- الجمعة يونيو 29, 2012 2:30 am
#51939
إن التخطيط السليم للمعركة يتوقف إلى حد كبير على معرفة نوايا العدو وأسراره، وإن الاستخبارات هي التي تمد القائد بالأسس التي يبني عليها قراراته. ولأهمية الاستخبارات العسكرية وشمولها نجد أن أعمال وأنشطة الاستخبارات العسكرية موجودة مع الإنسان منذ القدم ولكنها أصبحت في هذه الأيام أكثر استخداما وأهمية.
الاستخبارات لغةً:
الاستخبار: السؤال عن الخبر، وعند أهل اللغة الاستفهام وطلب الفهم، وقيل: الاستخبار ما سِيق أولاً ولم يُفهم حق الفهم، وما سألت عنه ثانياً كان استفهاماً.
وفي الاصطلاح:
وردت تعريفات كثيرة عن ألاستخبارات، منها: أنها المعرفة والعلم بالمعلومات التي يجب أن تتوافر لدى كبار المسئولين من المدنيين والعسكريين، حتى يمكنهم العمل لتأمين سلامة الأمن القومي. وورد في قاموس المصطلحات الامريكية أن الاستخبارات: نتيجة جمع وتقييم وتحليل وإيضاح وتفسير كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن أي نواحي دولة أجنبية، أو لمناطق العمليات، التي تكون لازمة لزوماً مباشراً للتخطيط.
الاستخبارات نشاط قديم
إن أعمال وأنشطة الاستخبارات كانت موجودة مع الإنسان منذ القدم، مارسها في سبيل تحقيق احتياجه، وفي سبيل تحقيق حماية نفسه وقوته، وقد بذل الحكام منذ عصور عريقة في القدم جهوداً كبيرة للحصول على معلومات عن البلاد المنافسة التي تقف أمامها موقف الخصم المزاحم، وكانت جيوشها حريصة على التعرف على معلومات عن الجيوش المنافسة وعن مسارح العمليات الحربية المحتملة أو المتوقعة.
يقول (ألان دالاس) الرئيس الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية: تاريخ نشاط الاستخبارات قديم قدم المنافسة بين المجتمعات والأمم، وما دامت قد وجدت حاجة ملحة لحماية المصالح الحاسمة الاهمية لحاكم أو دولة أو حكومة، كانت هناك حاجة ملحة للاستخبارات، وهكذا كان من الممكن أن نجد في أقدم التسجيلات لحوادث التاريخ أقدم صور الاستخدام للاستخبارات.
ونذكر من نشاطات الاستخبارات ما ذكره أعظم شعراء اليونان (هوميروس) عن قصة حصان طروادة. وطروادة مدينة قديمة في الاناضول (تركيا) على مسافة (1،2كم) شرقي مدخل الدردنيل من ناحية بحر إيجه. إن هذه القصة توضح مدى الدور الذي لعبته الاستخبارات في تحقيق ما لم يستطيع تحقيقه جيش كبير.
الاستخبارات الإسلامية
أ. اهتمام الرسول وقادة الإسلام بالاستخبارات:
استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم استخباراته في غزوة بدر وفي غزوة الخندق وكان يحب أن يعرف عن عدوه أكبر قدر ممكن من المعلومات ويحرص على عدم تسرب معلومات جيشه إلى عدوه، لذا أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها.
أما خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ملئت وصاياهم إلى قادتهم بنصائح كثيرة تحض على معرفة أسرار العدو، وأهمها وصية أبي بكر الصديق لعمرو بن العاص عندما وجهه إلى ارض فلسطين، ووصية عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، وهذه الوصايا مشهورة ومدونة في كتب التاريخ.
ولقد تتبع المسلمون ما خطاه الرسول صلى الله عليه وسلم فاهتموا باستقصاء أخبار الأعداء في جميع أطوار حياتهم، وقد عني بها العباسيون عناية خاصة، فشكلوا دوائر استخبارات متعددة، منها: دائرة خاصة دعيت بالأخبار والبريد خاصة بالعيون الداخلية، وشكلوا دائرة أخرى خاصة بالتجسس الخارجي، كما شكلوا دائرة ثالثة خاصة بمكافحة جاسوسية العدو في البلاد الداخلية. وكان صلاح الدين الأيوبي يرسل سراياه لكشف أخبار عدوه من الزنكيين الذين استعدوا لطرده من دمشق، سنة 1176، وعرف أن الحلبيين ومن معهم قد بلغوا 000،20 فارس، وعرف استعداد ريتشارد الصليبي للذهاب إلى بيت المقدس سنة 1192، وكان عيون الاستخبارات لا يظهرون أنفسهم، فكان منهم الرجل والمرأة والشيخ والولد وابن السبيل والأحدب والكسيح وغيرهم... كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة متنكرين في زي التجار والأطباء والفلاحين يجمعون الأخبار ويرسلون بها إلى مراكز كانت منثورة في أطراف بلاد العدو، وكانت هذه المراكز توحد الأخبار بعد تنقيتها ثم ترسل إلى مراكز الدولة وعاصمة الخلافة. وقد استخدم في هذه الدوائر أهل الذمة، فكان اليهود يتجسسون لحساب المسلمين في الجزيرة العربية، وكان النصارى العرب أكثر الناس حباً بالجاسوسية لحساب المسلمين.
ب. منهاج استخبارات الرسول صلى الله عليه وسلم:
وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهجا لاستخباراته يعد من أحدث المناهج الاستخبارية في زماننا، ذلك أنه نهى استخباراته عند خروجهم أن يحدّث أحدهم حديثا يدل عليه، لأن فوز الاستخبارات بالمعلومات النافعة أهم في نظر القيادة الحكيمة من قتل عدة فوارس. ففي يوم الخندق أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم (حذيفة بن اليمان) عينا على قريش، ونهاه أن يحدث حديثا حتى يعلم علمهم ويأتيه من أخبارهم ففعل. وسار الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه على هذا المنهج، فتراه في غزوة بدر يأمر أصحابه بأن يقطعوا الأجراس من أعناق الإبل حتى يكون سيرهم خفية، وفي غزوة الفتح كتم الرسول أمره، وقال لعائشة: "جهزيني ولا تعلمي بذلك أحداً". ولما سار بأصحابه سأله بعضهم عن وجهته، فأجابه بقوله "حيث شاء الله".
ونهج أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نهجه فكان عمر بن الخطاب ينهى الأعاجم عن دخول المدينة خشية التجسس على المسلمين، وكان عمر يمنعهم أن يحذوا حذو المسلمين في المدينة حتى لا يلتبس الأمر على الناس. وقد تشدد عمر بن عبدالعزيز في تنفيذ قانون الفاروق على الأعاجم، وكان يتهم المتساهل فيه بالضعف.
وكان عمرو بن العاص في حروبه مع الروم يحتفظ بطائفة من استخباراته يتكلمون الرومية فكان يرسلهم إلى الروم متنكرين بينهم دون أن يحدّثوا حديثا، ويعودون إليه بأخبارهم، ثم صار القادة يهتمون باستخباراتهم اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بحيث لا يعرف بعض استخباراتهم بعضا إلا إذا اقتضى ألامر ذلك.
ت. استخبارات الاستكشاف (الاستطلاع):
ليس المقصود من بعث السرايا الاستخبارية القتال فقط، بل تارة يكون المقصود أن تستطلع خبر الأعداء فتأتي بما عزموا عليه. إن الاستخبارات الاستطلاعية من ألزم الأمور للجيش المحارب، إذا نزل بأرض العدو، إذ عليه أن يقدم بعض استخباراته ليختبر له أرض المعركة ويعرف مواقع العدو، ويجمع المعلومات الممكنة عنه، وهذا هو عمل الاستخبارات الاستطلاعية في العصور القديمة والحديثة، فهي تقوم بعمل العيون تقريبا ولكن في ميدان المعركة غالبا، فهي تباشر القتال إذا لزم الحال.
وكان الوضع عند المسلمين أنهم يختارون استخباراتهم ممن عرفوا بالثبات والذكاء وسرعة التصرف والشجاعة والنجدة، ويحملونهم على سوابق الخيل، جيدة الحوافر والضمور ويرسلونهم متخففين من كل ثقل يعيقهم لتحقيق خفة الحركة لهم.
وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المبدأ، فكان يختار لاستخباراته خالدا وأمثاله ممن عرفوا بالشجاعة والنجدة، ثم صارت تلك عادة المسلمين دائماً. كان خالد بن الوليد يوفد استخباراته أمام جيشه للاستطلاع، وقد عرف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم).
أما عدد الطليعة الاستخبارية فقد أشار إليه الهرثمي، إذ نصح ألا تقل الطليعة عن ثلاثة: أحدهم يأتي بالخبر واثنان يتقدمان إلى العدو، بحيث يكون بينهم مسافة ميل في تقدمهم ليحفظ كل واحد منهم ظهر صاحبه، ونصح لهم بأن يكون تطلعهم على المرتفعات وألا يجروا خيلهم في الارض التي يثور غبارها، وألا يدخلوا أكثر من ثلثي الطريق بينهم وبين عدوهم. وهذه ظاهرة تطورت مع حروب الفتوحات الإسلامية، وهي تشبه في جوهرها استخبارات الاستطلاع والاستكشاف التي كانت في عهد نابليون، إذ لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون الذي أخذ وتعلم درسا قاسيا من خلال حروبه. وفي العصور الحديثة نجد الدول كثيرا ما تهتم بأمر الاستخبارات الاستطلاعية سواء الجوية أو البحرية أو البرية بواسطة الأقمار الصناعية والطائرات والسفن ووسائل العصر الحديثة بغية الحصول على معلومات عن الدول الأخرى.
الاستخبارات الحديثة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ازدادت عمليات التجسس والتسلل وكان من نتيجة ذلك أن ازداد اهتمام الاستخبارات بالأمور الأمنية حتى تضع العراقيل والعوائق أمام العملاء، وتجعل مهمتهم أكثر صعوبة. ومع تطور الصناعة العسكرية واستخدام الوسائل الحديثة في الآلة الحربية أصبحت الدول تهتم بتطوير أجهزة الاستخبارات وتعتمد على الأقمار الصناعية بشكل عام، وخاصة عندما تدخل في العمليات الحربية، حيث تلتقط هذه الأقمار الصور الدقيقة التي سيتم قصفها أو مهاجمتها.
ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة أخيرا وبخاصة حربها الأخيرة على العراق حيث يروي رجل المهمات الروسي (بوريس سنوفسكي) في مقابلة له في جريدة الرياض بتاريخ 15-1-1424ه انه اطلع على تقارير تقول إن ستة أقمار صناعية تقوم بالتجسس على العراق من أهمها قمر يدعي (ميستي) المتنوع المهمات ويحمل معدات زنتها 15 طناً وكلفته وصلت إلى مليار و 400 مليون دولار وهو يقوم بمسح أجواء العراق من الجنوب وحتى الحدود مع تركيا في أقل من ساعة، يتنصت خلالها ويلتقط الصور ضمن مساحة قطرها 240 كيلومتراً ويبثها مباشرة إلى مراكز مراقبة منتشرة في خمس محطات أرضية تابعة لشبكة (إيشلون) الشهيرة بالتنصت حيث بالإمكان التعرف من محطاتها الأرضية ساعة بساعة على أي تحرك يشتبه به على الأرض. إلا أنه مع هذا التطور لم تغفل وتتجاهل هذه الدول دور رجال المخابرات والجواسيس الذين تعتمد عليها بدرجة كبيرة من أجل المحافظة على أمنها القومي.
نماذج من الاستخبارات العالمية
الاستخبارات البريطانية:
أسسها عام 1573م السير فرنسيس ولسنجام وزير الدولة والمستشار لدى الملكة إليزابيث الأولى، وأهم فروع الاستخبارات البريطانية الحديثة (إم. آي -6) تهتم بجمع المعلومات الخارجية غالباً. واستخبارات (إم. آي -5) لا علاقة لها بالخارج، وهي مسئولة عن الأمن الداخلي ومكافحة التجسس.
الاستخبارات الأمريكية:
بتاريخ 18-9-1947م أمر الرئيس الأمريكي هاري ترومن بإنشاء وكالة للاستخبارات المركزية الأمريكية (c.i.a) التي تعمل بالتعاون مع جهاز f.b.i.
الاستخبارات الفرنسية:
يعتبر (جوزيف فوشيه) وزير الشرطة في عهد نابليون بونابرت عام 1815 هو مؤسس الاستخبارات الفرنسية، لأنه أول رئيس للاستخبارات لدى الإمبراطور نابليون، وفي عام 1795م دخل في خدمة الجنرال باراس، وكان نافعاً في التجسس وتدريب المخربين، وقد شكلت فرنسا خلال الحرب 1943م جهاز استخبارات أطلقت عليه (المكتب المركزي للاستخبارات والعمل) b.c.r.a.
الاستخبارات الإسرائيلية:
إن المؤسسين لدولة إسرائيل اهتموا منذ البدء بضرورة الحفاظ على استخبارات قوية وفعالة، ولذا اهتم دافيد بن غوريون بإنشاء مصلحة الاستخبارات وإنشاء فروع للاستخبارات الإسرائيلية، كان منها:
1- فرع (شاي) وهو القسم التابع للهاغاناه وهو الجيش السري الذي أقامه المستوطنون اليهود في فلسطين، وحتى بعد اندماج الهاغاناه بالجيش الإسرائيلي الرسمي، بقيت استخبارات (شاي) تقوم بجمع المعلومات وتحليلها دون تغيير في طبيعتها.
2- فرع ش. ب. (الشين بيت)، الذي كان مسئولا بصفة رسمية عن الأمن الداخلي.
3- فرع علياه بيت، الذي أقيم في عهد الانتداب البريطاني لتهريب المهاجرين غير الشرعيين إلى فلسطين.
4- وهناك فرع رابع كان هدفه وغايته عقد الصلات مع موظفي الاستخبارات في البلاد الأخرى.
5- اقتصر الفرع الخامس على شئون البوليس.
وفي عام 1951م أعاد بن غوريون تنظيم الاستخبارات لتلافي المنافسة والحسد بينها فأبقى على فرع علياه بيت وقوة استخبارات البوليس واستخبارات ش.ب. وأقام فرعا للاستخبارات العسكرية أطلق عليه اسم أمان. وأعطيت للفرع الكبير من فروع الاستخبارات مسئوليات أوسع، وأطلق عليه لقب (الموساد).
وغاية الموساد الأساسية هي جمع المعلومات من الخارج وتحليلها، واليوم يعتبر الموساد من أنشط أربع وكالات استخبارية في العالم. والثلاثة الأخرى هي الاستخبارات الأمريكية (سي. آي. إيه) والاستخبارات السوفيتية (ك.ج.ب) والإنجليزية (دي 16).
الاستخبارات العربية:
يوجد في عدد من البلاد العربية جهازان رئيسيان للاستخبارات هما: الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة، وترتبط المخابرات العامة بأعلى سلطة سياسية في الدولة، وتهتم بجمع المعلومات السياسية والاقتصادية والنفسية عن العدو، كما تهتم بحماية أمن الدولة، ومكافحة التجسس، وتهتم الاستخبارات العسكرية غالباً بجمع المعلومات ذات الطابع العسكري، وحماية أمن القطاعات ومسارح العمليات، وترتبط برئيس الأركان العامة.
أهمية الأجهزة الاستخبارية
إن أجهزة الاستخبارات هي التي تمد القائد بالأسس التي يبني عليها قراراته. وكثيراً ما ترجع أهمية الأجهزة الاستخبارية إلى حاجة الدولة أو القائد إلى معرفة ما يخبئه له عدوه. وعبر العصور قلما تغيرت فنون التجسس الأساسية، كما بقي الجاسوس هو القاعدة لجمع المعلومات.
وإذا كان التجسس قديماً فإن جهاز الاستخبارات الحديث والمنظم والممول يعتبر ظاهرة فريدة في أيامنا الحاضرة.
وصف الكاتب هاتسون بولدوين أجهزة الاستخبارات الحديثة كما يلي:
"إن نظام الأجهزة الاستخبارية الصحيح عبارة عن منشآت ذات إمكانيات هائلة لكل من الخير والشر ويجب أن تستخدم الرجال والنساء وكل الوسائل فهي رقيقة وشرسة تتعامل مع الأبطال والخونة وهي ترشي وتغدر وتختطف وأحيانا تقتل، إنها تستغل أسمى وأدنى العواطف وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية في أعظم معانيها والنزوات حتى أحط مداركها، وهي تبرر الوسائل التي تحقق أغراضها حتى القتل".
إن فن الاستخبارات (التجسس) قديم فالمصريون كان لهم نظام تجسس منذ حوالي خمسة آلاف عام وكانوا يعتبرون التجسس على أعدائهم فناً رفيعاً ولوناً من ألوان العلم الحربي. وفي عام (1937) قال ستالين في خطابه أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي: "من أجل كسب إحدى المعارك يلزمنا عدد كبير من فيالق الجيش الأحمر، ولكن لكي يفوت العدو علينا النصر يكفي أن يكون لديه عدة جواسيس في رئاسة أركان الجيش أو إحدى الفرق. ولكي نبني جسراً كبيراً لأحد الخطوط الحديدية يلزمنا آلاف الرجال، ولكن تدميره لا يحتاج إلا لرجل واحد.
وقال ايزنهاور في حفل وضع حجر الأساس لمبنى الاستخبارات الجديد في الولايات المتحدة يوم 3 من نوفمبر سنة 1959م: "ليس هناك في سياسة الولايات المتحدة ما هو أهم من جمع المعلومات بواسطة الاستخبارات".
وجاء في تقرير لجنة الشيوخ الأمريكي الذي رفع لمجلس الشيوخ عن الأمن القومي يوم 14 يونيه عام 1960م: إن الاستخبارات هي الوسائل التي تنفذ بها السياسة القومية.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الأجهزة الاستخبارية الحديثة تمثل خط الدفاع الأول في العصر الذري. إنها تؤكد من نفسها أنها العنصر الأساسي في المحافظة على السلم والهدوء لأنها هي التي تُمِدّ حكومتها بالمعرفة المسبقة عن نوايا العدو وعن استعداداته. ومنذ بداية القرن العشرين صار للأجهزة الاستخبارية شان هام وكبير، لا سيما بعد ظهور القطار والسيارة والطائرة، ثم تطورت الوسائل إلى حد استعمال التصوير الجوي والآلات الإلكترونية فضلاً عن استخدام الأقمار الاصطناعية التي تدور حالياً في الأجواء ناقلة كل حركة وكل همس. إن الأجهزة الاستخبارية هي التي تكشف عورة الأعداء وتكافح التجسس لذا اهتم بها المسلمون حتى لم يخل مكان من صاحب خبر وبريد حتى تعرف المسلمون على أخبار أعدائهم مما ساعد على تحقيق انتصاراتهم فيما بعد.
أهمية المعلومات الاستخبارية
إن كلمة معلومات تعني مجموعة المعارف المتعلقة بالعدو وبلاده فهي الأساس الذي تبني عليه الخطط ولذا تؤكد جميع الأنظمة العسكرية أن علينا ألاّ نثق إلا بالمعلومات الأكيدة وأن نتمسك دائماً بالحذر التام. إن المعرفة تحمل في طياتها القوة، ولذلك يمكن للمعرفة السرية أن تصبح قوة سرية، إن جهازاً سرياً للاستخبارات عنده معلومات من مصادر خفية يمكن له أن يساهم بقسط كبير في عملية رسم السياسة أو في العمليات السياسية في البلاد الأخرى. إن المعلومات هي عين القيادة وأذنها إذ بها توضع الخطط السليمة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم بمعرفة خبر الأقوام المعادية.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على الوصول إلى المعلومات من الوافدين، وكان يطلب من قادته إطلاعه على تفاصيل المعلومات عن العدو وعن الأرض التي يقاتلون عليها. كتب إلى (سعد بن أبي وقاص) قبل القادسية يقول: "اكتب لنا أين بلغ جمعهم، ومن يلي مصادماتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية".
هكذا كان عمر حريصاً على تفاصيل ودقائق المعلومات عن جيشه، وعن جيش عدوه وعن طبيعة الأرض فكان يصدر قراراته العسكرية على هدى وبصيرة. و كتب المفكر الصيني القديم (صن تزو): "إذا عرفت العدو وعرفت نفسك، فليس هناك ما يدعو إلى أن تخاف نتائج مئة معركة، وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو فإنك تقاسي من هزيمة مقابل كل انتصار، وإذا لم تعرف نفسك ولم تعرف العدو فإنك أحمق وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة".
إن أفضل المعلومات للكتائب والوحدات المقاتلة هي المعلومات التي تصل إليها قبل الهجوم على العدو، وهي أكثر فائدة من خريطة كاملة لجميع مواقع العدو تنشر بعد الهجوم. إن مواجهة العدو تتطلب إعدادا خاصاً، وهذا الإعداد يقوم أساساً على حجم المعلومات التي تكون تحت بصر وفكر القائد، وحجم المعلومات يتوقف على حجم الجهد الذي يبذل في جمعها، فبمقدار حجم المعلومات وصدقها تكون دراسة القائد للموقف وتقديره ووضع خططه، ولهذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال اهتمامه بالمعلومات باختيار الشخص الموثوق به لجمعها.
ويشترط أن تكون المعلومات بالغة الدقة، وأن تصل في وقت مبكر بقدر الإمكان، لتسع الفرصة للتأكد من صحتها واستكمال معالمها، ثم تصنيفها وتحليلها واستنباط ركائز الخطة العامة للعمل، إذ إن أمن الأمة يتوقف على مدى المعرفة التي تتوافر لديها، وتوافر المعرفة المبكرة ضرورة لتجنب المفاجأة، ولمباشرة وضع الخطط على أسس سليمة.
إن الاستخبارات السوفيتية تقول: "إن المعلومات هي عين القيادة وأذنها ولا يمكن القيام بخطوة دون معلومات".
ولا تزال كتب التاريخ تشدد على الإشارة إلى (رئيس أركان نابليون الماريشال لويس ألكسندر برتييه) الذي كان لا يخوض المعارك إلا بعد جمع المعلومات الكافية عن جيوش الأعداء.
ويتضح أن للمعلومات العسكرية التي تجمعها الاستخبارات أثناء الحروب أهمية كبيرة، وأثرا كبيراً على سير المعارك. ويمكننا القول بإيجاز إن المعرفة في لغة الاستخبارات تحقق غرضين:
*الأول: تستعمل لغرض وقائي، أو دفاعي، لأنها تنذرنا مسبقاً بما قد تدبره الدول الأخرى للإضرار بالمصالح الوطنية.
*الثاني: أنها تصلح للاستعمال الايجابي لأنها تمهد الطريق لسياستنا الخارجية أو استراتيجيتنا العظمى.
مدى حاجة الدولة إلى الاستخبارات
إن مستقبل أي أمة أو دولة أحياناً يتوقف على دقة وكمال المعلومات التي تصل إليها الاستخبارات والتي تنير الطريق أمام القرارات العليا للدولة. روي عن أبي جعفر المنصور أنه قال لأصحابه:
"ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعف منهم، وهم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم، أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، ثم عض على إصبعه ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة آه، آه، فقيل: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة".
وقال الجنرال إيزنهاور عام 1959:
"ليس في سياسة الولايات المتحدة ما هو أهم من جمع المعلومات بواسطة الاستخبارات. إن الولايات المتحدة تنفق ملايين الدولارات على أعمال الاستخبارات والتقصي لجمع المعلومات وإطلاق البالونات في الأجواء والهيمنة على الإذاعات ورشوة الأجانب لجمع المعلومات والتقاط الصور الفوتوغرافية لأراضي الدول الاشتراكية، وتنظيم الرحلات الجوية للتجسس والاستطلاع، وفك الرموز والشفرة الخاصة بالدولة الأخرى".
وهكذا يصبح من الضروري أن يكون لكل دولة إدارة للاستخبارات كإحدى المؤسسات الهامة فيها، وتهتم معظم الدول بتنظيمها وتوفير الإمكانيات اللازمة لها، وتعمل على تطويرها حتى تتوافر لها القدرة على تحقيق أهدافها على أكمل وجه.
وترتبط إدارة الاستخبارات بسياسة وأهداف الدولة التابعة لها، وتتفاوت الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتق إدارة الاستخبارات تبعاً لمكانه الدولة وعلاقاتها بأعضاء المجتمع الدولي. وغالباً ما تهيئ الدول وقواتها المسلحة أحسن ما عندها من إمكانيات بشرية ومادية لدعم الأجهزة الاستخبارية فيها، لأنها العين المبصرة التي تلقي بأضوائها في جميع الأوقات وعلى جميع الاتجاهات على الأعداء والأعداء المحتملين، وبنفس القدر فهي الفكر الذي يحلل المواقف المحيطة والبعيدة خيراً أم شراً، ويقدمها للمسئولين لاتخاذ قرار ما.
شمول الاستخبارات
إن الاختراعات الحديثة، وتطور وسائل النقل والاتصال جعلت أجهزة الاستخبارات تعمل على نطاق أوسع وأشمل مما كانت عليه، إن الاستخبارات كانت في الأساس عسكرية، إذ كانت تهتم بالاستطلاع قبل المعركة، لكن بعد الحرب العالمية الأولى والثانية شملت الاستخبارات أكثر حقول الحياة، إذ صارت تهتم بالاختراعات الجديدة وبتمديدات المياه، وبشق الطرقات، وبمواقع مولدات الكهرباء... وباختصار صارت الاستخبارات تريد أن تعرف كل شيء عن كل الناس في كل ظرف وتاريخ.
اتسعت مهمة مصلحة الاستخبارات لاتساع حقل نشاطها ليشمل جمع المعلومات عن كل طاقات الأمة، أو الأمم المعادية، أو التي يحتمل الدخول معها في صراع مقبل، أو المحايدة، ولقد جاء هذا الاتساع من اتساع مفهوم الحرب الشاملة التي تؤثر على كل خلية من خلايا المجتمع، وتتأثر بكل نشاط تمارسه هذه الخلية على مختلف الأصعدة، وهنا لم تعد مصلحة الاستخبارات مرتبطة برئيس الأركان العامة بل برئيس مجلس الوزراء أحيانا.
وقد أخذت مصلحة الاستخبارات أهمية وشمولية، خاصة في مطلع القرن العشرين، وغدت مرتبطة بالقيادات العليا، وشملت مهماتها تفصيلات عن النظريات العسكرية، وعن البناء الحربي للعدو، وخططه الحربية، وما يطلق عليه (تنظيم القوات للمعركة) التي بدورها تشمل المعلومات العامة عن أماكن الوحدات البرية والبحرية والجوية والبيانات الفرعية كأسماء الضباط ورتبهم والإشارات المميزة للوحدات...
إن الاستخبارات تشكل عنصراً هاماً من عناصر تشكيل قوات الدفاع، في جميع الدول. ويوضع جزء هام من الاستخبارات في أيدي القوات المسلحة، ومرد ذلك أن الغالبية من أسرار الدولة التي ينبغي حمايتها من التجسس أو المعرضة للتجسس، لها علاقة مع الدولة. على أن القول بأن الاستخبارات منظمة خاصة بالقوات المسلحة لا يعني وجوب أن يكون أعضاء الاستخبارات من العسكريين، ولكن إذا ما كان الأمر يتعلق بأفراد مراكز الخدمة فإن هؤلاء يتكونون من جنود وموظفين حكوميين يعملون في القوات المسلحة، ومن موظفين مدنيين يعملون في هذه القوات، ولكن يخضع هؤلاء جميعاً لسلطة القيادة العليا خضوعاً كاملاً أو إلى حد بعيد.
الاستخبارات التكتيكية والاستراتيجية
إن الاستخبارات أو المخابرات إما تكتيكية Tactical أو استراتيجية Strategic وتختلف مهام المخابرات باختلاف الموضوعات التي تعالجها وهي متعددة سواء على المستوى التكتيكي أو الاستراتيجي.
الاستخبارات التكتيكية:
هي جمع المعلومات على المستوى التكتيكي حول قوات العدو في منطقة محددة، أو حول المنطقة ذاتها، وتحليل هذه المعلومات. فالاستخبارات التكتيكية محددة بوضع آني معين، وأي استخبارات لها أهداف أبعد من هذه تدخل في نطاق الاستخبارات الاستراتيجية. ولتعبير (استخبارات قتالية) المعنى ذاته إلا أنها تختلف أحيانا في أنها قد تنفذ من قبل وحدة مقاتلة عاملة على مستوى لواء أو فرقة، بدلاً من أن تقوم بذلك قيادات أعلى بمستوى قيادة منطقة.
والاستخبارات التكتيكية تتعلق بالمعلومات ذات الطابع المحلي المحدود أو ذات طابع التخصص في ناحية محددة، وهي المعلومات التي يمكن أن تستخدم لدعم وتيسير حل مشكلة مخابرات معينة، وتتعلق بصفة أساسية بوقائع ومعلومات من نوع أقل، وتكون فقط عبارة عن مظهر محدود من عملية المخابرات الشاملة، وهي في زمن الحرب تسمى (بمخابرات المعركة) وتشمل كل المعلومات الخاصة بالعدو، بالمعنى التكتيكي، وهي بصفة عامة تتعلق بكل مظهر عسكري للعدو أو للعدو المحتمل، وبأي نوع من المعلومات التي لها أثر مباشر على سير المعركة، أما في زمن السلم فتكون المعلومات التكتيكية لازمة باستمرار لرؤساء المنظمات السياسية والدبلوماسية، وهي في زمن الحرب معلومات ضرورية لجميع القادة على مختلف درجات السلم العسكري.
الاستخبارات الاستراتيجية:
هي جمع المعلومات المتعلقة بشؤون عسكرية أو أمنية وتنسيقها وتحليلها، وتوزيعها على المستوى الاستراتيجي ومستوى الدولة. وهدف هذا النوع من النشاطات هو معرفة قدرات دولة أخرى والتكهن بنواياها، للمساعدة في تخطيط المسائل المتعلقة باستراتيجية الدولة صاحبة النشاط. وفي حالة الدول الكبرى، فان الاستخبارات الاستراتيجية تعنى بجمع المعلومات عن الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية (الديموغرافية ) والعلمية ونتائج هذه الاتجاهات وتأثيرها على القدرات العسكرية والسياسات المتبعة. فالاستخبارات الاستراتيجية تتعلق بالمعلومات الخاصة بالمسائل الكبرى مثل المعلومات عن نوايا الدول الأجنبية أو العدو وإمكانياتها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعنوية ومواطن الضعف والقوة لديها. وتُهيأ هذه المعلومات لتقديمها إلى من يحتاجونها وهم أولئك الذين يتولون التخطيط لوضع سياسة الأمن اللازمة للدولة في وقت السلم، كما تكون هي أساس التخطيط للعمليات العسكرية في وقت الحرب.
ولكي نفرق بين الاستخبارات الاستراتيجية والتكتيكية، نذكر حرب السويس عام 1956م فإن المعلومات التي كان لها أثرها على قرار بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بالقيام بعمليات تعرضية ضد مصر يمكن أن تسمى استراتيجية، أما المعلومات التي استخدمت في تحضير الحملة اللازمة للغزو والخطط التي استخدمت في التنفيذ فهي تكتيكية.
الخلاصة:
مما تقدم نستطيع القول إن أعمال وأنشطة الاستخبارات موجودة مع الإنسان منذ القدم. لقد كان هناك استخبارات قبل وبعد الميلاد، وعند العرب، وقبل وبعد الإسلام، وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الاهتمام بهذا الجانب وحذا على نهجه أصحابه من بعده والتابعون. وكان جديراً بنا كأمة إسلامية أن نطور نهج رسولنا وأصحابه في هذا الجانب، ونهتم به كثير الاهتمام، ولكننا في فترة من الزمن غفلنا عن ذلك، وبدأ أعداء هذه الأمة يطورون ويحدثون أجهزة الاستخبارات لديهم، إلى أن أصبحت أجهزة استخباراتهم في وقتنا الحاضر تتولى إدارة العالم، وتستطيع أن تحصل على كل ما تريده من معلومات وفي أي اتجاهات، إلى أن أصبحوا يعرفون عنا ربما أكثر مما نعرفه عن أنفسنا.
ولننظر إلى جهاز الاستخبارات في الولايات المتحدة (CIA) إنه يرسم سياسة الولايات المتحدة في الخارج وعلى المدى البعيد، ويوجه هذه السياسة في سبيل تحقيق المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، بل إنه يشعل الفتن بين الشعوب والدول والطوائف، ويسعى إلى إشعال الحروب هنا وهناك، بل يدخلها في الحروب سواء عسكريا أو سياسيا... كل هذا في سبيل تحقيق المصالح الاستراتيجية.
وننظر أيضاً إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي المعروف باسم (الموساد) الذي نظم وبدأ تطويره من عام (1951م)، فقد أصبح في هذا الوقت يفوق أجهزة الاستخبارات الحديثة في جميع الدول، بل إن بعض الدول العظمى تستعين وتتعاون مع هذا الجهاز، لما يتوافر له من إمكانيات وقدرات فائقة في سبيل الحصول على معلومات استراتيجية لتحقيق مصالحها.
نعم لقد استطاعت الدول العربية منع هذا الجهاز من اختراقها عند الإعداد لحرب (رمضان 1973م) وذلك بفضل الله ثم بفضل التخطيط السليم وخاصة فيما يتعلق بالسرية والخداع.
والمطلوب منا وفي كل دولة إسلامية، في ظل الظروف الراهنة، وحالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، أن نسعى جاهدين إلى تحديث وتطوير أجهزة الاستخبارات لدينا، وان نوفر لها كل الإمكانيات اللازمة التي تسمح لها بالقيام بجميع أدوارها الشاملة وذلك في سبيل تحقيق المصالح الوطنية العليا.
الاستخبارات لغةً:
الاستخبار: السؤال عن الخبر، وعند أهل اللغة الاستفهام وطلب الفهم، وقيل: الاستخبار ما سِيق أولاً ولم يُفهم حق الفهم، وما سألت عنه ثانياً كان استفهاماً.
وفي الاصطلاح:
وردت تعريفات كثيرة عن ألاستخبارات، منها: أنها المعرفة والعلم بالمعلومات التي يجب أن تتوافر لدى كبار المسئولين من المدنيين والعسكريين، حتى يمكنهم العمل لتأمين سلامة الأمن القومي. وورد في قاموس المصطلحات الامريكية أن الاستخبارات: نتيجة جمع وتقييم وتحليل وإيضاح وتفسير كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن أي نواحي دولة أجنبية، أو لمناطق العمليات، التي تكون لازمة لزوماً مباشراً للتخطيط.
الاستخبارات نشاط قديم
إن أعمال وأنشطة الاستخبارات كانت موجودة مع الإنسان منذ القدم، مارسها في سبيل تحقيق احتياجه، وفي سبيل تحقيق حماية نفسه وقوته، وقد بذل الحكام منذ عصور عريقة في القدم جهوداً كبيرة للحصول على معلومات عن البلاد المنافسة التي تقف أمامها موقف الخصم المزاحم، وكانت جيوشها حريصة على التعرف على معلومات عن الجيوش المنافسة وعن مسارح العمليات الحربية المحتملة أو المتوقعة.
يقول (ألان دالاس) الرئيس الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية: تاريخ نشاط الاستخبارات قديم قدم المنافسة بين المجتمعات والأمم، وما دامت قد وجدت حاجة ملحة لحماية المصالح الحاسمة الاهمية لحاكم أو دولة أو حكومة، كانت هناك حاجة ملحة للاستخبارات، وهكذا كان من الممكن أن نجد في أقدم التسجيلات لحوادث التاريخ أقدم صور الاستخدام للاستخبارات.
ونذكر من نشاطات الاستخبارات ما ذكره أعظم شعراء اليونان (هوميروس) عن قصة حصان طروادة. وطروادة مدينة قديمة في الاناضول (تركيا) على مسافة (1،2كم) شرقي مدخل الدردنيل من ناحية بحر إيجه. إن هذه القصة توضح مدى الدور الذي لعبته الاستخبارات في تحقيق ما لم يستطيع تحقيقه جيش كبير.
الاستخبارات الإسلامية
أ. اهتمام الرسول وقادة الإسلام بالاستخبارات:
استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم استخباراته في غزوة بدر وفي غزوة الخندق وكان يحب أن يعرف عن عدوه أكبر قدر ممكن من المعلومات ويحرص على عدم تسرب معلومات جيشه إلى عدوه، لذا أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها.
أما خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ملئت وصاياهم إلى قادتهم بنصائح كثيرة تحض على معرفة أسرار العدو، وأهمها وصية أبي بكر الصديق لعمرو بن العاص عندما وجهه إلى ارض فلسطين، ووصية عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، وهذه الوصايا مشهورة ومدونة في كتب التاريخ.
ولقد تتبع المسلمون ما خطاه الرسول صلى الله عليه وسلم فاهتموا باستقصاء أخبار الأعداء في جميع أطوار حياتهم، وقد عني بها العباسيون عناية خاصة، فشكلوا دوائر استخبارات متعددة، منها: دائرة خاصة دعيت بالأخبار والبريد خاصة بالعيون الداخلية، وشكلوا دائرة أخرى خاصة بالتجسس الخارجي، كما شكلوا دائرة ثالثة خاصة بمكافحة جاسوسية العدو في البلاد الداخلية. وكان صلاح الدين الأيوبي يرسل سراياه لكشف أخبار عدوه من الزنكيين الذين استعدوا لطرده من دمشق، سنة 1176، وعرف أن الحلبيين ومن معهم قد بلغوا 000،20 فارس، وعرف استعداد ريتشارد الصليبي للذهاب إلى بيت المقدس سنة 1192، وكان عيون الاستخبارات لا يظهرون أنفسهم، فكان منهم الرجل والمرأة والشيخ والولد وابن السبيل والأحدب والكسيح وغيرهم... كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة متنكرين في زي التجار والأطباء والفلاحين يجمعون الأخبار ويرسلون بها إلى مراكز كانت منثورة في أطراف بلاد العدو، وكانت هذه المراكز توحد الأخبار بعد تنقيتها ثم ترسل إلى مراكز الدولة وعاصمة الخلافة. وقد استخدم في هذه الدوائر أهل الذمة، فكان اليهود يتجسسون لحساب المسلمين في الجزيرة العربية، وكان النصارى العرب أكثر الناس حباً بالجاسوسية لحساب المسلمين.
ب. منهاج استخبارات الرسول صلى الله عليه وسلم:
وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهجا لاستخباراته يعد من أحدث المناهج الاستخبارية في زماننا، ذلك أنه نهى استخباراته عند خروجهم أن يحدّث أحدهم حديثا يدل عليه، لأن فوز الاستخبارات بالمعلومات النافعة أهم في نظر القيادة الحكيمة من قتل عدة فوارس. ففي يوم الخندق أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم (حذيفة بن اليمان) عينا على قريش، ونهاه أن يحدث حديثا حتى يعلم علمهم ويأتيه من أخبارهم ففعل. وسار الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه على هذا المنهج، فتراه في غزوة بدر يأمر أصحابه بأن يقطعوا الأجراس من أعناق الإبل حتى يكون سيرهم خفية، وفي غزوة الفتح كتم الرسول أمره، وقال لعائشة: "جهزيني ولا تعلمي بذلك أحداً". ولما سار بأصحابه سأله بعضهم عن وجهته، فأجابه بقوله "حيث شاء الله".
ونهج أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نهجه فكان عمر بن الخطاب ينهى الأعاجم عن دخول المدينة خشية التجسس على المسلمين، وكان عمر يمنعهم أن يحذوا حذو المسلمين في المدينة حتى لا يلتبس الأمر على الناس. وقد تشدد عمر بن عبدالعزيز في تنفيذ قانون الفاروق على الأعاجم، وكان يتهم المتساهل فيه بالضعف.
وكان عمرو بن العاص في حروبه مع الروم يحتفظ بطائفة من استخباراته يتكلمون الرومية فكان يرسلهم إلى الروم متنكرين بينهم دون أن يحدّثوا حديثا، ويعودون إليه بأخبارهم، ثم صار القادة يهتمون باستخباراتهم اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بحيث لا يعرف بعض استخباراتهم بعضا إلا إذا اقتضى ألامر ذلك.
ت. استخبارات الاستكشاف (الاستطلاع):
ليس المقصود من بعث السرايا الاستخبارية القتال فقط، بل تارة يكون المقصود أن تستطلع خبر الأعداء فتأتي بما عزموا عليه. إن الاستخبارات الاستطلاعية من ألزم الأمور للجيش المحارب، إذا نزل بأرض العدو، إذ عليه أن يقدم بعض استخباراته ليختبر له أرض المعركة ويعرف مواقع العدو، ويجمع المعلومات الممكنة عنه، وهذا هو عمل الاستخبارات الاستطلاعية في العصور القديمة والحديثة، فهي تقوم بعمل العيون تقريبا ولكن في ميدان المعركة غالبا، فهي تباشر القتال إذا لزم الحال.
وكان الوضع عند المسلمين أنهم يختارون استخباراتهم ممن عرفوا بالثبات والذكاء وسرعة التصرف والشجاعة والنجدة، ويحملونهم على سوابق الخيل، جيدة الحوافر والضمور ويرسلونهم متخففين من كل ثقل يعيقهم لتحقيق خفة الحركة لهم.
وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المبدأ، فكان يختار لاستخباراته خالدا وأمثاله ممن عرفوا بالشجاعة والنجدة، ثم صارت تلك عادة المسلمين دائماً. كان خالد بن الوليد يوفد استخباراته أمام جيشه للاستطلاع، وقد عرف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم).
أما عدد الطليعة الاستخبارية فقد أشار إليه الهرثمي، إذ نصح ألا تقل الطليعة عن ثلاثة: أحدهم يأتي بالخبر واثنان يتقدمان إلى العدو، بحيث يكون بينهم مسافة ميل في تقدمهم ليحفظ كل واحد منهم ظهر صاحبه، ونصح لهم بأن يكون تطلعهم على المرتفعات وألا يجروا خيلهم في الارض التي يثور غبارها، وألا يدخلوا أكثر من ثلثي الطريق بينهم وبين عدوهم. وهذه ظاهرة تطورت مع حروب الفتوحات الإسلامية، وهي تشبه في جوهرها استخبارات الاستطلاع والاستكشاف التي كانت في عهد نابليون، إذ لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون الذي أخذ وتعلم درسا قاسيا من خلال حروبه. وفي العصور الحديثة نجد الدول كثيرا ما تهتم بأمر الاستخبارات الاستطلاعية سواء الجوية أو البحرية أو البرية بواسطة الأقمار الصناعية والطائرات والسفن ووسائل العصر الحديثة بغية الحصول على معلومات عن الدول الأخرى.
الاستخبارات الحديثة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ازدادت عمليات التجسس والتسلل وكان من نتيجة ذلك أن ازداد اهتمام الاستخبارات بالأمور الأمنية حتى تضع العراقيل والعوائق أمام العملاء، وتجعل مهمتهم أكثر صعوبة. ومع تطور الصناعة العسكرية واستخدام الوسائل الحديثة في الآلة الحربية أصبحت الدول تهتم بتطوير أجهزة الاستخبارات وتعتمد على الأقمار الصناعية بشكل عام، وخاصة عندما تدخل في العمليات الحربية، حيث تلتقط هذه الأقمار الصور الدقيقة التي سيتم قصفها أو مهاجمتها.
ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة أخيرا وبخاصة حربها الأخيرة على العراق حيث يروي رجل المهمات الروسي (بوريس سنوفسكي) في مقابلة له في جريدة الرياض بتاريخ 15-1-1424ه انه اطلع على تقارير تقول إن ستة أقمار صناعية تقوم بالتجسس على العراق من أهمها قمر يدعي (ميستي) المتنوع المهمات ويحمل معدات زنتها 15 طناً وكلفته وصلت إلى مليار و 400 مليون دولار وهو يقوم بمسح أجواء العراق من الجنوب وحتى الحدود مع تركيا في أقل من ساعة، يتنصت خلالها ويلتقط الصور ضمن مساحة قطرها 240 كيلومتراً ويبثها مباشرة إلى مراكز مراقبة منتشرة في خمس محطات أرضية تابعة لشبكة (إيشلون) الشهيرة بالتنصت حيث بالإمكان التعرف من محطاتها الأرضية ساعة بساعة على أي تحرك يشتبه به على الأرض. إلا أنه مع هذا التطور لم تغفل وتتجاهل هذه الدول دور رجال المخابرات والجواسيس الذين تعتمد عليها بدرجة كبيرة من أجل المحافظة على أمنها القومي.
نماذج من الاستخبارات العالمية
الاستخبارات البريطانية:
أسسها عام 1573م السير فرنسيس ولسنجام وزير الدولة والمستشار لدى الملكة إليزابيث الأولى، وأهم فروع الاستخبارات البريطانية الحديثة (إم. آي -6) تهتم بجمع المعلومات الخارجية غالباً. واستخبارات (إم. آي -5) لا علاقة لها بالخارج، وهي مسئولة عن الأمن الداخلي ومكافحة التجسس.
الاستخبارات الأمريكية:
بتاريخ 18-9-1947م أمر الرئيس الأمريكي هاري ترومن بإنشاء وكالة للاستخبارات المركزية الأمريكية (c.i.a) التي تعمل بالتعاون مع جهاز f.b.i.
الاستخبارات الفرنسية:
يعتبر (جوزيف فوشيه) وزير الشرطة في عهد نابليون بونابرت عام 1815 هو مؤسس الاستخبارات الفرنسية، لأنه أول رئيس للاستخبارات لدى الإمبراطور نابليون، وفي عام 1795م دخل في خدمة الجنرال باراس، وكان نافعاً في التجسس وتدريب المخربين، وقد شكلت فرنسا خلال الحرب 1943م جهاز استخبارات أطلقت عليه (المكتب المركزي للاستخبارات والعمل) b.c.r.a.
الاستخبارات الإسرائيلية:
إن المؤسسين لدولة إسرائيل اهتموا منذ البدء بضرورة الحفاظ على استخبارات قوية وفعالة، ولذا اهتم دافيد بن غوريون بإنشاء مصلحة الاستخبارات وإنشاء فروع للاستخبارات الإسرائيلية، كان منها:
1- فرع (شاي) وهو القسم التابع للهاغاناه وهو الجيش السري الذي أقامه المستوطنون اليهود في فلسطين، وحتى بعد اندماج الهاغاناه بالجيش الإسرائيلي الرسمي، بقيت استخبارات (شاي) تقوم بجمع المعلومات وتحليلها دون تغيير في طبيعتها.
2- فرع ش. ب. (الشين بيت)، الذي كان مسئولا بصفة رسمية عن الأمن الداخلي.
3- فرع علياه بيت، الذي أقيم في عهد الانتداب البريطاني لتهريب المهاجرين غير الشرعيين إلى فلسطين.
4- وهناك فرع رابع كان هدفه وغايته عقد الصلات مع موظفي الاستخبارات في البلاد الأخرى.
5- اقتصر الفرع الخامس على شئون البوليس.
وفي عام 1951م أعاد بن غوريون تنظيم الاستخبارات لتلافي المنافسة والحسد بينها فأبقى على فرع علياه بيت وقوة استخبارات البوليس واستخبارات ش.ب. وأقام فرعا للاستخبارات العسكرية أطلق عليه اسم أمان. وأعطيت للفرع الكبير من فروع الاستخبارات مسئوليات أوسع، وأطلق عليه لقب (الموساد).
وغاية الموساد الأساسية هي جمع المعلومات من الخارج وتحليلها، واليوم يعتبر الموساد من أنشط أربع وكالات استخبارية في العالم. والثلاثة الأخرى هي الاستخبارات الأمريكية (سي. آي. إيه) والاستخبارات السوفيتية (ك.ج.ب) والإنجليزية (دي 16).
الاستخبارات العربية:
يوجد في عدد من البلاد العربية جهازان رئيسيان للاستخبارات هما: الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة، وترتبط المخابرات العامة بأعلى سلطة سياسية في الدولة، وتهتم بجمع المعلومات السياسية والاقتصادية والنفسية عن العدو، كما تهتم بحماية أمن الدولة، ومكافحة التجسس، وتهتم الاستخبارات العسكرية غالباً بجمع المعلومات ذات الطابع العسكري، وحماية أمن القطاعات ومسارح العمليات، وترتبط برئيس الأركان العامة.
أهمية الأجهزة الاستخبارية
إن أجهزة الاستخبارات هي التي تمد القائد بالأسس التي يبني عليها قراراته. وكثيراً ما ترجع أهمية الأجهزة الاستخبارية إلى حاجة الدولة أو القائد إلى معرفة ما يخبئه له عدوه. وعبر العصور قلما تغيرت فنون التجسس الأساسية، كما بقي الجاسوس هو القاعدة لجمع المعلومات.
وإذا كان التجسس قديماً فإن جهاز الاستخبارات الحديث والمنظم والممول يعتبر ظاهرة فريدة في أيامنا الحاضرة.
وصف الكاتب هاتسون بولدوين أجهزة الاستخبارات الحديثة كما يلي:
"إن نظام الأجهزة الاستخبارية الصحيح عبارة عن منشآت ذات إمكانيات هائلة لكل من الخير والشر ويجب أن تستخدم الرجال والنساء وكل الوسائل فهي رقيقة وشرسة تتعامل مع الأبطال والخونة وهي ترشي وتغدر وتختطف وأحيانا تقتل، إنها تستغل أسمى وأدنى العواطف وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية في أعظم معانيها والنزوات حتى أحط مداركها، وهي تبرر الوسائل التي تحقق أغراضها حتى القتل".
إن فن الاستخبارات (التجسس) قديم فالمصريون كان لهم نظام تجسس منذ حوالي خمسة آلاف عام وكانوا يعتبرون التجسس على أعدائهم فناً رفيعاً ولوناً من ألوان العلم الحربي. وفي عام (1937) قال ستالين في خطابه أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي: "من أجل كسب إحدى المعارك يلزمنا عدد كبير من فيالق الجيش الأحمر، ولكن لكي يفوت العدو علينا النصر يكفي أن يكون لديه عدة جواسيس في رئاسة أركان الجيش أو إحدى الفرق. ولكي نبني جسراً كبيراً لأحد الخطوط الحديدية يلزمنا آلاف الرجال، ولكن تدميره لا يحتاج إلا لرجل واحد.
وقال ايزنهاور في حفل وضع حجر الأساس لمبنى الاستخبارات الجديد في الولايات المتحدة يوم 3 من نوفمبر سنة 1959م: "ليس هناك في سياسة الولايات المتحدة ما هو أهم من جمع المعلومات بواسطة الاستخبارات".
وجاء في تقرير لجنة الشيوخ الأمريكي الذي رفع لمجلس الشيوخ عن الأمن القومي يوم 14 يونيه عام 1960م: إن الاستخبارات هي الوسائل التي تنفذ بها السياسة القومية.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الأجهزة الاستخبارية الحديثة تمثل خط الدفاع الأول في العصر الذري. إنها تؤكد من نفسها أنها العنصر الأساسي في المحافظة على السلم والهدوء لأنها هي التي تُمِدّ حكومتها بالمعرفة المسبقة عن نوايا العدو وعن استعداداته. ومنذ بداية القرن العشرين صار للأجهزة الاستخبارية شان هام وكبير، لا سيما بعد ظهور القطار والسيارة والطائرة، ثم تطورت الوسائل إلى حد استعمال التصوير الجوي والآلات الإلكترونية فضلاً عن استخدام الأقمار الاصطناعية التي تدور حالياً في الأجواء ناقلة كل حركة وكل همس. إن الأجهزة الاستخبارية هي التي تكشف عورة الأعداء وتكافح التجسس لذا اهتم بها المسلمون حتى لم يخل مكان من صاحب خبر وبريد حتى تعرف المسلمون على أخبار أعدائهم مما ساعد على تحقيق انتصاراتهم فيما بعد.
أهمية المعلومات الاستخبارية
إن كلمة معلومات تعني مجموعة المعارف المتعلقة بالعدو وبلاده فهي الأساس الذي تبني عليه الخطط ولذا تؤكد جميع الأنظمة العسكرية أن علينا ألاّ نثق إلا بالمعلومات الأكيدة وأن نتمسك دائماً بالحذر التام. إن المعرفة تحمل في طياتها القوة، ولذلك يمكن للمعرفة السرية أن تصبح قوة سرية، إن جهازاً سرياً للاستخبارات عنده معلومات من مصادر خفية يمكن له أن يساهم بقسط كبير في عملية رسم السياسة أو في العمليات السياسية في البلاد الأخرى. إن المعلومات هي عين القيادة وأذنها إذ بها توضع الخطط السليمة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم بمعرفة خبر الأقوام المعادية.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على الوصول إلى المعلومات من الوافدين، وكان يطلب من قادته إطلاعه على تفاصيل المعلومات عن العدو وعن الأرض التي يقاتلون عليها. كتب إلى (سعد بن أبي وقاص) قبل القادسية يقول: "اكتب لنا أين بلغ جمعهم، ومن يلي مصادماتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية".
هكذا كان عمر حريصاً على تفاصيل ودقائق المعلومات عن جيشه، وعن جيش عدوه وعن طبيعة الأرض فكان يصدر قراراته العسكرية على هدى وبصيرة. و كتب المفكر الصيني القديم (صن تزو): "إذا عرفت العدو وعرفت نفسك، فليس هناك ما يدعو إلى أن تخاف نتائج مئة معركة، وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو فإنك تقاسي من هزيمة مقابل كل انتصار، وإذا لم تعرف نفسك ولم تعرف العدو فإنك أحمق وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة".
إن أفضل المعلومات للكتائب والوحدات المقاتلة هي المعلومات التي تصل إليها قبل الهجوم على العدو، وهي أكثر فائدة من خريطة كاملة لجميع مواقع العدو تنشر بعد الهجوم. إن مواجهة العدو تتطلب إعدادا خاصاً، وهذا الإعداد يقوم أساساً على حجم المعلومات التي تكون تحت بصر وفكر القائد، وحجم المعلومات يتوقف على حجم الجهد الذي يبذل في جمعها، فبمقدار حجم المعلومات وصدقها تكون دراسة القائد للموقف وتقديره ووضع خططه، ولهذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال اهتمامه بالمعلومات باختيار الشخص الموثوق به لجمعها.
ويشترط أن تكون المعلومات بالغة الدقة، وأن تصل في وقت مبكر بقدر الإمكان، لتسع الفرصة للتأكد من صحتها واستكمال معالمها، ثم تصنيفها وتحليلها واستنباط ركائز الخطة العامة للعمل، إذ إن أمن الأمة يتوقف على مدى المعرفة التي تتوافر لديها، وتوافر المعرفة المبكرة ضرورة لتجنب المفاجأة، ولمباشرة وضع الخطط على أسس سليمة.
إن الاستخبارات السوفيتية تقول: "إن المعلومات هي عين القيادة وأذنها ولا يمكن القيام بخطوة دون معلومات".
ولا تزال كتب التاريخ تشدد على الإشارة إلى (رئيس أركان نابليون الماريشال لويس ألكسندر برتييه) الذي كان لا يخوض المعارك إلا بعد جمع المعلومات الكافية عن جيوش الأعداء.
ويتضح أن للمعلومات العسكرية التي تجمعها الاستخبارات أثناء الحروب أهمية كبيرة، وأثرا كبيراً على سير المعارك. ويمكننا القول بإيجاز إن المعرفة في لغة الاستخبارات تحقق غرضين:
*الأول: تستعمل لغرض وقائي، أو دفاعي، لأنها تنذرنا مسبقاً بما قد تدبره الدول الأخرى للإضرار بالمصالح الوطنية.
*الثاني: أنها تصلح للاستعمال الايجابي لأنها تمهد الطريق لسياستنا الخارجية أو استراتيجيتنا العظمى.
مدى حاجة الدولة إلى الاستخبارات
إن مستقبل أي أمة أو دولة أحياناً يتوقف على دقة وكمال المعلومات التي تصل إليها الاستخبارات والتي تنير الطريق أمام القرارات العليا للدولة. روي عن أبي جعفر المنصور أنه قال لأصحابه:
"ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعف منهم، وهم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم، أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، ثم عض على إصبعه ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة آه، آه، فقيل: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة".
وقال الجنرال إيزنهاور عام 1959:
"ليس في سياسة الولايات المتحدة ما هو أهم من جمع المعلومات بواسطة الاستخبارات. إن الولايات المتحدة تنفق ملايين الدولارات على أعمال الاستخبارات والتقصي لجمع المعلومات وإطلاق البالونات في الأجواء والهيمنة على الإذاعات ورشوة الأجانب لجمع المعلومات والتقاط الصور الفوتوغرافية لأراضي الدول الاشتراكية، وتنظيم الرحلات الجوية للتجسس والاستطلاع، وفك الرموز والشفرة الخاصة بالدولة الأخرى".
وهكذا يصبح من الضروري أن يكون لكل دولة إدارة للاستخبارات كإحدى المؤسسات الهامة فيها، وتهتم معظم الدول بتنظيمها وتوفير الإمكانيات اللازمة لها، وتعمل على تطويرها حتى تتوافر لها القدرة على تحقيق أهدافها على أكمل وجه.
وترتبط إدارة الاستخبارات بسياسة وأهداف الدولة التابعة لها، وتتفاوت الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتق إدارة الاستخبارات تبعاً لمكانه الدولة وعلاقاتها بأعضاء المجتمع الدولي. وغالباً ما تهيئ الدول وقواتها المسلحة أحسن ما عندها من إمكانيات بشرية ومادية لدعم الأجهزة الاستخبارية فيها، لأنها العين المبصرة التي تلقي بأضوائها في جميع الأوقات وعلى جميع الاتجاهات على الأعداء والأعداء المحتملين، وبنفس القدر فهي الفكر الذي يحلل المواقف المحيطة والبعيدة خيراً أم شراً، ويقدمها للمسئولين لاتخاذ قرار ما.
شمول الاستخبارات
إن الاختراعات الحديثة، وتطور وسائل النقل والاتصال جعلت أجهزة الاستخبارات تعمل على نطاق أوسع وأشمل مما كانت عليه، إن الاستخبارات كانت في الأساس عسكرية، إذ كانت تهتم بالاستطلاع قبل المعركة، لكن بعد الحرب العالمية الأولى والثانية شملت الاستخبارات أكثر حقول الحياة، إذ صارت تهتم بالاختراعات الجديدة وبتمديدات المياه، وبشق الطرقات، وبمواقع مولدات الكهرباء... وباختصار صارت الاستخبارات تريد أن تعرف كل شيء عن كل الناس في كل ظرف وتاريخ.
اتسعت مهمة مصلحة الاستخبارات لاتساع حقل نشاطها ليشمل جمع المعلومات عن كل طاقات الأمة، أو الأمم المعادية، أو التي يحتمل الدخول معها في صراع مقبل، أو المحايدة، ولقد جاء هذا الاتساع من اتساع مفهوم الحرب الشاملة التي تؤثر على كل خلية من خلايا المجتمع، وتتأثر بكل نشاط تمارسه هذه الخلية على مختلف الأصعدة، وهنا لم تعد مصلحة الاستخبارات مرتبطة برئيس الأركان العامة بل برئيس مجلس الوزراء أحيانا.
وقد أخذت مصلحة الاستخبارات أهمية وشمولية، خاصة في مطلع القرن العشرين، وغدت مرتبطة بالقيادات العليا، وشملت مهماتها تفصيلات عن النظريات العسكرية، وعن البناء الحربي للعدو، وخططه الحربية، وما يطلق عليه (تنظيم القوات للمعركة) التي بدورها تشمل المعلومات العامة عن أماكن الوحدات البرية والبحرية والجوية والبيانات الفرعية كأسماء الضباط ورتبهم والإشارات المميزة للوحدات...
إن الاستخبارات تشكل عنصراً هاماً من عناصر تشكيل قوات الدفاع، في جميع الدول. ويوضع جزء هام من الاستخبارات في أيدي القوات المسلحة، ومرد ذلك أن الغالبية من أسرار الدولة التي ينبغي حمايتها من التجسس أو المعرضة للتجسس، لها علاقة مع الدولة. على أن القول بأن الاستخبارات منظمة خاصة بالقوات المسلحة لا يعني وجوب أن يكون أعضاء الاستخبارات من العسكريين، ولكن إذا ما كان الأمر يتعلق بأفراد مراكز الخدمة فإن هؤلاء يتكونون من جنود وموظفين حكوميين يعملون في القوات المسلحة، ومن موظفين مدنيين يعملون في هذه القوات، ولكن يخضع هؤلاء جميعاً لسلطة القيادة العليا خضوعاً كاملاً أو إلى حد بعيد.
الاستخبارات التكتيكية والاستراتيجية
إن الاستخبارات أو المخابرات إما تكتيكية Tactical أو استراتيجية Strategic وتختلف مهام المخابرات باختلاف الموضوعات التي تعالجها وهي متعددة سواء على المستوى التكتيكي أو الاستراتيجي.
الاستخبارات التكتيكية:
هي جمع المعلومات على المستوى التكتيكي حول قوات العدو في منطقة محددة، أو حول المنطقة ذاتها، وتحليل هذه المعلومات. فالاستخبارات التكتيكية محددة بوضع آني معين، وأي استخبارات لها أهداف أبعد من هذه تدخل في نطاق الاستخبارات الاستراتيجية. ولتعبير (استخبارات قتالية) المعنى ذاته إلا أنها تختلف أحيانا في أنها قد تنفذ من قبل وحدة مقاتلة عاملة على مستوى لواء أو فرقة، بدلاً من أن تقوم بذلك قيادات أعلى بمستوى قيادة منطقة.
والاستخبارات التكتيكية تتعلق بالمعلومات ذات الطابع المحلي المحدود أو ذات طابع التخصص في ناحية محددة، وهي المعلومات التي يمكن أن تستخدم لدعم وتيسير حل مشكلة مخابرات معينة، وتتعلق بصفة أساسية بوقائع ومعلومات من نوع أقل، وتكون فقط عبارة عن مظهر محدود من عملية المخابرات الشاملة، وهي في زمن الحرب تسمى (بمخابرات المعركة) وتشمل كل المعلومات الخاصة بالعدو، بالمعنى التكتيكي، وهي بصفة عامة تتعلق بكل مظهر عسكري للعدو أو للعدو المحتمل، وبأي نوع من المعلومات التي لها أثر مباشر على سير المعركة، أما في زمن السلم فتكون المعلومات التكتيكية لازمة باستمرار لرؤساء المنظمات السياسية والدبلوماسية، وهي في زمن الحرب معلومات ضرورية لجميع القادة على مختلف درجات السلم العسكري.
الاستخبارات الاستراتيجية:
هي جمع المعلومات المتعلقة بشؤون عسكرية أو أمنية وتنسيقها وتحليلها، وتوزيعها على المستوى الاستراتيجي ومستوى الدولة. وهدف هذا النوع من النشاطات هو معرفة قدرات دولة أخرى والتكهن بنواياها، للمساعدة في تخطيط المسائل المتعلقة باستراتيجية الدولة صاحبة النشاط. وفي حالة الدول الكبرى، فان الاستخبارات الاستراتيجية تعنى بجمع المعلومات عن الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية (الديموغرافية ) والعلمية ونتائج هذه الاتجاهات وتأثيرها على القدرات العسكرية والسياسات المتبعة. فالاستخبارات الاستراتيجية تتعلق بالمعلومات الخاصة بالمسائل الكبرى مثل المعلومات عن نوايا الدول الأجنبية أو العدو وإمكانياتها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعنوية ومواطن الضعف والقوة لديها. وتُهيأ هذه المعلومات لتقديمها إلى من يحتاجونها وهم أولئك الذين يتولون التخطيط لوضع سياسة الأمن اللازمة للدولة في وقت السلم، كما تكون هي أساس التخطيط للعمليات العسكرية في وقت الحرب.
ولكي نفرق بين الاستخبارات الاستراتيجية والتكتيكية، نذكر حرب السويس عام 1956م فإن المعلومات التي كان لها أثرها على قرار بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بالقيام بعمليات تعرضية ضد مصر يمكن أن تسمى استراتيجية، أما المعلومات التي استخدمت في تحضير الحملة اللازمة للغزو والخطط التي استخدمت في التنفيذ فهي تكتيكية.
الخلاصة:
مما تقدم نستطيع القول إن أعمال وأنشطة الاستخبارات موجودة مع الإنسان منذ القدم. لقد كان هناك استخبارات قبل وبعد الميلاد، وعند العرب، وقبل وبعد الإسلام، وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الاهتمام بهذا الجانب وحذا على نهجه أصحابه من بعده والتابعون. وكان جديراً بنا كأمة إسلامية أن نطور نهج رسولنا وأصحابه في هذا الجانب، ونهتم به كثير الاهتمام، ولكننا في فترة من الزمن غفلنا عن ذلك، وبدأ أعداء هذه الأمة يطورون ويحدثون أجهزة الاستخبارات لديهم، إلى أن أصبحت أجهزة استخباراتهم في وقتنا الحاضر تتولى إدارة العالم، وتستطيع أن تحصل على كل ما تريده من معلومات وفي أي اتجاهات، إلى أن أصبحوا يعرفون عنا ربما أكثر مما نعرفه عن أنفسنا.
ولننظر إلى جهاز الاستخبارات في الولايات المتحدة (CIA) إنه يرسم سياسة الولايات المتحدة في الخارج وعلى المدى البعيد، ويوجه هذه السياسة في سبيل تحقيق المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، بل إنه يشعل الفتن بين الشعوب والدول والطوائف، ويسعى إلى إشعال الحروب هنا وهناك، بل يدخلها في الحروب سواء عسكريا أو سياسيا... كل هذا في سبيل تحقيق المصالح الاستراتيجية.
وننظر أيضاً إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي المعروف باسم (الموساد) الذي نظم وبدأ تطويره من عام (1951م)، فقد أصبح في هذا الوقت يفوق أجهزة الاستخبارات الحديثة في جميع الدول، بل إن بعض الدول العظمى تستعين وتتعاون مع هذا الجهاز، لما يتوافر له من إمكانيات وقدرات فائقة في سبيل الحصول على معلومات استراتيجية لتحقيق مصالحها.
نعم لقد استطاعت الدول العربية منع هذا الجهاز من اختراقها عند الإعداد لحرب (رمضان 1973م) وذلك بفضل الله ثم بفضل التخطيط السليم وخاصة فيما يتعلق بالسرية والخداع.
والمطلوب منا وفي كل دولة إسلامية، في ظل الظروف الراهنة، وحالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، أن نسعى جاهدين إلى تحديث وتطوير أجهزة الاستخبارات لدينا، وان نوفر لها كل الإمكانيات اللازمة التي تسمح لها بالقيام بجميع أدوارها الشاملة وذلك في سبيل تحقيق المصالح الوطنية العليا.