منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
By عبدالعزيز العسكر 5
#48978
اغتيال السادات

كان حادث الاغتيال مروعاً، مباغتاً، إذ تم في سرعة مذهلة، ولم يستغرق سوى 35 ثانية! وبعدها اهتز العالم كله. إن طلقة الرصاص، التي أصابت السادات، وأودت بحياته، سرعتها 735 متراً في الثانية، وأطلقت على بعد نحو 20 متراً، أي أن الطلقة أصابته، وأودت بحياته في 20/735 من الثانية!
قرّر المسؤولون عن الأمن أن هناك أكثر من 14 جهة، خارجية وداخلية، استهدفت اغتيال السادات، وتنفيذ أعمال تخريب ضخمة داخل مصر. وأنه تجمعت لدى أجهزة الأمن في مصر معلومات عن اتصالات بين رجال بعض التيارات المعارضة ومنظمات إرهابية دولية، مثل مجموعة كارلوس، وتنظيم الألوية الحمراء، وتنظيمات الإرهاب في ألمانيا الغربية. كما كان هناك اتصالات بتنظيم الجيش الأحمر الياباني.
وفي الحقيقة، تم اغتيال السادات على يد مجموعة من المنتمين إلى إحدى الجماعات الإسلامية، وهم:
- الملازم الأول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، من سلاح المدفعية.
- والملازم الأول (سابقاً) عبدالحميد عبدالسلام (سبق أن استقال من الخدمة العسكرية، وكان ضابطاً  في القوات الجوية).
- والملازم الأول المهندس الاحتياطي عطا طايل حميدة رحيل، من مركز تدريب المهندسين.
- والرقيب المتطوع حسين عباس محمد، من قوة الدفاع الشعبي.
تسلسل الأحداث
كانت البداية يوم 23/9/1981، حين وقع الاختيار على الملازم الأول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، للاشتراك في طابور العرض العسكري في أكتوبر القادم، ليحل محل زميل له، شاءت الأقدار أن تمنعه من المشاركة.
وفي اليوم التالي، توجّه خالد إلى أرض العرض، وحضر "البروفات". وهناك، راودته الفكرة، وألحّت عليه. فلم يستطع مقاومتها، فاختمرت في رأسه، وعقد العزم على تنفيذها[1]. (يجدر بنا أن نذكر أن شقيقه، محمد الإسلامبولي، كان ضمن المعتقلين في أحداث سبتمبر).
بُعيد صلاة الجمعة، 25/9/1981، أسرع خالد الخطى إلى منزل صديقه المهندس محمد عبدالسلام فرج، وهو المتهم الخامس، ببولاق الدكرور، لزيارته. وبدأ يتجاذب معه أطراف الحديث حول الأوضاع السائدة في البلاد على وجه العموم، وحول ما يتعرض له المسلمون من ظلم، يحيق بهم وبعلمائهم، وأنه لا بد من تمكين شرع الله. وهنا، انتهز خالد الفرصة، فكاشفه بأمر تعيينه في طابور العرض، وبفكرته في اغتيال رئيس الجمهورية في منصة العرض، موضحاً أنه يحتاج إلى معاونة ثلاثة أو أربعة من "الإخوة"، لمساعدته على التنفيذ، وتدبير القنابل والذخيرة. فرحّب محمد عبدالسلام بالفكرة.
وفي المساء، استقبل خالد صديقه محمد عبدالسلام وزوجته، وفي صحبتهما كل من عبدالناصر عبدالعليم درة، المتهم الثالث عشر في قضية الاغتيال، وصفوت إبراهيم الأشوح، المتهم الثالث والعشرين. وكان اللقاء في منزل خالد، الذي تسكن فيه شقيقته وزوجها. ولما علم زوج شقيقته بحضورهم، اعترض على تلك الاستضافة، خشية أن يكون بينهم أحد من المطلوب القبض عليهم. بيد أن خالداً هدّأ من روعه، وطمأنه بأنه سيدبر لهم أمر مَبيتهم في مكان آخر، صبيحة اليوم التالي.
وفي اليوم التالي، انتقلوا إلى منزل عبدالحميد عبدالسلام (صديق خالد)، وهو المتهم الثاني في القضية، حيث تم تكليف صالح أحمد صالح جاهين، المتهم الثاني عشر، بأمر تدبير الذخائر والقنابل المطلوبة.
عرض الخطة على مجموعة الصعيد
وفي يوم 28/9/1981، حضرت مجموعة من الصعيد، لمقابلة محمد عبدالسلام وخالد، اللذين عرضا خطة الاغتيال، التي نسج الأخير خيوطها. فوافقوا عليها، وانعقد عزمهم على تنفيذ الخطة، على أن تمدهم مجموعة الصعيد بالذخيرة اللازمة لتنفيذ عملية الاغتيال.
كما التقى خالد، في شقة عبدالحميد أيضاً، كلاًّ من عطا طايل حميدة، وحسين عباس محمد، وعرض عليهما خطته، فوافقا عليها، واتفقا معه على تنفيذها. ثم أرسل رسالة إلى عبود الزمر (مقدم استخبارات مفصول من القوات المسلحة) بتفاصيل الخطة. فرد عبود برسالة مفادها موافقته على الاغتيال، مُرفَقَة بتوجيهاته في كيفية دخول الأفراد إلى منطقة العرض، وتصوراته لما يمكن أن يحدث في حالة نجاح العملية.
تدبير الذخائر والأسلحة
وفي يوم 2/10/1981، قبل الحادث بأربعة أيام، تم تدبير ما يزيد على مائة طلقة 7.62 × 39مم، أخذ منها خالد إحدى وثمانين طلقة، من بينها أربع طلقات "خارق حارق"، معلّمة بعلامة حمراء على المقذوف، وأعطاها لعبدالحميد عبدالسلام، الذي خبأها فوق سطح المنزل.
وفي مساء اليوم نفسه، انتقل محمد عبدالسلام من شقة عبدالحميد إلى عيادة أسنان، بحي الزيتون، ليتخذها مقراً لاجتماعاته مع أفراد جماعته. وخلال المدة من 2 إلى 4/10/1981، اكتمل تدبير باقي الذخيرة والقنابل اليدوية اللازمة ورشاش ومسدس. تسلمها خالد إضافة إلى ثلاث خزن بنادق آلية وخزنة رشاش قصير، وثلاث إبر ضرب نار.
وأخذ خالد إبر ضرب النار وخزن البنادق الآلية، وخزنة الرشاش، والقنابل، ووضعها في حقيبته "السمسونايت"، وانصرف بعد أن اتفق مع عبدالحميد على اللقاء أمام بوابة حديقة المريلاند، في الساعة العاشرة مساء ذلك اليوم.
الأحداث على أرض العرض
وفي الموعد المحدد، ذهب خالد إلى المكان المتفق عليه، ومعه حقيبته "السمسونايت"، وبها الذخيرة والقنابل اليدوية وإبر ضرب النار وخزن البنادق الآلية وخزنة الرشاش. فوجد عبدالحميد في انتظاره داخل سيارته، من نوع "فيات"، مرتدياً الزي العسكري، فقاد خالد السيارة، وعرّجا، في طريقهما إلى أرض العرض، على مقهى بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة، حيث انضم إليهما كلٌّ من عطا طايل، وحسين عباس، وكانا يرتديان الزي العسكري أيضاً، وتوجهوا جميعاً إلى أرض العرض. وعلى مقربة من تجمع آليات وحدة خالد وأفراده، نزل عبدالحميد وعطا وحسين، ومعهم خطاب مزوّر، مفاده أنهم ملحَقون من اللواء 118 مدفعية[2]. وكان الاتفاق، أن يدخل هؤلاء الثلاثة ويسألوا عن خالد، الذي كان قد ترك خبراً مسبقاً في وحدته، أن ثلاثة من الجنود الملحَقين، سيصلون في تلك الليلة. وعقب دخولهم، بربع ساعة تقريباً، لحق بهم خالد، فوجدهم في انتظاره، يقفون إلى جوار خيمته. فطلب منهم مخالطة الجنود بالوحدة، بعد أن مزق الخطاب المزوّر، الذي كان معهم.
وفي صبيحة يوم الإثنين، الموافق 5/10/1981، عُين خالد ورفاقه عبدالحميد وعطا وحسين "خدمة على السلاح". وفور أن تسلم خالد الأمر بنزع إبر ضرب النار، من أحد الضباط، كلّف عبدالحميد بتمييز البنادق الآلية الثلاث، التي سيستخدمونها في عملية الاغتيال. فقام الأخير بتمييزها عن سواها بقطع صغيرة من القماش، دسّها في فوهاتها. وفي الوقت نفسه، ترك خالد حقيبته "السمسونايت" تحت سريره، بعد أن أخرج منها القنابل الأربع، ووضعها داخل خوذته، وعيّن حسين عباس حارساً لخيمته.
حادثة الاغتيال
ما قبل العملية
كان السادات يعلم يقيناً أن رأسه مطلوب، وكان يطَّلع على الإجراءات الأمنية لحماية حياته. كما كانت جهات الأمن تبلِغه بما يصل إليها من معلومات، وكان قلقاً على أفراد أسرته، وكان دائماً يحذر زوجته وأولاده، ويأمرهم بالاحتياط.
وفي يوم 28 سبتمبر، أصرّ على زيارة المنصورة، في قطار مفتوح من الجانبين، ثم في سيارة مكشوفة، ورفض اقتراحاً بالسفر إلى المنصورة في الطائرة. وقبل وصوله إلى هناك، تلقّى فوزي عبدالحافظ، سكرتير الرئيس، رسالة لاسلكية من إحدى جهات الأمن، بوجود معلومات، تفيد أن أحد أفراد الجماعات الإسلامية، تقلّه سيارة "فولكس فاجن"، ينوي اغتيال السادات في المنصورة. وتحركت الطائرات العمودية تراقب الطريق، بحثاً عن هذه السيارة، وحلّقت في سماء المنصورة. ولكن لم يُعثر على شيء.
كان هذا الشخص، الذي يجري البحث عنه، هو عبود الزمر، ضابط الاستخبارات المفصول، الذي انضم إلى تنظيم الجهاد، وكان مطلوباً بشدة من أجهزة الأمن المصرية، وقد أخطر محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية، وقتذاك، الرئيس السادات بأمره. وقد وجّه السادات إنذاراً إلى الزمر، يوم 28 سبتمبر، عبْر التليفزيون، قائلاً:
"إنني أعرف أن هناك ضابطاً منهم هارب، وربما يكون سامعني الآن، لقد اعتقلنا الآخرين جميعاً في خمس دقائق، وإذا كان هو قد تمكن من الفرار، فإنني أقول له إننا وراءه هو الآخر".
ومن العجيب أن جهات الأمن، لم تكشف شيئاً عن وجود تنظيم سري مسلح لقلب نظام الحكم واغتيال السادات، إلاّ في أواخر سبتمبر 1981، وهذا ما سجلته حيثيات الحكم في القضية، التي عرفت باسم "قضية الجهاد رقم 48 لسنة 1982 أمن دولة عليا".
وفي يوم 30 سبتمبر، كان هناك مذكرة من وزارة الداخلية على مكتب الرئيس السادات. تقول المذكرة إن سائق سيارة أجرة، يُدعى صابر عبدالعظيم، تقدم إلى اللواء السماحي، مدير أمن القاهرة، وأبلَغه بأن هناك من يورطه في عملية شراء أسلحة والتدريب عليها. وكان مرفقاً بالمذكرة ثلاثة أفلام صوت وصورة: تصور ثلاثة لقاءات بين هذا السائق ونبيل المغربي، أحد أعضاء تنظيم الجهاد، منها فيلم يصور عملية تسليم مدفع. وتم القبض على نبيل المغربي، وحققت معه نيابة أمن الدولة. وكان المغربي، عند القبض عليه، يعلم بمخطط اغتيال السادات، ولكنه لم يفُه بعبارة واحدة في هذا الشأن.
ليلة العرض العسكري
حدث أن توصل رجال الأمن إلى معلومات خطيرة، ليلة العرض العسكري، حيث التقى عبود الزمر أحد عملاء المباحث المندسّـين في التنظيم، في الساعة الثامنة مساء، في ميدان باب الحديد. وكان عبود في حالة هياج، ووصفه عميل المباحث بأنه كان "سعران" (مضطرباً)، وقال له: "لا بد من عملية كبيرة، إحنا ميتين .. ميتين".
وقد اتصل نبوي إسماعيل، وزير الداخلية، بالرئيس السادات، وأبلَغه بذلك، ورجاه أن يعيد النظر في حضور العرض العسكري، ولكن السادات رفض، وهو يقول: "أنت هوّال وخوّاف، يا نبوي، العيال أصبحت خطوطهم مقطوعة، وأنا هدّدت الولد الزمر في خطابي" (يقصد خطاب 28 سبتمبر).
وكان هناك مفاجأة كبرى، ظهرت بعد العرض العسكري!
لقد اتصل أحد قادة التنظيم بعميل للمباحث العامة، مدسوس في هذا التنظيم، وقال له: "لا تخرج من منزلك اليوم.. استمع إلى الراديو أو التليفزيون. وغداً الساعة 11 صباحاً، ستصلك تعليماتي". وأدرك عميل المباحث، أن هناك عملية كبرى تتعلق بحياة السادات. وحاول الاتصال بالضابط الذي يرأسه، فلم يمكنه، وعندما استطاع الاتصال بغيره، كان السادات قد قُتل.
وفي تلك الليلة، جاءت التقارير إلى الرئيس، تُفيد أن الحرس الجمهوري تسلّم، في الصباح، منطقتين من الاستخبارات الحربية، وهما منصة العرض العسكري ومبنى وزارة الدفاع، حيث اعتاد الرئيس أن يزور القيادة العسكرية قبل العرض بنصف ساعة. وكان اجتماع قد عقد، ظهر يوم الخامس من أكتوبر، برئاسة اللواء أركان حرب محمد صبري زهدي، نائب رئيس قوات المنطقة العسكرية المركزية، وضمّ رجال رئاسة الجمهورية من جميع الأفرع، ورجال الاستخبارات الحربية والاستخبارات العامة، وقيادات المجموعة (75) استخبارات حربية، وهي على مستوى متقدم وكفاءة نادرة، وتم كتابة مذكرة "تنسيق" وقّعها الجميع.
وتأكد الرئيس بنفسه، قبل العرض بأربع وعشرين ساعة، من سيطرة أجهزة أمن رئاسة الجمهورية وقيادتها على منصة العرض العسكري، وأنه لمزيد من الحيطة، تم تركيب مائة وعشرين خطاً هاتفياً مباشراً داخل المنصة، التي لا تزيد مساحتها على تسعين متراً مربعاً. واطمأن الرئيس تمام الاطمئنان، ونام ليلته.
اليوم الدامي والنهاية الأليمة
استيقظ السادات، كعادته، واهتزت أسلاك الهاتف، من الولايات المتحدة الأمريكية، بمكالمة من جمال السادات، ابن الرئيس، يهنىء أباه، كما تعود، في صباح السادس من أكتوبر، كل عام. ثم خابر الرئيس صهرَيه، المهندس عثمان أحمد عثمان، والمهندس سيد مرعي، ثم تحدث مع اللواء عبدالعزيز نصار، مدير المخابرات العامة، كما تلّقى مكالمة من نائبه، حسني مبارك، ثم من فؤاد محيي الدين، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ثم من نبوي إسماعيل. واعتذر السادات عن عدم تلّقي باقي المكالمات من رؤساء تحرير بعض الصحف المصرية. ثم دخل عليه الأطباء، لإجراء الفحوص اليومية المعتادة، وجاء خبير التدليك، وزاول السادات بعض التمرينات، واستحم بعدها بمياه فاترة.
كانت الصحف، في ذلك اليوم، تتحدث عن الأسلحة الغربية، التي ستظهر في العرض بنسبة كبيرة، تصل إلـى 50% من جملة الأسلحـة المشتركة، ومنها الطائرات الأمريكية من نوع "فانتوم   PHANTOM"، والعمودية من نوع "شينوك CHINOOK"، والطائرات العمودية الفرنسية من نوع "جازيل GAZELLE"، والبريطانية من نوع "سي كينج SEA KING".
في العاشرة والنصف من  صباح ذلك اليوم، كان السادات في مقر وزارة الدفاع، لالتقاط الصور التذكارية مع كبار القادة. وقد وقف إلى يمينه نائبه، حسني مبارك، وإلى يساره المشير محمد عبدالحليم أبو غزالة، وزير الدفاع. وكان السادات مرتدياً بدلته الهتلرية، التي صنعت في لندن، والتي كان مغرماً بها، ووصل غرامه بالزي الألماني، أن أمر أفراد الحرس الجمهوري بارتداء الخوذات العسكرية الألمانية. ورفض السادات أن يرتدي القميص الواقي من الرصاص على الرغم من إلحاح زوجته، السيدة جيهان، ووزير الداخلية. وكان سبب ذلك، أن البدلة الجديدة كانت ضيقة، ولا تسمح بارتداء القميص الواقي تحتها، ورفض السادات أن يلبس بدلة العام الماضي، وقال: "أنا رايح لأولادي، أنت هوّال وخوّاف، يا نبوي". ثم توجّه الرئيس إلى أرض العرض، ليتبوأ مقعده من المنصة. وإلى يمينه نائبه، حسني مبارك، ثم الوزير العُماني شبيب بن تيمور، مبعوث السلطان قابوس. وإلى يساره المشير أبو غزالة، ثم سيد مرعي، ثم عبدالرحمن بيصار، شيخ الأزهر.
في ذلك الوقت، كان خالد الإسلامبولي قد توجّه إلى الخيمة، التي ينام فيها أصحابه، حسين عباس وعبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل، وسلّمهم كيس الذخيرة، وأمرهم بالاستعداد. واستعد خالد الإسلامبولي بملابس العرض، وتناول خزنة الرشاش، بعد أن ملأها بالذخيرة، ووضعها في جَورَبه، ثم لف حولها (أستك) عريضاً حتى لا تسقط. وتحرك الجنود لتجهيز السيارات، وأمر الإسلامبولي بتسليم الأسلحة منزوعة إبر ضرب النار، إلى الجنود. وأخذ الإسلامبولي، وهو يتناول كوباً من الشاي، يتابع تسليم الأسلحة للجنود، إلى أن اطمأن إلى أن البنادق المعبأة بالذخيرة هي في حوزة عبدالحميد وعطا وحسين.
بدأ تحرك الجرارات، وخلفها المدافع، إلى ساحة العرض، كلٌّ في دوره المرسوم. وحمل الإسلامبولي الخوذة، التي سيرتديها في العرض، إلى السيارة التي سيركبها، ووضع تلك الخوذة أسفل المقعد. وأخذ يتفقد طاقم سيارته. وفي السادسة والنصف، ركبت الأطقم العربات الأربع، الخاصة بكتيبة خالد، وركب حسين وعبدالحميد وعطا العربة التي ركبها خالد، وكانت إلى اليمين من القطار الثاني لعربات اللواء المواجهة للمنصة، وجلس خالد إلى جوار السائق.
وفي حوالي الساعة الثامنة، وبينما كان الجنود منهمكين في أعمال النظافة للمدافع والعربات، أعطى خالد لعبدالحميد قنبلتَيْن يدويتَيْن دفاعيتَيْن. احتفظ عبدالحميد بواحدة، وأعطى الثانية لعطا طايل. وخبّأ خالد القنبلتين الأخريين في "تابلوه" العربة، ثم طلب من السائق عصام عبدالحميد، أن يذهب ليشتري "ساندوتشَيْن". وعند ذهاب السائق، انتهز خالد الفرصة، فغيّر خزنة الرشاش الخاص بالسائق، بخزنة أخرى مملوءة بالذخيرة، ووضع الخزنة الفارغة تحت الكرسي. ثم أعاد خالد ترتيب جلوس أفراد طاقم عربته، فأجلس عبدالحميد خَلْفه مباشرة في صندوق العربة، وظهره إلى المنصة، كما أجلس عباساً في آخر صندوق العربة، في الصف نفسه الذي يجلس فيه عبدالحميد، وظهره إلى المنصة كذلك، بينما أجلس عطا طايل في مواجهة عبدالحميد، ووَجْهه إلى المنصة.
وقبل تحرك السيارة لدخول طابور العرض، ظهر ضباط من رئاسة الجمهورية، يركبون دراجات نارية، أخذوا يفتشون السيارات واحدة بعد الأخرى. فألقى عبدالحميد نفسه فوق الرشاشات الثلاثة، ونام عليها، وجهز نفسه لتفجير واحدة من قنابل الصوت التي في حوزته، عند محاولة تفتيشه. ويقول خالد، في حديث إلى جريدة "الأنباء" الكويتية، ومجلة "الندوة" السعودية: نظرت إلى الخَلْف، فإذا هم ثلاثة ضباط كبار، منهم ضابط عمل معه عبدالحميد عبدالسلام، ويعرفونه جيداً، ويعرفون أنه فُصل من الخدمة. فأيقنت أن الأمر سينكشف، ولكن الله هيّأ من ينادي عليهم، أثناء تفتيش العربة السابقة لعربتنا، وهكذا شَق هؤلاء الضباط طريقهم بعيداً عن عربته، وقاموا بتفتيش العربة التي بعدها.
في ذلك الوقت، كان كل اهتمام الأمن منصرفاً إلى ما وراء منصة العرض، ظناً منهم أن عبود الزمر، قد يأتي من الخلف في هجمة انتحارية.
كان الحاضرون يستمتعون بمشاهدة العرض، خصوصاً طائرات "الفانتوم"، وهي تمارس ألعاباً بهلوانية في سماء العرض. ثم انطلق صوت المذيع الداخلي: "والآن تجيئ المدفعية". وتقدم قائد طابور المدفعية لتحية المنصة، وحوله عدد من راكبي الدّراجات النارية. وفجأة، توقفت إحدى الدّراجات، بعد أن أصيبت بعطل مفاجئ، ونزل الرجل من فوقها، وراح يدفعها أمامه. ومن حسن حظه، أن معدل سير باقي الدّراجات كان بطيئاً، يسمح له باللحاق بها. ولكن سرعان ما انزلقت قدَمه، ووقع على الأرض، والدّراجة فوقه، فتدخّل جندي، كان واقفاً إلى جوار المنصة، وأسعفه بقليل من الماء. كل هذا حدث أمام الرئيس والجميع. وأسهمت تشكيلات الفانتوم وألعابها في صرف نظر الحاضرين واهتمامهم. لذا، عندما توقفت سيارة الإسلامبولي، بعد ذلك، ظُنَّ أنها تعطّلت، كما تعطّلت الدّراجة النارية، خصوصاً أن أحداثاً كهذه، وقعت، قبل ذلك، في عروض كثيرة في عهدَي الرئيسين، عبدالناصر والسادات.
في تمام الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة، كانت سيارة الإسلامبولي، وهي تجرّ المدفع الكوري الصنع عيار 130مم، قد أصبحت أمام المنصة تماماً. وبينما كان المذيع الداخلي يقول عن رجال المدفعية: ]إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[ (سورة الكهف، الآية 13)، وفي لحظات، وقف القناص حسين عباس، وأطلق دفعة من الطلقات، استقرت في عنق السادات، بينما صرخ خالد بالسائق، يأمره بالتوقف، فشد السائق كابح (فرملة) اليد، بصورة تلقائية، ونزل خالد مسرعاً من السيارة، وألقى قنبلة، ثم عاد إلى السيارة، وأخذ رشاش السائق، الذي سبق أن وضع فيه خزنة مملوءة، وطار مسرعاً إلى المنصة. كان السادات قد نهض واقفاً في اندفاع، بعد إصابته في عنقه، وهو يقول: "مش معقول"، بينما اختفى جميع الحضور على المنصة أسفل كراسيهم. وتحت ستار الدخان، وجّه الإسلامبولي دفعة الطلقات إلى صدر الرئيس، في الوقت نفسه الذي ألقى فيه كل من عطا طايل بقنبلة ثانية، لم تصل إلى المنصة، ولم تنفجر[3]، وعبدالحميد بقنبلة ثالثة، ونسي أن ينزع فتيلها (صمام الأمان)، فوصلت إلى الصف الأول، ولم تنفجر. ثم قفز الثلاثة، وهم يصوّبون نيرانهم نحو الرئيس. وكانوا يلتصقون بالمنصة، يمطرون الرئيس بالرصاص. وكان عبدالحميد قريباً من نائب الرئيس، حسني مبارك، وقال له: "أنا مش عايزك، إحنا عايزين فرعون". وتعطل رشاش الإسلامبولي بعد الطلقة السادسة، فألقى به أرضاً، وأخذ بندقية حسين عباس، وقال له: "بارك الله فيك، إجرِ إجرِ". وكان عطا طايل آخر من وصل إلى المنصة، لأنه وقع أرضاً، فقام وتناول بندقيته، ولم يجد أحداً جالساً فوق المنصة، فوجّه نيرانه إلى الكرسي، الذي ظـن أن السادات قريب منه. وانطلق حسين عباس هارباً، إذ بات بلا سلاح، بعد أن أخذه منه خالد.
كان السادات قد سقط مضرجاً بدمائه، منبطحاً على وجهه. بينما كان سكرتيره الخاص، فوزي عبدالحافظ ملقياً بجسده عليه، محاولاً حمايته، رافعاً كرسياً، ليقيه وابل الرصاص. كان أقرب ضباط الحرس الجمهوري إلى السادات، عميد يدعى أحمد سرحان، صاح لدى سماعه طلقات الرصاص: "إنزل على الأرض، يا سيادة الرئيس، إنزل"، ولكن بعد فوات الأوان.
صعد عبدالحميد سلم المنصة من اليسار، وتوجّه إلى حيث ارتمى السادات، ورَكَله بقدَمه، فقلَبه على ظهره، ثم طعنه بالحربة (السونكي)[4]، وأطلق عليه عياراً نارياً. وارتفع صوت خالد، يؤكد لوزير الدفاع أنهم لا يقصدون أحداً، إلا السادات. بينما أفرغ عبدالحميد باقي ذخيرته في سقف المنصة. وانقضى نصف دقيقة دامٍ، وانتهت معه حياة السادات.
كان حسين عباس قد لاذ بالفرار. وها هم الثلاثة الآخرون، قد انطلقوا يركضون عشوائياً، في اتجاه حي رابعة العدوية (في مدينة نصر)، تطاردهم عناصر الأمن المختلفة، وهي تطلق النيران، فأصابتهم إصابات كثيرة.
كان الناس كلهم في ذهول، والشلل قد أصاب ألسنتهم، وسُمع صوت يصرخ معلناً أن الطيران سيضرب. وتم القبض على الجناة الثلاثة، أمّا حسين عباس، فلم يمكن القبض عليه، إلاّ في فجر يوم الجمعة، 9/10/1981.
أمّا على المنصة، فقد ارتفعت الصرخات، وصرخت السيدة جيهان السادات، تخاطب سكرتيرتها، "مدام" صادق: "دول مجانين، السادات إتقتل من الخلف"، بينما السادات مطروح أرضاً، والدماء تنزف من فمه. وإلى جوار السيدة جيهان، وقفت فايدة كامل، المطربة، والمحامية، وعضو مجلس الشعب، وزوجة وزير الداخلية، وأخذت تصرخ، وجيهان تنهرها، وتأمرها بالسكوت، من دون جدوى، إذ ظلت تصرخ: "محمد، محمد، هاتوا لي محمد، يا خرابي يا محمد"، وهي تقصد زوجها، محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية.
كما سقط سبعة آخرون قتلى، هم: اللواء أركان حرب حسن علام، وخلفان ناصر محمد (عُماني الجنسية)، والمهندس سمير حلمي إبراهيم، والأنبا صموئيل، ومحمد يوسف رشوان (مصور)، وسعيد عبدالرؤوف بكر، وشانج لوي (صيني الجنسية). كما أصيب كل من: المهندس سيد مرعي، وفوزي عبدالحافظ، ومحمود حسين عبدالناصر، واللواء أركان حرب محمد نبيه السيد، واللواء المتقاعد عبدالمنعم محمد واصل، ودومينكو فاسيه، سفير كوبا لدى القاهرة، ورويل كولور، سفير بلجيكا لدى القاهرة، وكريستوفر برايان (أمريكي الجنسية)، وهاجن بردك (أمريكي الجنسية)، وبرك ماكلوسكي (أمريكي الجنسية)، وعبدالله خميس فاضل (عُماني الجنسية)، ولوجوفان وينج بينج وشين فان (صينيّي الجنسية)، وجوني دودز (أسترالي الجنسية)، والعميد وجدي محمد سعد، والعميد معاوية عثمان محمد، والعميد أحمد محمد سرحان (من الشرطة)، والعقيد نزيه محمد علي، والرائد عبدالسلام متولي السبع، وآخرون.
هبطت طائرة عمودية من نوع "جازيل"، حملت الرئيس إلى مستشفى المعادي. وتحركت سيارة جيب، تحمل الجناة الثلاثة حيث الإسلامبولي يئن من إصابته، وأسفل منه، عبدالحميد، وإلى جوارهما عطا طايل، إلى المستشفى العسكري، ثم إلى مستشفى المعادي، المستشفى نفسه الذي نُقل إليه الرئيس.
أصدر وزير الدفاع أمره بعودة كل القوات المشتركة في العرض إلى وحداتها القتالية. وفي مستشفى المعادي، كان حارس ضخم البُنية، يبدو أنه الحارس الخاص للنائب حسني مبارك، يتحدث في جهاز الإرسال: "الوزراء يتوجهون إلى مجلس الوزراء، والنواب إلى مجلس الشعب".
كان سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى القاهرة، ألفريد آثرتونAlfred Atherton، أول من اتصل بالمشير أبي غزالة، وسأله عن الرئيس، فقال له: "أصيب. ولكن بجروح طفيفة". وفي الساعة الثانية مساء، قطع راديو القاهرة إرساله، ليعلن بياناً رسمياً عن الحادث:
"في حوالي الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة ظهر اليوم (الثلاثاء)، أثناء مرور طابور العرض العسكري، قامت مجموعة من الأفراد بإطلاق النار تجاه المنصة الرئيسية. وترتب على ذلك إصابة السيد رئيس الجمهورية وبعض مرافقيه. وقد تم نقل سيادته إلى حيث يُجرى علاجه الآن تحت إشراف الأطباء الإخصائيين، ويتابع السيد نائب رئيس الجمهورية شخصياً ما يتخذه الأطباء من إجراءات".
وهكذا جرى نمط حياة السادات على طريقة الصدمات الكهربائية. وكأن القدر قد شاء أن يكون موته "درامياً"، على نمط حياته. فكان اغتياله أكبر صدمة، وأغرب حادثة اغتيال في منطقتنا العربية. (انظر ملحق بيان السيد محمد حسني مبارك، نائب رئيس الجمهورية، ينعى إلى الأمة الرئيس محمد أنور السادات، مساء السادس من أكتوبر 1981)
نص التقرير الشرعي، الذي قدّمه كبار الأطباء الشرعيين إلى المحكمة عن اغتيال الرئيس، (انظر فقرات من التقرير الطبي الشرعي (عن اغتيال الرئيس محمد أنور السادات)).
إن المتفحص للتقرير الطبي الشرعي، عن اغتيال الرئيس السادات، يستطيع أن يستنتج أشياء كثيرة، أهمها كيف قُتل الرئيس، وما حجم إصاباته وأماكنها، وما هي الإصابات القاتلة، وماذا كان يرتدي الرئيس السادات، وما هي المحاولات المُضنية، التي قام بها الأطباء لإنقاذ حياته، ونقاط أخرى عديدة. ويشعر الإنسان، بعد أن يفرغ من قراءة التقرير، أن كل من عليها فانٍ، ولا يبقى إلا وجه الكريم المنان. وأنه لا عظمة، ولا خُلد إلاّ لله الواحد القهار، وأن الأجل إذا حان، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأن الموت يدركنا ولو كنّا في بروج مشيدة. فأي بروج أكثر منعة من وجود الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، بين قواته، وهو محاط بأكثر من أربع عشرة جهة، مكلفة بحمايته والدفاع عنه، ثم يُغتال على أيدي أناس تربوا في حجر هذه القوات. فعلى الإنسان أن يأخذ العِبرَ ويتعلم الدروس، من هذه الحادثة، وليعلم أن لا ملجأ من الله إلاً إليه، وأننا سنُعرض عليه، ]فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، ويَنقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا، ويَصْلَى سَعِيرًا[ (سورة الانشقاق، الآيات: 7-12). ولنتدبر قول العزيز الحكيم: ]إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ (سورة يس، الآيتان: 82-83).
كان كل شخص، داخل مصر وخارجها، يريد أن يعرف نتائج اغتيال السادات، قبل أن يعرف أسباب هذا الاغتيال. هل سيتحرك الجيش؟ هل ستتدخل الدول الأجنبية؟ هل ستستولي على الحكم سلطة جديدة؟ ولم تستقر الأحوال إلا عندما أعلن نائب الرئيس، حسني مبارك، مساء يوم الاغتيال، خبر مقتل السادات. وكان معنى ذلك الإعلان أن السلطة القائمة، ما زالت هي الحاكمة (انظر ملحق بيان السيد محمد حسني مبارك، نائب رئيس الجمهورية، ينعى إلى الأمة الرئيس محمد أنور السادات، مساء السادس من أكتوبر 1981).
وعقب ذلك، وقعت حوادث العنف في أسيوط، وحاولت الجماعة الإسلامية السيطرة عليها، تمهيداً لإعلان الثورة الإسلامية. ولكن قوات الأمن المركزي، حاصرت أسيوط حصاراً شديداً، وفرضت حظر التجول بعد المغرب، إلى أن هدأت الأمور.