- الثلاثاء يوليو 03, 2012 2:33 pm
#52090
الحمدُ لله ربِّ العالمين، واشهد أن لا اله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى رسل الله أجمعين.
وبعد:
فإنَّ الله ابتلى هذه الأمة، فجعل بأسها بينها شديدًا، وقدَر عليها من الاختلاف والافتراق مثل ما كتب على الأمم قبلها؛ عن ثوبانَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله زَوَى لِيَ الأرضَ، فرأيت مشارِقَها ومغارِبَها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِيَ لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألت ربي لأمتي ألاّ يهلكها بِسَنَةٍ عَامَّة، وألا يسلط عليهم عَدُوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربِّي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء، فإنَّه لا يرد، وإنِّي أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسَنَةٍ عَامَّة، وألا أسلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسِهم، يستبيح بَيْضَتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتَّى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا)).
وعن عامر بن سعد عن أبيه: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربِّي ألاّ يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسَهم بينهم، فمنعنيها))؛ رواهما مسلم.
وقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإنَّه من يعشِ منكم يَرَى اختلافًا كثيرًا، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجذ))؛ رواه الترمذي.
وإنَّ أعظم بلاء وقع على هذه الأمة: ما أحدثه الرَّوافض من بِدَعٍ وضَلالاَت تتعلق بالإمامة وعصمة الأئمة، والطعن على خير قرون الأُمَّة من أصحاب رسول الله، والغُلُوِّ في آل بيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد قدر الله لهذه الأُمَّة أنْ تبقى عزيزة قويَّة، ما دام هؤلاء الرَّوافض مقهورين، فإذا تسلط هؤلاء الرَّوافض، كانت الطامة الكُبرى التي تُودي بهذه الأمة، حين يكون للرَّوافض دولة يتسلطون بها على مقادير هذه الأمة، وعادة ما تُنشئ هذه الدَّولة حزبًا من الخارجين وقُطَّاع الطريق؛ ليعيث في الأرض فسادًا، وينفذ مخطَّطاتها لتفتيت وحدة المسلمين.
ولكن الله - تبارك وتعالى - يقيِّض لهذه الأُمَّة من يدفع عنها الفتنة، ويرد كيدَ الظَّالمين إلى نحورهم؛ ليحفظ هذه الأمَّة.
ولقد ظلَّ هذا الدِّينُ عزيزًا طوال حِقْبة الخلافة الرَّاشدة، ثُمَّ في خلافة بني أميَّة، والطور الأول من خلافة بني العباس، حتَّى دبَّ الضَّعف إلى الخلفاء، وتسلط عليهم الأُمَراء والوزراء، وتَمكَّن أهلُ البدع من الرَّوافض والمعتزلة القدرية، وصدق رسول الله إذ يَقُولُ: ((لاَ يَزَالُ الإِسْلاَمُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَىْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ)).
ومن أعظم الدُّول الرافضيَّة بلاءً على أهل الإسلام دولة العُبَيْديِّين الرَّوافض في المغرب ومصر، التي عَمَّ بلاؤها لمدَّة تقرب من ثلاثة قرون، وتَحالفت مع القرامطة قُطَّاع الطريق المحاربين لله ولرسوله، الذين عَمَّ بلاؤهم حتى قتلوا الحجيج في البلد الحرام، واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة، وعلقوه على بيت بالبحرين قرابة عشرين عامًا.
ودامت دولة الفاطميِّين 260 سنة، منها اثنتان وخمسون سنة بالمغرب، ومائتان وثماني سنوات بمصر، وعدد خلفائها أربعة عشر خليفة، أولهم عُبَيْد الله المهدي، وآخرهم العاضد الذي تُوفي بمصر يوم عاشوراء سنة 567هـ، وبموته انقرضت دولة الفاطميِّين من المشرق والمغرب، والملك لله وحده يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
قال الذهبي - رحمه الله -: "ظهر في هذا الوقت الرَّفض، وأبدى صفحته، وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والمغرب بالدولة العُبَيْدِيَّة، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بويه، وكان الخليفة المطيع ضعيفَ الرُّتبة مع بني بويه، وضَعُف بدنه، ثم أصابه فالج، وخرس فعزلوه، وأقاموا ابنه الطائع لله، وله السكة والخطبة، وقليل من الأمور، فكانت مملكة المعز أعظم وأمكن".
وقال ابنُ كثير: "وقد كان الفاطميُّون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، وظهرت في دولتهم البِدَع والمنكرات، وكَثُر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثرت بأرض الشام النصيريَّة والدرزيَّة والحشيشيَّة، وتغلَّب الفرنج على سواحل الشَّام بكامله، حتَّى أخذوا القُدس، ونابلس، وعجلون، والغور، وبلاد غزة، وعسقلان، وكرك، والشوبك، وطبرية، وبانياس، وصور، وعكا، وصيدا، وبيروت، وصفد، وطرابلس، وأنطاكية، وجميع ما والى ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأممًا لا يُحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النِّساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كان الصَّحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلَّبوا على دمشق، ولكنَّ الله سلَّم، وحين زالت أيامهم، وانتفض إبرامهم، أعاد الله - عزَّ وجلَّ - هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقُوَّته وجوده ورحمته".
وقال السيوطي: "ولم أورد أحدًا من الخلفاء العُبَيْديِّين؛ لأنَّ إمامتهم غير صحيحة؛ لأمورٍ منها: أنَّهم غَيْر قرشيِّين، وإنَّما سمتهم بالفاطميِّين جهلةُ العوام، وإلاَّ فجدهم مجوسي؛ قال القاضي عبدالجبار البصري: اسم جد الخلفاء المصريِّين سعيد، وكان أبوه يهوديًّا حدادًا نشابة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاَّني: القداح جَدُّ عُبَيد الله الذي يُسمَّى بالمهدي كان مجوسيًّا، ودخل عبيد الله المغرب، وادَّعى أنه عَلَوِيٌّ، ولم يعرفه أحد من علماء النَّسب، وسمَّاهم جهلةُ الناس الفاطميِّين؛ قال ابن خلكان: أكثر أهل العلم لا يُصحِّحون نَسَبَ المهدي عبيدالله جد خلفاء مصر؛ حتَّى إن العزيز بالله ابن المعز في أوَّل ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد هناك ورقة فيها هذه الأبيات:
إِنَّا سَمِعْنَا نَسَبًا مُنْكَرًا
يُتْلَى عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجَامِعِ
إِنْ كُنْتَ فِيمَا تَدَّعِي صَادِقًا
فَاذْكُرِ أَبًا بَعْدَ الْأَبِ السَّابِعِ
وَإِنْ تُرِدْ تَحْقِيقَ مَا قُلْتَهُ
فَانْسِبْ لَنَا نَفْسَكَ كَالطَّائِعِ
أَوْ لاَ دَعِ الْأَنْسَابَ مَسْتُورَةً
وَادْخُلِ بِنَا فِي النَّسَبِ الْوَاسِعِ
فَإِنَّ أَنْسَابَ بَنِي هَاشِمٍ
يَقْصُرُ عَنْهَا طَمَعُ الطَّامِعِ
وكتب العزيز إلى الأموي صاحب الأندلس كتابًا سبَّه فيه وهجاه، فكتب إليه الأموي: "أما بعد، فإنَّك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك"، فاشتَدَّ ذلك على العزيز، فأفحمه عن الجواب – يعني: أنَّه دَعِيٌّ لا تُعرف قبيلته - قال الذَّهبي: المحققون مُتَّفقون على أنَّ عبيدالله المهدي ليس بعلوي، وما أحسنَ ما قال حفيدُه المعز صاحب القاهرة - وقد سأله ابن طباطبا العلوي عن نَسَبِهم - فجَذَبَ سيفَه من الغمد، وقال: هذا نَسَبِي ونَثَرَ على الأمراء والحاضرين الذَّهَب، وقال: هذا حسبي.
ومنها: أنَّ أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم مَن أظهر سبَّ الأنبياء، ومنهم من أباح الخَمْرَ، ومنهم من أمر بالسُّجود له، والخَيِّر منهم رافضيٌّ خبيثٌ لئيم يأمُرُ بسبِّ الصَّحابة - رضي الله عنهم - ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة.
قال القاضي أبو بكر الباقلاَّني: كان المهدي عبيدُالله باطنيًّا خبيثًا حريصًا على إزالة مِلَّةِ الإسلام، أَعْدَم العُلماء والفُقهاء؛ ليتمكَّن من إغواء الخَلْق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض.
وقال الذَّهبي: كان القائمُ بن المهدي شرًّا من أبيه زنديقًا ملعونًا أظهر سبَّ الأنبياء، وقال: وكان العُبَيديُّون على مِلَّة الإسلام شرًّا من التَّتَر.
وقال أبو الحسن القابسي: إنَّ الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعُبَّاد أربعةُ آلاف رجل؛ ليردّوهم عن التَّرضِّي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فيا حبَّذا لو كان رافضيًّا فقط، ولكنَّه زنديق.
وقال القاضي عياض: سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكيَّة عمَّن أكرهه بنو عبيد - يعني خلفاء مصر - على الدُّخول في دَعوتِهم أو يقتل؟ قال: يَختار القتلَ، ولا يُعذر أحدٌ في هذا الأمر، كان أوَّلُ دُخُولهم قبل أن يُعرف أمرُهم، وأمَّا بعدُ، فقد وجب الفرار، فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته؛ لأنَّ المقام في موضع يُطلب من أهله تعطيلُ الشَّرائع لا يجوز، وإنَّما أقام مَن أقام من الفُقهاء على المباينة لهم؛ لئلاَّ تخلو للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم.
وقال يوسف الرعيني: أجمع العلماء بالقيروان على أنَّ حالَ بني عبيد حالُ المرتدين والزَّنادقة؛ لِمَا أظهروا من خلاف الشَّريعة.
وقال ابن خلكان: وقد كانوا يدَّعون علم المغيبات وأخبارهم في ذلك مَشهورة، حتَّى إنَّ العزيز صعد يومًا المنبر، فرأى ورقة فيها مكتوب:
بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ قَدْ رَضِينَا
وَلَيْسَ بِالْكُفْرِ وَالْحَمَاقَهْ
إِنْ كُنْتَ أُعْطِيتَ عِلْمَ غَيْبٍ
بَيِّنْ لَنَا كَاتِبَ الْبِطَاقَهْ
وكتبت إليه امرأةٌ قِصَّةً فيها: بالذي أعزَّ اليهود بميشا، والنَّصارى بابن نسطور، وأَذَلَّ المسلمين بك إلاَّ نظرت في أمري، وكان ميشا اليهودي عاملاً بالشَّام، وابن نسطور النصرانِيُّ بمصر.
ومنها: أنَّ مُبايعتَهم صدرت والإمام العباسي قائمٌ موجودٌ سابقُ البيعة، فلا تصح؛ إذ لا تصح البيعة لإمامين في وقت واحد، والصحيح المتقدِّم". اهـ؛ "تاريخ الخلفاء"، (1/12).
تسلط البويهيين على الخليفة العباسي
وفي خلافة المستكفي تسلَّط أحمد بن بويه على الخلافة العبَّاسيَّة، وتلقب بمعزِّ الدولة، وكان رافضيًّا خبيثًا أذلَّ الخلفاء من بني العبَّاس، وقمع السُّنة ونصر البدعة.
لم يُخْفِ البويهيُّون تشيُّعَهم، بل شجعوا أتْباعَ المذهب الشِّيعي في بغداد للقيام بالأعمال الاستفزازيَّة ضِدَّ أهل السنة، فكانت لا تَمُر سنة دون شَغَبٍ واصطدامات تقعُ بين السنة والشيعة تذهب فيها الأرواحُ والممتلكات، وتحرق الأسواق.
وجاء في حوادث 351هـ: وكتب الشيعة في بغداد بأمر معزِّ الدولة على المساجد بلَعْنِ مُعاوية والخلفاء الثَّلاثة، والخليفة العباسي لا يقدر على مَنْعِ ذلك، وفي سنة 352هـ أمر معز الدَّولة الناس أن يُغلقوا دكاكينَهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشِّراء، وأن يظهروا النِّياحة، وأن يخرج النِّساء منتشراتِ الشُّعور، مسودات الوُجوه، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وُجُوههن على الحسين بن علي - رضي الله عنه - ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قُدرة على المَنْع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنَّ السلطان معهم، وهذا أول ما نيح عليه، وقد وصف ابن كثير ما يفعلُ الشيعة من تعدٍّ لحدود الله في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فقال: فكانت الدَّبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويُذرُّ الرَّماد والتبن في الطُّرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدَّكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماءَ لَيْلَتَئِذٍ موافقةً للحسين؛ لأنَّه قُتِلَ عطشانَ، ثُمَّ تخرج النِّساء حاسراتٍ عن وجوههن يَنُحْنَ، ويلطمن وجوههن وصدورهن حافياتٍ في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة.
وأوَّل إشارة إلى الفتن بين الشِّيعة وأهل السنة خلال العصر البويهي حصلت سنة 338هـ /951م، وقد كان من نتيجتها أن نهبت الكرخ، وفي رمضان من سنة 340هـ / 951م وقعت فتنة عظيمة بالكرخ؛ بسبب المذهب، وفي السنة نفسها ظهر ببغداد رجل ادَّعى أنَّ أرواحَ الأنبياء والصديقين تنتقل إليه، وقد وُجِدَ في داره كتبٌ تُدينه بالزَّندقة، فتم القبض عليه، فلَمَّا تحقق أنه هالك، ادَّعى أنَّه شيعي؛ ليحضر عند معز الدَّولة بن بويه، وقد كان معز الدولة بن بويه يؤيِّد الرَّافضة، فلما اشتهر عنه ذلك، لم يتمكن الوزيرُ منه؛ خوفًا على نفسه من معزِّ الدولة، وأن تقوم عليه الشِّيعة، إنَّا لله وإنا إليه راجعون.
وحدث في سنة 341هـ أنْ ظفر الوزير المهلبي بقوم من التناسخية، وفيهم امرأةٌ تزعم أن روحَ فاطمة - رضي الله عنها - انتقلت إليها، وفيهم آخر يزعم أنَّه جبريل، فضربوا فتعزروا بالانتماء لأهل البيت، فأمر معز الدولة بإطلاقهم؛ لتشيُّعٍ كان فيهم، والمشهور عن بني بويه التشيُّع والرفض، وهكذا كان لمغالاة بني بويه في التشيع نتائجُ سيئة الأثر؛ حيثُ عمَّت الفوضى والانحرافات العقدية، ولم تَعُدْ الفوضى مقصورةً على بغداد أو مدن العراق الأخرى، بل شملت بعضَ أنحاء الدولة العباسية الأخرى.
وفي سنة 346 تجدَّدت الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد؛ بسبب سبِّ الصحابة، وكان من نتيجة ذلك أنْ قُتِلَ من الفريقين خلقٌ كثير دون أن تتحرك السُّلطة لمعالجة الصِّراع، وفي السنة التالية 347هـ انتشرت ظاهرةُ سبِّ وتكفير الصَّحابة في كثير من البُلدان، واشتدت الفتنة الطائفيَّة بين الرَّافضة والسُّنَّة، ووقعت في جُمادى الأولى سنة 348هـ حربٌ شديدة بين أتباعِ مذاهب السَّلف من أهل بغداد والمتشيعة، وقُتِلَ فيها جماعة، واحترق من البلد كثيرٌ، وفي السنة التي تلت؛ أي: سنة 349هـ، وبسبب الفتنة الطائفيَّة، تعطَّلت صلاةُ الجُمُعة في جميع مساجد بغداد، وفي سنة 351هـ كتب العامَّة على مساجد بغداد: لُعِنَ معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكًا، ومن أخرج العبَّاس من الشُّورى، ومن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومن منع دفن الحسن عند جَدِّه.
ولم يَمنع معزُّ الدَّولة ذلك، وقد ثار أهلُ السنة من هذا التَّعريض المباشر بصحابة النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخصوصًا الخلفاءَ الرَّاشدين الثلاثة الأُوَل، وأقدموا خلال ساعات الليل على إزالة الشعارات التي رفعها الرَّافضة، غير أنَّ الأمير البويهي معز الدولة أصَرَّ على ضرورة إعادة تلك الشعارات وإبقائها مرفوعة، رغم ما تشكَّل من تحدٍّ سافر لمشاعر عُمُوم المسلمين من اتِّباع مذاهب السَّلف وأهل السنة، وقد نصحه وزيره المهلبي بالامتناع عن ذلك؛ مداراةً للرَّأي العام، وبأنْ يكتبَ مكان ما محا: لعن الله الظالمين لآل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصرحوا بلعنة معاوية فقط.
قال الذَّهبي: وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرَّافضة، وتركوا الجهادَ، وهاجت نصارى الرُّوم، وأخذوا المدائنَ وقتلوا وسَبَوْا، وقال: فلقد جرى على الإسلام في المائة الرَّابعة بلاءٌ شديد بالدَّولة العبيدية بالمغرب، وبالدَّولة البُويهية بالمشرق، وبالأعرابِ القرامطة، فالأمر لله تعالى.
وقال عن عضد الدَّولة أبو شجاع فنَّاخسرو: وكان شيعيًّا جلدًا أظهر بالنجف قبرًا زَعَمَ أنَّه قبرُ الإمام علي بَنَى عليه المشهد، وأقام شعار الرَّفض ومأتم عاشوراء، ونُقل أنه لما احتُضر ما انطلق لسانه إلا بقوله - تعالى -: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28 - 29].
انتهاء التسلط الشيعي
ساند السلاجقةُ الخلافةَ العباسيَّة في بغداد، ونصروا مذهَبَها السنِّي بعد أنْ أوشكت على الانهيار بين النُّفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق، والنُّفوذ العبيديِّ (الفاطمي) في مصر والشام، فقضى السلاجقةُ على النفوذ البويهي تمامًا، وتَصَدَّوا للخلافة العبيدية (الفاطمية).
لقد استطاعَ طغرل بك الزَّعيم السلجوقي أنْ يُسقط الدولة البويهية في عام 447هـ في بغداد، وأنْ يَقْضِيَ على الفتن، وأزال من على أبواب المساجد سبَّ الصحابة، وقتل شيخَ الرَّوافض أبا عبدالله الجلاب؛ لغُلُوِّه في الرفض.
ثم كان السُّقوط التام للدولة العبيدية على يد صلاح الدِّين، وقد مدح علماء أهل السنة وفقهاؤهم وحُكَّامهم هذا الفعلَ الجميلَ لصلاحِ الدين، ألاَ وهو القضاء على دولة العبيديين الرَّافضيَّة الباطنية، وأكْثَرَ الشُّعراء القصائدَ في مدح صلاح الدين، فقال بعضهم:
أَلَسْتُمْ مُزِيلِي دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ بَنِي
عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ هَذَا هُوَ الْفَضْلُ
زَنَادِقَةٌ شِيعِيَّةٌ بَاطِنِيَّةٌ
مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ أَصْلُ
يُسِرُّونَ كُفْرًا يُظْهِرُونَ تَشَيُّعًا
لِيَشْتَرَوُا سَابُورَ عَمَّهُمُ الْجَهْلُ
المراجع:
♦ دولة السلاجقة، للدكتور الصلابي.
♦ تاريخ الخلفاء، للسيوطي.
♦ البداية والنهاية، لابن كثير.
وبعد:
فإنَّ الله ابتلى هذه الأمة، فجعل بأسها بينها شديدًا، وقدَر عليها من الاختلاف والافتراق مثل ما كتب على الأمم قبلها؛ عن ثوبانَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله زَوَى لِيَ الأرضَ، فرأيت مشارِقَها ومغارِبَها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِيَ لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألت ربي لأمتي ألاّ يهلكها بِسَنَةٍ عَامَّة، وألا يسلط عليهم عَدُوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربِّي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء، فإنَّه لا يرد، وإنِّي أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسَنَةٍ عَامَّة، وألا أسلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسِهم، يستبيح بَيْضَتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتَّى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا)).
وعن عامر بن سعد عن أبيه: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربِّي ألاّ يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسَهم بينهم، فمنعنيها))؛ رواهما مسلم.
وقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإنَّه من يعشِ منكم يَرَى اختلافًا كثيرًا، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجذ))؛ رواه الترمذي.
وإنَّ أعظم بلاء وقع على هذه الأمة: ما أحدثه الرَّوافض من بِدَعٍ وضَلالاَت تتعلق بالإمامة وعصمة الأئمة، والطعن على خير قرون الأُمَّة من أصحاب رسول الله، والغُلُوِّ في آل بيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد قدر الله لهذه الأُمَّة أنْ تبقى عزيزة قويَّة، ما دام هؤلاء الرَّوافض مقهورين، فإذا تسلط هؤلاء الرَّوافض، كانت الطامة الكُبرى التي تُودي بهذه الأمة، حين يكون للرَّوافض دولة يتسلطون بها على مقادير هذه الأمة، وعادة ما تُنشئ هذه الدَّولة حزبًا من الخارجين وقُطَّاع الطريق؛ ليعيث في الأرض فسادًا، وينفذ مخطَّطاتها لتفتيت وحدة المسلمين.
ولكن الله - تبارك وتعالى - يقيِّض لهذه الأُمَّة من يدفع عنها الفتنة، ويرد كيدَ الظَّالمين إلى نحورهم؛ ليحفظ هذه الأمَّة.
ولقد ظلَّ هذا الدِّينُ عزيزًا طوال حِقْبة الخلافة الرَّاشدة، ثُمَّ في خلافة بني أميَّة، والطور الأول من خلافة بني العباس، حتَّى دبَّ الضَّعف إلى الخلفاء، وتسلط عليهم الأُمَراء والوزراء، وتَمكَّن أهلُ البدع من الرَّوافض والمعتزلة القدرية، وصدق رسول الله إذ يَقُولُ: ((لاَ يَزَالُ الإِسْلاَمُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَىْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ)).
ومن أعظم الدُّول الرافضيَّة بلاءً على أهل الإسلام دولة العُبَيْديِّين الرَّوافض في المغرب ومصر، التي عَمَّ بلاؤها لمدَّة تقرب من ثلاثة قرون، وتَحالفت مع القرامطة قُطَّاع الطريق المحاربين لله ولرسوله، الذين عَمَّ بلاؤهم حتى قتلوا الحجيج في البلد الحرام، واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة، وعلقوه على بيت بالبحرين قرابة عشرين عامًا.
ودامت دولة الفاطميِّين 260 سنة، منها اثنتان وخمسون سنة بالمغرب، ومائتان وثماني سنوات بمصر، وعدد خلفائها أربعة عشر خليفة، أولهم عُبَيْد الله المهدي، وآخرهم العاضد الذي تُوفي بمصر يوم عاشوراء سنة 567هـ، وبموته انقرضت دولة الفاطميِّين من المشرق والمغرب، والملك لله وحده يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
قال الذهبي - رحمه الله -: "ظهر في هذا الوقت الرَّفض، وأبدى صفحته، وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والمغرب بالدولة العُبَيْدِيَّة، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بويه، وكان الخليفة المطيع ضعيفَ الرُّتبة مع بني بويه، وضَعُف بدنه، ثم أصابه فالج، وخرس فعزلوه، وأقاموا ابنه الطائع لله، وله السكة والخطبة، وقليل من الأمور، فكانت مملكة المعز أعظم وأمكن".
وقال ابنُ كثير: "وقد كان الفاطميُّون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، وظهرت في دولتهم البِدَع والمنكرات، وكَثُر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثرت بأرض الشام النصيريَّة والدرزيَّة والحشيشيَّة، وتغلَّب الفرنج على سواحل الشَّام بكامله، حتَّى أخذوا القُدس، ونابلس، وعجلون، والغور، وبلاد غزة، وعسقلان، وكرك، والشوبك، وطبرية، وبانياس، وصور، وعكا، وصيدا، وبيروت، وصفد، وطرابلس، وأنطاكية، وجميع ما والى ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأممًا لا يُحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النِّساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كان الصَّحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلَّبوا على دمشق، ولكنَّ الله سلَّم، وحين زالت أيامهم، وانتفض إبرامهم، أعاد الله - عزَّ وجلَّ - هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقُوَّته وجوده ورحمته".
وقال السيوطي: "ولم أورد أحدًا من الخلفاء العُبَيْديِّين؛ لأنَّ إمامتهم غير صحيحة؛ لأمورٍ منها: أنَّهم غَيْر قرشيِّين، وإنَّما سمتهم بالفاطميِّين جهلةُ العوام، وإلاَّ فجدهم مجوسي؛ قال القاضي عبدالجبار البصري: اسم جد الخلفاء المصريِّين سعيد، وكان أبوه يهوديًّا حدادًا نشابة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاَّني: القداح جَدُّ عُبَيد الله الذي يُسمَّى بالمهدي كان مجوسيًّا، ودخل عبيد الله المغرب، وادَّعى أنه عَلَوِيٌّ، ولم يعرفه أحد من علماء النَّسب، وسمَّاهم جهلةُ الناس الفاطميِّين؛ قال ابن خلكان: أكثر أهل العلم لا يُصحِّحون نَسَبَ المهدي عبيدالله جد خلفاء مصر؛ حتَّى إن العزيز بالله ابن المعز في أوَّل ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد هناك ورقة فيها هذه الأبيات:
إِنَّا سَمِعْنَا نَسَبًا مُنْكَرًا
يُتْلَى عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجَامِعِ
إِنْ كُنْتَ فِيمَا تَدَّعِي صَادِقًا
فَاذْكُرِ أَبًا بَعْدَ الْأَبِ السَّابِعِ
وَإِنْ تُرِدْ تَحْقِيقَ مَا قُلْتَهُ
فَانْسِبْ لَنَا نَفْسَكَ كَالطَّائِعِ
أَوْ لاَ دَعِ الْأَنْسَابَ مَسْتُورَةً
وَادْخُلِ بِنَا فِي النَّسَبِ الْوَاسِعِ
فَإِنَّ أَنْسَابَ بَنِي هَاشِمٍ
يَقْصُرُ عَنْهَا طَمَعُ الطَّامِعِ
وكتب العزيز إلى الأموي صاحب الأندلس كتابًا سبَّه فيه وهجاه، فكتب إليه الأموي: "أما بعد، فإنَّك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك"، فاشتَدَّ ذلك على العزيز، فأفحمه عن الجواب – يعني: أنَّه دَعِيٌّ لا تُعرف قبيلته - قال الذَّهبي: المحققون مُتَّفقون على أنَّ عبيدالله المهدي ليس بعلوي، وما أحسنَ ما قال حفيدُه المعز صاحب القاهرة - وقد سأله ابن طباطبا العلوي عن نَسَبِهم - فجَذَبَ سيفَه من الغمد، وقال: هذا نَسَبِي ونَثَرَ على الأمراء والحاضرين الذَّهَب، وقال: هذا حسبي.
ومنها: أنَّ أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم مَن أظهر سبَّ الأنبياء، ومنهم من أباح الخَمْرَ، ومنهم من أمر بالسُّجود له، والخَيِّر منهم رافضيٌّ خبيثٌ لئيم يأمُرُ بسبِّ الصَّحابة - رضي الله عنهم - ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة.
قال القاضي أبو بكر الباقلاَّني: كان المهدي عبيدُالله باطنيًّا خبيثًا حريصًا على إزالة مِلَّةِ الإسلام، أَعْدَم العُلماء والفُقهاء؛ ليتمكَّن من إغواء الخَلْق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض.
وقال الذَّهبي: كان القائمُ بن المهدي شرًّا من أبيه زنديقًا ملعونًا أظهر سبَّ الأنبياء، وقال: وكان العُبَيديُّون على مِلَّة الإسلام شرًّا من التَّتَر.
وقال أبو الحسن القابسي: إنَّ الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعُبَّاد أربعةُ آلاف رجل؛ ليردّوهم عن التَّرضِّي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فيا حبَّذا لو كان رافضيًّا فقط، ولكنَّه زنديق.
وقال القاضي عياض: سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكيَّة عمَّن أكرهه بنو عبيد - يعني خلفاء مصر - على الدُّخول في دَعوتِهم أو يقتل؟ قال: يَختار القتلَ، ولا يُعذر أحدٌ في هذا الأمر، كان أوَّلُ دُخُولهم قبل أن يُعرف أمرُهم، وأمَّا بعدُ، فقد وجب الفرار، فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته؛ لأنَّ المقام في موضع يُطلب من أهله تعطيلُ الشَّرائع لا يجوز، وإنَّما أقام مَن أقام من الفُقهاء على المباينة لهم؛ لئلاَّ تخلو للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم.
وقال يوسف الرعيني: أجمع العلماء بالقيروان على أنَّ حالَ بني عبيد حالُ المرتدين والزَّنادقة؛ لِمَا أظهروا من خلاف الشَّريعة.
وقال ابن خلكان: وقد كانوا يدَّعون علم المغيبات وأخبارهم في ذلك مَشهورة، حتَّى إنَّ العزيز صعد يومًا المنبر، فرأى ورقة فيها مكتوب:
بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ قَدْ رَضِينَا
وَلَيْسَ بِالْكُفْرِ وَالْحَمَاقَهْ
إِنْ كُنْتَ أُعْطِيتَ عِلْمَ غَيْبٍ
بَيِّنْ لَنَا كَاتِبَ الْبِطَاقَهْ
وكتبت إليه امرأةٌ قِصَّةً فيها: بالذي أعزَّ اليهود بميشا، والنَّصارى بابن نسطور، وأَذَلَّ المسلمين بك إلاَّ نظرت في أمري، وكان ميشا اليهودي عاملاً بالشَّام، وابن نسطور النصرانِيُّ بمصر.
ومنها: أنَّ مُبايعتَهم صدرت والإمام العباسي قائمٌ موجودٌ سابقُ البيعة، فلا تصح؛ إذ لا تصح البيعة لإمامين في وقت واحد، والصحيح المتقدِّم". اهـ؛ "تاريخ الخلفاء"، (1/12).
تسلط البويهيين على الخليفة العباسي
وفي خلافة المستكفي تسلَّط أحمد بن بويه على الخلافة العبَّاسيَّة، وتلقب بمعزِّ الدولة، وكان رافضيًّا خبيثًا أذلَّ الخلفاء من بني العبَّاس، وقمع السُّنة ونصر البدعة.
لم يُخْفِ البويهيُّون تشيُّعَهم، بل شجعوا أتْباعَ المذهب الشِّيعي في بغداد للقيام بالأعمال الاستفزازيَّة ضِدَّ أهل السنة، فكانت لا تَمُر سنة دون شَغَبٍ واصطدامات تقعُ بين السنة والشيعة تذهب فيها الأرواحُ والممتلكات، وتحرق الأسواق.
وجاء في حوادث 351هـ: وكتب الشيعة في بغداد بأمر معزِّ الدولة على المساجد بلَعْنِ مُعاوية والخلفاء الثَّلاثة، والخليفة العباسي لا يقدر على مَنْعِ ذلك، وفي سنة 352هـ أمر معز الدَّولة الناس أن يُغلقوا دكاكينَهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشِّراء، وأن يظهروا النِّياحة، وأن يخرج النِّساء منتشراتِ الشُّعور، مسودات الوُجوه، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وُجُوههن على الحسين بن علي - رضي الله عنه - ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قُدرة على المَنْع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنَّ السلطان معهم، وهذا أول ما نيح عليه، وقد وصف ابن كثير ما يفعلُ الشيعة من تعدٍّ لحدود الله في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فقال: فكانت الدَّبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويُذرُّ الرَّماد والتبن في الطُّرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدَّكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماءَ لَيْلَتَئِذٍ موافقةً للحسين؛ لأنَّه قُتِلَ عطشانَ، ثُمَّ تخرج النِّساء حاسراتٍ عن وجوههن يَنُحْنَ، ويلطمن وجوههن وصدورهن حافياتٍ في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة.
وأوَّل إشارة إلى الفتن بين الشِّيعة وأهل السنة خلال العصر البويهي حصلت سنة 338هـ /951م، وقد كان من نتيجتها أن نهبت الكرخ، وفي رمضان من سنة 340هـ / 951م وقعت فتنة عظيمة بالكرخ؛ بسبب المذهب، وفي السنة نفسها ظهر ببغداد رجل ادَّعى أنَّ أرواحَ الأنبياء والصديقين تنتقل إليه، وقد وُجِدَ في داره كتبٌ تُدينه بالزَّندقة، فتم القبض عليه، فلَمَّا تحقق أنه هالك، ادَّعى أنَّه شيعي؛ ليحضر عند معز الدَّولة بن بويه، وقد كان معز الدولة بن بويه يؤيِّد الرَّافضة، فلما اشتهر عنه ذلك، لم يتمكن الوزيرُ منه؛ خوفًا على نفسه من معزِّ الدولة، وأن تقوم عليه الشِّيعة، إنَّا لله وإنا إليه راجعون.
وحدث في سنة 341هـ أنْ ظفر الوزير المهلبي بقوم من التناسخية، وفيهم امرأةٌ تزعم أن روحَ فاطمة - رضي الله عنها - انتقلت إليها، وفيهم آخر يزعم أنَّه جبريل، فضربوا فتعزروا بالانتماء لأهل البيت، فأمر معز الدولة بإطلاقهم؛ لتشيُّعٍ كان فيهم، والمشهور عن بني بويه التشيُّع والرفض، وهكذا كان لمغالاة بني بويه في التشيع نتائجُ سيئة الأثر؛ حيثُ عمَّت الفوضى والانحرافات العقدية، ولم تَعُدْ الفوضى مقصورةً على بغداد أو مدن العراق الأخرى، بل شملت بعضَ أنحاء الدولة العباسية الأخرى.
وفي سنة 346 تجدَّدت الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد؛ بسبب سبِّ الصحابة، وكان من نتيجة ذلك أنْ قُتِلَ من الفريقين خلقٌ كثير دون أن تتحرك السُّلطة لمعالجة الصِّراع، وفي السنة التالية 347هـ انتشرت ظاهرةُ سبِّ وتكفير الصَّحابة في كثير من البُلدان، واشتدت الفتنة الطائفيَّة بين الرَّافضة والسُّنَّة، ووقعت في جُمادى الأولى سنة 348هـ حربٌ شديدة بين أتباعِ مذاهب السَّلف من أهل بغداد والمتشيعة، وقُتِلَ فيها جماعة، واحترق من البلد كثيرٌ، وفي السنة التي تلت؛ أي: سنة 349هـ، وبسبب الفتنة الطائفيَّة، تعطَّلت صلاةُ الجُمُعة في جميع مساجد بغداد، وفي سنة 351هـ كتب العامَّة على مساجد بغداد: لُعِنَ معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكًا، ومن أخرج العبَّاس من الشُّورى، ومن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومن منع دفن الحسن عند جَدِّه.
ولم يَمنع معزُّ الدَّولة ذلك، وقد ثار أهلُ السنة من هذا التَّعريض المباشر بصحابة النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخصوصًا الخلفاءَ الرَّاشدين الثلاثة الأُوَل، وأقدموا خلال ساعات الليل على إزالة الشعارات التي رفعها الرَّافضة، غير أنَّ الأمير البويهي معز الدولة أصَرَّ على ضرورة إعادة تلك الشعارات وإبقائها مرفوعة، رغم ما تشكَّل من تحدٍّ سافر لمشاعر عُمُوم المسلمين من اتِّباع مذاهب السَّلف وأهل السنة، وقد نصحه وزيره المهلبي بالامتناع عن ذلك؛ مداراةً للرَّأي العام، وبأنْ يكتبَ مكان ما محا: لعن الله الظالمين لآل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصرحوا بلعنة معاوية فقط.
قال الذَّهبي: وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرَّافضة، وتركوا الجهادَ، وهاجت نصارى الرُّوم، وأخذوا المدائنَ وقتلوا وسَبَوْا، وقال: فلقد جرى على الإسلام في المائة الرَّابعة بلاءٌ شديد بالدَّولة العبيدية بالمغرب، وبالدَّولة البُويهية بالمشرق، وبالأعرابِ القرامطة، فالأمر لله تعالى.
وقال عن عضد الدَّولة أبو شجاع فنَّاخسرو: وكان شيعيًّا جلدًا أظهر بالنجف قبرًا زَعَمَ أنَّه قبرُ الإمام علي بَنَى عليه المشهد، وأقام شعار الرَّفض ومأتم عاشوراء، ونُقل أنه لما احتُضر ما انطلق لسانه إلا بقوله - تعالى -: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28 - 29].
انتهاء التسلط الشيعي
ساند السلاجقةُ الخلافةَ العباسيَّة في بغداد، ونصروا مذهَبَها السنِّي بعد أنْ أوشكت على الانهيار بين النُّفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق، والنُّفوذ العبيديِّ (الفاطمي) في مصر والشام، فقضى السلاجقةُ على النفوذ البويهي تمامًا، وتَصَدَّوا للخلافة العبيدية (الفاطمية).
لقد استطاعَ طغرل بك الزَّعيم السلجوقي أنْ يُسقط الدولة البويهية في عام 447هـ في بغداد، وأنْ يَقْضِيَ على الفتن، وأزال من على أبواب المساجد سبَّ الصحابة، وقتل شيخَ الرَّوافض أبا عبدالله الجلاب؛ لغُلُوِّه في الرفض.
ثم كان السُّقوط التام للدولة العبيدية على يد صلاح الدِّين، وقد مدح علماء أهل السنة وفقهاؤهم وحُكَّامهم هذا الفعلَ الجميلَ لصلاحِ الدين، ألاَ وهو القضاء على دولة العبيديين الرَّافضيَّة الباطنية، وأكْثَرَ الشُّعراء القصائدَ في مدح صلاح الدين، فقال بعضهم:
أَلَسْتُمْ مُزِيلِي دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ بَنِي
عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ هَذَا هُوَ الْفَضْلُ
زَنَادِقَةٌ شِيعِيَّةٌ بَاطِنِيَّةٌ
مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ أَصْلُ
يُسِرُّونَ كُفْرًا يُظْهِرُونَ تَشَيُّعًا
لِيَشْتَرَوُا سَابُورَ عَمَّهُمُ الْجَهْلُ
المراجع:
♦ دولة السلاجقة، للدكتور الصلابي.
♦ تاريخ الخلفاء، للسيوطي.
♦ البداية والنهاية، لابن كثير.