- الخميس يونيو 21, 2012 9:18 pm
#51759
نقابة المحامين في بيروت
قضايا
معهد حقوق الانسان
عدد 7 – كانون الأول 2002
حق الدفاع ركيزة جوهرية للمحاكمة المنصفة، التي يشكل نظامها المتكامل، بما يتضمن من قواعد وضوابط لحماية حقوق المتقاضين، المعيار الأساسي لدولة القانون.
ولقد اعتبر القانون اللبناني حق الدفاع ركنا" من أركان الدعوى، اذ نصت المادة 7 من قانون أصول المحاكمات المدنية على أن الدعوى هي الحق الذي يعود لكل ذي مطلب بأن يتقدم به إلى القضاء وإنها بالنسبة إلى الخصم الحق بأن يدلي بأسباب دفاع او بدفوع ترمي إلى دحض ذلك، مؤكدة على أن حق الادعاء وحق الدفاع يكون لكل شخص طبيعي او معنوي لبناني او اجنبي.
غير أن تكريس حق الدفاع بموجب قانون عادي لا يشكل ضمانة كافية للمتقاضين، باعتبار أن أحكام القانون العادي تبقى عرضة للتغيير او التعديل بموجب قانون آخر، بحيث لا يمكن ضمانة حق الدفاع بصورة مجدية ما لم يكرس هذا الحق بموجب أحكام تتقدم على أحكام القانون العادي.
ومما يزيد من أهمية تكريس حق الدفاع بنصوص تتقدم على أحكام القانون العادي كون المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية اعتمدت مبدأ تسلسل القواعد، ففرضت صراحة على المحاكم أن تتقيد بهذا المبدأ، ونصت على انه عند تعارض أحكام المعاهدات مع أحكام القانون العادي تتقدم في مجال التطبيق الأولى على الثانية.
من هنا يقتضي البحث في ما اذا كان حق الدفاع هو مبدأ مكرس في الدستور اللبناني او في معاهدات انضم إليها لبنان، قبل القيام بعرض سريع لأهم مقومات هذا الحق.
أولا القيمة الدستورية لحق الدفاع
يشكل حق الدفاع إحدى الضمانات اللازمة التي تنص المادة 20 من الدستور اللبناني على انه يجب أن تحفظ بموجب القانون للمتقاضين.
ولقد كرس حق الدفاع صراحة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية والعشرين بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 وانضم إليه لبنان استنادا إلى القانون المنفذ بالمرسوم رقم 3855 تاريخ أول أيلول سنة 1972، اذ ان المادة 14 فقرتها 3 من العهد المذكور قد أقرت صراحة حق كل متهم بالتمتع بضمانات دنيا، أهمها إعلامه بطبيعة التهمة الموجهة اليه ومحاكمته حضوريا" وتمكينه من الدفاع عن نفسه بنفسه او بواسطة مدافع يختاره لذلك.
وغني عن البيان أن هذا النص ملزم للمحاكم اللبنانية ويتقدم في مجال التطبيق، وفقا" للمادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية، على أي نصّ ملحوظ في قانون عادي.
لا بل أكثر من ذلك، ان الفقرة "ب" من مقدمة الدستور اللبناني نصت صراحة على ان لبنان عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ مما يعني أن لبنان ملزم، استنادا" إلى مقدمة دستوره، بمواثيق الأمم المتحدة، ومن بينها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم
المتحدة.
وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى القرار الذي أصدره المجلس الدستوري اللبناني بتاريخ 24/11/1999؛ وقد اقرّ فيه بأن مقدمة الدستور تعتبر جزءا" لا يتجزأ من الدستور ولها قيمة موازية لأحكامه (قرار رقم 2/9، المجلس الدستوري 1997 – 2000، ص 417)؛ الأمر الذي يفضي على حق الدفاع طابعا" دستوريا" ويجعل منه قاعدة يتوجب على المحاكم تطبيقها وتقديمها على أي نص يتعارض معها وذلك استنادا" إلى مبدأ تسلسل القواعد المنصوص عليه في المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
كما لا بدّ من الإشارة إلى أن المجلس الدستوري قد ذهب لاحقا" إلى ابعد من ذلك، فاعتبر في قراره الصادر بتاريخ 10/5/2001 أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول 1966 مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المشار إليها آنفا") يؤلف حلقة متممة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وان هذه المواثيق الدولية المعطوف عليها صراحة
في مقدمة الدستور تؤلف مع هذه المقدمة والدستور جزءا" لا يتجزأ وتتمتع معا" بالقوة الدستورية (قرار رقم 2/2001، مجلة العدل 2001، ص 16 مع تعليق للمحامي الدكتور نصري دياب).
ثانيا" مقومات حق الدفاع
ان حق الدفاع مبدأ عام لا ينحصر تطبيقه على نوع معين من إجراءات المحاكمة، وانما يشمل جميع الدعاوى سواء أكانت مدنية ام جزائية ام إدارية، وذلك باعتبار انه ركيزة
جوهرية للمحاكمة المنصفة.
ومن الأمور المشتركة بين كافة أنواع الدعاوى دور المحامي في المساعدة على تأمين حق الدفاع؛ فمعاونة المحامي الإلزامية أمام أكثرية المحاكم، على مختلف درجاتها وأنواعها، ليست منّة منحها القانون للمحامين، بل إقرارا" منه بأهمية دورهم في تأمين حق الدفاع0 ولقد كرس المشترع أهمية هذا الدور عندما نصّ في المادة 66 من قانون تنظيم مهنة المحاماة رقم 8/70 المعدل على دور نقيب المحامين في تكليف من يرتأي من المحامين لمعاونة أصحاب العلاقة الذين منحوا المعونة القضائية او المتهمين الذين لم يعينوا محاميا" للدفاع عنهم.
من هنا ان مقتضيات المحاكمة المنصفة، وحق الدفاع هو ركيزتها الأساسية، تبقى واحدة، حتى ولو انها اختلفت في بعض أشكالها ومظاهرها بسبب خصائص كل نوع من المحاكمات.
آ- في المحاكمة المدنية
ان واجب احترام حق الدفاع مبدأ عام يقود كافة إجراءات المحاكمة المدنية اعتبارا من تقديم الدعوى ولغاية الحكم بها، فلا يتأمن حق الدفاع بصورة مجدية الا من خلال محاكمة علنية يطبق فيها مبدأ الوجاهية وتتم فيها، بحضور أطراف النزاع، مناقشة الطلبات المقدمة والأسباب المدلى بها.
وبهذا المعنى نصت المادة 372 من قانون أصول المحاكمات المدنية على انه "لا يصح على الإطلاق إصدار الحكم ضد خصم لم يجر سماعه او يمكن من إبداء دفاعه"؛ ونصت المادة 373 في فقرتها الأولى على انه "يجب على القاضي، في أي حال، أن يتقيد وان يفرض التقيد بمبدأ الوجاهية"؛ كما أشارت هذه المادة في فقرتها الثانية والثالثة على انه لا يجوز للقاضي أن يعتمد في حكمه أسبابا" ادلى بها احد الخصوم او مستندات أبرزها الا اذا أتاح للخصوم الآخرين مناقشتها وجاهيا"، وعلى انه لا يجوز للقاضي إسناد حكمه إلى أسباب أثارها من تلقاء نفسه دون أن يدعو الخصوم مقدما" إلى تقديم ملاحظاتهم بشأنها.
وتجدر الإشارة إلى انه قد تسنى للمحاكم اللبنانية تكريس هذه المبادئ منذ زمن بعيد، اذ قضت محكمة التمييز في قرار أصدرته بتاريخ 28/4/1966 بأنه من المقرّر، بحسب القواعد العامة، أن من مقتضيات حق الدفاع العائد لأحد الفرقاء في الدعوى وجوب إبلاغه او اطلاعه على كل ورقة او مستند يتذرع بها ضده، او تتخذ مدارا" للإثبات ضده في الدعوى لكي يتمكن من إبداء دفاعه بشأنها، وان كل إخلال بهذه الأصول يعتبر إخلالا" بمعاملة جوهرية تؤدي للبطلان (النشرة القضائية 1969، ص 727).
ب- في المحاكمة الجزائية
يجد حق الدفاع في المحاكمة الجزائية مجالا" رحبا" لتطبيق مقتضياته، باعتبار أن العدالة لا تتحقق في هذه المحاكمة اذا لم تتأمن "المساواة في الأسلحة" بين الاتهام وحق الدفاع.
من هنا ان واجب احترام حق الدفاع يقود ايضا" اجراءات المحاكمة الجزائية في
كافة مراحلها، ويفترض، وفقا" لما جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المشار اليه آنفا"، حق المتهم في الاطلاع على الملف وحقه في الدفاع عن نفسه وفي الاستعانة بمدافع.
1- حق الاطلاع
لا يكون حق الدفاع مؤمنا بصورة مجدية ما لم يكن للمتهم حق الاطلاع على كل ما تعلق به في الادعاء0 فلا يجوز أن تجمع الأدلة او تناقش بغياب المتهم، وانما يجب إعلامه سريعا وتفصيلا وبلغة يفهمها بطبيعة التهمة الموجهة اليه وبأسبابها، لكي يتسنى له تحضير دفاعه بروية0 وبهذا المعنى فرضت المادة /67/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على قاضي التحقيق عند مثول المدعى عليه أمامه في المرة الأولى ان يحيطه علما" بالجريمة المسندة اليه فيلخص له وقائعها ويطلعه على الأدلة المتوافرة لديه وعلى الشبهات القائمة ضده لكي يتمكن من تفنيدها والدفاع عن نفسه؛ كما فرضت على قاضي التحقيق أن ينبهه إلى حقوقه لا سيما حقه في الاستعانة بمحام واحد اثناء الاستجواب.
2- حق المتهم في الدفاع عن نفسه او في الاستعانة بمدافع
ان حق المتهم بالدفاع شخصيا عن نفسه يفترض الحق في أن تجري المحاكمة بحضوره؛ غير أن ذلك لا يحول دون حق المتهم في الصمت ورفض الاجابة على الاسئلة الموجهة اليه؛ ويستتبع ذلك حقه في طلب استجوابه وفي ابداء اقواله بكل حرية وفي عدم اتهام نفسه وفي عدم اكراهه على الشهادة ضد نفسه او الاعتراف بالجرم المنسوب اليه.
وحق الدفاع يخول المتهم الاستعانة بمدافع عنه في جميع مراحل المحاكمة. وعندما يعهد المتهم إلى محام مهمة الدفاع عنه، يجب على المحكمة ان تتيح للمحامي فرصة القيام بمهمته. وفي هذا السياق لحظت المادة /78/ من قانون اصول المحاكمات الجزائية الجديد على انه لا يجوز لقاضي التحقيق – اذ اختار المدعى عليه محاميا" للدفاع عنه – أن يستجوبه
او أن يستمر في اجراءات التحقيق الا بعد حضور المحامي واطلاعه على جميع اعمال التحقيق ما عدا إفادات الشهود وذلك تحت طائلة ابطال الاستجواب والإجراءات اللاحقة له.
وفيما يتعلق بالمحاكمة امام محكمة الجنايات، فقد أوجبت المادة 238 من قانون اصول المحاكمات الجزائية الجديد على الرئيس او المستشار المنتدب – اذا لم يكن المتهم قد عيّن محاميا" – ان يطلب من نقيب المحامين تعيين محام يتولى الدفاع عنه خلال اربع وعشرين ساعة من وقت إبلاغه او ان يتولى تعيينه بنفسه.
وتجدر الاشارة إلى انه قد تسنى لمحكمة التمييز اللبنانية، منذ زمن بعيد وأسوة بمحكمة التمييز الفرنسية، تكريس حق الدفاع في المحاكمة الجزائية، اذ قضت في قرار أصدرته منذ حوالي خمسين سنة "أن استناد الحكم موضع الطلب الحاضر إلى دليل لم يبحث علنا، فلم تتعرض له الجهة المدعية. ولم يبين المتهم رأيه فيه هو بالنتيجة إخلال بحق الدفاع وبغيره من المعاملات الأساسية التي تسبق الحكم وتمهد له والتي لا غنى عنها لإصداره. (محكمة التمييز الجزائية، قرار رقم 48 تاريخ 9/3/1953، منشور في موسوعة الاجتهادات الجزائية لقرارات وأحكام محكمة التمييز، للقاضي سمير عاليه، ص 85 رقم 30).
ج- في المحاكمة الإدارية
يحتل مبدأ احترام حقوق الدفاع مركزا" أساسيا" في قائمة المبادئ القانونية العامة، التي كرسها القضاء الإداري كمصدر للشرعية.
ويقضي هذا المبدأ بأن يكون لأي شخص الحق، قبل اتخاذ أي تدبير ضده، في أن يحاط علما" بالأمر وان يتمكن من تقديم دفاعه. ويقود حق الدفاع كافة إجراءات المحاكمة لدى القضاء الإداري، ويتفرع عنه الطابع الوجاهي لأي إجراء قضائي.
وتجدر الاشارة إلى انه قد تسنى لمجلس شورى الدولة منذ زمن بعيد تكريس حق الدفاع، كمبدأ قانوني عام، إذ قضى في قرار أصدره في 17/12/1963 "ان المحاكمة التأديبية
انما وجدت للحد من السلطة التسلسلية في التقرير، فمفروض عليها تمحيص المستندات ومناقشتها واستماع أقوال الشهود بحال وجودهم ومواجهة الواحد مع الآخر عند الاقتضاء وتمكين المحال على التأديب من مناقشتهم، وكل ذلك يتصل بحق الدفاع الذي أقرته المبادئ العامة العليا" (المجموعة الإدارية 1964، ص. 81 ؛ وبالمعنى نفسه قرار آخر لمجلس شورى الدولة في 3/11/1963، المجموعة الإدارية 1964، ص 77).
* *
ان حق الدفاع، بارتقائه إلى مرتبة المبادئ الدستورية، اصبح جزءا من "كتلة القواعد الدستورية"، التي يجب على كافة المحاكم تطبيقها. وان احترام هذا الحق، بمقوماته الأساسية في مختلف انواع المحاكمات، هو مظهر من مظاهر تمسك القضاء بدوره في حماية الحريات العامة ودليل بارز على رسوخ قيم الحرية وحقوق الانسان في وجدان المجتمع اللبناني.
المحامي رمزي جريج
قضايا
معهد حقوق الانسان
عدد 7 – كانون الأول 2002
حق الدفاع ركيزة جوهرية للمحاكمة المنصفة، التي يشكل نظامها المتكامل، بما يتضمن من قواعد وضوابط لحماية حقوق المتقاضين، المعيار الأساسي لدولة القانون.
ولقد اعتبر القانون اللبناني حق الدفاع ركنا" من أركان الدعوى، اذ نصت المادة 7 من قانون أصول المحاكمات المدنية على أن الدعوى هي الحق الذي يعود لكل ذي مطلب بأن يتقدم به إلى القضاء وإنها بالنسبة إلى الخصم الحق بأن يدلي بأسباب دفاع او بدفوع ترمي إلى دحض ذلك، مؤكدة على أن حق الادعاء وحق الدفاع يكون لكل شخص طبيعي او معنوي لبناني او اجنبي.
غير أن تكريس حق الدفاع بموجب قانون عادي لا يشكل ضمانة كافية للمتقاضين، باعتبار أن أحكام القانون العادي تبقى عرضة للتغيير او التعديل بموجب قانون آخر، بحيث لا يمكن ضمانة حق الدفاع بصورة مجدية ما لم يكرس هذا الحق بموجب أحكام تتقدم على أحكام القانون العادي.
ومما يزيد من أهمية تكريس حق الدفاع بنصوص تتقدم على أحكام القانون العادي كون المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية اعتمدت مبدأ تسلسل القواعد، ففرضت صراحة على المحاكم أن تتقيد بهذا المبدأ، ونصت على انه عند تعارض أحكام المعاهدات مع أحكام القانون العادي تتقدم في مجال التطبيق الأولى على الثانية.
من هنا يقتضي البحث في ما اذا كان حق الدفاع هو مبدأ مكرس في الدستور اللبناني او في معاهدات انضم إليها لبنان، قبل القيام بعرض سريع لأهم مقومات هذا الحق.
أولا القيمة الدستورية لحق الدفاع
يشكل حق الدفاع إحدى الضمانات اللازمة التي تنص المادة 20 من الدستور اللبناني على انه يجب أن تحفظ بموجب القانون للمتقاضين.
ولقد كرس حق الدفاع صراحة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية والعشرين بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 وانضم إليه لبنان استنادا إلى القانون المنفذ بالمرسوم رقم 3855 تاريخ أول أيلول سنة 1972، اذ ان المادة 14 فقرتها 3 من العهد المذكور قد أقرت صراحة حق كل متهم بالتمتع بضمانات دنيا، أهمها إعلامه بطبيعة التهمة الموجهة اليه ومحاكمته حضوريا" وتمكينه من الدفاع عن نفسه بنفسه او بواسطة مدافع يختاره لذلك.
وغني عن البيان أن هذا النص ملزم للمحاكم اللبنانية ويتقدم في مجال التطبيق، وفقا" للمادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية، على أي نصّ ملحوظ في قانون عادي.
لا بل أكثر من ذلك، ان الفقرة "ب" من مقدمة الدستور اللبناني نصت صراحة على ان لبنان عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ مما يعني أن لبنان ملزم، استنادا" إلى مقدمة دستوره، بمواثيق الأمم المتحدة، ومن بينها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم
المتحدة.
وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى القرار الذي أصدره المجلس الدستوري اللبناني بتاريخ 24/11/1999؛ وقد اقرّ فيه بأن مقدمة الدستور تعتبر جزءا" لا يتجزأ من الدستور ولها قيمة موازية لأحكامه (قرار رقم 2/9، المجلس الدستوري 1997 – 2000، ص 417)؛ الأمر الذي يفضي على حق الدفاع طابعا" دستوريا" ويجعل منه قاعدة يتوجب على المحاكم تطبيقها وتقديمها على أي نص يتعارض معها وذلك استنادا" إلى مبدأ تسلسل القواعد المنصوص عليه في المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
كما لا بدّ من الإشارة إلى أن المجلس الدستوري قد ذهب لاحقا" إلى ابعد من ذلك، فاعتبر في قراره الصادر بتاريخ 10/5/2001 أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول 1966 مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المشار إليها آنفا") يؤلف حلقة متممة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وان هذه المواثيق الدولية المعطوف عليها صراحة
في مقدمة الدستور تؤلف مع هذه المقدمة والدستور جزءا" لا يتجزأ وتتمتع معا" بالقوة الدستورية (قرار رقم 2/2001، مجلة العدل 2001، ص 16 مع تعليق للمحامي الدكتور نصري دياب).
ثانيا" مقومات حق الدفاع
ان حق الدفاع مبدأ عام لا ينحصر تطبيقه على نوع معين من إجراءات المحاكمة، وانما يشمل جميع الدعاوى سواء أكانت مدنية ام جزائية ام إدارية، وذلك باعتبار انه ركيزة
جوهرية للمحاكمة المنصفة.
ومن الأمور المشتركة بين كافة أنواع الدعاوى دور المحامي في المساعدة على تأمين حق الدفاع؛ فمعاونة المحامي الإلزامية أمام أكثرية المحاكم، على مختلف درجاتها وأنواعها، ليست منّة منحها القانون للمحامين، بل إقرارا" منه بأهمية دورهم في تأمين حق الدفاع0 ولقد كرس المشترع أهمية هذا الدور عندما نصّ في المادة 66 من قانون تنظيم مهنة المحاماة رقم 8/70 المعدل على دور نقيب المحامين في تكليف من يرتأي من المحامين لمعاونة أصحاب العلاقة الذين منحوا المعونة القضائية او المتهمين الذين لم يعينوا محاميا" للدفاع عنهم.
من هنا ان مقتضيات المحاكمة المنصفة، وحق الدفاع هو ركيزتها الأساسية، تبقى واحدة، حتى ولو انها اختلفت في بعض أشكالها ومظاهرها بسبب خصائص كل نوع من المحاكمات.
آ- في المحاكمة المدنية
ان واجب احترام حق الدفاع مبدأ عام يقود كافة إجراءات المحاكمة المدنية اعتبارا من تقديم الدعوى ولغاية الحكم بها، فلا يتأمن حق الدفاع بصورة مجدية الا من خلال محاكمة علنية يطبق فيها مبدأ الوجاهية وتتم فيها، بحضور أطراف النزاع، مناقشة الطلبات المقدمة والأسباب المدلى بها.
وبهذا المعنى نصت المادة 372 من قانون أصول المحاكمات المدنية على انه "لا يصح على الإطلاق إصدار الحكم ضد خصم لم يجر سماعه او يمكن من إبداء دفاعه"؛ ونصت المادة 373 في فقرتها الأولى على انه "يجب على القاضي، في أي حال، أن يتقيد وان يفرض التقيد بمبدأ الوجاهية"؛ كما أشارت هذه المادة في فقرتها الثانية والثالثة على انه لا يجوز للقاضي أن يعتمد في حكمه أسبابا" ادلى بها احد الخصوم او مستندات أبرزها الا اذا أتاح للخصوم الآخرين مناقشتها وجاهيا"، وعلى انه لا يجوز للقاضي إسناد حكمه إلى أسباب أثارها من تلقاء نفسه دون أن يدعو الخصوم مقدما" إلى تقديم ملاحظاتهم بشأنها.
وتجدر الإشارة إلى انه قد تسنى للمحاكم اللبنانية تكريس هذه المبادئ منذ زمن بعيد، اذ قضت محكمة التمييز في قرار أصدرته بتاريخ 28/4/1966 بأنه من المقرّر، بحسب القواعد العامة، أن من مقتضيات حق الدفاع العائد لأحد الفرقاء في الدعوى وجوب إبلاغه او اطلاعه على كل ورقة او مستند يتذرع بها ضده، او تتخذ مدارا" للإثبات ضده في الدعوى لكي يتمكن من إبداء دفاعه بشأنها، وان كل إخلال بهذه الأصول يعتبر إخلالا" بمعاملة جوهرية تؤدي للبطلان (النشرة القضائية 1969، ص 727).
ب- في المحاكمة الجزائية
يجد حق الدفاع في المحاكمة الجزائية مجالا" رحبا" لتطبيق مقتضياته، باعتبار أن العدالة لا تتحقق في هذه المحاكمة اذا لم تتأمن "المساواة في الأسلحة" بين الاتهام وحق الدفاع.
من هنا ان واجب احترام حق الدفاع يقود ايضا" اجراءات المحاكمة الجزائية في
كافة مراحلها، ويفترض، وفقا" لما جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المشار اليه آنفا"، حق المتهم في الاطلاع على الملف وحقه في الدفاع عن نفسه وفي الاستعانة بمدافع.
1- حق الاطلاع
لا يكون حق الدفاع مؤمنا بصورة مجدية ما لم يكن للمتهم حق الاطلاع على كل ما تعلق به في الادعاء0 فلا يجوز أن تجمع الأدلة او تناقش بغياب المتهم، وانما يجب إعلامه سريعا وتفصيلا وبلغة يفهمها بطبيعة التهمة الموجهة اليه وبأسبابها، لكي يتسنى له تحضير دفاعه بروية0 وبهذا المعنى فرضت المادة /67/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على قاضي التحقيق عند مثول المدعى عليه أمامه في المرة الأولى ان يحيطه علما" بالجريمة المسندة اليه فيلخص له وقائعها ويطلعه على الأدلة المتوافرة لديه وعلى الشبهات القائمة ضده لكي يتمكن من تفنيدها والدفاع عن نفسه؛ كما فرضت على قاضي التحقيق أن ينبهه إلى حقوقه لا سيما حقه في الاستعانة بمحام واحد اثناء الاستجواب.
2- حق المتهم في الدفاع عن نفسه او في الاستعانة بمدافع
ان حق المتهم بالدفاع شخصيا عن نفسه يفترض الحق في أن تجري المحاكمة بحضوره؛ غير أن ذلك لا يحول دون حق المتهم في الصمت ورفض الاجابة على الاسئلة الموجهة اليه؛ ويستتبع ذلك حقه في طلب استجوابه وفي ابداء اقواله بكل حرية وفي عدم اتهام نفسه وفي عدم اكراهه على الشهادة ضد نفسه او الاعتراف بالجرم المنسوب اليه.
وحق الدفاع يخول المتهم الاستعانة بمدافع عنه في جميع مراحل المحاكمة. وعندما يعهد المتهم إلى محام مهمة الدفاع عنه، يجب على المحكمة ان تتيح للمحامي فرصة القيام بمهمته. وفي هذا السياق لحظت المادة /78/ من قانون اصول المحاكمات الجزائية الجديد على انه لا يجوز لقاضي التحقيق – اذ اختار المدعى عليه محاميا" للدفاع عنه – أن يستجوبه
او أن يستمر في اجراءات التحقيق الا بعد حضور المحامي واطلاعه على جميع اعمال التحقيق ما عدا إفادات الشهود وذلك تحت طائلة ابطال الاستجواب والإجراءات اللاحقة له.
وفيما يتعلق بالمحاكمة امام محكمة الجنايات، فقد أوجبت المادة 238 من قانون اصول المحاكمات الجزائية الجديد على الرئيس او المستشار المنتدب – اذا لم يكن المتهم قد عيّن محاميا" – ان يطلب من نقيب المحامين تعيين محام يتولى الدفاع عنه خلال اربع وعشرين ساعة من وقت إبلاغه او ان يتولى تعيينه بنفسه.
وتجدر الاشارة إلى انه قد تسنى لمحكمة التمييز اللبنانية، منذ زمن بعيد وأسوة بمحكمة التمييز الفرنسية، تكريس حق الدفاع في المحاكمة الجزائية، اذ قضت في قرار أصدرته منذ حوالي خمسين سنة "أن استناد الحكم موضع الطلب الحاضر إلى دليل لم يبحث علنا، فلم تتعرض له الجهة المدعية. ولم يبين المتهم رأيه فيه هو بالنتيجة إخلال بحق الدفاع وبغيره من المعاملات الأساسية التي تسبق الحكم وتمهد له والتي لا غنى عنها لإصداره. (محكمة التمييز الجزائية، قرار رقم 48 تاريخ 9/3/1953، منشور في موسوعة الاجتهادات الجزائية لقرارات وأحكام محكمة التمييز، للقاضي سمير عاليه، ص 85 رقم 30).
ج- في المحاكمة الإدارية
يحتل مبدأ احترام حقوق الدفاع مركزا" أساسيا" في قائمة المبادئ القانونية العامة، التي كرسها القضاء الإداري كمصدر للشرعية.
ويقضي هذا المبدأ بأن يكون لأي شخص الحق، قبل اتخاذ أي تدبير ضده، في أن يحاط علما" بالأمر وان يتمكن من تقديم دفاعه. ويقود حق الدفاع كافة إجراءات المحاكمة لدى القضاء الإداري، ويتفرع عنه الطابع الوجاهي لأي إجراء قضائي.
وتجدر الاشارة إلى انه قد تسنى لمجلس شورى الدولة منذ زمن بعيد تكريس حق الدفاع، كمبدأ قانوني عام، إذ قضى في قرار أصدره في 17/12/1963 "ان المحاكمة التأديبية
انما وجدت للحد من السلطة التسلسلية في التقرير، فمفروض عليها تمحيص المستندات ومناقشتها واستماع أقوال الشهود بحال وجودهم ومواجهة الواحد مع الآخر عند الاقتضاء وتمكين المحال على التأديب من مناقشتهم، وكل ذلك يتصل بحق الدفاع الذي أقرته المبادئ العامة العليا" (المجموعة الإدارية 1964، ص. 81 ؛ وبالمعنى نفسه قرار آخر لمجلس شورى الدولة في 3/11/1963، المجموعة الإدارية 1964، ص 77).
* *
ان حق الدفاع، بارتقائه إلى مرتبة المبادئ الدستورية، اصبح جزءا من "كتلة القواعد الدستورية"، التي يجب على كافة المحاكم تطبيقها. وان احترام هذا الحق، بمقوماته الأساسية في مختلف انواع المحاكمات، هو مظهر من مظاهر تمسك القضاء بدوره في حماية الحريات العامة ودليل بارز على رسوخ قيم الحرية وحقوق الانسان في وجدان المجتمع اللبناني.
المحامي رمزي جريج