- الأحد إبريل 22, 2012 11:43 pm
#48788
نظرية الغزالي السلوكية أساساً للإصلاح الاجتماعي
عز الدين جلولي*
كانت وراء اختياري لهذا الموضوع بواعث ذاتية وأخرى موضوعية؛ تمثلت الأولى في قناعتي الشخصية بغنى تراثنا الإسلامي غنى لا يضاهيه إلاّ جهل به أو تجاهله في الصروح العالية للبحث العلمي، الأمر الذي جرّ إلى نتائج أحسبها وخيمة، كان من أهمها قصور الدراسات النفسية والاجتماعية عن تلمّس الحقائق الكونية في هذه الميادين من جهة، واقتصارها، نتيجة لذلك، على ماله سمة الذيوع والانتشار من الأفكار ولو جانبت الصواب من جهة أخرى.
أما فيما يخصّ الدوافع الموضوعية لهذه الدراسة فشديدة الصلة بمضمونها، الذي كشف لي بأن الإمام أبا حامد الغزالي(1) هو صاحب النظرية المسمّاة بنظرية الإشراط، المنسوبة خطأ إلى "بافلوف"(2) بل إن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ذكر، في عنوان المقالة التي أشار فيها إلى هذا الخطأ، أن النظرية سرقت من الغزالي، فعنوان المقال بقول: "ما هي حقيقة الخير والشر؟ أو النظرية التي سرقت من الغزالي"(3).
قد لا أميل إلى القول بسرقتها، وإن كان ذلك غير مستبعد، فـ"بافلوف" لم يكن السباق إلى لفت الانتباه إلى فكرة الارتباط بين المثيرات والاستجابات حتى في الفكر التربوي الغربي، وأساس عدم استبعادي للسرقة أن الغرب دأب على أن ينسب إليه نظريات ويدّعي حيازة قصب السبق فيها فتأتي الوقائع الحقه لتخالف ذلك، وتثبت أنّها من نتاج غيره، ومن بنات أفكار آخرين.
لن أقارب في هذه الدارسة كل نظريات الارتباط بما ورد عند الإمام الغزالي، فذلك أمر يطول ويتّسع،(4) لكني سأكتفي بمقارنة نظرية الاشتراط ين الغزالي و"بافلوف"، تاركا بقية النظريات الاقترانبة خارج حدود البحث، لأتوجه إلى الحديث عن آثار هذه النظرية السلوكية في الاصلاح الاجتماعي، وبيان الحاجة إلى استبهامها في فقه الواقع مقدمة للدعوة والتربية والتبليغ.
كثيرة هي المحاولات التي جدّت في تقسير سيكولوجية السلوك الانساني، والملاحظ أن أكثر هذه المحاولاتت من تجارب كانت تجرى على الحيوانات، فلم ترق بنتائجها إلى مستوى الحقائق العلمية الموثوق بها، بل بقيت فرضيات تعطي بعض الضوء ولا تهدي الإنسان إلى حقائق السلوك عند الإنسان، ذلك الكائن المجهول.
إن النظرية العلمية هي "جملة من القوانين الواضحة التفاعل في ما بينها، تعطي تفسيراً شاملاً لظاهرة رئيسية(نظرة داروين، أنشتاين...)، أما نظريات التعلم(وهو جزء من السلوك) فلا تعطينا تفسيراً شاملاً ومتفقاً عليه لما يحدث أثناء التعلم؛ ولذلك فمن الأسلم اعتبارها مجرد نظريات افتراضية"(5). يؤخذ على هذا التعريف، الذي أورده الدكتور فوزي أيوب، إدراجه نظرية دارروين ضمن النظريات العلمية، رغم أنها انتقدت وتجاوزها الباحثون في علم النفس وفي مقدمتهم تلامذة داروين أنفسهم، ولعلّ هذا ما جعل الدكتور نشواتي يكون أكثر حذراً في إعطاء تعريف للنظرية، فقال بأنها مجموعة من المبادئ الموجّهة التي تزودنا بإطار يمكننا من فهم طبيعة سيكولوجية الأنماط السلوكية المتنوعة(6).
إن أهم النماذج أو النظريات التي حاولت تفسير السلوك الإنساني انطلقت من ميدان التعلم، لكون التعلّم نشاطاً تميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات الحيوانية، فتوجه علماء النفس إلى دراسته وتحديد ماهيته وآليته. وكان من أهم العلماء المحدثين الذين اشتغلوا بهذا الأمر "تورانديك" و"غثري"؛ فالأول منهما قال بنظرية التعلم أو الربطية (Connectionism)، ومعناها حدوث ارتباطات بين المثيرات والاستجابات (Learning by Selecting and Connecting)، وأهم تلك المثيرات الثواب، الذي يدفع إلى حدوث سلوكات يراد تعلمها. ويعد هذا العالم سبّاقاً في ميدان التعلم الإشراطي ونظريات التعزيز(7). أما "غثري" (Guthrie)، فقال بأن "الحركة المرافقة لمجموعة من المثيرات تنزع إلى الحدوث ثانية لدى ظهور هذه المثيرات"،(8) ومن هنا نفهم الفرق بين السلوك المعقد والبسيط، المتعلقان بعدد الارتباطات قلة او كثرة. وكلا الرجلين لا يعتمدان في تصورهما على الدافعية الفطرية التي يعتبرها البعض ذات أهمية لا تنكر في حدوث المتغيرات السلوكية(9).
الملاحظ فيما سبق قوله، وفيما سيأتي من حديث عن "بافلوف"، أن البحث في السلوك الإنساني لدى الغربيين سار على هدى من الفلسفة؛ نتيجة لانفصال العلوم عنها أو انفصالها عن تلك العلوم، وميدان البحث النفسي واحد من هذه الحقول المعرفية، التي اتسعت في ضوء المنهج التجريبي، المركّز على الحالة المدروسة من دون الاستعانة بالبعد الديني أو الفلسفي للظاهرة. وهي مشكلة في المنهج عانى منها البحث في العلوم الإنسانية لدى الغرب ولا يزال.
أتصور أنه من الأهمية بمكان استصحاب السياق أو الجوّ العام الذي نشأت فيه آية: فكرة أو نظرية؛ لأن ذلك يعطينا القدرة على تصور الجذور الحقيقة لما نريد ان نعالجه، ويساعدنا على تفهمه، ومن ثم نقده وتقويمه.
لقد كان سياق الإشراط عند الإمام أبي حامد الغزالي، أو "سبق الوهم إلى العكس" كما سمّاه- هو البحث في حقيقة الخير والشر، تلك المسألة القديمة قدم الإنسانية، والتي تباينت الآراء فيها تبايناً إلى حد التناقض؛ فمثلاً يرجع البعض مفهوم الخير والشر إلى الأعراف، بحيث كان حنق طفل صغير في دنّ من الخمر خيراً عند قدامى الرومان، وكان وأد البنات كذلك خيراً وشهامة عند بعض العرب في الجاهلية. وقتل الولد لوالده في مناطق المتجمد الشمالي برّاً ما بعده برّ إراحة للكبير من قساوة الطبيعة وبرودتها.ً
وفسّر آخرون حقيقة الخير والشر بقيمة السعادة الشخصية، التي حقيقة ذاتية لكل من الشر والخير؛ قال بذلك قديماً "أبيقور" (230ق.م) وحديثاً "هوبز". وقد كان الرجلان مدفوعين بنزعة الأنانية التي "هي ذروة ما تقوم عليه حقيقة كل من الشّر والخير عندهؤلاء". وقدرها "استيوارت ميل" و"بنتام" بالمنفعة العامة، ولكن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تكون إلاّ في صالح البعض من دون آخرين(10).
أما علماء الإسلام فقد عالجوا هذه القضية في الفلسفة وفي علم أصول الفقه الإسلامي، وكان أبرز هؤلاء أبو حامد الغزالي. وقبل عرض ما قاله الغزالي في هذا الموضوع، أشير إلى أن سبب الاختلاف في مفهوم الخير والشّر نابع من توهّم البعض أن لهما مضموناً ذاتياً، في الوقت الذي لا مضمون لهما، بل هما انعكاس لما نتصوره نحن من منطلق طباعنا وفطرتنا، التي بتبدّلها تتغير قيمة الخير والشّر وبثباتها تثبت؛ إذا فحقيقة الخير والشّر في المنظور الإسلامي اعتباري، رسخ مفهومها بطول الاقتران مع ما "يميل إليه الطبع أو بما يتناسق مع وضع التركيب الاجتماعي؛ فقد أورثها طول هذا الاقتران معنى الحسن أو القبح فيما تتوهمه النفس؛ حتى وإن انفكّت العلاقة بينهما بعد ذلك. إذا إنها قد رسخت في النفس فهي ماثلة فيه"(11).
إنّ الدافع الذي حدا بعلماء الإسلام إلى البحث عن حقيقة الخير والشّر – هو تأمل الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية، التي ما جاءت إلاّ لحماية مصالح الإنسان التي لا تتبدّل عبر الزمان والمكان، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. واجتمعوا مع غيرهم من الفلاسفة في هذا المضمار وشقّوا لأنفسهم طريقا أوصلهم إلى أن حقيقة الخير والشّر اعتبارية. ويمثل الدكتور البوطي لنظرتهم بـ"القطع المتناثرة لآلة محركة أو طابعة، لا توصف الواحدة منها بأي فائدة أو نفع ما دامت أنكاثاً مجتزأة عن أخواتها، فإذا ما تضامّت إلى بعضها، وشملتها جميعاً الهيئة التركيبية المطلوبة، تجلّى فيها عندئذ معنى الحسن أو الخير، منبثقاً من العلاقة القائمة بين تلك القطع المتآلفة"(12).
أما الطبيب الروسي "بافلوف" فلم أجد لديه سياقاً مقصوداً عندما بحث في الإشراط سوى أنه كان يدرس الجهاز الهضمي، ثم انتقل إلى دراسة فيزيولوجيا الجهاز العصبي، لأهميته في التعلم، وحينها اكتشف كيفية تكوين المنعكسات الشرطية عند الكائنات الحيّة، ففسّر بها ظاهرة التعلم، وعلى آثاره اقتفى مؤسس المدرسة السلوكية "واطسون" (Watson) عام 1915م ليجعل نظرية "بافلوف" أساساً لتفسير السلوك الإنساني(13).
أورد الإمام أبو حامد الغزالي نظريته المسماة "سبق الوهم إلى العكس ": ومضمونها ذاته تقريبا في نظرية "بافلوف" – في معرض رده على المعتزلة في الحسن والقبح، والذي يتلخص في ثلاث نقاط:
1- الإصطلاح العامي المشهور، بأن الأفعال تنقسم بحسب ما يوافق غرض الفاعل وما يخالفه إلى حسن وقبيح وعبث.
2- الحسَنَ هو ما حسنَّه الشرع بالثناء على فاعله، وافق غرضه أم لا.
3- الحسَنََ هو كل ما لفاعله أن يفعله، "فيكون المباح حسناً مع المأمورات وفعل الله يكون حسناً بكل حال"(14).
وبعد أن يعرض الغزالي رأي المعتزلة هذا، يردّ عليه من وجود ثلاثة، لا يعنينا في سياق هذا البحث إلاّ الوجه الثالث:
1- إنّ مردّ القبح إلى طبع الإنسان الخاص، فالاستقباح شخصي وليس موضوعياً.
2- طول النشوء على استقباح أشياء واستحسانها يورث الاعتقاد بأنها دوماً كذلك.
3- أما الوجه الثالث في توهم الحسن والقبح، فسببها "سبق الوهم إلا العكس، فإنّ ما يرى مقروناً بالشئ يظن أن الشئ أيضاً لا محالة مقرون به مطلقاً(...) ومثالة نفرة نفس السليم، وهو الذي نهشته الحية، عن الحبل المبرقش(...) لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة"(15). ثم يورد الغزالي مثالاً آخر عن حالة المشرف عن الغرق وموقف المنقذ، "وسببه أن الإنسان يقدّر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فسيتقبحه منه بمخالفة غرضه، فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه، فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم. فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقّة فيه فهو بعيد تصوّره". وحتى لو تصور فطلب الثناء على إحسانه فهو الدافع؛ لأن المنقذ إذا كان وحده ولا أحد يعلم به فيتوقع أن يعلم فهذا يؤثر، لأنه رأى صورة الذي يقدم على إنقاذه غريق مقرونة بالثناء دوماً مقرون يها(16).
كما بحث الإمام الغزالي هذه النظرية مبكراً في كتابه "تهافت الفلاسفة" في سياق بحثه عن المعجزة، فقد ذكر أن الفلاسفة لم يثبتوا من المعجزات الخارقة للعادات إلاّ بثلاثة أمور:
1- بالخيال: وفيه يكشف للإنسان عن عوالم أخرى، ويتأتى ذلك يقظة للأنبياء ونوماً لبقية الناس.
2- بقوة الحدس: وهي سرعة الانتقال من معلوم لآخر، وقد اجتمعت في النبوة في كل الأوقات ولجميع المعقولات(17).
3- بالقوة النفسية العملية، وهذا ما يهمنا بالنسبة لنظرية سبق الوهم إلى العكس، "ومثاله أن النفس منّا، متى توهمت شيئاً خدمتها الأعضاء والقوى التى فيها، فتحركت إلى الجهة المطلوبة؛ حتى إذا توهمت شيئاً طيب المذاق تحلبت أشداقه، وانتهضت القوة الملعبة، فياضة باللعاب من معادنه، وإذا تصوّرت الوقاع(الجماع) انتهضت القوة، فنشرت الآلة، بل إذا مشى على جذع ممدود على فضاء، طرفاه على حائطين، اشتد توهمه للسقوط فانفعل الجسم بتوهمه وسقط، ولو كان ذلك على الأرض لمشى عليه ولم يسقط؛ وذلك لأن الأجسام والقوى الجسمانية خلقت خادمة مسخرة للنفوس، ويختلف ذلك باختلاف صفاء النفوس وقوتها، فلا يبعد أن تبلغ قوة النفس إلى حدّ تخدمها القوة الطبيعية في غير بدنه، لأن نفسه ليست منطبعة في بدنه، إلاّ أن لها نوع نزوع وشوق إلى تدبيره، خلق ذلك في جبلته، فإذا جاز أن تطيعها أجسام بدنها لم يمتنع أن يطيعها غيرها"(18). ومن ثم فإن ما نلاحظه في الكون من تلازم الأسباب والمسببات ليس ضرورياً أبداً؛ لأن السبب إذا حلّ محله شيء مقترن به أدّى إلى النتيجة نفسها والمعجزة هي ظاهرة تفسّر بخروج المسببات عن أسبابها(19).
وللتذكيرفإن ابن رشد في "تهافت التهافت"، الذي استدرك فيه على الغزالي بعض الأمور،لم يعلق على ما قاله الغزالي مما نقلناه لبيان ريادة الإمام في هذه النظرية السلوكية؛ مما يعني الفيلسوفين متفقان.
من هذا المنطلق الفلسفي أبدع الغزالي نظريته،مما يوحي بأن العلوم في الإسلام لا تنفصل عن النظرة الشاملة للكون الإنسان والحياة، بخلاف البحث في المنظور الغربي الحديث، الذي أثر على منهجنا في البحث فتبعناه حذواً بحذو وذراعاً بذراع؛ فـ"بافلوف"، الذي تنسب إليه هذه النظرية خطأ، أجرى اختباره على كلب، وضعه في صندوق عازل للصوت بعد تعرّضه لعملية جراحية يتم بها تحويل فتوحات القنوات اللعابية إلى خارج الفم والجلد، لتسهيل ملاحظة إفراز اللعاب وقياس كميته. ويتناول الكلب أثناء وجوده داخل الصندوق مسحوق اللحم بعد قرع جرس معين، ففي كل مرة يقرع فيها الجرس، يقدم مسحوق اللحم للكلب مباشرة لدى سماعه لصوت الجرس، وبعد تكرار عدد من المحولات على هذا النحو، أي قرع الجرس فتقديم المسحوق، يتعلم الكلب إفراز اللعاب نتيجة لسماع صوت الجرس فقط"(20).
إن الإشراط الكلاسيكي هو في جوهره تشكيل ارتباط بين مثير شرطي ما واستجابة ما ناتج عن ارتباط بين مثير شرطي وغير شرطي، أي بين صوت الجرس ومسحوق اللحم، والجرس في حدّ ذاته لا يملك صفة الإثارة وحده، وإنما اكتسب ذلك بعد طول الاقتران مع مسحوق اللحم، لذلك فهو يفقد صفة إثارة اللعاب إذا تكرر قرع الجرس من دون تقديم مسحوق اللحم.
وتتدخل في هذه التجربة عدّة عوامل مؤثرة منها:
1 ـ كمية التدريب: والمقصود عدد مرات اقتران المثير الشرطي بغير الشرطي، بحيث إذا تكرر الاقتران يعطي الاستجابة المرغوب فيها، وتبلغ مداها بعد ثلاثين اقتراناً تقريباً خلال أسبوعين.
2 ـ الأفضل أن يكون الفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي وغير الشرطي هو نصف ثانية وزيادة والنقصان يضعفان.
3 ـ أثبتت الدراسات وجود علاقة بين شدّة المثير غير الشرطي وقوة الإشراط(21).
إن هذه العوامل المساعدة على فهم شدة الإرتباط بين المثي الشرطي وغير الشرطي - تمكّن الدارس لسلوك المجتمع من قراءة الواقع الذي يتحرك فيه بعمق، فكيف إذا كان ذلك الدارس مصلحاً اجتماعياً له رسالة في الحياة؟ حاول السائرون على طريق "بافلوف" الارتقاء بالنظرية من المجال الحيواني إلى تعميم يطول الإنسان، فقالو بأن "مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون تعليمات لفظية قبل عملية الإشراط بعدم طرف جفن العين بالصدمة الهوائية، كان أقل من مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون مثل هذه التعليمات"(22). فاعتماد اللغة والتجريد نقل مستوى الإشراط من البسيط الذي يشترك فيها الحيوان والإنسان إلى الراقي الذي يحدث عند الإنسان وحده(23).
إن الموازنة بين هذه النظرية لدى كل من "بافلوف" والإمام الغزالي من حيث التسمية، تجعلنا نقول بأن في التسمية النظرية بالإشتراط عموم، وفي ذلك تركيز على العلاقة بين المثير والاستجابة، أما تسمية الغزالي لها بسبق الوهم إلى العكس فتنطلق من الماهية التي هي أدق في إعطاء التعريف من التركيز على العلاقات.
هذا فيما يخصّ التسمية، أمّا فيما يتعلق بالمضمون فهو متقارب إلى حدّ كبير بين الرجلين، والفوارق تكمن في أن الغزالي وصل على اكتشافها من باب الفلسفة، حين بحث في حقيقة الخير والشّر وظاهرة المعجزة، أما "بافلوف" فكان يدرس الجهازين الهضمي والعصبي من خلال تجارب على الكلاب! وهذا الأمر يثير قضية منهجية في علم النفس، تكمن في مصداقية الأبحاث التجريبية على الحيوان بهدف الوصول على معرفة النفس البشرية.
كما يعتبر الطبع والاعتبارية من عوامل هذا الاقتران، وبعبارة أخرى أن سبب الاقتران شخصي وليس موضوعياً، فيمكن تغيير المثيرات وتنويعها، ما يجعل حقيقة الخير والشّر اعتبارية وليست ذات قيمة ذاتية، الأمر الذي يفسر ظاهرة السلوك عند الإنسان، ومنها ظاهرة التعلم، التي ركز عليها أصحاب الإشراط.
يضاف إلي هذه المقارنة للنظرية عند الغزالي و"بافلوف" أمر يتعلق بالمثير الشرطي، فقد يكون واضحاً في بعض الأحيان وقد يكون غير واضح لدقته(24). ولذلك آثار على السلوك الإنساني كما سيأتي بيانه.
نشير ههنا إلى ملحوظة مهمّة تتعلق بتطوير هذه النظرية في بُعديها الإسلامي والغربي؛ فقد عني الدارسون بالحديث عن نظرية الإشراط لدى "بافلوف" تجريباً وتطبيقياً، فتعرضوا للعوامل المؤثرة فيها، كالفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي وغير الشرطي، وشدّة المثير، ودرجة الاستجابة، وكمية التدريب؛ أمّا الدراسات التي اشتغلت انطلاقاً من نظرة الغزالي فلم يكتب لها الانتشار، وبقيت حبيسة الرفوف في المكتبات.
إن لنظرية الإشراط بمفهومها الغزالي لا البافلوفي تشكل أساساً ثقافياً مهمّاً للداعية والمصلح الاجتماعي في تحرّكه بدعوته وإسلامه؛ فالسلوك عند أغلب الناس يتغير بلا وعي غالباً مع مرور الزمن، وهذا التغير في الواقع الذي نعيشه لا يخرج عن وجود مؤثر أنتج استجابة سلوكية، وبعامل الوقت وتكرار المؤثر تجد الفرد من سلوكاته وبدّل، من دون الالتفات إلى فطرته وقناعاته السابقة، بل إن كثيراً ما يحدث من ذلك للفرد والمجتمع يكون بغير رضاً منهم وإرادة، ما جعل الكائدين ممن لا يبغون للأمة الخير، وعلى رأسهم علماء النفس والاجتماع العاملون لصالح المؤسسات الاستعمارية – يفيدون من نظرية الإشراط، التي أبدعها علماؤنا وطوّرها غيرنا ليوجهوا سلوكنا في غير ما نشتهي ونؤمن، وفي المقابل غفونا عنها نحن وولينا أدبارنا لها ويممّنا وجوهنا شطر العفوية واللاوعي فيما نعمل ونسلك، فكنا كما صيّرتنا الأقدار، عدلاً وإنصافاً، أمّة تابعة لا متبوعة، ومتأثرة لا مؤثرة.
لو أن المصلح الاجتماعي استصحب معه هذه النظرية كما سماها الإمام الغزالي "سبق الوهم إلى العكس" لاستطاع أن يتحرر هو بنفسه عمّا استقر في تربيته من أوهام قادته إلى بعض السلوكات الشاذَّة، كالنرجسية وحبّ الذات، وبطر الحق وغمط الناس، وغير ذلك مما ارتبط في الذهن بمرور الوقت حسنه بين الناس، أو قل عظمته والإشادة به، حتى غدا حامل الدعوة والتبليغ ضحية هذا التأثير من تحيث يدري ولا يدري. لك أن ترى ذلك في تعاطي المشايخ مع الناس، فهو تعاطي لا يخلو دائماً من الاستعلاء والمباهاة بالمال والسلطان، وهما مثيران يقدرهما كثير من البش وليسا في حقيقة الأمر بشيء.
لقد تكوّنت في المجتمع عادات وترسخت أعرافاً باتت تحكم خصائص المجتمع وتوجه سلوكه، فالبيت أصبح جزءاً من الشخصية في حسّ مجتمعات عربية كثيرة، وبات الطموح في بلوغ مراتب عالية بين الناس طريقة اكتناز المال وامتلاك القوة المادية، التي تتيح للفرد، كما وقر في خلد المجتمع، الوصول إلى تلبية الحاجات المادية، من سكنى فارهة، ومراكب متعدّدة مريحة، ووسائل اتصال حديثة، وقدرة على الاستشفاء في أغلى المشافي، والدراسة في أشهر الجامعات... وكل هذا وغيره كثير وهم سيطر على الأفراد فتنافسوا في لبلوغه رجاء الشعور بالذات، والتسلّط على الناس، والتكبر على عباد الله، بما يمتلك من قدره ومال، بل غدت تلك الوسائل المادية السبيل الأوحد في حسّ الناس لبلوغ أعلى المناصب والوظائف. وما يقال بخلاف ذلك دروشة وقلة وعي وافتقاد للشطارة، فما بقي للآداب والأخلاق ساح في الأفئدة والقلوب، بل إن الدنيا غابة يأكل القويّ فيها الضعيف، ومن أعيته الحيلة فمصيره الهلاك والمسكنة. تلك هي المعادلة الاجتماعية التي تحكم سلوك الناس، وذلك هو الوهم الذي يسبق الإنسان إلى العكس فيتصرف وفقه من دون تأمل وتدبر. ولو تدبر لعلم أن الله –سبحانه وتعالى– أراد ما هو خير له وأبقى، وأي خير أحسن حالا مما وصف الخالق وقدر، وهو وإن كان لايخرج في معظمه عن ارتباط واشراط،فنعم العلاقة هي!
إن الإسلام في أساسه ميثاق أخذه الله –تعالى– من بني آدم أول الخلق ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورهِمِِْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾،(25) ولطول الزمان نسي بنو آدم هذا الميثاق وران على فطرتهم ما اقترفوه من فساد وضلال، فابتعث الله –تعالى- لهم الأنبياء ليذكروهم،﴿وَذَكِّرْ فإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾،(26) وما الذكرى؟ أليست كلمات تثير في النفس أموراً، فتدفعها إلى فعل شيء أو ترك آخر، وذلك هو عين الإشراط. إن الكلمة هي رأس مال الأنبياء والحكماء، وهي المثير التجريدي الذي يليق بالإنسان العاقل، والعقل هو مناط التكليف، والاستجابة بالعبودية والاستسلام لله –تعالى- هي السلوك أو النتاج التعلّمي المرجوّ.
لا يحسن بالمربي أو المصلح الاجتماعي أن يعمل في حقله بين الناس وهو بمنأى عن هذه الثقافة النفسية التي تبصّره بواقع الحال، ولو فعل ذلك فبدأ بجرد ما في نفسه وما في نفوس الآخرين من سلوكات مبناها أوهام لا تمت للدين والآداب والفضائل بصلة – لأدرك كيف يؤكل لحم الكتف، ولأبصر العلاقات الخفية التي تحكم أفعال الناس، فسعى بحكمة ووعي إلى تفكيكها ثم إعادة بنائها على أسس دينية متينة، فينبّه الناس قولاً وعملاً يؤثر في سلوكهم سلباً فيقضي عليه، وإلى ما يؤثر في نفوسهم إيجاباً فيحضّهم عليه. إنّه إن فعل ذلك فقه واجبه وأدّى ما عليه، وإلى ما يؤثر في نفوسهم إيجاباً فيحضّهم عليه. إنّه إن فعل ذلك فقه واجبه وأدّى ما عليه وزيادة، ﴿فَذَكِّرْ إنَّمَا أنْتَ مُذَكِّر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمُصَيْطِرٍ﴾،(27) ومن تولى وكفر فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر.
نظرية الغزالي السلوكية أساساً للإصلاح الاجتماعي
عز الدين جلولي*
كانت وراء اختياري لهذا الموضوع بواعث ذاتية وأخرى موضوعية؛ تمثلت الأولى في قناعتي الشخصية بغنى تراثنا الإسلامي غنى لا يضاهيه إلاّ جهل به أو تجاهله في الصروح العالية للبحث العلمي، الأمر الذي جرّ إلى نتائج أحسبها وخيمة، كان من أهمها قصور الدراسات النفسية والاجتماعية عن تلمّس الحقائق الكونية في هذه الميادين من جهة، واقتصارها، نتيجة لذلك، على ماله سمة الذيوع والانتشار من الأفكار ولو جانبت الصواب من جهة أخرى.
أما فيما يخصّ الدوافع الموضوعية لهذه الدراسة فشديدة الصلة بمضمونها، الذي كشف لي بأن الإمام أبا حامد الغزالي(1) هو صاحب النظرية المسمّاة بنظرية الإشراط، المنسوبة خطأ إلى "بافلوف"(2) بل إن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ذكر، في عنوان المقالة التي أشار فيها إلى هذا الخطأ، أن النظرية سرقت من الغزالي، فعنوان المقال بقول: "ما هي حقيقة الخير والشر؟ أو النظرية التي سرقت من الغزالي"(3).
قد لا أميل إلى القول بسرقتها، وإن كان ذلك غير مستبعد، فـ"بافلوف" لم يكن السباق إلى لفت الانتباه إلى فكرة الارتباط بين المثيرات والاستجابات حتى في الفكر التربوي الغربي، وأساس عدم استبعادي للسرقة أن الغرب دأب على أن ينسب إليه نظريات ويدّعي حيازة قصب السبق فيها فتأتي الوقائع الحقه لتخالف ذلك، وتثبت أنّها من نتاج غيره، ومن بنات أفكار آخرين.
لن أقارب في هذه الدارسة كل نظريات الارتباط بما ورد عند الإمام الغزالي، فذلك أمر يطول ويتّسع،(4) لكني سأكتفي بمقارنة نظرية الاشتراط ين الغزالي و"بافلوف"، تاركا بقية النظريات الاقترانبة خارج حدود البحث، لأتوجه إلى الحديث عن آثار هذه النظرية السلوكية في الاصلاح الاجتماعي، وبيان الحاجة إلى استبهامها في فقه الواقع مقدمة للدعوة والتربية والتبليغ.
كثيرة هي المحاولات التي جدّت في تقسير سيكولوجية السلوك الانساني، والملاحظ أن أكثر هذه المحاولاتت من تجارب كانت تجرى على الحيوانات، فلم ترق بنتائجها إلى مستوى الحقائق العلمية الموثوق بها، بل بقيت فرضيات تعطي بعض الضوء ولا تهدي الإنسان إلى حقائق السلوك عند الإنسان، ذلك الكائن المجهول.
إن النظرية العلمية هي "جملة من القوانين الواضحة التفاعل في ما بينها، تعطي تفسيراً شاملاً لظاهرة رئيسية(نظرة داروين، أنشتاين...)، أما نظريات التعلم(وهو جزء من السلوك) فلا تعطينا تفسيراً شاملاً ومتفقاً عليه لما يحدث أثناء التعلم؛ ولذلك فمن الأسلم اعتبارها مجرد نظريات افتراضية"(5). يؤخذ على هذا التعريف، الذي أورده الدكتور فوزي أيوب، إدراجه نظرية دارروين ضمن النظريات العلمية، رغم أنها انتقدت وتجاوزها الباحثون في علم النفس وفي مقدمتهم تلامذة داروين أنفسهم، ولعلّ هذا ما جعل الدكتور نشواتي يكون أكثر حذراً في إعطاء تعريف للنظرية، فقال بأنها مجموعة من المبادئ الموجّهة التي تزودنا بإطار يمكننا من فهم طبيعة سيكولوجية الأنماط السلوكية المتنوعة(6).
إن أهم النماذج أو النظريات التي حاولت تفسير السلوك الإنساني انطلقت من ميدان التعلم، لكون التعلّم نشاطاً تميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات الحيوانية، فتوجه علماء النفس إلى دراسته وتحديد ماهيته وآليته. وكان من أهم العلماء المحدثين الذين اشتغلوا بهذا الأمر "تورانديك" و"غثري"؛ فالأول منهما قال بنظرية التعلم أو الربطية (Connectionism)، ومعناها حدوث ارتباطات بين المثيرات والاستجابات (Learning by Selecting and Connecting)، وأهم تلك المثيرات الثواب، الذي يدفع إلى حدوث سلوكات يراد تعلمها. ويعد هذا العالم سبّاقاً في ميدان التعلم الإشراطي ونظريات التعزيز(7). أما "غثري" (Guthrie)، فقال بأن "الحركة المرافقة لمجموعة من المثيرات تنزع إلى الحدوث ثانية لدى ظهور هذه المثيرات"،(8) ومن هنا نفهم الفرق بين السلوك المعقد والبسيط، المتعلقان بعدد الارتباطات قلة او كثرة. وكلا الرجلين لا يعتمدان في تصورهما على الدافعية الفطرية التي يعتبرها البعض ذات أهمية لا تنكر في حدوث المتغيرات السلوكية(9).
الملاحظ فيما سبق قوله، وفيما سيأتي من حديث عن "بافلوف"، أن البحث في السلوك الإنساني لدى الغربيين سار على هدى من الفلسفة؛ نتيجة لانفصال العلوم عنها أو انفصالها عن تلك العلوم، وميدان البحث النفسي واحد من هذه الحقول المعرفية، التي اتسعت في ضوء المنهج التجريبي، المركّز على الحالة المدروسة من دون الاستعانة بالبعد الديني أو الفلسفي للظاهرة. وهي مشكلة في المنهج عانى منها البحث في العلوم الإنسانية لدى الغرب ولا يزال.
أتصور أنه من الأهمية بمكان استصحاب السياق أو الجوّ العام الذي نشأت فيه آية: فكرة أو نظرية؛ لأن ذلك يعطينا القدرة على تصور الجذور الحقيقة لما نريد ان نعالجه، ويساعدنا على تفهمه، ومن ثم نقده وتقويمه.
لقد كان سياق الإشراط عند الإمام أبي حامد الغزالي، أو "سبق الوهم إلى العكس" كما سمّاه- هو البحث في حقيقة الخير والشر، تلك المسألة القديمة قدم الإنسانية، والتي تباينت الآراء فيها تبايناً إلى حد التناقض؛ فمثلاً يرجع البعض مفهوم الخير والشر إلى الأعراف، بحيث كان حنق طفل صغير في دنّ من الخمر خيراً عند قدامى الرومان، وكان وأد البنات كذلك خيراً وشهامة عند بعض العرب في الجاهلية. وقتل الولد لوالده في مناطق المتجمد الشمالي برّاً ما بعده برّ إراحة للكبير من قساوة الطبيعة وبرودتها.ً
وفسّر آخرون حقيقة الخير والشر بقيمة السعادة الشخصية، التي حقيقة ذاتية لكل من الشر والخير؛ قال بذلك قديماً "أبيقور" (230ق.م) وحديثاً "هوبز". وقد كان الرجلان مدفوعين بنزعة الأنانية التي "هي ذروة ما تقوم عليه حقيقة كل من الشّر والخير عندهؤلاء". وقدرها "استيوارت ميل" و"بنتام" بالمنفعة العامة، ولكن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تكون إلاّ في صالح البعض من دون آخرين(10).
أما علماء الإسلام فقد عالجوا هذه القضية في الفلسفة وفي علم أصول الفقه الإسلامي، وكان أبرز هؤلاء أبو حامد الغزالي. وقبل عرض ما قاله الغزالي في هذا الموضوع، أشير إلى أن سبب الاختلاف في مفهوم الخير والشّر نابع من توهّم البعض أن لهما مضموناً ذاتياً، في الوقت الذي لا مضمون لهما، بل هما انعكاس لما نتصوره نحن من منطلق طباعنا وفطرتنا، التي بتبدّلها تتغير قيمة الخير والشّر وبثباتها تثبت؛ إذا فحقيقة الخير والشّر في المنظور الإسلامي اعتباري، رسخ مفهومها بطول الاقتران مع ما "يميل إليه الطبع أو بما يتناسق مع وضع التركيب الاجتماعي؛ فقد أورثها طول هذا الاقتران معنى الحسن أو القبح فيما تتوهمه النفس؛ حتى وإن انفكّت العلاقة بينهما بعد ذلك. إذا إنها قد رسخت في النفس فهي ماثلة فيه"(11).
إنّ الدافع الذي حدا بعلماء الإسلام إلى البحث عن حقيقة الخير والشّر – هو تأمل الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية، التي ما جاءت إلاّ لحماية مصالح الإنسان التي لا تتبدّل عبر الزمان والمكان، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. واجتمعوا مع غيرهم من الفلاسفة في هذا المضمار وشقّوا لأنفسهم طريقا أوصلهم إلى أن حقيقة الخير والشّر اعتبارية. ويمثل الدكتور البوطي لنظرتهم بـ"القطع المتناثرة لآلة محركة أو طابعة، لا توصف الواحدة منها بأي فائدة أو نفع ما دامت أنكاثاً مجتزأة عن أخواتها، فإذا ما تضامّت إلى بعضها، وشملتها جميعاً الهيئة التركيبية المطلوبة، تجلّى فيها عندئذ معنى الحسن أو الخير، منبثقاً من العلاقة القائمة بين تلك القطع المتآلفة"(12).
أما الطبيب الروسي "بافلوف" فلم أجد لديه سياقاً مقصوداً عندما بحث في الإشراط سوى أنه كان يدرس الجهاز الهضمي، ثم انتقل إلى دراسة فيزيولوجيا الجهاز العصبي، لأهميته في التعلم، وحينها اكتشف كيفية تكوين المنعكسات الشرطية عند الكائنات الحيّة، ففسّر بها ظاهرة التعلم، وعلى آثاره اقتفى مؤسس المدرسة السلوكية "واطسون" (Watson) عام 1915م ليجعل نظرية "بافلوف" أساساً لتفسير السلوك الإنساني(13).
أورد الإمام أبو حامد الغزالي نظريته المسماة "سبق الوهم إلى العكس ": ومضمونها ذاته تقريبا في نظرية "بافلوف" – في معرض رده على المعتزلة في الحسن والقبح، والذي يتلخص في ثلاث نقاط:
1- الإصطلاح العامي المشهور، بأن الأفعال تنقسم بحسب ما يوافق غرض الفاعل وما يخالفه إلى حسن وقبيح وعبث.
2- الحسَنَ هو ما حسنَّه الشرع بالثناء على فاعله، وافق غرضه أم لا.
3- الحسَنََ هو كل ما لفاعله أن يفعله، "فيكون المباح حسناً مع المأمورات وفعل الله يكون حسناً بكل حال"(14).
وبعد أن يعرض الغزالي رأي المعتزلة هذا، يردّ عليه من وجود ثلاثة، لا يعنينا في سياق هذا البحث إلاّ الوجه الثالث:
1- إنّ مردّ القبح إلى طبع الإنسان الخاص، فالاستقباح شخصي وليس موضوعياً.
2- طول النشوء على استقباح أشياء واستحسانها يورث الاعتقاد بأنها دوماً كذلك.
3- أما الوجه الثالث في توهم الحسن والقبح، فسببها "سبق الوهم إلا العكس، فإنّ ما يرى مقروناً بالشئ يظن أن الشئ أيضاً لا محالة مقرون به مطلقاً(...) ومثالة نفرة نفس السليم، وهو الذي نهشته الحية، عن الحبل المبرقش(...) لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة"(15). ثم يورد الغزالي مثالاً آخر عن حالة المشرف عن الغرق وموقف المنقذ، "وسببه أن الإنسان يقدّر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فسيتقبحه منه بمخالفة غرضه، فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه، فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم. فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقّة فيه فهو بعيد تصوّره". وحتى لو تصور فطلب الثناء على إحسانه فهو الدافع؛ لأن المنقذ إذا كان وحده ولا أحد يعلم به فيتوقع أن يعلم فهذا يؤثر، لأنه رأى صورة الذي يقدم على إنقاذه غريق مقرونة بالثناء دوماً مقرون يها(16).
كما بحث الإمام الغزالي هذه النظرية مبكراً في كتابه "تهافت الفلاسفة" في سياق بحثه عن المعجزة، فقد ذكر أن الفلاسفة لم يثبتوا من المعجزات الخارقة للعادات إلاّ بثلاثة أمور:
1- بالخيال: وفيه يكشف للإنسان عن عوالم أخرى، ويتأتى ذلك يقظة للأنبياء ونوماً لبقية الناس.
2- بقوة الحدس: وهي سرعة الانتقال من معلوم لآخر، وقد اجتمعت في النبوة في كل الأوقات ولجميع المعقولات(17).
3- بالقوة النفسية العملية، وهذا ما يهمنا بالنسبة لنظرية سبق الوهم إلى العكس، "ومثاله أن النفس منّا، متى توهمت شيئاً خدمتها الأعضاء والقوى التى فيها، فتحركت إلى الجهة المطلوبة؛ حتى إذا توهمت شيئاً طيب المذاق تحلبت أشداقه، وانتهضت القوة الملعبة، فياضة باللعاب من معادنه، وإذا تصوّرت الوقاع(الجماع) انتهضت القوة، فنشرت الآلة، بل إذا مشى على جذع ممدود على فضاء، طرفاه على حائطين، اشتد توهمه للسقوط فانفعل الجسم بتوهمه وسقط، ولو كان ذلك على الأرض لمشى عليه ولم يسقط؛ وذلك لأن الأجسام والقوى الجسمانية خلقت خادمة مسخرة للنفوس، ويختلف ذلك باختلاف صفاء النفوس وقوتها، فلا يبعد أن تبلغ قوة النفس إلى حدّ تخدمها القوة الطبيعية في غير بدنه، لأن نفسه ليست منطبعة في بدنه، إلاّ أن لها نوع نزوع وشوق إلى تدبيره، خلق ذلك في جبلته، فإذا جاز أن تطيعها أجسام بدنها لم يمتنع أن يطيعها غيرها"(18). ومن ثم فإن ما نلاحظه في الكون من تلازم الأسباب والمسببات ليس ضرورياً أبداً؛ لأن السبب إذا حلّ محله شيء مقترن به أدّى إلى النتيجة نفسها والمعجزة هي ظاهرة تفسّر بخروج المسببات عن أسبابها(19).
وللتذكيرفإن ابن رشد في "تهافت التهافت"، الذي استدرك فيه على الغزالي بعض الأمور،لم يعلق على ما قاله الغزالي مما نقلناه لبيان ريادة الإمام في هذه النظرية السلوكية؛ مما يعني الفيلسوفين متفقان.
من هذا المنطلق الفلسفي أبدع الغزالي نظريته،مما يوحي بأن العلوم في الإسلام لا تنفصل عن النظرة الشاملة للكون الإنسان والحياة، بخلاف البحث في المنظور الغربي الحديث، الذي أثر على منهجنا في البحث فتبعناه حذواً بحذو وذراعاً بذراع؛ فـ"بافلوف"، الذي تنسب إليه هذه النظرية خطأ، أجرى اختباره على كلب، وضعه في صندوق عازل للصوت بعد تعرّضه لعملية جراحية يتم بها تحويل فتوحات القنوات اللعابية إلى خارج الفم والجلد، لتسهيل ملاحظة إفراز اللعاب وقياس كميته. ويتناول الكلب أثناء وجوده داخل الصندوق مسحوق اللحم بعد قرع جرس معين، ففي كل مرة يقرع فيها الجرس، يقدم مسحوق اللحم للكلب مباشرة لدى سماعه لصوت الجرس، وبعد تكرار عدد من المحولات على هذا النحو، أي قرع الجرس فتقديم المسحوق، يتعلم الكلب إفراز اللعاب نتيجة لسماع صوت الجرس فقط"(20).
إن الإشراط الكلاسيكي هو في جوهره تشكيل ارتباط بين مثير شرطي ما واستجابة ما ناتج عن ارتباط بين مثير شرطي وغير شرطي، أي بين صوت الجرس ومسحوق اللحم، والجرس في حدّ ذاته لا يملك صفة الإثارة وحده، وإنما اكتسب ذلك بعد طول الاقتران مع مسحوق اللحم، لذلك فهو يفقد صفة إثارة اللعاب إذا تكرر قرع الجرس من دون تقديم مسحوق اللحم.
وتتدخل في هذه التجربة عدّة عوامل مؤثرة منها:
1 ـ كمية التدريب: والمقصود عدد مرات اقتران المثير الشرطي بغير الشرطي، بحيث إذا تكرر الاقتران يعطي الاستجابة المرغوب فيها، وتبلغ مداها بعد ثلاثين اقتراناً تقريباً خلال أسبوعين.
2 ـ الأفضل أن يكون الفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي وغير الشرطي هو نصف ثانية وزيادة والنقصان يضعفان.
3 ـ أثبتت الدراسات وجود علاقة بين شدّة المثير غير الشرطي وقوة الإشراط(21).
إن هذه العوامل المساعدة على فهم شدة الإرتباط بين المثي الشرطي وغير الشرطي - تمكّن الدارس لسلوك المجتمع من قراءة الواقع الذي يتحرك فيه بعمق، فكيف إذا كان ذلك الدارس مصلحاً اجتماعياً له رسالة في الحياة؟ حاول السائرون على طريق "بافلوف" الارتقاء بالنظرية من المجال الحيواني إلى تعميم يطول الإنسان، فقالو بأن "مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون تعليمات لفظية قبل عملية الإشراط بعدم طرف جفن العين بالصدمة الهوائية، كان أقل من مستوى أداء الأفراد الذين يتلقون مثل هذه التعليمات"(22). فاعتماد اللغة والتجريد نقل مستوى الإشراط من البسيط الذي يشترك فيها الحيوان والإنسان إلى الراقي الذي يحدث عند الإنسان وحده(23).
إن الموازنة بين هذه النظرية لدى كل من "بافلوف" والإمام الغزالي من حيث التسمية، تجعلنا نقول بأن في التسمية النظرية بالإشتراط عموم، وفي ذلك تركيز على العلاقة بين المثير والاستجابة، أما تسمية الغزالي لها بسبق الوهم إلى العكس فتنطلق من الماهية التي هي أدق في إعطاء التعريف من التركيز على العلاقات.
هذا فيما يخصّ التسمية، أمّا فيما يتعلق بالمضمون فهو متقارب إلى حدّ كبير بين الرجلين، والفوارق تكمن في أن الغزالي وصل على اكتشافها من باب الفلسفة، حين بحث في حقيقة الخير والشّر وظاهرة المعجزة، أما "بافلوف" فكان يدرس الجهازين الهضمي والعصبي من خلال تجارب على الكلاب! وهذا الأمر يثير قضية منهجية في علم النفس، تكمن في مصداقية الأبحاث التجريبية على الحيوان بهدف الوصول على معرفة النفس البشرية.
كما يعتبر الطبع والاعتبارية من عوامل هذا الاقتران، وبعبارة أخرى أن سبب الاقتران شخصي وليس موضوعياً، فيمكن تغيير المثيرات وتنويعها، ما يجعل حقيقة الخير والشّر اعتبارية وليست ذات قيمة ذاتية، الأمر الذي يفسر ظاهرة السلوك عند الإنسان، ومنها ظاهرة التعلم، التي ركز عليها أصحاب الإشراط.
يضاف إلي هذه المقارنة للنظرية عند الغزالي و"بافلوف" أمر يتعلق بالمثير الشرطي، فقد يكون واضحاً في بعض الأحيان وقد يكون غير واضح لدقته(24). ولذلك آثار على السلوك الإنساني كما سيأتي بيانه.
نشير ههنا إلى ملحوظة مهمّة تتعلق بتطوير هذه النظرية في بُعديها الإسلامي والغربي؛ فقد عني الدارسون بالحديث عن نظرية الإشراط لدى "بافلوف" تجريباً وتطبيقياً، فتعرضوا للعوامل المؤثرة فيها، كالفاصل الزمني بين تقديم المثير الشرطي وغير الشرطي، وشدّة المثير، ودرجة الاستجابة، وكمية التدريب؛ أمّا الدراسات التي اشتغلت انطلاقاً من نظرة الغزالي فلم يكتب لها الانتشار، وبقيت حبيسة الرفوف في المكتبات.
إن لنظرية الإشراط بمفهومها الغزالي لا البافلوفي تشكل أساساً ثقافياً مهمّاً للداعية والمصلح الاجتماعي في تحرّكه بدعوته وإسلامه؛ فالسلوك عند أغلب الناس يتغير بلا وعي غالباً مع مرور الزمن، وهذا التغير في الواقع الذي نعيشه لا يخرج عن وجود مؤثر أنتج استجابة سلوكية، وبعامل الوقت وتكرار المؤثر تجد الفرد من سلوكاته وبدّل، من دون الالتفات إلى فطرته وقناعاته السابقة، بل إن كثيراً ما يحدث من ذلك للفرد والمجتمع يكون بغير رضاً منهم وإرادة، ما جعل الكائدين ممن لا يبغون للأمة الخير، وعلى رأسهم علماء النفس والاجتماع العاملون لصالح المؤسسات الاستعمارية – يفيدون من نظرية الإشراط، التي أبدعها علماؤنا وطوّرها غيرنا ليوجهوا سلوكنا في غير ما نشتهي ونؤمن، وفي المقابل غفونا عنها نحن وولينا أدبارنا لها ويممّنا وجوهنا شطر العفوية واللاوعي فيما نعمل ونسلك، فكنا كما صيّرتنا الأقدار، عدلاً وإنصافاً، أمّة تابعة لا متبوعة، ومتأثرة لا مؤثرة.
لو أن المصلح الاجتماعي استصحب معه هذه النظرية كما سماها الإمام الغزالي "سبق الوهم إلى العكس" لاستطاع أن يتحرر هو بنفسه عمّا استقر في تربيته من أوهام قادته إلى بعض السلوكات الشاذَّة، كالنرجسية وحبّ الذات، وبطر الحق وغمط الناس، وغير ذلك مما ارتبط في الذهن بمرور الوقت حسنه بين الناس، أو قل عظمته والإشادة به، حتى غدا حامل الدعوة والتبليغ ضحية هذا التأثير من تحيث يدري ولا يدري. لك أن ترى ذلك في تعاطي المشايخ مع الناس، فهو تعاطي لا يخلو دائماً من الاستعلاء والمباهاة بالمال والسلطان، وهما مثيران يقدرهما كثير من البش وليسا في حقيقة الأمر بشيء.
لقد تكوّنت في المجتمع عادات وترسخت أعرافاً باتت تحكم خصائص المجتمع وتوجه سلوكه، فالبيت أصبح جزءاً من الشخصية في حسّ مجتمعات عربية كثيرة، وبات الطموح في بلوغ مراتب عالية بين الناس طريقة اكتناز المال وامتلاك القوة المادية، التي تتيح للفرد، كما وقر في خلد المجتمع، الوصول إلى تلبية الحاجات المادية، من سكنى فارهة، ومراكب متعدّدة مريحة، ووسائل اتصال حديثة، وقدرة على الاستشفاء في أغلى المشافي، والدراسة في أشهر الجامعات... وكل هذا وغيره كثير وهم سيطر على الأفراد فتنافسوا في لبلوغه رجاء الشعور بالذات، والتسلّط على الناس، والتكبر على عباد الله، بما يمتلك من قدره ومال، بل غدت تلك الوسائل المادية السبيل الأوحد في حسّ الناس لبلوغ أعلى المناصب والوظائف. وما يقال بخلاف ذلك دروشة وقلة وعي وافتقاد للشطارة، فما بقي للآداب والأخلاق ساح في الأفئدة والقلوب، بل إن الدنيا غابة يأكل القويّ فيها الضعيف، ومن أعيته الحيلة فمصيره الهلاك والمسكنة. تلك هي المعادلة الاجتماعية التي تحكم سلوك الناس، وذلك هو الوهم الذي يسبق الإنسان إلى العكس فيتصرف وفقه من دون تأمل وتدبر. ولو تدبر لعلم أن الله –سبحانه وتعالى– أراد ما هو خير له وأبقى، وأي خير أحسن حالا مما وصف الخالق وقدر، وهو وإن كان لايخرج في معظمه عن ارتباط واشراط،فنعم العلاقة هي!
إن الإسلام في أساسه ميثاق أخذه الله –تعالى– من بني آدم أول الخلق ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورهِمِِْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾،(25) ولطول الزمان نسي بنو آدم هذا الميثاق وران على فطرتهم ما اقترفوه من فساد وضلال، فابتعث الله –تعالى- لهم الأنبياء ليذكروهم،﴿وَذَكِّرْ فإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾،(26) وما الذكرى؟ أليست كلمات تثير في النفس أموراً، فتدفعها إلى فعل شيء أو ترك آخر، وذلك هو عين الإشراط. إن الكلمة هي رأس مال الأنبياء والحكماء، وهي المثير التجريدي الذي يليق بالإنسان العاقل، والعقل هو مناط التكليف، والاستجابة بالعبودية والاستسلام لله –تعالى- هي السلوك أو النتاج التعلّمي المرجوّ.
لا يحسن بالمربي أو المصلح الاجتماعي أن يعمل في حقله بين الناس وهو بمنأى عن هذه الثقافة النفسية التي تبصّره بواقع الحال، ولو فعل ذلك فبدأ بجرد ما في نفسه وما في نفوس الآخرين من سلوكات مبناها أوهام لا تمت للدين والآداب والفضائل بصلة – لأدرك كيف يؤكل لحم الكتف، ولأبصر العلاقات الخفية التي تحكم أفعال الناس، فسعى بحكمة ووعي إلى تفكيكها ثم إعادة بنائها على أسس دينية متينة، فينبّه الناس قولاً وعملاً يؤثر في سلوكهم سلباً فيقضي عليه، وإلى ما يؤثر في نفوسهم إيجاباً فيحضّهم عليه. إنّه إن فعل ذلك فقه واجبه وأدّى ما عليه، وإلى ما يؤثر في نفوسهم إيجاباً فيحضّهم عليه. إنّه إن فعل ذلك فقه واجبه وأدّى ما عليه وزيادة، ﴿فَذَكِّرْ إنَّمَا أنْتَ مُذَكِّر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمُصَيْطِرٍ﴾،(27) ومن تولى وكفر فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر.