منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#49867
I. الواقعية والأسس المعرفية لنظرية حل المشكلة

من المؤكد أن المقاربة الواقعية قد سيطرت بشكل أو بآخر على كل من الفكر الأكاديمي للعلاقات الدولية وعلى تصورات صانعي السياسة، على الأقل في مرحلة ما. فقد اعتبرت النظرية السائدة في حقل العلاقات الدولية، لمنحها أقوى تفسير لحالة الحرب التي مثلت الظرف الحتمي والدائم للحياة الدولية.كما أن من أكبر العوامل الداعمة لهيمنة النظرية الواقعية هو أنها تصور العالم الذي نفهمه بالفطرة.
1. المسلمات الرئيسة للواقعية: من الواقعية التقليدية إلى الواقعية الأساسية
تاريخيا، تم النظر إلى الواقعية على أنها الطريقة التي يتم وفقها النظر إلى العلاقات الدولية كعلاقات قوة؛ فقد بلغت الواقعية أوج جاذبيتها كنظرية أو كمجموعة مقترحات حول الفرد والدولة والنظام الدولي فيما بعد عام 1940،أي تقريبا مع نشر” هانز مورجنتو”Hans Morgenthau كتابه الموسوم بـPower Among Nations لإيضاح نظريته للعلاقات الدولية، التي صاغها لشرح الماضي والأحداث الراهنة في عصره واقتراح الاتجاه المحتمل وشكل العلاقات المستقبلية .فبحسب “جيمس روزنو” James N. Rosenau و”ماري ديرفي” Mary Durfee تأمل الواقعية

“[…]شرح لماذا تعدل الدول سلوكياتها؟ وبما أن الدول تنخرط في عدد من السلوكيات بانتظام ،فعلى أي شيء يستند هذا الانتظام؟ماهي حسابات الحرب والسلام؟ لماذا تبقـى دول وتزول أخـرى؟

هذه هي الأسئلة المركزية للنظـرية الواقعيـة.”

ويتفق دارسوا العلاقات الدولية اجمالا على أن الواقعية لا تقدم نظرية معيارية لأنها تهتم بما هو كائن في مجال العلاقات الدولية. فوصفها بأنها:

“في جوهرها محافظة وتهتم بدراسة الواقع وحذرة وتشك في المبادىء المثالية وتهتم بدروس التاريخ وغالبا ما تنظر إلى السياسة الدولية بتشاؤم وليس بتفاؤل لا يدل على فشلها بقدر ما هو تقرير لحالتها.”
ويمكن تحديد الافتراضات الأساسية للمدرسة الواقعية في النقاط التالية:

•الدولة هي الفاعل الرئيس والأهم في العلاقات الدولية؛ فهي الوحدة الأساسية للتحليل. ودراسة العلاقات الدولية هي دراسة العلاقات بين هذه الوحدات؛
•الدولة كفاعل دولي وحدة واحدة لا تتجزأ؛ فهم ينظرون إليها كفاعل وحدوي Unitary Actor لها سياسة واحدة في أي زمان وفي أي مسألة كانت؛
•الدولة فاعل راشد بالأساس؛ أي أن الدول فواعل عقلانيون يسعون لتعظيم الفوائد وتقليص التكاليف المتلازمة مع سعيها لتحقيق أهدافها؛
•ضمن سلم ترتيب المسائل الدولية، يحتل الأمن الوطني قمة أولويات القضايا الدولية. فالواقعيون عادة ما ينظرون إلى القضايا العسكرية والأمنية والاستراتيجية باعتبارها قضايا السياسة العليا Hight Politics في حين يصنفون القضايا الاقتصادية والاجتماعية ضمن مسائل السياسة الدنيا Low Politics نظرا لأهميتها الثانوية.
ومن المهم أن نشير إلى أنه ليس هناك إجماع في الأدبيات الواقعية عما إذا كان في وسعنا الحديث عن نظرية واحدة متماسكة للواقعية،إلا أن الواقعيين جميعهم يتفقون على منطلق مشترك، وهو أن مجال السلوك بين الدول كاف بحد ذاته من أجل وضع تفسير له.
غير أن “تيموثي دن” Timothy Dunne قام بمحاولة لصياغة قالب جوهري مشترك من الأسس التي يقرها جميع الواقعيين كواقعية مركبة، أو ما أسماها “الواقعية الأساسية” The Essential Realism والتي تشكل بـ”سيناتها الثلاث”Three Ss [الدولاتية/Statism ،البقاء/Survival ،العون الذاتي/Self help] زوايا المثلث الواقعي؛

فالدولاتية هي صلب النظرية الواقعية. واعتبارها للدولة الفاعل الرئيس، ومذهب نظام الدول هو المصطلح الذي يطلق على فكرة الدولة كممثل شرعي للإرادة الجماعية للشعب ينطوي على زعمين: ألهما أن الدولة بالنسبة إلى المنظر هي العنصر الفاعل الأبرز، وأن العناصر الفاعلة الأخرى في السياسة العالمية ذات أهمية أقل. وثانيهما أن “سيادة” الدولة تشير إلى وجود مجتمع سياسي مستقل يتمتع بالسلطة القانونية فوق أراضيه. كما أن الأولوية القصوى لزعماء الدولة هي ضمان بقاء دولتهم. فالاهتمام الأقصى للدول ينحصر في الأمن. فبعد دافع البقاء كما يرى”والتز” Waltz قد تتنوع أهداف الدول بأشكال لا نهاية لها.

بالإضافة إلى أن العون الذاتي أو الاعتماد على النفس هو مبدأ العمل ضمن ظروف نظام فوضوي، أين يتحقق التعايش من خلال الحفاظ على توازن القوى.

2. البناء النظري لنظرية حل المشكلة:

1.2.الأبستيمولوجيا الوضعية:
إن المقاربة الواقعية تندرج ضمن النوع الأول في تصنيف “كوكس”Cox .وعليه فمنظرو هذه المقاربة يأخذون العالم كما هو موجود “حقيقة”؛ فكما أوضح “هانز مورجانتو”Hans Morgenthau فإن

“الواقعية هي نظرية تحاول فهم السياسة الدولية كما هي موجودة فعلا it actually is ،والنظر إليها في طبيعتها الأصيلة أو الجوهرية “.

وعليه فالمبدأ الأول الذي يقرره “مورجانتو”Morgenthau هو أن السياسة محكومة بقواعد موضوعية تجد أصولها في الطبيعة الإنسانية ذاتها.

وفق هذا التصور، لا تستفهم نظرية حل المشكلة حول “الوحدات الأنطولوجية”[كالدولة والنظام الدولي الفوضوي وغيرها]،لأن كلا منها حقيقة طبيعية وثابتة و”لا تاريخية” Ahistorique ومُشاهَدة امبريقيا. ويكون هذا الإستفهام غير ذي معنى، لأن هذه الوحدات تندرج ضمن الإبستيمولوجيا الوضعية المستمدة من العلوم الطبيعية

“[…] التي تشدد على العلم والمنهج العلمي بصفتهما مصدر المعرفة الوحيد، كما أنها تميز تمييزا قاطعا بين عالم الحقائق والقيم[…].ويرى مؤيدوا هذه الحركة الفلسفية أن للمعرفة مصدرين لا غير: العقلانية المنطقية والإختبار التجريبي؛ فيثبت تصريح معين جدواه إذا تبرهنت صحته وخطأه لا غير على الأقل في المبدأ أو من خلال الاختبار.”

وفقا لوجهة النظر تلك، يكون “المُنَظِّرُ” ملاحِظًا خارجيا يبحث عن شرح للظواهر وكشف الأنماط المنتظمة في السلوك الإنساني. وبذلك يحاول الواقعيون رفع مستوى تحليل الظواهر في العلاقات الدولية إلى مصاف الظواهر الطبيعية، أين يفسَّر العالَم الاجتماعي كما يفسِّر عالِمُ الطبيعة العالَم الفيزيائي. وبهذا المعنى تكون الواقعية جزءا من “النظريات التفسيرية”les Théories Explicatives

“التي تنظر إلى العالم بوصفه شيئا خارجا عن نظرياتنا عنه[…]و أن النظريات التي نستعملها لتحليله هي مجرد نظريات تصف الحوادث بدلا من أن تبني تلك الحقيقة.”

على غرار الأدبيات الفكرية التفسيرية في علوم الطبيعة، ينشغل الواقعيون بتتبع “التراكم المعرفي” الذي يمكِّن من “استنباط” قوانين علمية وعامة ولا تاريخية تشرح العلاقات الدولية. ولبلوغ هذا التراكم المعرفي على دراسات العلاقات الدولية والأمن التقيد بمبادئ البحث العلمي التي هي بحسب “ستيفن والت”Stephen M. Walt
“الاستخدام الدقيق للمصطلحات والمقاييس الصحيحة للمفاهيم النقدية و التوثيق العام للإدعاءات النظرية والإمبريقية.”

إن اهتمام المنظرين العقلانيين بالتتبع المستمر للتراكم المعرفي جد هام. لأن نظرة العلاقة بين التاريخ والمعرفة – بحسب المناهج التاريخية/الإستقرائية والتاريخية/الاستنباطية – جد قوية.كما أن من يستند إلى هذه “المعرفة المتراكمة” يعتبر نظرته تمثل أوج “لمسار العلمي الخطي”processus scientifique linéaire .

على اعتبار أن لهم السلطة في حقل العلاقات الدولية، يدعي منظروا المنظار العقلاني الحق في الحكم على مختلف الإفتراضات النظرية البديلة. وهم يبررون وضعهم السلطوي هذا بدعوى أن تحليلهم للعلاقات الدولية، قد أُسِّس على المبادئ الآكدة والصحيحة في حقل العلوم الطبيعية التي تعرض الواقع وتشرحه بـ “موضوعية”. على عكس المقاربات البديلة التي-برأيهم- ليست إلا صدى لتقلبات الرأي العام والتصورات الذاتية. ويجد هذا الإدعاء جذوره في القدرة على تقديم الواقع بموضوعية كما أوضح ذلك كل من “ميكائيل ويليامز”Michael C. Williamsو “كايث كروز”Keith Krause

“فالواقعية الجديدة أو الليبرالية الجديدة لا تحصر ببساطة معرفتها بطبيعة العلاقات الدولية، بل تتعداه إلى ادعاء المعرفة. بالتحديد: الإدعاء العلمي بمعرفة حقيقة العلاقات الدولية بموضوعية.”

وعليه، فهم لا يبحثون فهم وتغيير الوحدات الأنطولوجية للواقعية، لأنها طبيعية وثابتة ولا تاريخية، بل يعملون على إيجاد قوانين عامة (علمية) تُمكِّن من حل الإضطرابات والنزاعات، لأجل ضمان وحفظ إستقرار النظام الدولي. فمفاهيم الإستقرار stabilité وبقاء الدولة la survie étatique توجد في مركز أجندة بحث منظري الواقعية، وفي مركز اهتمامات “الدولة العقلانية” لأن الدول توجد في نظام فوضوي بطبيعته.

2.2. الأنطولوجيا المادية:
إن عالم الميتامنظار العقلاني هو عالم محسوس ومادي. بمعنى أن الواقع أو الحقيقةréalité مكونة من أجسام ملموسة وواضحة ومدركة بالحواس؛ فالوحدات الأنطولوجية في الميتامنظار العقلاني كالدولة والنظام الدولي يتم تصورها وإدراكها على أنها أشياء مستقلة، لها ديناميكيتها الخاصة وتتطور تحت تأثير الفواعل الإنسانية. وبهذا المعنى فأنطولوجيا الواقعية مادية.

كما أن تَمَثُّلَ “فوضوية النظام الدولي” قد أوجد نوعا من الفصل الجذري بين الدول. وبهذا يكون النظام الدولي أشبه بـ “لعبـة البلياردو” أين تكون الكرات (الدول) مستقلة الواحدة عن الأخرى، وتتصادم في فضاء محدود. وعليه، فالدولة العقلانية والمستقلة تشكل الوحدة الأنطولوجية المركزية داخل الميتامنظار العقلاني.

بوصفها الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية، فإن سعي الدولة للحفاظ على بقائها في بيئة عدائية لا يتأتى إلا بحيازة القوة التي هي الهدف المناسب والعقلاني والحتمي للسياسة الخارجية. كما أن استعمال صيغة الجمع للدولة [states] أي إضافة باللغة الانجليزية ،لا يفيد الجمع فحسب، بل ينطوي على عبور حد مفاهيمي. فالدول غير مسؤولة إزاء سلطة أعلى، ولذا فإن عليها أن تعتمد على نفسها Self Help بغية حماية مصالحها وتأمين استمرار بقائها.

” فالواقعية عالم تكون فيه السياسـة الدولية دائمة الاتصاف بالصـراع الفعلي أو المحتمـل بين الدول[…] ولا شيء غير الاستخدام البـارع للقوة أو التهديد باستخدامها، يتيح للدولة فرصة النجاة. ويبقى استقرار النظام رهنًا باستمرار نجاح السَّاسة في التوفيق بين مصالحهم، كما في حالة التوازن الناجح للقوة.”

كما تعمد الواقعية إلى تجزئة وفصل مختلف الفضاءات المكونة للدولة عن بعضها البعض. والفصل الأكثر أهمية هو الذي أُنشأ بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية؛ فالفضاء الداخلي يضم الحالة المدنية، أين يخضع الأفراد ل”امبراطورية القانون” بينما يشكل الفضاء الخارجي “حالة الطبيعة”[أو الفوضى] بين الدول، أين تكون الحروب محتملة.

3.2. اللاتاريخية: L’Ahistorique

يستخدم مصطلح “اللاتاريخية” Ahistorique في النظرية الواقعية للدلالة على ميل المنظرين الواقعيين ونزوعهم إلى بناء قوانين صحيحة وعامة، صالحة لأن تطبق على مر الزمان والمكان؛ أي غير خاضعة للتاريخ.

فدراسة الواقعيين للعلاقات الدولية تتم داخل إطار مرجعي محدد بدقة في الزمان والمكان. وبالتالي فهم يستخدمون المنهج التاريخي الاستقرائي- النظر في أحداث النظام الدولي لفترات معتبرة-لاستخلاص فروض عامة أو “مفاهيم فوق تاريخية”Des concepts supra historique ومحاولة برهنة صلاحيتها باستخدام المنهج التاريخي- الاستنباطي. أي مقابلة تلك المفاهيم بالوقائع التاريخية المعاصرة.
من منطلق هذه القوانين التي عادة ما يتم وصفها بالعامة واللاتاريخية، يؤكد الواقعيون على أن العالم يمكن شرحه بطريقة دورية cyclique.كما يؤكدون على أن المستقبل لن يكون مختلفا عن الماضي، وأن النظام الدولي كان وسيبقى دائما فوضويا؛

“[فـ]الدول تتنافس لأجل الرفاه و الأمن، والمنافسة كثيرا ما تقود إلى الصراع،فلماذا إذًا يجب أن يكون المستقبل مختلفا عن الماضي.”

لكن هذا الميل إلى استنباط هكذا قوانين يغفل جانبا مهما من الديناميكية المعقدة للتاريخ.

3. التحول البنيوي في نظرية العلاقات الدولية: الواقعية الجديدة وفوضوية النظام الدولي.

مع ازدياد مستوى التبعية المتبادلة المؤسسية والاقتصادية بين الدول، كان لزاما على الواقعية أن تجنح للتعديل. ويعد مؤلف “كينيث والتز”Kenneth Waltz الموسوم بـTheory of international politics [يرمز له اختصارا بـ:TIP]المحاولة النظرية الأوسع نطاقا لإعادة توطيد المنطلقات المركزية للواقعية. فالعوائق البنيوية للنظام العالمي نفسه هي التي تفسر إلى حد بعيد سلوك الدول وتفرض النتائج. وتجادل الواقعية البنيوية بأن التغيرات في سلوك الطرف الفاعل تفسر من منطلق النظام ذاته، وليس من منطلق الاختلاف في الصفات التي يمكن للفاعلين إظهارها.
3-1. مسلمات الواقعية البنيوية وتطبيقاتها التنظيـرية:

لقد أضافت نظرية “والتز”Waltz عن السياسة الدولية بعدا هاما في التحليل الواقعي. وذلك بتركيزها على الدور الحاسم لطبيعة النظام الدولي كـ”بنية مستقلة”عن البنى المركبة له في تفسير العلاقات الدولية. أي أن لهذا النظام برأي “والتز”Waltz وجود في حد ذاته.

“[...]فوحدها المقاربة التي تعزل النظام عن وحداته المكونة له الكفيلة بمنحنا نظرية للسياسة الدولية تسمح بإرساء قواعد هذا الحقل المتميز.”

كما أن وضع الدولة و تموقعها في بيئة السياسة الدولية، أهم في تفسير سلوكياتها الخارجية من ميزاتها الداخلية وتفاعلاتها مع بقية الدول الأخرى. بالإضافة إلى سماحه بتحديد الفرص المتاحة كما الضغوط والقيود والتأثيرات التي تمارس على الدول وتتحكم في تصرفاتهم. وعليه فـ”والتز”Waltz يتَّهم نظريات العلاقات الدولية التي تركز على مستويَيْ التحليل الفردي والوطني بتقديمهما تفسيرات اختزالية Reductionist كما

“يشبه النظام الدولي بالسوق، ويميز بين التغير داخل بنية النظام الدولي[أي تغير وحداته] وتغير بنية النظام الدولي ذاتها. فتغير هذه البنية هو تغير في عدد القوى الكبرى أو في قدراتها. وهكذا فإنه قبل انهيار الاتحاد السوفيتي لم تتغير بنية النظام الدولي إلا مرة واحدة خلال أربعة قرون. وذلك عندما تحول من تعدد الأقطاب إلى القطبية الثنائية بعد الحرب العالمية الثانية. ويرى والتز أن هذا التحول أثر إيجابيا في الاستقرار والسلم الدوليين، لأن نظام القطبية الثنائية يقود إليهما أكثر من نظام تعدد الأقطاب.”

وتعتبر الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي المتغير الأكثر أهمية في تفسير الظواهر الدولية، بالإضافة إلى مفهومي “توزيع القوة”و “الاختلاف الوظيفي”.

“ولا يقصد أتباع نظرية الواقعية الجديدة بذلك القول: أنه نظام مشوش بالضرورة. بل إن الفوضى تعني أنه لا توجد هناك سلطة مركزية قادرة على ضبط سلوك الدولة.”

وهي كما يصفها “روجي”Ruggie “البنية العميقة” للنظام الدولي. وعليه فالواقعية الجديدة تؤكد على بنية النظام، وأن الفوضى هي من المكونات الأساسية للنظام الدولي. وبهذا فالحروب تندلع نتيجة هذا النظام وليس نتيجة الشر في الطبيعة الإنسانية. غير أن هذا التصور لا يتفق ورؤية”هيدلي بول”Hedly Bull للنظام الدولي. فهذا الأخير

“لا يمكن ببساطة أن ندرسه حصرا في نطاق مادي على أنه بنية فوضوية لا مركزية تتنوع فيها وحدات غير متميزة وظيفيا وفق مبدأ توزيع القوة حصرا ودون سواه. ويرتبط [بـ]هذا النظام ارتباطا وثيقا ومركزيا، تركيب نشأ تاريخيا ولا يزال يتطور من أفكار التفاهم والأحكام والمعايير والتطلعات المتبادلة.”

3-2.فوضوية النظـام الدولي: رؤية نقدية.

إن الأساس النظري الذي تقوم عليه الرؤية الواقعية للنظام الدولي هو الطبيعة الفوضوية لهذا الأخير. كما أن المنطق العام في الأدبيات العقلانية للعلاقات الدولية قد شُيِّد على أساس هذا الافتراض القاعدي الذي تمَّ أخذه كحقيقة مطلقة. والذي يجد أصوله في تحليلات كل من هوبز و روسو ونيتشة وماكيافيلي، الذين حاولوا بنظرة فلسفية تحديد الطبيعة الأساسية للإنسانية.

فطبقا لهوبز، الإنسان شرير وأناني بطبعه. وعليه يعيش الأفراد فيما أسماه “حالة الطبيعة”، حيث لايوجد قانون ولا يتوافر حكم أخلاقي أو سياسي. وبالتالي فالأفراد يتصارعون دائما وأبدا لأجل البقاء. هذا الخوف من العنف والموت سيدفع بالأفراد العقلانيين إلى تفضيل العيش في ظل قوة عليا مطلقة، بدلا من العيش في عالم تعمه الفوضى، وهو ما أطلق عليه “الليفياثان”Léviathan

كما أن نظرة “هانز مورجانتو”Hans Morgenthau للسياسة الدولية على أنها “الصراع الطبيعي لأجل القوة” تعود إلى تأثره بفلسفة “نيتشه” حول طبيعة الإنسان الشغوف بالقوة وحب السيطرةAnimus Dominando
إن غياب الليفياثان على الصعيد الدولي سيجعل- بحسب الواقعيين- حالة الطبيعة تسود، أين يصبح البقاء معتمدا على حجم القوة التي تسنده .فقد كتب “والتز” Waltz يقول:

“إن بعض الدول يمكن أن تستخدم القوة مع الوقت، وعلى جميع الدول أن تستعد لفعل ذلك أيضا أو ستعيش تحت رحمة القوة العسكرية لجيرانها. إن دولة الطبيعـة هي دولة الحـرب.”

هذه الإرادة اللازمة لكل دولة بأن تصبح قوية لحماية بقائها، قد أوجدت حتما – بهذا المنطق- تصعيدا مستمرا في تملك القوة. وهو ما يعرفه الواقعيون بـ “المأزق الأمني”Security Dilemma.

من منطلق هذه الافتراضات الفلسفية الأساسية التي أُسِّست لا سيما من طرف هوبز، شيّد المنظرون العقلانيون بدورهم الإطار النظري الواقعي. لكن هوبز أو روسو مثلا لم ينقلوا حدثا تمت رؤيته، بل جاءت أعمالهم عن الليفياثان والعقد الاجتماعي كثمرة لتفسيرات و تمثُّلات نظرية. وحتى “ثوسيديدس” Thucydides في كتابه The History of Peloponisian War يقر بأن الأحداث والمحاورات التي يعرضها ما هي إلا إعادة بناء فكري تم من قبله.

وبهذا يكون منظروا الميتامنظار العقلاني قد وقعوا ضحية “انزلاق فكري” ؛فحالة الطبيعة الهوبزية ليست نتاج “أنثربولوجيا تاريخية امبريقية”،بل لا تعدو كونها محاولة فلسفية في التفكير السياسي. ويؤكد “ميكائيل ويليامز”Michael C. Williams بأن التفسيرات التقليدية لتحليلات هوبز وروسو- والمؤسِّسة حسبه للمنطق الواقعي والليبرالي- تستند إلى سوء فهم للسياقاتcontextes المكوّنة لكل تحليل وللتحليل في حد ذاته. وهذا راجع إلى سلسلة من الأخطاء المفاهيمية والمنهجية والفلسفية.

إن العقد الاجتماعي ليس حدثا بعينه. إنه محاولة تأملية لفهم ظهور الدولة. وهو ناجم عن “المعرفة العقلانية”،بيد أن منظري الميتامنظار العقلاني يجنحون إلى اعتباره تفسيرا امبريقيا لظاهرة نشوء الدولة. وعليه فمن الخطأ الجسيم اعتبار محاولة تفسيريـة فلسفية كحقيقـة امبريقيـة ثابتة ومُشاهَدة وغير قابلة للمسـاءلة. كما أن سحب الليفياثان على المستوى الدولي[الليفياثـان الدولي]غيـر ذي معـنى، لأن حالة الطبيعة الموجودة بين الأفراد لا يمكن أن تكـون مماثـلة للحالة الموجودة بين الدول. فإذا كانت كذلك، كيف نستطيـع شرح تكوين الدولة؟ بعبارة أخرى: كيف يستطيع الأفراد السمـو عن عدم الثقة والحسابات العقـلانية للمصلحة الخاصة للانضمام إلى هذا العقد. وإذا كانت الفرضية العقلانيـة وهـي أن النظام الدولي يتطابق وحالة الطبيعة الهوبزيـة ولا يستطيع السمو عن عدم الثقـة والمصالح الأنانية، فتكوين الدولة الهوبزيـة بحد ذاتهـا تكون منطقيا مستحيلـة.

وبما أن الدولة توجد في نظام من المساعدة الذاتية، وتسعى إلى “النفعية العقلانية القصوى” ،فكيف يمكن لدولة أن تثق بأخرى؟ وأي دولة يمكن أن تكون مستعدة للتعاقد أولا ؟وبالتالي يصبح الليفياثان الدولي مستحيل التحقق.

كما أن أنصار علم الاجتماع التاريخي- الذين يهتمون بكيفية كون الهياكل التي نعتبرها شيئا مسلما به بوصفها “طبيعية”، هي منتجات مجموعة من العمليات الاجتماعية المعقدة-يرفضون الرؤية البسيطة لـ “الدولة” كما يفهمها الواقعيون،

“[…]ويقوضون من حيث الأساس الفكرة القائلة: إن الدولـة هي الدولة، فالدول تختلف وليست متماثلة وظيفيا كما تصورهـا الواقعية الجديدة. ثم إن علماء الاجتماع التاريخي يبينون أنه لا يمكن أن يوجد تفريق بين المجتمعات المحلية والدوليـة، فهـي مترابطـة لا محالة. ولذا فمن غير الدقيق الإدعاء كما تفعل الواقعية الجديدة بأنه يمكن فصل بعضها عن بعض. فلا يوجد مايسمى ‘النظام الدولي’ المتكامل ذاتيا، والقادر بالتالي على ممارسة تأثير حاسم في سلوك الدول.”

ومع هذا تبقى الواقعية كمقاربة نظرية للسياسة الدولية لها تاريخها الطويل والمتميز بعرضها التفسيري المنسجم. كما أن اعتمادها “قاعدة الشح” يمثل أعظم إنجازاتها وإن كان لا يضمن تفسيرا لكل الظواهر في السياسة الدولية. غير أن بساطتها ونفعيتها جعلت الكثير من صناع السياسة والمنظرين على حد سواء يثنون عليها.