منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#52227
مقدمة:
يتهدَّد الأمْن القومي العربي بعدَ اجتِياح العِراق بأخْطارٍ حَقيقيَّة تُهدِّد بَقاء ووُجود الكيان العربي القائم الذي يربط الدُّوَل العربيَّة ببعضٍ حاليًّا، ولا يقتَصِر الأمر على ذلك، بل إنَّ الكيانات السياسيَّة للدُّوَل العربيَّة القائمة أصبح يُحِيطها مخاطرُ التفتيت والتجزِئة وتغيير أنظِمة الإدارة والحُكم، كما لا يستبعد أنْ تُفرَض على الخريطة الجيوبوليتيكية للشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة أحدُ أشكال التنظيمات السياسيَّة والاقتصاديَّة التي تتوجَّه وتصبُّ في غير مصلحة العرب.

(1) ملامح خريطة العراق الجيوبوليتيكية وعُيوبها:
يُعانِي العراق من نقاط ضعفٍ كثيرة وكبيرة في الخريطة الجيوبوليتيكية للشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة، جعلت منه منطقةَ اضطرابٍ وقلاقل سياسية على مَدَى النصف الأخير من القرن العشرين، نُوجِزها فيما يلي:
1) يقع العراق في تُخوم انقطاع العالم الإسلامي مع العالم العربي؛ حيث تنتَهِي عنده ثَقافة اللغة العربيَّة وتبدأ بعدَه ثقافة اللغة الفارسيَّة شرقًا والتركيَّة شمالاً، ويرشح هذا الموقع الجغرافي على حافَّة العالم العربي احتِمالات صِدام وصِراع سياسي مع إيران وتركيا.

2) يقَع العراق أيضًا في منتصف أكبر نِطاقٍ عالمي لإنتاج البترول واحتياطيِّه، والذي يمتدُّ من الشمال للجنوب، ويتَّفق مع امتداد حوض بحر قَزوِين شمالاً، وحوض الخليج العربي وبحر العرب جنوبًا؛ ممَّا جعله مَطمَعًا للقُوَى الاقتصاديَّة العُظمَى التي تعتمد وتستهلك نسبةً كبيرة جدًّا من بترول هذا النِّطاق.

3) تتمزَّق انتماءات الكُتلة السكانيَّة للشعب العراقي بين قوميَّات وأقليَّات متعدِّدة، فينقَسِم دينيًّا إلى 60% للمذهب الشيعي في القسم الجنوبي، 40% للسنة في النطاق الأوسط والشمالي، كما يوجد 75% من السكان عرب، 20% أكراد، 2% أتراك، 3% قوميَّات أخرى.

4) تتَّجه بعض القوميَّات إلى النزعات الانفصاليَّة؛ لوجود امتِدادت لها في دول الجوار، فالأمة الفارسيَّة في إيران بالشرق هي الكتلة السكانيَّة الرئيسة لشيعة الجنوب العراقي، كما أنَّ الأمة الكردية تتوزَّع في دول الجوار الثلاث: في الشرق (شمال غرب إيران)، وفي الشمال (تركيا)، وفي الشمال الغربي (سوريا).

5) يُعانِي العراق من نواحي ضعفٍ في التركيب الجيوسياسي، فرغم أنَّ النِّطاق الأرضي للدولة (438446كم2) يَكاد يُماثِل مركز فئة حجم الدولة الوسطى عند بوندز (450000كم2)، لكنَّ امتداد النِّطاق الأرضي في شكل مستطيل مع دول جوار أكثر (ست دول)، طالَ من حدود الدولة وأدَّى إلى ارتفاع كَثافة الحدود السياسيَّة إلى 74كم/100كم2، في حين نجدُ أنَّ الكَثافة النظريَّة لمثْل هذه المساحة = 54 كم طولي/100 كم2؛ ممَّا أدى إلى زيادة تكلفة الدِّفاع عن الحدود البريَّة.

6) تُعتَبر العراق دولة شبه حبيسة؛ إذ لا تمتدُّ سواحلها على الخليج العربي إلا لمسافة 58 كم فقط؛ ممَّا أدَّى إلى تدنِّي معامل البحريَّة إلى 0.02[2]، وخلقت هذه الواجهة البحرية الضيِّقة مشاكل جمَّة في تصدير البترول العراقي، خاصَّة أنها لا تقَع على مِياه الخليج المفتوحة، بل تطلُّ على خليج خور عبدالله الذي يَفصِل اليابس العراقي عن الجزر الكويتيَّة (وربه - بوبيان)، هذا فضلاً عن أنَّ الأراضي التي تَقَعُ في الظهير الساحلي مستنقعيَّة ورخوة.

7) يتوافر للعراق عُمقٌ دِفاعي قدرُه 374كم، ورغم التوسُّط النسبي للعاصمة (بغداد) للنِّطاق الأرضي، برغم انحِرافها عن الوسط الهندسي بـ34كم، لكنَّها لا تتوسَّط النطاق العرضي الأوسط بين إيران والأردن؛ ومن ثَمَّ ضعف العمق الدِّفاعي من ناحية الشرق (إيران) نسبيًّا.

يربو سكَّان العراق على خمسة وعشرين مليون نسمة بكثافة سكانيَّة تُقدَّر بحوالي 34 نسمة لكلِّ كيلو متر مربع، ترتَفِع إلى 133 نسمة إذا وضعت في الاعتبار مساحة المعمور، وتُقدَّر نسبته بـ25.4%، ومن ثَمَّ ينخَفِض المُكافِئ الدفاعي للكثافة العامَّة إلى 5.1 جندي/1000كم2[3].

(2) السلوك السياسي للعراق في نصف القرن الأخير:
لكلِّ هذه الاعتِبارات تحوَّلت العراق في النصف الثاني من القرن العشرين إلى منطقة صِراع سياسي وعسكري فرضَتْه نواحي الضعف الجيوبوليتيكي في الخريطة السياسيَّة للدولة والمنطقة العربيَّة والشرق أوسطيَّة.

وانحَصرت اتِّجاهات السلوك السياسي للعراق ونِظامه السياسي إلى مَناحٍ عدَّة:
(2-1) الصراع على الجبهة البحريَّة:
ظلَّت مُحاوَلات العراق مستمرَّةً لتَوسِيع الجبْهة البحريَّة الضيِّقة على الخليج العربي عبر تاريخه الحديث بهدف زِيادة طُول سَواحِله من 58كم إلى 557كم بالاستِيلاء على دولة الكويت، وقد حاوَل العراق الاستيلاءَ عليها ثلاث مرَّات:
(أ) أولى مُحاوَلات ضَمِّ العِراق للكويت كانت في 1961م؛ أي: في أعقاب إعلان إلغاء اتِّفاقيَّة الحماية البريطانيَّة على الكويت مُباشرةً، وقد استَشعرت العراق ضَعف الكيان السياسي لدولة الكويت بعد زَوال الحماية البريطانيَّة عنها.

(ب) المحاولة الثانية (1973م)، وقد شجَّع العراقَ على غزو الكويت الانسحابُ البريطاني من الخليج وشرقِ القناة في 1971م، وانشِغال المنطقة بأحَد حلقات الصِّراع العربي-الإسرائيلي.

(ج) وقد نجَحت المحاولة الثالثة في 1990م؛ لعدَّة أسباب، أهمها: تكوين جيشٍ قوي ومتمرِّس بخبرة الحرب وتجاربها مع إيران على مَدَى ثمانية أعوام، وتَحاشِي حُدوث قَلاقِل داخليَّة بسبب استِمرار ظروف الحرب والنظام العسكري السابق برغم توقُّف الحرب العراقية-الإيرانية.

(2-2) الصراع على شط العرب:
امتَدَّ الصِّراع إلى شطِّ العرب لتأمين خُطوط الإمداد فيما بين مَوانِيه والمياه المفتوحة، يُعتَبر شطُّ العرب مجرى مِلاحيًّا مهمًّا ومشتركًا يمتدُّ لمسافة 150كم، ويَتراوَح عرضه بين 600 متر وكيلومترين، وعمقه 7 أمتار.

وقد كان شطُّ العرب والواجهة البحريَّة محلَّ نِزاعٍ طويل على مَدَى قرنين من الزمان بين العراق ودول الجوار؛ نَظَرًا لما يتمتَّع به شطُّ العرب من أهميَّة ملاحيَّة كبيرة بالنسبة لإيران والعراق، فيقع عليه ميناء عبدان وميناء خور مشهر (المحمرة)، والأوَّل ميناءٌ بترولي مهمٌّ يقَع على الضفَّة الشرقيَّة لشطِّ العرب، وبه أهمُّ مصافي تكرير البترول في إيران، أمَّا ميناء المحمرة فيقع شمال عبدان على الضفة اليسرى، وهو ميناءٌ تجاري، أمَّا فيما يتعلَّق بالعراق فيوجد له على شطِّ العرب ميناء البصرة، وهو ميناء تجاري، ثم ميناء الفاو، وهو ميناء بترولي يقع قبيل نهاية مصبِّ شطِّ العرب.

وتَرجِع جُذور الصِّراع على شطِّ العرب فيما بين الدولة العثمانيَّة على أرض العراق والدولة الفارسيَّة حتى انعِقاد معاهدة أرضروم الثانية (1847م)، التي لم تمنَحْ فارس أيَّ حقٍّ في السِّيادة على أيِّ جزءٍ من شطِّ العرب، والذي يَؤُول كليَّةً للدولة العثمانيَّة، وأصبَحَ لفارسٍ السِّيادة على الضفَّة الغربيَّة فقط لشطِّ العرب، ومساحة مكتسبة من الأرض، ومنحَتْها أيضًا حقَّ الملاحة البريَّة.

ولم يُرضِ هذا فارسًا وطالبَتْ بتعديل الوضع؛ ممَّا استدعى عمل بروتوكول إستانبول في 1913م، حيث أصبح لفارسٍ حقُّ السيادة على نصف شط العرب بطُول سبعة كيلو مترات في مُواجَهة ميناء المحمرة (خور مشهر)، إضافةً إلى السيادة الفارسيَّة على مجموعةٍ من جزر شط العرب (الجزر الجنوبية).

وبرغم ذلك ظلَّت فارس تُطالِب بتعديل خط الحدود في شط العرب ليَسِير مع خط الثالوك، حتى تَمَّ تعديلٌ عام 1937م، حققت بِمُوجَبه عدَّة مكاسب على حِساب العِراق؛ مثل سِيادتها على جُزءٍ من شط العرب أمام عبدان بطُول 7.25كم ليتَّفق مع خط المنتصف للشط، كما منحَتْها حقَّ مشاركة العراق في المرور لسُفنها العسكريَّة والتجاريَّة، أو الإجازة للسفن العائدة لدولةٍ ثالثةٍ، ممَّا انتَقَص من سِيادة العراق التامَّة على شط العرب.

• وفي 1966م ألغَتْ إيران معاهدة 1937م رسميًّا، وحشَدتْ قوَّاتها العسكريَّة على الحدود؛ ممَّا استَتْبع عقد اتِّفاقيَّة الجزائر؛ لحسْم هذا النِّزاع الحدودي؛ ليكون خط الحدود حسب خط الثالوك؛ أي: خط وسط المجرى الرئيس الصالح للمِلاحة عند أخفَضِ منسوبٍ لشطِّ العرب، وبذلك تضمَّنت المُعاهَدة تنازُلاً عراقيًّا كبيرًا مقابل تعهُّد إيران بالامتِناع عن تقديم مساعدتها المختلفة لأكراد العراق.

• وفي 17 سبتمبر عام 1980 ألغى العراق معاهدة 1937م، وأعقَبَ ذلك اشتعالُ الحرب بين الدولتين، ولم تحسم القوَّةُ الصِّراعَ الحدودي بينهما، واستمرَّت الحرب زُهاء ثمانية أعوامٍ دون أنْ تحقق أي منهما نصرًا على الأخرى، واستمرَّ وقْف إطلاق النار لمدَّة عامين بعد عام 1988م، حتى أعلَنَ العراق في أغسطس 1990م (أي: بعد احتلال الكويت) العودةَ إلى حُدود 1980م، وقبول معاهدة 1975[4].

(2-3) الاعتماد على المَنافِذ البريَّة:
استَوعَبت العراق تجاربها السابقة في الصِّراع السياسي والعسكري؛ بسبب ضيق الشقة الساحليَّة، والموقع شبه الحبيس، فاتَّجهت نحو تقليل الاعتماد على المنافذ البحريَّة على الخليج، وتلافي التهديدات الإيرانيَّة بعد تحكُّم إيران في مَضِيق هرمز بعد احتِلال جزر طنب.

أول اتِّجاهات هذه البدائل التوسُّعُ في نقْل البترول بالأنابيب من خِلال أحد عشر أنبوبًا، وقد بلَغ جملة أطوالها 9202.6كم، ووصلت الطاقة التشغيليَّة للأنابيب إلى 6290 ألف برميل لكلِّ يوم، في حين بلغَتْ طاقة المواني البتروليَّة العراقيَّة على الخليج (الفاو - خور العمية - البكر) 175.1 مليون طن/سنويًّا.

أمَّا الاتِّجاه الثاني، فيتمثَّل في تأمين استخدام شط العرب (وهو الممرُّ الوحيد لميناء البصرة) بربْط الميناء مائيًّا بخور الزبير بعد شق قَناة البصرة، والتي تبدأ من نهر كرمة علي؛ لتربط بين خور الحمار وخور الزبير، ويبلُغ طول هذه القناة 35.4كم، وعرضها 125مترًا، وعمقها 10 أمتار، هذا وقد ساعَد ذلك على إيجاد مَخرَج بديلٍ لشط العرب في حالة تعطُّل المِلاحة فيه لأيِّ سببٍ كما حدَث إبَّان الحرب العراقية-الإيرانية.

(2-4) إنفاق عسكري هائل وبناء جيشٍ قوي:
وفي سبيل الضُّغوط والصِّراعات السابقة اتَّجه العراق إلى إنْفاق عسكري كثيفٍ، يتجاوَز كلَّ دول الجوار يصل إلى 12900مليون دولار أمريكي في 1989 (عدا السعودية)، بمتوسط 29652 دولارًا/كم2، 3.8 مليون دولار لكلِّ كيلو متر حدودي، وبناء جيش قوي قِوامه مليون جندي، و5500 دبابة، و3500 قطعة مدفعيَّة، و513 طائرة قتال، وهي بذلك تَفُوق كلَّ دول الجوار، وقد تَوافر للعراق عمقٌ إستراتيجي يشتَمِل على أغلب دول الشرق الأوسط العربيَّة، كانت تُسهِم في الإنفاق العسكري والعَتاد بشكلٍ غير مباشر والعمالة المدنيَّة؛ ممَّا ساعد العراق على استمرار شنِّ حروبه على دول الجوار.

(3) العراق والنظام العالمي والقُوَى العُظمَى:
اختَلفت التوجُّهات الجيوبوليتيكية للقُوَى العظمي تُجاه الشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة خِلال القرن العشرين وبداية الألفيَّة الثالثة من مرحلة السَّيْطرة الاستعماريَّة المباشِرة، لمرحلة التنازُع على النُّفوذ بدُوَل المنطقة، إلى مرحلة الهَيْمنة الكاملة، تَفاوَتَتْ في كلٍّ منها الأهدافُ والغايات والأولويَّات على مَدَى قرنٍ كامل:
(3-1) التوجُّه الاستعماري:
المرحلة الأولى في التوجُّه الجيوبوليتيكي للقُوَى العُظمَى تتمثَّل في التوجُّه الاستِعماري لاستِنزاف الموارد الطبيعيَّة، ومَوارِد الثروة الأوليَّة للأقاليم كالمحاصيل الزراعية باحتلالها لفتراتٍ طويلة، ولضَمان عمليَّات الإمداد كان لا بُدَّ من التحكُّم في حركة تدفُّق التجارة العالميَّة من المستَعمَرات للدُّوَل المستعمرة خِلال البحار (البحر الأحمر والمتوسط والخليج العربي) والمضايِق والقَنوات الحاكمة لشبَكة النَّقل والمواصلات العالميَّة بالمنطقة العربيَّة والشرق أوسطيَّة قبل الحرب العالمية الثانية؛ مثل مضايق: هرمز، وباب المندب، وجبل طارق، وقناة السويس، كما يلاحظ بَقاء الاستعمار بعد حركة التحرُّر في جُيوب ومناطق حاكمة لشبكة النقْل العالميَّة.

(3-2) ضَمان الإمداد بالبترول:
بعدَ اكتِشاف البترول تزايَدتْ أهميَّته على حِساب الفَحم، واتَّضحت خريطة وارِدات الدول الصناعيَّة الكُبرَى من بترول الخليج العربي لتُشكِّل 42.1% من إجمالي وارِداتها البتروليَّة، فالولايات المتحدة الأمريكية تستَورِد 21% من وارِداتها البتروليَّة من الخليج، واليابان (63.4%)، ودول غرب أوربا (45.7%).

في المُقابِل تَطوَّر الاحتياطي المؤكد من البترول من 63% إلى 65% في الفترة 1990- 1995؛ عليه تولَّد اتِّجاه الدُّوَل الصناعيَّة الكُبرَى نحو السَّيْطَرة على مَنابِع النِّفط الخليجيَّة، واستكملت الدُّوَل العُظمَى هذا التوجُّه بتَأمِين خُطوط حرَكَة الإمداد بالبترول فيما بعد الخمسينيَّات، رغم ظُهور حركة التحرُّر السياسي والاستِقلال عن الدول المستعمرة.

(3-3) الصِّراع على النُّفوذ:
بظُهور الاتحاد السوفيتي كقوَّة مُناوِئة للولايات المتحدة في النواحي العسكرية والعقَدِيَّة بعد الحرب العالميَّة الثانية، نازَع الولايات المتَّحدة النُّفوذ على منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة.

واشتدَّ الصراع على النفوذ بعد حركة الاستقلال والتحرُّر لكثيرٍ من الدول العربيَّة وتوجُّهها الاشتراكي في مقابل التوجُّه الرأسمالي لدول وممالك النفط في الخليج العربي، وظلَّت المنطقة على هذا الحال (الحرب الباردة) حتى مَطلَع التسعينيَّات (تفكُّك الاتحاد السوفيتي)، وكان توجُّه المعسكر الغربي في تلك المرحلة يتمثَّل في تَقوِيض نفوذ الاتحاد السوفيتي من دول المنطقة، وتحديده من التُّخوم العربيَّة والإسلاميَّة جنوبًا.

(3-4) الولايات المتحدة ووراثة دور القوَّة العُظمَى الأولى:
كانت المملكة المتحدة هي القوَّة العُظمَى قبل الحرب العالمية الثانية، حتى أفَلتْ تدريجيًّا بعدها بعد بُزوغ وتَصاعُد الولايات المتحدة كقوَّة عُظمَى بديلة، واتَّجهت الأخيرة (الولايات المتحدة الأمريكيَّة) إلى وراثة دور القُوَى الرأسماليَّة العُظمَى في حركة الهَيْمَنة والسَّيْطرة على العالم والمنطقة.

تضمَّن هذا الإرث - إضافةً لدور القوَّة العُظمَى - موروثًا تاريخيًّا مشبوهًا؛ ومنها: رعاية الكيان الإسرائيلي الوليد تحت ضُغوط الصِّهْيَوْنيَّة العالميَّة، وتعهَّدت الولايات المتحدة الأمريكيَّة انتقالها من المرحلة الجنينيَّة لمرحلة تكوين الكيان السياسي وتشكيله، وامتدَّ الدور إلى الاعتماد عليها في خَلخَلة التوجُّهات العربيَّة نحو الوحدة، ومُجابَهة نُفوذ الاتِّحاد السوفيتي السابق بالمنطقة.

(3-5) الهَيْمَنة والحروب الدوريَّة واستِنزاف فوائض التنمية:
تتَّجه الدول العُظمَى نحو تَقوِيض برامج التنمية العربيَّة بدفْع الدول العربيَّة لصِراعات وحُروب عسكريَّة كُبرَى على فتراتٍ شِبه مُنتظمة، وتوجيه عوائد وفوائض التنمية للإنفاق العسكري والسِّباق على التسلُّح، وإعادة إعمار ما خرَّبَتْه الحروب، ويتَّجِه هذا النَّزِيف من رُؤوس الأموال العربيَّة تجاه الدول الكُبرَى؛ بِحُكم وُجود المؤسَّسات الكُبرَى لصِناعة السلاح والتشييد والإعمار بها.

فقد قامَتْ بمنطقة الشرق الأوسط سبعُ حروبٍ كبيرة على مَدَى نصف قرنٍ مُنذ عام 1948م حتى 2003م - أربعُ حروبٍ عربيَّة إسرائيليَّة، وثلاث حروب خليجيَّة، بفاصل زمني يناهز السنوات التِّسع، هذه التكراريَّة الدوريَّة شبهُ المنتظمة تُؤشِّر على أنَّ منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة مُستهدَفة عسكريًّا.

ولا يَخفَى على كثيرين الآن أنَّ المؤسَّسات الكُبرَى لصِناعة السلاح بدَأت تلعَبُ دورًا مهمًّا في توجيه صِناعة القَرار السياسي للدول الكُبرَى لهذا الغرض، بل تسلَّل بعض رِجالاتها إلى مُؤسَّسات صِناعة القَرار السياسي والعسكري في الدُّوَل الكُبرَى عامَّة، والولايات المتحدة خاصَّة؛ ممَّا يدلِّل على تكامُل الأدوار بين صناعتي السياسة والسلاح في الدول الكُبرَى.

ويمكن أنْ نتصوَّر حجمَ هذا التوجُّه الجديد الذي استَقرَّ في النظام العالمي للقُوَى السياسيَّة عامَّة ومنطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة، باستِعراض محصلات الحروب العربيَّة في الربع الأخير من القرن العشرين، فقد نتج عن الحرب الإيرانية العراقية مقتلُ حوالي نصف مليون شَخص، إضافةً إلى 1.5مليون جريح من الجانبين، وتشريد 2 مليون مهاجر، وحوالي 150 ألف أسير، بالإضافة إلى تدمير البنية الاقتصادية للبلدين؛ حيث تجاوزت التكلفة الاقتصادية الإجمالية لتلك الحرب أكثر من 500 مليار دولار، تتوزَّع بواقع: 280 مليار دولار خَسائر إيران، 220 مليار دولار خسائر للعراق[5].

كما قُدِّرت التكاليف الاقتصاديَّة للصِّراع بين العراق والتحالُف الدولي حتى تحرير الكويت بحوالي 676 مليار دولار أمريكي، وهو يُعادِل قيمة الناتج القومي الإجمالي للدول العربيَّة مجتمعةً لمدَّة عام ونصف، كما يُعادِل مرَّة ونصف قيمة إجمالي الاستِثمارات الأمريكيَّة في الخارج، وتحمَّلت العراق وحدَها 237 مليار دولار من تلك التكلفة؛ أي: ما يُعادِل 35% من التكلفة الاقتصاديَّة الإجماليَّة للصراع، في حين تحمَّلت الكويت 240 مليار دولار (35.5%)؛ أي: إنَّ العراق والكويت تحمَّلتا 70.5% من التكلفة الإجماليَّة[6].

أي: إنَّ خَسارة العراق تُعادِل أربعةَ أمثال ناتجها القومي الإجمالي وفْق مُستَويات 1989 (4 مليار)، في حين تحمَّلت الكويت عشرة أضعاف ناتجها الإجمالي قبل الاحتلال (23 مليار دولار)، كما تكبَّدت دُوَلٌ عربيَّة أخرى حوالي 91 مليار دولار، تمثِّل 13.5% من التكلفة الاقتصاديَّة للصراع؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الدول العربيَّة قد خسرت من وراء (الحروب الدورية - تصريف المخزون الإنتاجي لِمَصانِع السلاح - إعادة الإعمار) التي أصبحتْ تنتَهِجها الدُّوَل العُظمَى عامَّةً - والولايات المتحدة الأمريكيَّة خاصَّة - بالعالم، ومناطق التوتر بالعالم والغنيَّة خاصَّة.

وقد أعقَبَ الصراع حول الكويت تسارُع دول الخليج على شِراء الأسلحة، وقد قدَّرت بعض التقارير بأنَّ عقود التسليح التي أبرمَتْها تلك الدُّوَل بعد الحرب قد بلَغتْ قِيمَتُها 18 مليار دولار، وأنَّ تلك الدُّوَل ستُنفِق 60 مليار دولار في نهاية القرن العشرين، وتُمثِّل الولايات المتحدة وبريطانيا الطرَف الثاني في مُعظَم تلك العقود[7].

كما قدر إعادة تعمير العراق والكويت معًا بعد حرب الخليج الثانية بما يَتراوَح بين 200 إلى 400 مليار دولار أمريكي في حين تكلَّف إعادة تعمير العراق وإيران بعد حربهما بحوالي 110 مليارات دولار[8].

أمَّا فيما يتعلَّق بالتكلفة الإجماليَّة لحرب الخليج الثالثة (2003م) فلم يتوافر صورة دقيقة حتى الآن، وإنْ كانت التقديرات المبدئيَّة ستَتجاوَز ثلاثمائة مليار من الدولارات، وقد صرَّح رئيس البنك الدولي بأنَّ تكلفة إعمار العراق وحدَها ستتكلَّف ثلاثة مليارات سنويًّا؛ أي: ثلث جُملة عَوائِد النِّفط السنويَّة، والتي تُقدَّر بحوالي 15 مليار دولار.

(4) العراق والنظام الإقليمي:
الوضْع الإقليميُّ للعالَم العربي ومنطقة الشرق الأوسط يتَّصفُ بالضعف السياسي الشديد، والتوجُّهاتِ المضطرِبة، ويُنبِئ الموقف الحالي للعالم العربي بما يُشبِه المَخاض السياسي لولادةٍ جديدةٍ لكيان سياسي، هل الكيان السياسي الوليد من جُذور أصيلة بالمنطقة، أم نِتاج سفاحٍ من عناصر غير أصيلة، سواء كانت من خارج المنطقة أم داخلها؟

يتمثَّل العُنصر الخارجي للمَخاض السياسي المُرتَقب في موقف الولايات المتحدة الأمريكيَّة من المنطقة، فالقوَّة العُظمَى الأولى في العالم تتَّجه الآن نحو فرْض الهَيْمَنة الكاملة والسافرة، وتَرفُض أيَّ مبدأ للمُشارَكة الخارجيَّة أو من داخل الإقليم في هذا الصدَد، في نفس الوقت يُوجَد تصوُّر واتِّجاه مُضاف لدَى جَماعات الضغط بالولايات المتحدة بعد فرْض الهَيْمَنة الكاملة على المنطقة، ويتمثَّل في طرْح بديلٍ لنِظام الجامعة العربيَّة يستَوعِب الدول العربيَّة وإسرائيل في نفس الوقت.

يهدف النظام الشرق أوسطي الجديد في المنظور العالمي الجديد إلى تحقيق عدَّة أهداف:
1- تحقيق الهَيْمَنة الأمريكيَّة الكاملة على المنطقة.

2- استِمرار الهَيْمَنة الأمريكية؛ لضَمان عدم وجود كيانات سياسية عربيَّة قوية، والدعم والتعزيز الأمريكي المستمر لإسرائيل كمركزٍ مُسَيطِرٍ لتوابع النظام الشرق أوسطى الجديد.

3- تحجيم امتِداد النظام الأوروبي الجديد تجاه التخوم الجنوبيَّة والشرقيَّة لمصر.

4- استِكمال تطويق الكيان الروسي الجديد بكيانات قويَّة؛ مثل: النظام الشرق أوسطى الجديد في الجنوب، والكيان الأوروبي من الغرب.

5- إعلان وَفاة الجامعة العربيَّة ككيانٍ مُؤسَّسي يحتوي طموح العرب نحو الوحدة.

يتألَّف النظام الشرق أوسطي المُزمَع طرحُه من الولايات المتحدة الأمريكية لصالح إسرائيل من ثلاث وحدات:
(أ) تقَع إسرائيل في مركز التنظيم الشرق أوسطي؛ إذ ستُمثِّل مركز أعمال المنطقة، ويتركَّز بها أغلب صناعة المال والتكنولوجيا.

(ب) تخوم المنطقة المركزيَّة، وتُحِيط بإسرائيل مثل: لبنان ومصر.

(ج) نِطاق الموارد الطبيعية والأنشطة الأولية.