراجعته أصل السلطان أو طبيعته،‮ ‬مادام قادرا على تحقيق المصلحة العامة،‮ ‬فى سياق الوعى بأن الحكم الاستبدادى الذى‮ ‬يقوم على السطوة والقهر‮ ‬يضعف الدولة،‮ ‬وينذر بانهيارها،‮ ‬كما أن انصراف الحاكم أو الرئيس أو الملك إلي‮ ‬ملذاته،‮ ‬أو عزلته وانفراده بالحكم والتشريع،‮ ‬يجعله لا‮ ‬يصيب فى حكمه،‮ ‬ويؤدى إلي‮ ‬أوخم العواقب‮. ‬والمغلوب مولع بتقليد الغالب والاقتداء به نتيجة تعظيمه له‮.


ويستنكر ابن خلدون على الحاكم ممارسة التجارة ولو كان لزيادة إيرادات الدولة،‮ ‬ويعتبره عملا مشينا وغلطة سافرة لا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يتورط فيها،‮ ‬لأنه‮ ‬يضر بالرعية،‮ ‬وذلك بمزاحمة العاملين فى هذا المجال،‮ ‬ومنافسته لهم،‮ ‬دون أن‮ ‬يكون لهؤلاء العاملين إمكانات صاحب السلطة‮. ‬ومثل هذا الوضع عند ابن خالدون عدوان على الناس،‮ ‬يذهب بجهدهم وأموالهم‮. ‬وليس هناك حياة أو تقدم بلا عمل وبلا إنتاج‮.‬
وعنده أن فرض الضرائب العادلة لزيادة موارد الدولة أفضل من هذه التجارة،‮ ‬لأن منافسة الدولة للقطاع الخاص ــ كما نقول بالمصطلحات الحديثة ــ إجحاف له،‮ ‬لما هو معروف ومسلم به من أن أصحاب الامتياز لا‮ ‬يتنازلون بسهولة عن امتيازاتهم‮.


وإذا كانت الطبيعة كالأنهار والأمطار تعين على الزراعة،‮ ‬فإنها لا تكفي،‮ ‬ولا‮ ‬غني‮ ‬عن الرعاية البشرية وبذل الجهد لجني‮ ‬أو اقتناء ثمار هذا الجهد وتل الرعاية‮. ‬وقيمة كل إنتاج‮ ‬يرتبط بمدي‮ ‬الجهد والرعاية التي‮ ‬تبذل فيه،‮ ‬فكلما زاد الجهد أو الرعاية زادت قيمة الانتاج‮.


ولم‮ ‬يفت ابن خلدون التحذير من مغبة الدولة الدينية التي‮ ‬تدعو إليها اتجاهات ليس من أجل الإيمان بشرع الله وسنة نبيه،‮ ‬ولكن من أجل اعتلاء سدة الحكم أو الرئاسة بلا محاسب أو معقب من أحد،‮ ‬استناداً‮ ‬إلى أن الحكم الدينى حكم استبدادى لا‮ ‬يقبل المناقشة لأنه‮ ‬يستمد شرعيته من السماء المنزهة عن الخطأ أو النقص،‮ ‬ولا‮ ‬يستمد هذه الشرعية من القانون الوضعى الذي‮ ‬يحتمل الصواب والخطأ،‮ ‬ويمكن مناقشته وتغبيره وفق حاجات البشر‮.


ولابن خلدون سيرة ذاتية هامة،‮ ‬لم تنل شهرة المقدمة،‮ ‬وضعها في‮ ‬كتابة‮ ‬»التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا‮«‬، وهي‮ ‬سيرة تتميز بالصدق والجرأة،‮ ‬مليئة بالعبر،‮ ‬يتحدث فيها ابن خلدون عن نشأته فى تونس لأسرة عربية عريقة،‮ ‬تبوأ بعض أفرادهامناصب رفيعة،‮ ‬كما تبوأ ابن خلدون نفسه فى شبابه مناصب رفيعة،‮ ‬اضطلع بأدائها بكفاءة عالية،‮ ‬وأتاحت له أن‮ ‬يختلط بالسلطة فى أكثر من بلد،‮ ‬ممثلة فى رجالها وفى السلاطين والأمراء والعلماء،‮ ‬وأن‮ ‬يبلور أفكاره السياسية عن الحكم وتقلباته من أرض الواقع‮.


ولعل أهم هذه المناصب تولى القضاء الذى‮ ‬يحتاج،‮ ‬كما‮ ‬يقول ابن خلدون،‮ ‬إلي‮ ‬علو اليد،‮ ‬والرهبة العظيمة التي‮ ‬تفصل فى القضايا الهامة،‮ ‬ولا تهاب وضع الحق في‮ ‬نصابه بين الخصمين،‮ ‬وزجر المعتدي‮.


ويفهم من مقدمة ابن خلدون أنه‮ ‬يتعين على المتخاصمين الدفاع عن أنفسهم،‮ ‬لأن إصدار الأحكام أو وقوع العقاب بغير دفاع النفس‮ ‬يصيب المحكوم عليه بالذلة‮. ‬ولعدله فى الأحكام،‮ ‬وعدم قبوله للشفاعة أو الرشوة من أحد،‮ ‬تعرض للتشهير،‮ ‬والتأليب من قبل الجهلاء وأصحاب المصلحة حتي‮ ‬عزل‮.‬
وبعد سنوات النشأة انتقل ابن خلدون إلي‮ ‬المغرب،‮ ‬وفيها توسع فى اتصاله بالفلاسف،ة وفي‮ ‬قراءاته التى تجلت في‮ ‬اتجاهه العقلانى،‮ ‬وفي‮ ‬الأخذ بالأسباب من خلال تناوله للأحداث،‮ ‬وفي‮ ‬مراسلاته العديدة التي‮ ‬تميزت بجودة الأسلوب ووضوح الرؤية‮.


ويروي‮ ‬ابن خلدون فى هذه السيرة المصائب التى نزلت به،‮ ‬وأفدحها وفاة أبيه وأمه وأساتذته فى وباء الطاعون الجارف،‮ ‬وغرق زوجته وبناته الخمس فى بحر الإسكندرية،‮ ‬وتحول السلطان عنه فى أكثر من ظرف،‮ ‬بفعل السعايات المعادية له بدافع الغيرة،‮ ‬خوفا من نفوذه،‮ ‬والتى أدت به إلي‮ ‬السجن فى فاس مايقرب من سنتين‮.


ولم‮ ‬يكن أمام ابن خلدون ازاء هذه المحن سوي‮ ‬الابتعاد مؤقتا عن السياسة،‮ ‬والعكوف في‮ ‬داره على القراءة والكتابة،‮ ‬خدمة للعلم والمجتمع‮.‬
تنقل ابن خلدون بزيه المغربي‮ ‬بين عدد من المدن،‮ ‬كان للقاهرة منها النصيب الأكبر،‮ ‬حين كانت حاضرة الدنيا،‮ ‬ومقر الخلافة الإسلامية وأقام فيها أربعة وعشرين عاماً،‮ ‬ابتداء من‮ ‬1382م حتي‮ ‬رحيله عام‮ ‬1406،‮ ‬وهو في‮ ‬منتصف العقد الثامن من عمره‮.


وتحت سماء القاهرة نَقَّح ابن خلدون المقدمة،‮ ‬وكتب سيرته الذاتية التى تضمنت بعض أشعاره التى كان‮ ‬يكتبها،‮ ‬ولايطلع أحدا عليها،‮ ‬لأنها تراوحت حسب تعبيره بين الإجادة والقصور‮.‬
وتؤلف الأعمال التي‮ ‬كتبت عن ابن خلدون فى اللغة العربية فقط مكتبة كاملة سواء ككتب أو فصول فى كتب،‮ ‬أو مقالات في‮ ‬الدوريات الصحفية‮.


ورغم صعوبة حصر من كتب عن ابن خلدون من الكتاب والباحثين العرب،‮ ‬القدماء والمحدثين،‮ ‬فلا‮ ‬يستطيع من‮ ‬يريد التعرف علي‮ ‬هذا الاسم الخالد أن‮ ‬يغفل عن المئات الذين كتبوا عنه‮: ‬طه حسين،‮ ‬محمد عبدالله عنان،‮ ‬علي‮ ‬عبدالواحد وافي،‮ ‬ساطع الحصري،‮ ‬جرجي‮ ‬زيدان،‮ ‬أحمد محمد الحوفي،‮ ‬بشر فارس،‮ ‬مصطفى الشكعة،‮ ‬بنسالم حميش،‮ ‬محمد جميل بيهم،‮ ‬محسن مهدى،‮ ‬شوقي‮ ‬ضيف،‮ ‬لويس عوض،‮ ‬رشدي‮ ‬صالح،‮ ‬محمد عبدالغني‮ ‬حسن،‮ ‬الجمال البشبيشى،‮ ‬محمود أمين العالم،‮ ‬مصطفي‮ ‬نبيل‮.‬
وينبغى أن أذكر عن الأسماء الثلاثة الأولي،‮ ‬طه حسين،‮ ‬ومحمد عبدالله عنان،‮ ‬وعلى عبد الواحد وافي،‮ ‬أن مؤلف طه حسن عن ابن خلدون عبارة رسالة دكتوراة قدمها بالفرنسة إلى جامعة السوربون فى عام‮ ‬1917،‮ ‬وقام بترجمتها إلي‮ ‬اللغة العربية فى عام‮ ‬1925‮ ‬محمد عبدالله عنان،‮ ‬الذي‮ ‬ألف بدوره كتابا ثمينا عنوانه‮ ‬» ابن خلدون حياته وتراثه الفكرى‮« ‬ صدرت طبعته الأولي‮ ‬فى خمسينيات القرن الماضى،‮ ‬وأعيد طبعه بعدها ثلاث مرات‮.


أما على عبد الواحد وافي،‮ ‬فهو الذى حقق مقدمة ابن خلدون وشرحها،‮ ‬وعلق عليها،‮ ‬واستكمل الفصول والفقرات الناقصة في‮ ‬طبعاتها السابقة،‮ ‬وصدر له أيضا في‮ ‬العدد الرابع من سلسلة أعلام العرب كتاب‮ »‬ عبد الرحمن بن خلدون‮«‬.