منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By عبدالعزيز العسكر 5
#49332
مفهوم الأيديولوجيا Ideology:

يُعد دي تراسي De Tracy أول من صك هذا المصطلح في عصر التنوير الفرنسي، في كتابه "عناصر الأيديولوجية". ويعني تراسي بالأيديولوجية علم الأفكار، أو العلم الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس. هذه الأفكار التي تُبنى منها النظريات والفرضيات، التي تتلاءم مع العمليات العقلية لأعضاء المجتمع. وقد انتشر استعمال هذا الاصطلاح بحيث أصبح لا يعني علم الأفكار فحسب، بل النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يُعبّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان. وقد طُبق هذا الاصطلاح بصورة خاصة على المواقف السياسية، التي هي أساس العمل السياسي وأساس تنفيذه وشرعيته. والأيديولوجية السياسية هي الأيديولوجيا التي يلتزم بها ويتقيد بها رجال السياسة والمفكرون إلى درجة كبيرة، بحيث تؤثر على حديثهم وسلوكهم السياسي، وتحدد إطار علاقاتهم السياسية بالفئات الاجتماعية المختلفة.
والأيديولوجيا السياسية التي تؤمن بها الفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع، قد تتضارب مع بعضها، أو تتسم بالأسلوب الإصلاحي أو الثوري، الذي يهدف إلى تغيير واقع المجتمع وظروفه؛ ولكن جميع الأيديولوجيات تكون متشابهة في شيء واحد، وهو أسلوبها العاطفي وطبيعتها المحركة لعقول الجماهير. ومن ثَم، تعبّر الأيديولوجيا، بصورة عامة، عن أفكار يعجز العلم الموضوعي عن برهان حقيقتها وشرعيتها، لكن قوة هذه الأفكار تظهر من خلال نغمتها العاطفية وأسلوبها المحرك للجماهير، والذي يتناسب مع الحدث الاجتماعي الذي يمكن القيام به. أما المفهوم الماركسي للأيديولوجيا، فيُعبّر عن شكل وطبيعة الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة الحاكمة، التي تتناقض مع طموحات وأهداف الطبقة المحكومة، خصوصاً في المجتمع الرأسمالي.
ويحدد كارل مانهايم Mannheim في كتابه "الأيديولوجيا واليوتوبيا" مفهوم الأيديولوجيا، من خلال مستويين: المستوى الأول هو المستوى التقويمي، أما المستوى الثاني فهو المستوى الدينامي. ويتعامل المستوى التقويمي مع الأيديولوجيا على أساس أنها تتضمن أحكاماً تُعني بواقع الأفكار، وبناءات الوعي. أما المستوى الدينامي، فيتناول الأيديولوجيا من خلال سمتها الدينامية، على أساس أن هذه الأحكام دائماً ما تُقاس من طريق الواقع، ذلك الواقع الذي يحيا في ظل تدفق ثابت أو جريان دائم. ويشير مانهايم إلى ما أسماه بالتشوه الأيديولوجي والوعي الزائف، أي التفسير غير الصادق الذي يضعه شخص ما. وهذا ما أكد عليه ديفيد هوكس من أن كلمة "أيديولوجيا" تشير أحياناً إلى طريقة خاطئة في التفكير على نحو نسقي، ووعي زائف.
وفرّق مانهايم بين نمطين من الأيديولوجيا، هما:
الأيديولوجيا الخاصة التي تتعلق بمفهوم الأفراد وتبريراتهم للمواقف التي تهدد مصالحهم الخاصة؛ والأيديولوجيا الكلية التي تتعلق بالتفكير السائد داخل الطبقة أو الحقبة التاريخية، كما هو الحال لنمط التفكير السائد لدى البرجوازية أو البروليتاريا (الطبقة العاملة). وفي ضوء ذلك عرّف الأيديولوجيا بوصفها مجموعة قيم أساسية ونماذج للمعرفة والإدراك، ترتبط ببعضها وتنشأ صلات بينها وبين القوى الاجتماعية والاقتصادية. فإذا أخذنا بتصور مانهايم هذا لمفهوم الأيديولوجيا، نستطيع أن نميز في أي مجتمع طبقي بين أيديولوجيتين:
·   الأولى، أيديولوجيا الجماعات الحاكمة التي تريد فرض تصوراتها وأفكارها على بقية أفراد المجتمع، وتبرير الأوضاع الراهنة والدفاع عنها.
·   الثانية، أيديولوجيا الجماعات الخاضعة، التي تحاول تغيير هذه الأوضاع لصالحها وإحداث تغيرات في بناء القوة القائم، بما في ذلك تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخول توزيعاً عادلاً.
أما ديفيد جيري، وجوليان جيري، فيقدمان عدداً من التعريفات الخاصة بمفهوم الأيديولوجيا على النحو التالي:
1. أن الأيديولوجيا هي نسق من الأفكار يحدد السلوك السياسي والاجتماعي.
2. أن الأيديولوجيا ـ بصورة أكثر تحديداً ـ هي أي نسق من الأفكار يبرر خضوع جماعة أو طبقة ما، لجماعة أو طبقة أخرى، مع إضفاء نوع من الشرعية على هذا الخضوع.
3. أن الأيديولوجيا هي معرفة موسوعية شاملة، قادرة على تحطيم التحيز وذات قدرة على الاستخدام في عملية الإصلاح الاجتماعي.
ويُلاحظ أن المعنى الأول والثاني أصبحا، في الواقع، محور الاهتمام الرئيسي لمفهوم الأيديولوجيا.
ذهب أنتوني جيدنز في تعريفه للأيديولوجيا أنها مجموعة من الأفكار والمعتقدات المشتركة، التي تعمل على تبرير مصالح الجماعات المهيمنة. وتوجد الأيديولوجيات في كافة المجتمعات، التي توجد بها نظم راسخة لعدم المساواة بين الجماعات. ويرتبط مفهوم الأيديولوجيا ارتباطاً وثيقاً بمفهوم القوة؛ لأن النظم الأيديولوجية تعمل على إضفاء المشروعية على تباين القوة، التي تحوزها الجماعات الاجتماعية.
ولكن هناك من عرَّف الأيديولوجيا بشكل حيادي، بوصفها نسقاً من المعتقدات والمفاهيم، والأفكار الواقعية والمعيارية معاً. ويسعى هذا النسق في عمومه إلى تفسير الظواهر من خلال منظور يوجه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات. ويوضح هذا التعريف الدلالات الحيادية للأيديولوجيا، التي اكتسبها المفهوم من تعدد الأنساق الفكرية التي عملت على إظهار مدى التوازن بين الجانبين الواقعي والمعياري، بوصفهما يمثلان مقومات الأيديولوجيا.
وتتميز الأيديولوجيا بأنها غير ثابتة ثباتاً مطلقاً، وإنما تتمتع بخاصية الدينامية؛ لأنها تشهد عمليات نمو وتحول وربما اختفاء وظهور جديدة. ويحدث ذلك في ضوء الأوضاع والمواقف الاجتماعية المختلفة والمتغيرة. فكثيراً ما تتعرض المجتمعات لقلاقل داخلية أو خارجية، تظهر في شكل انحرافات معينة عن الأيديولوجيا السائدة، أو في شكل تغيرات مهمة في البنية الاجتماعية والاقتصادية، أو في شكل صراع بين القيم الخاصة والعامة والآراء والاتجاهات. كما قد تظهر هذه القلاقل نتيجة لكوارث طبيعية، أو ثورات، أو غزوات، أو غير ذلك. في مثل هذه الحالات، قد تدخل عناصر جديدة إلى النسق الأيديولوجي أو تلغي بعض عناصره، أو يتم تعديل بعضها لتتواءم مع الواقع الاجتماعي الجديد.
ويجعلنا هذا نؤمن بأن النسق الأيديولوجي ليس فكراً جامداً؛ ولكنه دينامي متطور. فعلى سبيل المثال، كان العَالم ينقسم إلى معسكرين، هما الشرقي والغربي، ونتيجة لعمليات وسياسات الاستقطاب والحرب الباردة وتأثيراتها ظهرت أيديولوجيا "الحياد الإيجابي" و"عدم الانحياز". وكذلك نتيجة للصراع الدائم بين الأيديولوجيا الاشتراكية والرأسمالية، انهارت الأيديولوجيا الاشتراكية وتفردت الراسمالية.
وقد أوضح كارل مانهايم هذه الفكرة ـ أي أن الأيديولوجيا قابلة للتغيير والتعديل وفق ما يطرأ على المجتمع من أوضاع ومواقف تتطلب هذا التغيير ـ فيقول: إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يستطيع الإنسان أن يحيا ويستمر في حياته وتفكيره، في وقت أصبحت فيه الأيديولوجيا واليوتوبيا تفرض نفسها على مسارات حياته؟ فقد اعتقد الإنسان منذ وقت طويل أن تفكيره هو جزء من وجوده الروحي، وأنه ليس حقيقة واقعية حسية؛ ولكن هذا الاعتقاد قد تغير حتى من داخل الإنسان نفسه. وقد كان التغير الأيديولوجي يعني لدى الإنسان إعادة توجيه للقيم التي يشتق منها السلوك. ولكن في العصر الحديث تعاظم الاعتقاد بأننا لا يمكن أن نعيش على وتيرة واحدة، أو على مبدأ فكري واحد.
تناولت هذه التعريفات جانباً أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، بوصفه مفهوماً حديثاً، إلا أن التعريف الأكثر تكاملاً يحدد الأيديولوجيا بأنها "النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة. وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه. وللنسق المقدرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه. فضلاً عن أن الأيديولوجيا أصبحت نسقاً قابلاً للتغير استجابة للتغيرات الراهنة والمتوقعة، سواء كانت على المستوى المحلي أو العالمي".