منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#52380
تطرق المفكر والفيلسوف – السويسري الأصل – جان جاك روسو (1712 – 1778) منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون في كتابه الشهير "العقد الإجتماعي" للشكل المثالي والوحيد – حسب رأيه - للديموقراطية .. والمتمثل في الديموقراطية الشعبية المباشرة – غير النيابية اللابرلمانية - والقائمة على فكرة "جمعية الشعب" و"مندوبي الشعب لا ممثليهم " حيث رفض إعتبار طريقة التمثيل النيابي طريقة ديموقراطية .. وسأتناول موضوع التمثيل النيابي في مقالة خاصة ستكون حول فلسفة الحكم النيابي والبرلماني ومزاياه وعيوبه ونثبت أنه لا يتناقض مع الديموقراطية – بمعناها الحديث – وأنها من مقتضيات الحكم الرشيد ونثبت أن موضوع تمثيل السيادة لا يساوي ولا يشبه موضوع التنازل عن السيادة كما إدعى فيلسوف الديموقراطية المباشرة "روسو" حيث قال :

"لا يمكن أن يكون هناك تمثيل في السيادة لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل فهي تكون أساسا ً من الإرادة العامة والإرادة العامة لا يمكن تمثيلها إطلاقا ً فهي إما أن تكون هي نفسها أو لا تكون .. وليس هناك حل وسط ! .. ومن ثم فإن "مندوبي الشعب" ليسوا سوى "مبعوثين" فلا يستطيعون البت في شئ بتا ً نهائيا ً .. وكل قانون لم يصادق عليه الشعب بنفسه فهو باطل وهو ليس قانونا ً أصلا ً "! … " يعتقد الشعب الإنجليزي أنه حر ولكنه مخطئ تماما ً! .. فهو لا يكون حرا ً إلا أثناء إنتخابه لأعضاء البرلمان! .. وبمجرد أن ينتهي إنتخابهم يعود الشعب عبدا ً!" …. " إذا لما لم يكن القانون إلا تعبيرا ً عن الإرادة العامة فإنه من الواضح أن الشعب لا يمكن أن يكون له نواب فيما يتعلق بالسلطة التشريعية " . (الفصل الخامس عشر من العقد الإجتماعي)

وقد أعجب بأراء فيلسوف الديموقراطية المباشرة "روسو" الكثيرون وتعرض لإنتقادات لاذعة من آخرين إلى درجة أن المفكر الفرنسي "ديجي" وصفه بأنه كان سفسطائيا ً! .. بينما وصف أراءه في الديموقراطية الفقيه الفرنسي "موريس ديفرجيه" بالقول بأنها كانت ديموقراطية أكثر مما يجب !!.

والحقيقة أن روسو نفسه وعلى الرغم من دفاعه عن الديموقراطية الشعبية المباشرة وإنتقاده الشديد لفكرة التمثيل النيابي إلا أنه لم يقل أن النظام الديموقراطي المباشر كما عرضه ونظـّر له قابل للتطبيق العملي وصالح للتحقيق الفعلي في كل المجتمعات وفي كل الأوقات .. بل له من أقواله في هذا الخصوص ما يشير إلى أن الديموقراطية الشعبية المباشرة ديموقراطية مثالية إفتراضية غير صالحة للتطبيق البشري وله في هذا تعبيره المشهور حيث قال :

" لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديموقراطية .. فهذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر" !!(الفصل الرابع من العقد الإجتماعي) .

إن هذا القول ينفي ما يـُنسب إلى "روسو" من أنه كان مفكرا ً مثاليا ً أو طوباويا ً ويؤكد لنا بأنه وعلى الرغم من أنه عرض تصوره للديموقراطية في صورتها الصحيحة والمثالية والكاملة والساذجة والبسيطة إلا أنه كان - من ناحية القابلية للتطبيق العملي لأفكاره – مفكرا ً واقعيا ً حيث أكد – كما في كلامه السابق - أن هذا النوع المثالي من الديموقراطية الشعبية المباشرة يحتاج إلى شعب من الآلهة (!؟) لهذا فهو نظام مثالي كامل لا يصلح للبشر! .. هكذا قال "روسو" أشد المنظرين للديموقراطية الشعبية المباشرة!!. (1)

والمثالية والطوباوية تعني محاولة فرض "فكرة مثالية" و"مثل أعلى" على واقع إجتماعي وإنساني لم تتوفر فيه الظروف الموضوعية لتجسيد هذا المثل أو تحقيق هذه الفكرة .. ونهاية المثالية والطوباوية كما هو معروف ومألوف الفشل الذريع بل وإحتمال التسبب في ضرر للنفس وللغير وعلى طريقة (جاء ليكحلها فعماها)! .. إذ أن المُثل العليا والأفكار المثالية في حقيقتها هي "نماذج إفتراضية" للوضع الأمثل والأعدل وهي نماذج غير قابلة للتطبيق الفعلي ولكن مهمتها وفائدتها الوحيدة هي في أنها تلهم عقول ومشاعر البشر في سعيهم الدائم للإرتقاء المستمر ولتحصيل أكبر قدر من الكمال في قضايا العدل والحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية .. ولكن بعض غلاة الثوريين أو بعض القادة الشموليين قد يلجأون إلى إستعمال مثل هذه الأفكار المثالية والطوباوية في الديموقراطية أو المساواة والعدالة الإجتماعية كما وردت في كتب الفلاسفة عن "المدن الفاضلة" و"النظم الكاملة" للتغرير بالجماهير ولتمرير سلطاتهم وديكتاتوريتهم تحت دعاوى السعي إلى "خلق مجتمع مثالي نموذجي عادل وكامل وفريد!" وعندها يمكن وصف هؤلاء القادة بأنهم في حقيقتهم ليسوا سوى صنف من الدجاجلة السياسيين السلطويين مهما حاولوا أن يبدوا عكس ذلك! . (2)

إن أفكار "روسو" "المثالية" عن الديموقراطية المباشرة بشكلها المثالي بلا شك ساهمت في مد النظم الديموقراطية البرلمانية الغربية بجرعات كبيرة و إضافية من الحريات ومن توسيع دائرة المشاركة السياسية وإحترام إرادة جمهور الناس .. حيث أصبح "الرأي الشعبي العام" بمؤسساته وأدواته المختلفة يشكل رقيبا ً على رأي وقرار الحكومة والبرلمان النيابي معا ً!.. كما أنها عززت من فكرة الحكم المحلي والديموقراطية المحلية والإدارة المحلية والتخفيف بالتالي من سطوة وشمولية المركزية في الحكم والإداره !.

هذا في المجتمعات الغربية التي تأخذ بنظام الديموقراطية البرلمانية (الليبرالية) الواقعية والنسبية مع نظام مواز من الديموقراطية المحلية (الحكم المحلي الديموقراطي كما في بريطانيا وسويسرا) أما في المجتمعات (الإشتراكية والشيوعية وأشباهها وأخواتها) فإن النظم الثورية الشمولية فيها وبعد أن سفهت كل أو جل أشكال ومؤسسات وأليات الديموقراطيات الليبرالية (التقليدية) العريقة القائمة في الغرب كل التسفيه ووصفتها بأنها ديموقراطية برجوازية زائفة وخادعة وفاشلة وسخرت منها أشد السخرية إدعت - في ثقة وتبجح وإفتخار - بأنها ستطبق الديموقراطية الحقيقية والتي أطلقت عليها نظام "الديموقراطيات الشعبية" حيث إعتمدت على فكرة تنظيم وتعبئة وحشد الشعب في ما يشبه "القناني" الزجاجية (!!) وفي وحدات أساسية تلتقي فيها الجماهير في كل محلة ومنطقة ثم ترسل مندوبيها (مندوبي وأمناء الشعب) بقراراتها وتوصياتها إلى المؤتمر العام لمندوبي الشعب لصياغة القرارات العامة! .. إلا أن كل الوقائع وكل الحقائق التاريخية وكل التجارب الفعلية أثبتت وأكدت لنا ولكل عاقل بأن هذه الديموقراطيات الشعبية المزعومة أو الموهومة لم تكن في حقيقتها وواقع ممارستها لا ديموقراطيات ولا شعبية ولا جماهيرية كما كانوا يزعمون أو كما كانوا يتوهمون!! .. بل كانت في الواقع الفعلي عبارة عن غطاء شعبوي ورسمي شكلي وفضفاض يختفي تحته ووراءه أقصى وأقسى أنواع الحكم الشمولي – الفردي أو الحزبي وأحيانا العشائري - السلطوي والبوليسي المطلق الرهيب كما كان يحصل في الإتحاد السوفيتي والصين وكل دول المعسكر الإشتراكي المنهار!.

لدينا اليوم مجموعة من الدول التي تطلق على نفسها صفة (الديموقراطية الشعبية)!؟.. كالجمهورية اليمنية الديموقراطية الشعبيه!..وجمهورية الصين الشعبية!.. وجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية (الشمالية)! والجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية !؟.. والجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية التي تدعي أن السلطة فيها بالكامل للشعب وأن القذافي يقود ولا يحكم !؟ .. ولدينا الجمهورية السورية العربية التي تدعي هي الأخرى أن نظامها السياسي ديموقراطي شعبي !!… فكل هذه الدول تدعي أنه ديموقراطية وأنها شعبيه !؟.. وهي لا ديموقراطية ولا شعبية ولا هم يحزنون!؟… بل هي دول شمولية ديكتاتورية وبعضها تحول إلى الحكم العشائري والطائفي والعائلي الوراثي تحت غطاء وشعار الديموقراطيات الشعبيه الفضفاض والخادع كما في كوريا وسوريا وبعضها قيد التحول الجاري نحو توريث الحكم والقيادة كما في اليمن وليبيا!…… إنها ديموقراطيات كاذبة وزائفة وخادعة وفاشلة لا علاقة للشعوب بها !… وديموقراطية النخب السياسية في الدول الليبرالية التي تسمح للشعب بالمشاركة في الشأن السياسي العام من خلال الإنتخابات والإستفتاءات الشعبية حرة ونزيهة ومن خلال حرية التظاهر والإجتماع وحرية التعبير في وسائل الإعلان والنشر ومؤسسات الرأي العام أرقى بكثير وأرحم بكثير وأكرم للأنسان وللشعوب من كل هذه الديموقراطيات الشعبويه الفاشلة والمزعومه أو الموهومه التي ثبت زيفها وبطلانها وعارها وعوارها للناس!.

وفي ليبيا بعد إنقلاب سبتمبر عام 1969 رفع العقيد معمر القذافي – قائد الإنقلاب – شعار الديموقراطية الشعبية وإدعى أنه سيطبق الديموقراطية الحقيقية في ليبيا فطبق أولا ً النموذج الناصري للديموقراطية الشعبية المتمثل في نظرية إتحاد قوى الشعب العامل في هيئة "الإتحاد الإشتراكي العربي" بقواعده الجماهيرية كما نص عليها "الميثاق" ثم رفض هذا النموذج وإنتقى نموذجا ً آخر أقرب للنموذج السوفيتي والصيني القائم على فكرة "السوفيتات" أو مجالس الشعب والديموقراطية الشعبية المباشرة بل وسلك سلوك "البلاشفة" في التعامل مع مؤسسات الديموقرطية الشعبية المباشرة وسوفيتات الشعب حيث أخضع منظومة المؤتمرات الشعبية الأساسية (مجالس الشعب المحلية) لرقابة صارمة من قبل تنظيم سياسي إيديولوجي بوليسي إصطنعه لنفسه وجعله تابعا ً له ولتوجيهاته وأطلق عليه إسم "حركة اللجان الثورية" بل وجعل من هذه المنظمة الثوروية السلطوية شبه البوليسية تتغلغل في كل مؤسسات الدولة وفي كل كيان المجتمع في سبيل إحكام سيطرته وقبضته على الدولة وتنفيذ إرادته وبدعوى حماية الثورة وسلطة الشعب من القوى الرجعية والمتآمرين (!!) حيث حرضها – ليل نهار- وفي السر وفي العلن - على قتل وتصفية كل من يعارض نظامه ونموذجه للحكم فنفذت هذه المنظمة الإرهابية أوامره وتوجيهاته بالفعل ولاحقت المعارضين الفارين للخارج وإغتالتهم وقامت – إستجابة لنداء قائدها وإلحاحه المتكرر – بنصب أعواد المشانق للمعارضين الليبيين وسط حرم الجامعات الليبية بل ووسط الشوارع والمدارس الإعدادية والثانوية !؟.. ثم وبعد مرور عدة عقود من إدعاء الحكم الجماهيري البديع نكتشف أن الحكم في ليبيا ليس حكما ً شعبيا ً جماهيريا ً كما يزعمون ولا هم يحزنون بل هو في حقيقته الفعلية عبارة عن حكم عائلي عشائري بغيض يتلحف بغطاء فضفاض من حكم الجماهير !! .. فهذه هي حقيقته وهذه طبيعته التي ظهرت لكل عاقل ومراقب محايد خصوصا ً بعد أن إنفضحت مخططات العقيد القذافي في توريث مركز وسلطة قيادة الدولة لأحد أولاده من بعده تحت غطاء "منسق القيادات الإجتماعية الشعبية" – كما توقعت شخصيا ً قبل عدة سنوات !!- وتحت دعوى تنفيذ مشروع "ليبيا الغد" !!.. حيث كشف عن نواياها ومخططاته تلك في إجتماع "العادة السرية" الذي دعا إليه في مدينة "سبها" حيث حث الشعب على مبايعة إبنه "سيف الإسلام" قائدا ً للدولة الليبية!!؟.

والشاهد هنا أن الديموقراطية الشعبية المباشرة هي فكرة مثالية طوباوية ساذجة غير صالحة للتطبيق المفيد لأنها لا تتجاوب مع حقائق الواقع الإجتماعي الفعلي للبشر وتعقيدات الحياة السياسية وما تتضمنه من تنافس طبيعي ومحتوم على قيادة المجتمع وعلى سلطة ومراكز الحكم والإداره! .. بينما النموذج العملي والغربي للديموقراطية التعددية الواقعية والممكنة - والتي بكل تأكيد ليست كاملة - أثبتت صلاحيتها لحكم البشر بشكل راشد وكريم يليق بالبشر المكرمين كأفضل أنواع الحكم الموجودة والمجربة حتى الآن في واقعنا المعاصر! .. وأثبتت صلاحيتها وأفضليتها من حيث تحقيق الإرادة الشعبية – أي إرادة جمهور الأمة (الأغلبية) - وكذلك من حيث إحترام حرمات وحريات واصوات المواطنين وإحترام حقوقهم السياسية والإنسانية والمالية وإحترام حق التعبير والمعارضة وكذلك من حيث تحقيق العدالة السياسية النسبية بين الفرقاء السياسيين وضمان إنتقال سلمي وحضاري للسلطة ولقيادة الدولة من خلال الإحتكام للشعب وأصوات المواطنين في إختيار ممثلي الأمة والقيادة السياسية الرسمية للدولة إذا إلتزم الفرقاء بشروط اللعبة السياسية وظلوا يحتكمون دائما ً لآليات النظام الديموقراطي!.

كما أثبتت التجارب والمشاهدات أن هذه الديموقراطية التعددية النيابية الحزبية الواقعية هي من أفضل الآليات في مكافحة الإستبداد السياسي والفساد المالي والإداري في الدول.. فالديموقراطية المطبقة حاليا ً في الغرب - كمبادئ وآليات ومؤسسات وإجراءات - هي أفضل الموجود بل إنها تمثل الرشد السياسي للمجتمعات البشرية وتجسد تراكم خبرات العقل البشري في المجال السياسي وفي مكافحة الإستبداد والحكم الفردي أو العائلي أو الحزبي المطلق! .. وليس أمامنا اليوم – نحن العرب - من خيار عقلاني ورشيد غيرها بعد أن نسعى إلى تكيفها لفلسفتنا وثقافتنا الإجتماعية الإسلامية الخاصة وبعد أن نحررها من هيمنة الروح الليبرالية المتطرفة والروح الرأسمالية المتوحشة ومما هو من خصوصيات المجتمعات الغربيه!.. هذه الفلسفة وهذه الثقافة – أي فلسفتنا الإجتماعيه الإسلامية - التي وإن كانت تلتقي مع الفلسفة الليبرالية الغربية في كثير من القيم الإنسانية النبيلة والمشتركة التي تحترم حقوق وحرمات الإنسان الفرد إلا أنها تختلف معها في جوانب أخرى تتعلق بالمبالغة الليبرالية في مسألة الحريات الشخصية والعلاقات الجنسية وفي مجال العقود والإتفاقات التي تحدث بين الأفراد بدعوى أن التعاقد شريعة المتعاقدين!.. ففلسفتنا الإجتماعية - والتي عمدتها الإسلام - تضع بعض الحدود والقيود على هذه الحريات والتصرفات والعلاقات الفردية لصالح المجتمع ككل ولصالح الجنس البشري بل ولصالح الأفراد أنفسهم !.. كما تضع جملة من القيود والحدود للقوى الرأسمالية في المجتمع تحت مبدأ وشعار (لا ضرر ولا ضرار) لمنعها من الإحتكار أوالتغول والسعار أو تدمير البيئة الإجتماعية والطبيعية تحت ستار (السوق الحره) أو شعار (دعه يعمل دعه يمر) (دعه يربح دعه بفر) !.. فالإسلام يشجع التجاره الشريفة ويشجع تنمية رأس المال والإستثمار فهذا مفيد للمجتمع ولكن ليس ثمة حرية مطلقه لا للأفراد ولا للرأسمالية بل ولا للدولة! .. فالكل محكوم ومقيد بشريعة الله الحاكمه وبمصالح الأمه العامة.