- الثلاثاء مايو 08, 2012 10:57 pm
#51154
د. محمد بن المختار الشنقيطي
ساد اللَّجاج وارتفع العَجَاج حول حرق حركة (إيرا) الموريتانية المناهضة للعبودية متون الفقه المالكي بطريقة استفزازية، وفي غمرة المناكفات السياسية المحيطة بالأمر ضاعت العبرة من هذه السابقة ذات الدلالة الخطيرة على مستقبل الدين وانسجام المجتمع. وهذه محاولة عجلى للغوص على شيء من الجذور الفقهية والتاريخية للمشكلة، بعيدا عن تداعياتها السياسية الظرفية.
ونرجو أن تدفع هذه الخواطر آخرين إلى مزيد من التفكير الهادئ حول هذا الموضوع وعدم اختزاله في آثاره الآنية.
فالأوْلى من حرق الكتب الفقهية باستفزاز والدفاع عنها بانفعال هو قراءتها بعيون مفتوحة، تميز بين الدين والتدين، وبين الشريعة والفقه، وبين الوحي والتاريخ. فالأمر ليس حدثا عابرا في بلد قصيَّ، وإنما هو في جوهره أمر مستقبل الإسلام في عصر الحرية.
ليس من ريب أن الشريعة "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها" (ابن القيم: إعلام الموقعين 3/3). لكن فقهنا الموروث –وهو كسب بشري لا وحيٌ منزل- ليس كله عدلا ولا رحمة ولا مصلحة ولا حكمة. بل هو حاصل تفاعل فهمِ الفقهاء للوحي مع المواريث الاجتماعية والثقافية السابقة على الإسلام، ومع واقع القهر الاجتماعي الذي ساد في عصرهم.
وقد نجح هذا الفقه في تحقيق العدل حينا، وفشل أحيانا أخرى فشلا ذريعا في الارتفاع إلى مقام المبادئ الإسلامية الجليلة، فانتهى إلى خلاصات غريبة مثل التي سنوردها في هذا المقال نقلا عن كتب السادة المالكية. ولكي يتبين الفرق الهائل بين الشريعة والفقه في هذا المضمار أقتصر على مثالين: أولهما التفاف الفقهاء على مسألة المكاتبة لتحرير الرقيق، والثاني رفضهم المساواة بين الحر والعبد في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها. وكلا الأمرين من المصائب الفقهية الكبرى في التاريخ الإسلامي.
إن المعروف تاريخيا أن أصل الاسترقاق ابتداءً هو الأسر في الحرب، وقد قال الله تعالى في أسرى الحرب: "فإما منًّا بعدُ وإما فداء" (سورة محمد، الآية 4). فهذه الآية صريحة في خيارين للتعامل مع أسير الحرب، وهما المن: أي التسريح بلا مقابل، والفداء: أي التسريح بمقابل مالي. ولم تذكر الآية الكريمة أي خيار ثالث، بل حصرت الأمر بين "إما" و"إما".
قال الشيخ رشيد رضا: "وقد خير الله تعالى أولي الأمر منا في أسرى هذه الحرب بقوله: فإما منا بعد وإما فداء، أي: فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضلا وإحسانا، وإما أن تأخذوا منهم فداء." (محمد رشيد رضا: تفسير المنار، 5/9). وقال: ”ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام؛ فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتي. ولكن الآية ليست نصا في الحصر، ولا صريحة في النهي عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية." (رشيد رضا: تفسير المنار 11|237).
والسبب في عدم القطع هذا هو أن الإسلام دين عملي، وقد ظهر في عالم امبراطوري من سماته حرب الكل على الكل. وفي هذه الحروب الدائمة يبقى آلاف النساء والأطفال في أرض المعركة أحيانا كثيرة، يواجهون أحد خيارات ثلاثة هي:
الإبادة على يد الجيش المنتصر.
أو الموت جوعا في فيافي الأرض.
أو الاسترقاق والاندماج في المجتمع المسلم.
وقد اختار الإسلام الخيار الثالث -على مرارته- لأن الخياريْن الآخريْن أسوأ بكثير. فلم يكن من السهل على أسير حرب متغرب أن يبدأ حياة جديدة، ولا كان من السهل على أرملة تائهة في أرض المعركة أن تحافظ على حياتها –فضلا عن المحافظة على عِرضها- دون اندماج في المجتمع.
لكن تشريع الإسلام لم يقف عند هذا الحد، بل جعل قضية الرق عمليا مرحلة مؤقتة، حينما وضع حرية الرقيق في يده من خلال نظام المكاتبة. والمكاتبة هي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بمقتضاه بدفع فدية على أقساط مقابل حريته، ويصبح المكاتب حرا بمجرد إبرام العقد.
فإن عجز عن الأداء لم يعد عبدا، وإنما يصبح عليه دين للسيد السابق، يجب على الدائن إنظاره فيه إلى حين ميسرة، ويجب على السلطة والمجتمع عونه بالمال حتى يتحرر من ربقة الرق. وهذا فحوى قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ." (سورة النور، الآية 33). ففي الآية أمران صريحان: يُلزم أولهما السادة بقبول عقد الحرية، ويُلزم الثاني المجتمع –ممثَّلا في الدولة- بالإسهام المالي في هذا المسار التحرري.
لقد شاع في المطارحات الإسلامية أن الإسلام دفع إلى تحرير الرقيق دفعا أخلاقيا فقط، بحضه على إعتاق الرقاب باعتبار ذلك من أعظم القربات التطوعية، لكنه لم يحرر الرقيق قانونيا بفرض إجراءات عملية ملزمة بتحريره. وهذا الرأي غير سديد، إذ هو ينطلق من التسليم بفهم فقهي شائع يناقض ظاهر كتاب الله عز وجل.
لقد جعل القرآن الكريم حرية العبد بيده حينما ألزم مُلَّاك العبيد بالمكاتبة في أمر صريح لا لبس فيه. فالمكاتبة تمنح العبد حق تحرير نفسه إن قدر، وتوجب على المجتمع عونه على ذلك إن لم يقدر، وهو ما يعني أن الإسلام لم يعلن إعتاق العبيد بإطلاق دفعة واحدة، لكنه وضع في يد كل منهم مفاتيح الانعتاق الذاتي، وألزم المجتمع والدولة بمعاضدته في ذلك. وهذا المسار كان أليق بالعصور القديمة التي لم يكن استقلال الفرد فيه عن الجماعة واعتماده على نفسه بالأمر السهل. وهو منسجم أيضا غاية الانسجام مع إلغاء الرق جملة في العصر الحديث، بقرار من السلطة العامة الممثلة للمجتمع، وذلك بعد أن استقلت ذات الفرد عن الجماعة والمجتمع استقلالا بعيدا.
لكن إحدى المصائب الفقهية في تاريخ الرق بالمجتمعات الإسلامية هي التفاف الفقهاء على نظام المكاتبة الذي جعله القرآن طريقا إلى حرية كل العبيد. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يضرب السادة الذين يأبون إعتاق عبيدهم عبر نظام المكاتبة: "عن أنس بن مالك قال أرادني سيرين على المكاتبة فأبيتُ عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فأقبل عليَّ عمر رضي الله عنه يعني بالدِّرة فقال كاتبْه." (سنن البيهقي 10|538، وصححه الألباني في إرواء الغليل 6|180). فانظر كيف هجم عمر بسوطه على رجل في مقام أنس بن مالك ليلزمه بقبول عقد المكاتبة مع عبده سيرين، ثم انظر كيف ميَّع الفقهاء بعد ذلك الأمر، فقالوا إن الأمر بالمكاتبة ليس للوجوب، بل للاستحباب أو حتى للإباحة (انظر الحطاب: مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6|344).
وبهذا الرأي المرجوح الذي يسد باب الانعتاق الذاتي قال أكثر الفقهاء. ولم يخل تاريخ هذا الدين المحفوظ بحفظ الله له من قائم بالحق يقف في وجه هذه التأويلات. وكان ابن حزم هو صاحب هذا الموقف في قضية المكاتبة، فوقف للفقهاء بالمرصاد ببيانه وبيناته، وبين أن عزوف أغلب الفقهاء هنا عن ظاهر القرآن خطيئة لا مسوغ لها. قال ابن حزم: "وأمْر الله تعالى بالمكاتبة –وبكل ما أمر به- فرضٌ، لا يحل لأحد أن يقول له الله تعالى: افعلْ، فيقول هو: لا أفعل"( (ابن حزم: المحلى 8|221).
ثم أوضح أن وجوب المكاتبة هو مذهب الصحابة، وكان الأوْلى بالفقهاء أن لا يخالفوهم فيه. قال ابن حزم: "فهذا عمَر وعثمان يريانها واجبةَ، ويُجبِر عمر عليها ويضرب في الامتناع عن ذلك، والزبير يسمع حمل عثمان الآية على الوجوب فلا ينكر على ذلك، وأنس بن مالك لما ذُكِّرَ بالآية سارع إلى الرجوع إلى المكاتبة وترك امتناعه. فصحَّ أنه لا يُعرَف في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. وخالف في ذلك الحنفيون والمالكيون والشافعيون فقالوا ليست واجبة، وموَّهوا في ذلك بتشغيبات... وهذه وساوس سخِر الشيطان بِهِم فيها، وَشَوَاذُّ سَبَّب لهم مثل هذه المضاحك في الدِّين، فَاتَّبَعوه عليها" (ابن حزم: المحلَّى 8|222-223).
أما المصيبة الفقهية الثانية فهي رفض الفقهاء للمساواة بين الحر والعبد في حق الحياة. فقد تلاعبت أقلام الفقهاء هنا تلاعبا غريبا بالنص القرآني مرة أخرى ليرسخوا التفاوت في أقدس حقوق الإنسان وآكدها، وهو حق الحياة. لقد حرم الله عز وجل قتل النفس –أي نفس- إلا قصاصا بأخرى أو فساد في الأرض، دون تمييز بين حر وعبد، ثم عمم في القصاص في القتل دون تمييز بين حر وعبد أو بين مسلم وكافر: "وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" (سورة المائدة، الآية 45)، وأوجب الدية لأهل القتيل، والكفارة على القاتل: ”وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا" (سورة النساء، الآية 92). وتوعد قاتل المؤمن بوعيد لم يرد في الكتاب مثله: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا." (سورة النساء، الآية 93).
وعمم النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ تكافئ الدماء بين المسلمين: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (رواه بسند صحيح ابن ماجة 2|895، والبيهقي 8|51، والنسائي 8|24 وغيرهم). كما صرح صلى الله عليه وسلم أن لا ميزة بين الحر والعبد في حق الحياة: فقال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدَّع عبده جدعناه." (رواه أحمد 33/296، والترمذي 4/26 وحسَّنه، والحاكم 4/408 وصحَّحه، وقال الذهبي: "على شرط البخاري." وحسَّن إسناده ابن حجر في هداية الرواة 3/380 والبغوي في شرح السنة 5/391.)
لكن الفقهاء أهدروا العموم الواضح في هذه النصوص الشرعية، وميزوا بين الحر والعبد في حق الحياة، فأعفوا السيد من أي عقوبة دنيوية إذا قتل عبده، عمدا أو خطأ، وأعفوه من القصاص ومن الدية إذا قتل عبدَ غيرِه، بل أعفوه حتى من الكفارة، ولم يلزموه بأكثر من دفع "قيمة" العبد.
وتمسك هؤلاء الفقهاء بفهم متناقض غريب لآية القصاص: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى" (سورة البقرة، الآية 178). فطبقوا التمييز على الحر والعبد، ولم يطبقوه على الذكر والأنثى، رغم أن الآية ليس فيها دلالة على تمييز أصلا، وإنما هي منع من إيغال أهل الجاهلية في الثأر وتجاوزهم قتل القاتل إلى غيره، حيث كانوا يأنفون من أخذ الثأر لأشرافهم من العبد والمرأة.
وإليكم جوانب من كلام الفقهاء يهدرون فيه حق الحياة، ونقتصر فيها على فقهاء المذهب المالكي المعروفين في بلادنا مراعاة للسياق. قال الموَّاق: "لا يُقْتَلُ حرٌّ بعبد" (المواق: التاج والإكليل لمختصر خليل، 4/602). وقال الخرشي: "لو قَتل الحرُّ المسلم عبدًا مسلما فإِنه لا قصاص عليه" (الخرشي: شرح مختصر خليل 8/3). وإذا كانت الدية واجبة في نص القرآن في القتل الخطإ دون تمييز: "فديةٌ مسلَّمة إلى أهله" (سورة النساء، الآية 92). فإن أمر العبد سهل عند فقهائنا، إذ العبد لا أهل له في نظرهم غير السيد القاتل، حتى وإن ترك خلفه أرمة ثكلى وأيتاما مكلومين، "قال ابن القاسم: وإن قتله سيده خطأ فلا شيء عليه." (ابن رشد: البيان والتحصيل 14/347).
وحتى الكفارة –التي هي حق الله تعالى وحق المساكين- تم تجاوزها بجرة قلم. قال ابن عبد البر: "والكفارة في قتل الخطأ واجبة، ولا كفارة في قتل عمد، ولا في قتل كافر ولا عبد، إلا أنه استحب مالك الكفارة في قتل العبد خطأً" (ابن عبد البر: الكافي في فقه أهل المدينة 2/1108)، وقال ابن جُزيْ: "ولا كفارة في قتل عبد ولا كافر إلا أَنها تُستَحب في قتل العبد" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 228). وقال ابن رشد: "كفارة قتل العبد ليست بواجبة" (ابن رشد: البيان والتحصيل 13/65). وقال: "الرقبة في قتل العبد تطوع، وليست واجبة" (ابن رشد: البيان والتحصيل 5/181).
وأغرب ما في الأمر هو حديث فقهائنا عن تواطئ الحر والعبد في قتل عبد. فهنا لا يكون التمييز بين شخصين ارتكبا جريرتين متمايزين، بل تمييز بين فاعليْن للفعل ذاته. قال القرافي: "وإن قتل عبدٌ وحُرٌّ عبدًا عمْدًا قُتِل الْعبدُ، وعلى الْحرِّ نصف قيمته في ماله، لأنَّ الْعاقلة لا تحمل عمْدًا، ولا يُقْتَلُ حُرٌّ بعبد" (القرافي: الذخيرة 12/274).
أما العبد المسكين، فإذا قتل حرا، فـ"لا خلاف بينهم في أن العبد يُقتَل بالحر" (ابن رشد: بداية المجتهد 4/181). بل إن العبد لا يستحق حتى إجراءات التقاضي. قال ابن جزي: "وَإِذا قتل العَبْد حرا فيسلمه سَيّده لأولياء الْمقتول فإن شاءوا قتلوه وإِن شاءوا أحيوْه" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 227). ومعنى قوله "أحيوه": استرقّوه وأبقوه على قيد الحياة. وإن المرء ليعجب من هذا المنطق ويتساءل: بأي أساس شرعي في قوانين الأرض أو السماء يتم تسليم الجاني إلى المجني عليه ليتصرف فيه كما يشاء؟! ألا يوجد قضاء ومرافعات وشهود وبينات وسلطة تنفذ أحكام القضاء؟! فما معنى استثناء العبد المتهم بالقتل من كل ذلك سوى إهدار إنسانيته؟
إن تحرر المجتمعات التي ينبثق نظام قيمها من الدين –ومنها مجتمعنا- لا بد أن ينطلق من التمييز بين العنصر الأزلي الخالد والعنصر التاريخي المؤقت من الثقافة الدينية.
وقراءة تراثنا الفقهي بعيون مفتوحة، دون إشعال أو انفعال، هو الذي سيجمعنا على كلمة سواء من الوحي الخالد، ويحررنا من الفقه الجامد الذي يقيدنا ثقافيا واجتماعيا، فهل نأخذ العبرة من الهزة الحالية، وننجح مستقبلا في تحقيق الانعتاق دون احتراق أو إحراق؟
ساد اللَّجاج وارتفع العَجَاج حول حرق حركة (إيرا) الموريتانية المناهضة للعبودية متون الفقه المالكي بطريقة استفزازية، وفي غمرة المناكفات السياسية المحيطة بالأمر ضاعت العبرة من هذه السابقة ذات الدلالة الخطيرة على مستقبل الدين وانسجام المجتمع. وهذه محاولة عجلى للغوص على شيء من الجذور الفقهية والتاريخية للمشكلة، بعيدا عن تداعياتها السياسية الظرفية.
ونرجو أن تدفع هذه الخواطر آخرين إلى مزيد من التفكير الهادئ حول هذا الموضوع وعدم اختزاله في آثاره الآنية.
فالأوْلى من حرق الكتب الفقهية باستفزاز والدفاع عنها بانفعال هو قراءتها بعيون مفتوحة، تميز بين الدين والتدين، وبين الشريعة والفقه، وبين الوحي والتاريخ. فالأمر ليس حدثا عابرا في بلد قصيَّ، وإنما هو في جوهره أمر مستقبل الإسلام في عصر الحرية.
ليس من ريب أن الشريعة "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها" (ابن القيم: إعلام الموقعين 3/3). لكن فقهنا الموروث –وهو كسب بشري لا وحيٌ منزل- ليس كله عدلا ولا رحمة ولا مصلحة ولا حكمة. بل هو حاصل تفاعل فهمِ الفقهاء للوحي مع المواريث الاجتماعية والثقافية السابقة على الإسلام، ومع واقع القهر الاجتماعي الذي ساد في عصرهم.
وقد نجح هذا الفقه في تحقيق العدل حينا، وفشل أحيانا أخرى فشلا ذريعا في الارتفاع إلى مقام المبادئ الإسلامية الجليلة، فانتهى إلى خلاصات غريبة مثل التي سنوردها في هذا المقال نقلا عن كتب السادة المالكية. ولكي يتبين الفرق الهائل بين الشريعة والفقه في هذا المضمار أقتصر على مثالين: أولهما التفاف الفقهاء على مسألة المكاتبة لتحرير الرقيق، والثاني رفضهم المساواة بين الحر والعبد في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها. وكلا الأمرين من المصائب الفقهية الكبرى في التاريخ الإسلامي.
إن المعروف تاريخيا أن أصل الاسترقاق ابتداءً هو الأسر في الحرب، وقد قال الله تعالى في أسرى الحرب: "فإما منًّا بعدُ وإما فداء" (سورة محمد، الآية 4). فهذه الآية صريحة في خيارين للتعامل مع أسير الحرب، وهما المن: أي التسريح بلا مقابل، والفداء: أي التسريح بمقابل مالي. ولم تذكر الآية الكريمة أي خيار ثالث، بل حصرت الأمر بين "إما" و"إما".
قال الشيخ رشيد رضا: "وقد خير الله تعالى أولي الأمر منا في أسرى هذه الحرب بقوله: فإما منا بعد وإما فداء، أي: فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضلا وإحسانا، وإما أن تأخذوا منهم فداء." (محمد رشيد رضا: تفسير المنار، 5/9). وقال: ”ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام؛ فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتي. ولكن الآية ليست نصا في الحصر، ولا صريحة في النهي عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية." (رشيد رضا: تفسير المنار 11|237).
والسبب في عدم القطع هذا هو أن الإسلام دين عملي، وقد ظهر في عالم امبراطوري من سماته حرب الكل على الكل. وفي هذه الحروب الدائمة يبقى آلاف النساء والأطفال في أرض المعركة أحيانا كثيرة، يواجهون أحد خيارات ثلاثة هي:
الإبادة على يد الجيش المنتصر.
أو الموت جوعا في فيافي الأرض.
أو الاسترقاق والاندماج في المجتمع المسلم.
وقد اختار الإسلام الخيار الثالث -على مرارته- لأن الخياريْن الآخريْن أسوأ بكثير. فلم يكن من السهل على أسير حرب متغرب أن يبدأ حياة جديدة، ولا كان من السهل على أرملة تائهة في أرض المعركة أن تحافظ على حياتها –فضلا عن المحافظة على عِرضها- دون اندماج في المجتمع.
لكن تشريع الإسلام لم يقف عند هذا الحد، بل جعل قضية الرق عمليا مرحلة مؤقتة، حينما وضع حرية الرقيق في يده من خلال نظام المكاتبة. والمكاتبة هي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بمقتضاه بدفع فدية على أقساط مقابل حريته، ويصبح المكاتب حرا بمجرد إبرام العقد.
فإن عجز عن الأداء لم يعد عبدا، وإنما يصبح عليه دين للسيد السابق، يجب على الدائن إنظاره فيه إلى حين ميسرة، ويجب على السلطة والمجتمع عونه بالمال حتى يتحرر من ربقة الرق. وهذا فحوى قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ." (سورة النور، الآية 33). ففي الآية أمران صريحان: يُلزم أولهما السادة بقبول عقد الحرية، ويُلزم الثاني المجتمع –ممثَّلا في الدولة- بالإسهام المالي في هذا المسار التحرري.
لقد شاع في المطارحات الإسلامية أن الإسلام دفع إلى تحرير الرقيق دفعا أخلاقيا فقط، بحضه على إعتاق الرقاب باعتبار ذلك من أعظم القربات التطوعية، لكنه لم يحرر الرقيق قانونيا بفرض إجراءات عملية ملزمة بتحريره. وهذا الرأي غير سديد، إذ هو ينطلق من التسليم بفهم فقهي شائع يناقض ظاهر كتاب الله عز وجل.
لقد جعل القرآن الكريم حرية العبد بيده حينما ألزم مُلَّاك العبيد بالمكاتبة في أمر صريح لا لبس فيه. فالمكاتبة تمنح العبد حق تحرير نفسه إن قدر، وتوجب على المجتمع عونه على ذلك إن لم يقدر، وهو ما يعني أن الإسلام لم يعلن إعتاق العبيد بإطلاق دفعة واحدة، لكنه وضع في يد كل منهم مفاتيح الانعتاق الذاتي، وألزم المجتمع والدولة بمعاضدته في ذلك. وهذا المسار كان أليق بالعصور القديمة التي لم يكن استقلال الفرد فيه عن الجماعة واعتماده على نفسه بالأمر السهل. وهو منسجم أيضا غاية الانسجام مع إلغاء الرق جملة في العصر الحديث، بقرار من السلطة العامة الممثلة للمجتمع، وذلك بعد أن استقلت ذات الفرد عن الجماعة والمجتمع استقلالا بعيدا.
لكن إحدى المصائب الفقهية في تاريخ الرق بالمجتمعات الإسلامية هي التفاف الفقهاء على نظام المكاتبة الذي جعله القرآن طريقا إلى حرية كل العبيد. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يضرب السادة الذين يأبون إعتاق عبيدهم عبر نظام المكاتبة: "عن أنس بن مالك قال أرادني سيرين على المكاتبة فأبيتُ عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فأقبل عليَّ عمر رضي الله عنه يعني بالدِّرة فقال كاتبْه." (سنن البيهقي 10|538، وصححه الألباني في إرواء الغليل 6|180). فانظر كيف هجم عمر بسوطه على رجل في مقام أنس بن مالك ليلزمه بقبول عقد المكاتبة مع عبده سيرين، ثم انظر كيف ميَّع الفقهاء بعد ذلك الأمر، فقالوا إن الأمر بالمكاتبة ليس للوجوب، بل للاستحباب أو حتى للإباحة (انظر الحطاب: مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6|344).
وبهذا الرأي المرجوح الذي يسد باب الانعتاق الذاتي قال أكثر الفقهاء. ولم يخل تاريخ هذا الدين المحفوظ بحفظ الله له من قائم بالحق يقف في وجه هذه التأويلات. وكان ابن حزم هو صاحب هذا الموقف في قضية المكاتبة، فوقف للفقهاء بالمرصاد ببيانه وبيناته، وبين أن عزوف أغلب الفقهاء هنا عن ظاهر القرآن خطيئة لا مسوغ لها. قال ابن حزم: "وأمْر الله تعالى بالمكاتبة –وبكل ما أمر به- فرضٌ، لا يحل لأحد أن يقول له الله تعالى: افعلْ، فيقول هو: لا أفعل"( (ابن حزم: المحلى 8|221).
ثم أوضح أن وجوب المكاتبة هو مذهب الصحابة، وكان الأوْلى بالفقهاء أن لا يخالفوهم فيه. قال ابن حزم: "فهذا عمَر وعثمان يريانها واجبةَ، ويُجبِر عمر عليها ويضرب في الامتناع عن ذلك، والزبير يسمع حمل عثمان الآية على الوجوب فلا ينكر على ذلك، وأنس بن مالك لما ذُكِّرَ بالآية سارع إلى الرجوع إلى المكاتبة وترك امتناعه. فصحَّ أنه لا يُعرَف في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. وخالف في ذلك الحنفيون والمالكيون والشافعيون فقالوا ليست واجبة، وموَّهوا في ذلك بتشغيبات... وهذه وساوس سخِر الشيطان بِهِم فيها، وَشَوَاذُّ سَبَّب لهم مثل هذه المضاحك في الدِّين، فَاتَّبَعوه عليها" (ابن حزم: المحلَّى 8|222-223).
أما المصيبة الفقهية الثانية فهي رفض الفقهاء للمساواة بين الحر والعبد في حق الحياة. فقد تلاعبت أقلام الفقهاء هنا تلاعبا غريبا بالنص القرآني مرة أخرى ليرسخوا التفاوت في أقدس حقوق الإنسان وآكدها، وهو حق الحياة. لقد حرم الله عز وجل قتل النفس –أي نفس- إلا قصاصا بأخرى أو فساد في الأرض، دون تمييز بين حر وعبد، ثم عمم في القصاص في القتل دون تمييز بين حر وعبد أو بين مسلم وكافر: "وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" (سورة المائدة، الآية 45)، وأوجب الدية لأهل القتيل، والكفارة على القاتل: ”وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا" (سورة النساء، الآية 92). وتوعد قاتل المؤمن بوعيد لم يرد في الكتاب مثله: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا." (سورة النساء، الآية 93).
وعمم النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ تكافئ الدماء بين المسلمين: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (رواه بسند صحيح ابن ماجة 2|895، والبيهقي 8|51، والنسائي 8|24 وغيرهم). كما صرح صلى الله عليه وسلم أن لا ميزة بين الحر والعبد في حق الحياة: فقال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدَّع عبده جدعناه." (رواه أحمد 33/296، والترمذي 4/26 وحسَّنه، والحاكم 4/408 وصحَّحه، وقال الذهبي: "على شرط البخاري." وحسَّن إسناده ابن حجر في هداية الرواة 3/380 والبغوي في شرح السنة 5/391.)
لكن الفقهاء أهدروا العموم الواضح في هذه النصوص الشرعية، وميزوا بين الحر والعبد في حق الحياة، فأعفوا السيد من أي عقوبة دنيوية إذا قتل عبده، عمدا أو خطأ، وأعفوه من القصاص ومن الدية إذا قتل عبدَ غيرِه، بل أعفوه حتى من الكفارة، ولم يلزموه بأكثر من دفع "قيمة" العبد.
وتمسك هؤلاء الفقهاء بفهم متناقض غريب لآية القصاص: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى" (سورة البقرة، الآية 178). فطبقوا التمييز على الحر والعبد، ولم يطبقوه على الذكر والأنثى، رغم أن الآية ليس فيها دلالة على تمييز أصلا، وإنما هي منع من إيغال أهل الجاهلية في الثأر وتجاوزهم قتل القاتل إلى غيره، حيث كانوا يأنفون من أخذ الثأر لأشرافهم من العبد والمرأة.
وإليكم جوانب من كلام الفقهاء يهدرون فيه حق الحياة، ونقتصر فيها على فقهاء المذهب المالكي المعروفين في بلادنا مراعاة للسياق. قال الموَّاق: "لا يُقْتَلُ حرٌّ بعبد" (المواق: التاج والإكليل لمختصر خليل، 4/602). وقال الخرشي: "لو قَتل الحرُّ المسلم عبدًا مسلما فإِنه لا قصاص عليه" (الخرشي: شرح مختصر خليل 8/3). وإذا كانت الدية واجبة في نص القرآن في القتل الخطإ دون تمييز: "فديةٌ مسلَّمة إلى أهله" (سورة النساء، الآية 92). فإن أمر العبد سهل عند فقهائنا، إذ العبد لا أهل له في نظرهم غير السيد القاتل، حتى وإن ترك خلفه أرمة ثكلى وأيتاما مكلومين، "قال ابن القاسم: وإن قتله سيده خطأ فلا شيء عليه." (ابن رشد: البيان والتحصيل 14/347).
وحتى الكفارة –التي هي حق الله تعالى وحق المساكين- تم تجاوزها بجرة قلم. قال ابن عبد البر: "والكفارة في قتل الخطأ واجبة، ولا كفارة في قتل عمد، ولا في قتل كافر ولا عبد، إلا أنه استحب مالك الكفارة في قتل العبد خطأً" (ابن عبد البر: الكافي في فقه أهل المدينة 2/1108)، وقال ابن جُزيْ: "ولا كفارة في قتل عبد ولا كافر إلا أَنها تُستَحب في قتل العبد" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 228). وقال ابن رشد: "كفارة قتل العبد ليست بواجبة" (ابن رشد: البيان والتحصيل 13/65). وقال: "الرقبة في قتل العبد تطوع، وليست واجبة" (ابن رشد: البيان والتحصيل 5/181).
وأغرب ما في الأمر هو حديث فقهائنا عن تواطئ الحر والعبد في قتل عبد. فهنا لا يكون التمييز بين شخصين ارتكبا جريرتين متمايزين، بل تمييز بين فاعليْن للفعل ذاته. قال القرافي: "وإن قتل عبدٌ وحُرٌّ عبدًا عمْدًا قُتِل الْعبدُ، وعلى الْحرِّ نصف قيمته في ماله، لأنَّ الْعاقلة لا تحمل عمْدًا، ولا يُقْتَلُ حُرٌّ بعبد" (القرافي: الذخيرة 12/274).
أما العبد المسكين، فإذا قتل حرا، فـ"لا خلاف بينهم في أن العبد يُقتَل بالحر" (ابن رشد: بداية المجتهد 4/181). بل إن العبد لا يستحق حتى إجراءات التقاضي. قال ابن جزي: "وَإِذا قتل العَبْد حرا فيسلمه سَيّده لأولياء الْمقتول فإن شاءوا قتلوه وإِن شاءوا أحيوْه" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 227). ومعنى قوله "أحيوه": استرقّوه وأبقوه على قيد الحياة. وإن المرء ليعجب من هذا المنطق ويتساءل: بأي أساس شرعي في قوانين الأرض أو السماء يتم تسليم الجاني إلى المجني عليه ليتصرف فيه كما يشاء؟! ألا يوجد قضاء ومرافعات وشهود وبينات وسلطة تنفذ أحكام القضاء؟! فما معنى استثناء العبد المتهم بالقتل من كل ذلك سوى إهدار إنسانيته؟
إن تحرر المجتمعات التي ينبثق نظام قيمها من الدين –ومنها مجتمعنا- لا بد أن ينطلق من التمييز بين العنصر الأزلي الخالد والعنصر التاريخي المؤقت من الثقافة الدينية.
وقراءة تراثنا الفقهي بعيون مفتوحة، دون إشعال أو انفعال، هو الذي سيجمعنا على كلمة سواء من الوحي الخالد، ويحررنا من الفقه الجامد الذي يقيدنا ثقافيا واجتماعيا، فهل نأخذ العبرة من الهزة الحالية، وننجح مستقبلا في تحقيق الانعتاق دون احتراق أو إحراق؟