منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#48757
شهد العالم منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي عدداً من المتغيرات في هيكل العلاقات الدولية وتفاعلاتها، وقد انعكس ذلك بشكل واضح على معظم مجالات الحياة، ولعل ما حدث من تطورات تكنولوجية وما تبعها من تطور في وسائل الإعلام ونظم الاتصالات يُعد أبرز هذه المتغيرات ، بل أصبح الإعلام وكيفية تطويعه لتكنولوجيا الاتصال عنصراً هاماً من عناصر تقييم القوة الشاملة للدولة ، وبالتالي تقييم قوة الدولة المتحكمة في النظام الدولي الحالي.
وهكذا أصبح العصر الذي نعيشه الآن ، هو عصر ثورة الاتصال والفضائيات التي تبث عبر الأقمار الصناعية ، بل وتحول العالم إلي قرية صغيرة ، وذلك كنتيجة مباشرة لما شهدته وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة ، من تقدم تقني ووظيفي ، أدى إلى انتشار القنوات التليفزيونية الفضائية ، فضلاً عن الانتشار المذهل لوسائل الإعلام الأخرى سواء المسموعة أو المقروءة ، ناهيك عن شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ، مما دفع بالأحداث المحلية إلى دائرة الاهتمام العالمي، وجذب الأحداث العالمية إلى بؤرة الاهتمام المحلي .
لقد كتب الكثير منذ ربع قرن حول التأثير المتنامي للإعلام ، واختلف منذ البداية رواد علوم الإعلام السياسي في تحديد نوعية العلاقة بين السياسة والإعلام، فرأى بعضهم ان العمل السياسي والعمل الإعلامي يشكلان مجالين متميزين، ورأى البعض الآخر انه لا يمكن الفصل بين هذين النشاطين باعتبار أهمية الوظيفة الإعلامية هي التبليغ وإشراك المواطنين في الحياة السياسية، وربط قنوات الاتصال بين التشكيلات المتآلفة او المتعارضة ، فأضحى الجمهور مرتبطا بما يقرأه في الصحافة ويشاهده على الشاشة او يسمعه في الإذاعة ، لذلك فانه لا تكتمل الحياة السياسية في الدولة العصرية الا بالإعلام الغزير والحوار الدائم بين المواطنين ومختلف أجهزة الحكم .
وهذا العمل الإعلامي الذي يطلق عليه صفة “الإعلام السياسي” يتصل خاصة باهتماماته المحلية والدولية ذات الطابع السياسي ، وللإعلام السياسي في النظام الدولي أو النظام السياسي المحلي أهداف كثيرة، منها دعم الديمقراطية وخدمة التنمية السياسية وتكريس الحقوق الإنسانية ، ولئن كان هذا الإعلام يتصل بنشاط مشترك فهو يختلف في مستوى الممارسة ، ومن قطاع الى آخر ، وقد تقدم البحث العلمي في مجالات الاتصال السياسي وظهرت آليات جديدة لقياس مدى تأثير الرسائل الإعلامية والإعلانية في الأذهان وتأكدت صحة نتائج التحقيقات واستطلاعات الرأي ، فأفضى كل ذلك إلى برامج متكاملة ومتلائمة مع حاجة المجموعات في معالجة مختلف الإشكاليات الاجتماعية المتأصلة التي عجزت أجهزة الإدارة عن معالجتها بالوسائل التقليدية التي عرفها الإنسان.
ومن الثابت منذ نهاية القرن المنصرم أن تراجع الخطاب المطالب بإقامة نظام عالمي جديد للإعلام والاتصال، كامتداد طبيعي للمطالبة بإرساء أسس نظام اقتصادي عالمي جديد يكون الهدف منهما تقليص الاختلافات والتفاوتات التي تطبع العلاقات بين دول المال ودول الجنوب.
ومن الثابت كذلك أن تراجع الخطابين إنما جاء نتيجة للمعارضة الشديدة التي لقيها من لدن الدول الغربية الكبرى، عبرت عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالانسحاب على اعتبار “أدلجة” المؤسسة (اليونسكو) التي تشبثت دول العالم الثالث في ظلها بالنظامين.
لقد خلق النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لنفسه نظاما إعلاميا برزت معالمه الأولى في تغطية حرب الخليج الثانية عام 1991م ثم في أحداث 11 أيلول 2001م واحتلال أفغانستان عام 2002م وأخيراً في حرب الخليج الثالثة عام 2003م، موظفا في ذلك أقوى ما وصلت إليه تكنولوجيا الإعلام والاتصال ، وأثبتت الوقائع تهميشه الممنهج لمشاكل العالم الثالث وتشويهه الصارخ لقضاياه وتطلعاته المستقبلية.
ما يشد الملاحظ للتطورات العالمية التي واكبت خطاب النظام الدولي الأمريكي ملامحه التكنولوجية البارزة، والتي أهلت الولايات المتحدة بامتياز لاحتلال مركز الصدارة بدون منازع في إعادة تشكيل بنية العلاقات الدولية لما بعد الحرب الباردة.
ويوجز أهل العلم سمات النظام الدولي الأمريكي في السياسة الدولية المعاصرة في ثلاثة سمات رئيسية أدت إلى تشكيل هيكلية النظام العالمي الحالي برفقة نظام إعلامي معاصر ، وهذه السمات هي :
السمة الاولى : تتمثل في “الثورة الهائلة في وسائل الاتصال ونقل المعلومات وسرعة تداولها عبر الدول، وما ترتب على ذلك من اختصار غير معهود للزمن والمسافات بين مختلف مناطق العالم … إلى الحد الذي حمل بعض المفكرين الاجتماعيين، مثل آلفن توفلر، إلى التساؤل بشأن مدى قدرة الإنسان على التكيف مع هذه الدرجة غير المسبوقة من السرعة في تداعي الأحداث وتلاحقها.
السمة الثانية : وتتجلى في خاصية الثورة العلمية والتكنولوجية التي أغرقت “المجتمعات” بالسلع والأجهزة والمعدات ووسائل إنتاج وتوزيع واستهلاك العلم والمعرفة .
السمة الثالثة : وتكمن في تزايد الاعتماد الدولي المتبادل، سيما مع تصاعد ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات، إذ أصبح من الشائع اليوم أن نجد العديد من المنتجات الصناعية (سيارات، أجهزة إلكترونية ، حاسبات آلية…الخ) يتم تجميع مكوناتها في أكثر من دولة بحيث تقوم كل واحدة منها بالتركيز على/أو بالتخصص في صنع أحد هذه المكونات فقط.
هذه السمات الكبرى هي التي مأسست “لأطروحة” النظام الدولي المعاصر وكرست له بالتأكيد كمرجعية أولى في العلاقات الدولية “الجديدة”.
ما يقدم إشكالية البحث في هذا الموضوع ، ليس تبني هذه الأدبيات للنظام الجديد ، فقد تبناه جانب كبير منها وعارضه جانب آخر وتحفظ على طرحه جانب ثالث، ولكن توظيف تكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال للترويج للنظام الجديد أثناء تغطيتها وتضليلها لكل ما يمت بصلة لمصالحها الاسترايتجية، كما هو في حرب الخليج الثانية والثالثة وأحداث 11 أيلول 2001م ، حتى بات الإعلام السياسي وثيق الصلة بالإعلام الحربي أو العسكري ، فهو موظف لخدمة الأغراض السياسية والعسكرية على حدٍ سواء ، في ظل الأزمات أو الحروب والنزاعات .
والبحث عن الإعلام السياسي في ظل النظام الدولي الجديد بعد انتهاء الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية لا يعني أن النظام الدولي والإعلام السياسي قد “مُؤسس” لهما نشأة وتشكلا، واستقرت مكوناتهما البنيوية ليصبحا مرجعية أولى في العلاقات الدولية .
فما يهم من خطاب النظام الدولي الجديد (والإعلام السياسي أحد مكوناته البنيوية الأساسية) ليس هيكله ولا مستوى التزام الدول به كمرجعية لهذه العلاقات ، ولكن ما يهم بالأساس ، تداعياته ودرجة احترام القيم التي تبناها واضعوه.
فعلى الرغم من تقلص الخطاب الإعلامي السياسي (الذي ساد طيلة حرب الخليج وبعدها) على إثر انهزام جورج بوش في الانتخابات الرئاسية، فإن الظروف الدولية التالية للحرب والراهنة لا تزيده إلا تكريسا على مستوى الممارسة لا فيما يخص العلاقات السياسية بين الدول فحسب، ولكن أيضا اعتبارا للعلاقات الاقتصادية والإعلامية الدولية السائدة.
لقد بلغت قناعة الولايات المتحدة بأهمية وفعالية الإعلام بشكل عام ، والسياسي بشكل خاص أن صرفت النظر في عام 1990م عن المضي في استكمال خطة لتطوير الصاروخ (أم-أكس) التي تتكلف 1.8 بليون دولار ، في الوقت الذي قبلت أن تنفق مبلغ 2.3 بليون دولار على مشروع لتطوير أداء إذاعة صوت أمريكا لكي تُسمع في جميع أنحاء العالم بصورة أكثر قوة وتأثيراً .
وفي حرب الخليج الثالثة ، أطلق البعض عليها الحرب الإعلامية أو حرب الخطاب السياسي الإعلامي ، لكثرة ما شهدت من نزاع وتنافس بين وسائل الإعلامي السياسي العربي والغربي في تقديم الحرب كلٌ على هواه وأدلجته السياسية الخاصة ، فعلى الرغم من التدفق الهائل للأخبار والمعلومات والتقارير بالصوت والصورة وبشكل دوري ومستمر ، الا أكثر ما امتاز فيه الإعلام السياسي في هذه الحرب ، خاصة الغربي والأمريكي ، هو ممارسة التضليل والتوجيه باستعمال التقنية السمعية والبصرية الحديثة ، مما أفقد المشاهد والقارئ العربي والغربي المصداقية في العديد من وسائل الإعلام الأمريكية ولغربية وبض العربية ، بعدما انكشفت الحقيقة بالواقع ، وتبين أن معظم ما كان يُبث لم يكن سوى من باب “الدعاية السياسية والتضليل الذكي” .
وعلى عكس التغطية الإعلامية لحرب الخليج الثانية عام 1991م ، والتي احتكرت فيها شبكة “سي إن إن” (CNN) المشهد الإعلامي السياسي ، ونجحت بأن تراقب الصورة المتدفقة من أرض المعركة ، بل على حد الكاتبة الأمريكية “سوزان سونتاغ” “حولت الحرب الى لعبة فيديو شغلت البلاد وأثارت المهتمين بالتكنولوجيا” ، فان التغطية السياسية والعسكرية لحرب الخليج الثالثة اتسمت بعد أحاديتها ، إذ لم تنفرد وسائل إعلام معينة بالتغطية ، ولم تعد المعلومات والأخبار حكراً على المصادر الغربية التي سيطرت على الساحة الإعلامية الدولية لعقود ، وان كان هذا الجانب الإيجابي في تطور وسائل الإعلام العربية ، خاصة السياسية المتخصصة منها ، فان الجانب السلبي قد برز بوضوح عند اختلاف المشهد السياسي والدرامي للحرب بين الإعلام السياسي العربي وقرينه الغربي ، حتى بدا للعيان ان كل منهما يُغطي حرباً أخرى غير التي تجري رحاها في العراق .
يتضح مما سبق دور وأثر الإعلام في السياسة المحلية والدولية في ظل النظام الدولي الجديد الذي كرّس أهمية الإعلام السياسي في خدمة أهدافه واستراتيجياته الجديدة ، وسعى الى الاعتماد على الإعلام كسلاح أكثر فعالية من اللجوء الى القوة العسكرية والعنف ، بل وسلاح أكثر خطورة من السابق باعتباره يعتمد على وسائل الإقناع والترغيب والترهيب والتضليل والخداع بصورة تبدو للعيان أنها الواقع أو الحقيقة .