منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#50237
فالإسلام دين مبدئي شمولي لا يقبل التجزُّؤ يقوم على عقيدة متكاملة وقواعد ثابتة ومنظومة تجمع بين تصوراته لحقائق الوجود وقواعد السلوك التي ينبغي اتباعها من جهة الفرد والمجتمع على السواء وكذلك القيم الأخلاقية الموجهة لها. وإذا كان الإسلام يتسامح في الحرية العقائدية والفكرية فإنه يستهدف أيضاً إقامة مجتمع مستقر يستمد مرجعيته من قواعده العقائدية التي ارتضاها هذا المجتمع.
وحـقـاً أن الإسـلام يـتـسـامـح مـع حـريـة العقائد والأفكار {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والكثير من أعلام الفكر الغربي على مر التاريخ يضربون به المثل في هذا التسامح مقابلة مع المسيحية الغربية، ويستدلون على ذلك بالحرية التي تمتعت بها الأقليات غير المسلمة في أكناف الحضارة الإسلامية في الوقت الذي كان وجود المسلم في الدول المسيحية الغربية لا يعني سوى القتل. ولكن تسامح الإسلام هذا لا يعني قبول الإسلام بعرض عقائد مجتمعاته على الدوام على مائدة التفاوض والأخذ والرد؛ فهذا أمر يتعلق بعقيدة المجتمع ومن ثَم باستقراره، بخلاف حرية العقائد والأفكار للأفراد {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وبعيداً عن موضوع حد الردة فإن أي قوة لا تستطيع قهر أفراد هذا المجتمع المسلم نفسه على الثبات على عقائده؛ فالإسلام لا يأمر بالتفتيش عن دواخل الناس، لكن يظل هؤلاء ملتزمين بقواعد القانون العام.
وشمولية الإسلام تجعل من الإيمان بقواعـد السلوك المستـمـدة مــنه جـزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالإسلام نفسه {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فكيف يمكن إذا أمر الإسلام بتحريم الزنا على سبيل المثال أن يقال إنه من الممكن في إطار الليبرالية الإسلامية المفترضة أن نجعل الموقف من الزنا عند ارتضاء الطرفين يمكن وضعه على محك التجربة لتقدير ما يمكن أن يؤدي إليه من أضرار على المجتمع؟ بل الأمر أكبر من ذلك؛ لأنه لو كان تقدير الأغلبية رفض هذا الموضوع بناء على ما قد تتوصل إليه من أضرار اجتماعية له (ولا أدري بأي مرجعية يمكن تقدير هذه الأضرار؟) فإن هذا يكون حكم الديمقراطية. ولكن الليبرالية تتجاوز ذلك، فتذهب إلى عدم سماح الأغلبية بالتدخل في مثل هذا الأمر؛ لأنه يدخل في تقديرها في منطقة الحرية الشخصية للأفراد التي لا يسمح للمجتمع بالتدخل فيها.
والناس أحرار في أن يقولوا إن موقف الليبرالية هذا أفضل من الإسلام في هذه المسألة أو غيرها؛ فكل هذا يقبله المنطق عند الوقوف على قاعدة اللا قاعدة، ولكن أن يقال إن هذا مسموح به في إطار الإسلام من باب التسامح والحرية اللذين دعا إليهما الإسلام فإن هذا يعني أنه بالإمكان أن نمشي فوق رؤوسنا.
ومسألة القيم الرائجة ليست منقطعة الصلة بهذا السياق؛ لأن القيم الرائجة لها دورها الفعال المباشر في إنماء المجتمع نحو غاياته أو انتكاسه إلى الاتجاه المضاد. فلا يصح بأية حال من الأحوال أن أقيم ـ على سبيل المثال ـ مجتمعاً إسلامياً ويتم السماح مع ذلك بترويج القيم الاستهلاكية فيه، تلك القيم التي تجعل من جلب المال وإنفاقه إلهاً آخر يُعبد من دون الله الواحد الأحد.
الإسلام الليبرالي والجمع بين البراجماتية والليبرالية:
هناك الكثير ممن يجمع بين البراجماتية والليبرالية. فمن الناحية الفلسفية فإن بين منظِّري الليبرالية والبراجماتية الأشهرين (جون ستيورات مل) و (وليم جيمس) الكثير من النقاط المشتركة؛ خصوصاً في الجانب العملي لفلسفتيهما. فالليبرالية تريد أن تضع العقائد أو الأفكار في ساحة النقاش والحوار، والبراجماتية في الوقت نفسه لا تلتزم بأية عقيدة أو فروض نظرية مسبقة أو عقائد أو أفكار جازمة. والليبرالية تجعل من إلحاق الضرر بالآخرين هي الحدود الوحيدة التي تقيد حرية الفرد فيما يرغب فيه من منفعة. والبراجماتية تجعل من المنفعة العملية هي المعيار الوحيد لكل الحقائق. وإذا كان (ستيوارت) قد استمد أفكاره عن النفعية من أستاذه (بتنام) الذي استمدها بدوره من (أبيقور) فإن (وليم جيمس) قد استمدها في الغالب مباشرة من (أبيقور).
أما من الناحية السياسية فإذا كانت البراجماتية الأمريكية تريد توظيف الإسلام في المنطقة لمصالحها السياسية؛ فإن الخطوة الأولى لتحقيق هذه المصالح هو تذويب المبدئية الإسلامية، ومن ثَم فإن الليبرالية ـ بمناهضتها لوجود أية عقائد اجتماعية أو قواعد تشريعية وقيمية مستمدة من هذه العقائد ومطالبتها أن تكون كل هذه الأمور عرضة للنقاش والحوار والصواب والخطأ ـ تكون وسيلة رائعة لتذويب هذه المبدئية، وهو الأمر الذي يعني تحقيق تلك المصالح الأمريكية.