- الثلاثاء يوليو 24, 2012 3:03 pm
#53294
فادي حليسو
ثمّة ظاهرة لافتة استوقفتني مطوّلاً في كلّ من الجزائر ومصر، في فترة إقامتي القصيرة في كلّ منهما، وتتجلّى في النقدّ الذاتي لمرحلة ما بعد الاستقلال في الجزائر وما بعد ثورة يوليو في مصر. في الجزائر مثلاً، تدور على صفحات الجرائد بين الفينة والأخرى عملية نقدٍ جريئة للماضي، لممارسات الثورة، وبالأخصّ للشهور الأخيرة من الثورة، ومن ثم للمرحلة التي أعقبت الاستقلال، وأداء القيادات في تلك المرحلة. ويحدث كثيراً حينما يلتقي المرء ببعض كبار السنّ في الجزائر، أن يسمعهم يتّهمون وبمرارة، تلك القيادات بسرقة الثورة، ويصنّفونهم ضمن “المارسيست”.
والمارسيست Marsistes أو الآذاريين، هو مصطلح يطلق على ثوّار الساعة الأخيرة، أي تلك الفئة من الناس التي ظلّت تدعم الفرنسيين حتى اللحظة الأخيرة، أو ظلّت أقلّه محجمةً عن دعم الثورة حتى تمّ توقيع اتفاقية ايفيان في 19 آذار 1962، وهي الاتفاقية التي أعطت الجزائريين حقّ تقرير المصير من خلال استفتاء عام، فسارع هؤلاء، بعدما بدا أن البلاد في طريقها إلى الاستقلال، إلى الانضمام للثورة، وتسجيل أسمائهم في جبهة التحرير الوطنية FLN، ووصلوا لاحقاً إلى مراكز متقدمة وقادوا البلاد والحزب، بعد أن قُتل عدد كبير من قيادات الثورة الأساسية خلال الحرب الطويلة.
ثمّة كثير من النقد إذن لتلك الفترة التي أعقبت الاستقلال، للأحادية الأيديولوجية التي طبعتها، ولملامحها التي اتسمت من بين ما اتسمت به، بسياسة تعريب قاسية قادها لسخرية القدر كثيرون ممّن ظلوا موالين لفرنسا حتى اللحظات الأخيرة. أنكرت تلك السياسة على باقي المكوّنات المجتمعيّة، حقوقها الثقافية، وجرّمت استعمال لغاتهم المحلية، محاولةً فرض فكرة العروبة بالقوّة، والتنكّر لأيّة قومية أخرى، بدعوى أن أيّ كلامٍ في القوميات المغايرة للقومية العربية هو عمل بغيض من آثار المرحلة الاستعمارية الفرنسية. ومن الجليّ اليوم أن هذه الممارسات ولّدت لدى بعض الأمازيغ، وعلى الأخصّ سكّان منطقة القبائل الساحلية، ردّ فعلٍ مرير يتسم برفضٍ للعروبة وبكل ما يمتّ إليها بصلة، لا بل أنك تجد منهم في أيامنا هذه من يفضّل التكلّم بالفرنسية على العربية، دون أن ننسى بروز بعض الأحزاب القومية المحلية التي تنادي بالاستقلال في منطقة القبائل.
لا تقتصر مثل هذه الممارسات على الجزائر وحدها بالطبع، فالفاشية سمة طبعت سياسات معظم الأحزاب التي ادعت تمثيلها للقومية العربية، وليس البعث في كلّ من العراق وسوريا بغريب عنها، وهو اتبع سياسة مماثلة فرضت القومية العربية واللغة العربية منكرةً كلّ ما عداها. وما مشكلة الإحصاء السكاني لأكراد الجزيرة السورية إلا إحدى الوجوه القاتمة الكثيرة لهذه السياسة.
وهل يمكن أن ننسى في هذا الإطار السودان، أكبر بلدان الجامعة العربية، ومشاكله الكثيرة، بدءاً من الجنوب الذي انفصل أخيراً، إلى المشاكل المستجّدة في دارفور والأقاليم الشرقية؟ كان ملفتاً للنظر إبان الأشهر القليلة التي أعقبت انفصال الجنوب، تلك العنجهية التي ميّزت الخطاب الرسميّ السوداني، الرافض لتحمل المسؤولية في المآل السيء للأمور، وهو الذي مارس سابقاً دوراً بارزاً في تفجير الأزمات التي يعانيها السودان فارضاً اللغة العربية على الجميع، ومستخدماً التهديد بفرض الشريعة الإسلامية في سياسةً تناوبت بين الترغيب والترهيب. وما يزال أولئك الحكام مصرّين على استخدام خطاب متخشّب يعتبر أن الحضارة العربية هي الحضارة المنتصرة على كل المكونات الأخرى في السودان، سواء أكانت في الجنوب الأفريقي الأسود أو الشرق غير العربي، وما على تلك المكوّنات إلا الرضوخ والخضوع لما يقرّره من نصبوا أنفسهم سدنة لتلك الحضارة المنتصرة.
أما في مصر فيتخذ الخطاب النقدي الحديث طابعاً آخر، إذ يلاحظ المراقب للمشهد الثقافي المصري، وخاصة في السنوات الأخيرة التي سبقت ثورة 25 يناير، محاولات لدى بعض المثقفين المصريين لإعادة اكتشاف تاريخهم الذي شوّهته التجربة الناصرية عن عمد. وما تجارب مثل مسلسل الملك فاروق للكاتبة لميس جابر، ورواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، وغير ذلك من المقالات الصحفية إلا محاولات جريئة لتقديم قراءة أخرى لهذا التاريخ، مختلفة عن الصورة النمطية الرائجة منذ ثورة يوليو، التي اعتبرت ذاتها منبع مصر الحديثة، والتي قدّمت كلّ ما سبقها على أنه خارج عن سياق الزمن والتاريخ. اكتشف المصريون شيئاً فشيئاً، واكتشف المتابعون العرب معهم، أن ذلك الماضي لم يكن مجرّد لوحة سوداء قاتمة، بل حفل بالكثير من المحطات المضيئة، والمواقف النضالية والوطنية المشرّفة، حتى فيما يخص من كان يطلق عليهم أبشع النعوت. الشيء ذاته يلاحظ لدى مثقفي العراق وسوريا في محاولاتهم لإعادة قراءة فترة ما قبل البعث، وإعادة فهم أدوار شخوصها من أمثال نوري السعيد وأديب الشيشكلي، ممن ارتبطت أسماؤهم في ذاكرة أجيال البعث بصفات قميئة كالرجعية والعمالة.
تشير الأمثلة السابقة على تنوّعها واختلافها، إلى أزمة هويّة عميقة تعاني منها الدول العربية، هوية لا تتحقّق إلا بنفي الآخر وعدم السماح له بالوجود ما لم ينصهر في بوتقة الأيديولوجيا أو الدين، أو بالأحرى في بوتقة “الثقافة المنتصرة”، بحيث يكون دائماً ثمّة خاسر ومقهور ومقموع. ولعل ما يثير الانتباه في هذه التجارب أنها عمدت إلى تبنّي خطاب أيديولجي، وإن اختلفت مقوّماته من دولة إلى أخرى، لا يكتفي بنفي الآخر وإنكار حقّه بالاختلاف فحسب، بل يعمد إلى تدمير الماضي وإلصاق أشنع الصفات به، فهو الماضي الاستعماري، الإقطاعي. ورموزه هم العميل للأجنبي، أو المتواطئ مع المؤامرات الإمبريالية، أو المستغل لدم الشعب، إلى ما هنالك من مفردات تحفل بها كتبنا المدرسية المؤدلجة. فكان أن نشأت أجيال تعتقد أن أنظمتها الحاكمة هي من صَنع التاريخ، وهي من خلق هويتها وأوجدها: هوية تماهت مع أحد المفهومين: الأيديولوجيّ، أو الدينيّ لمن ضاق ذرعاً بتلك الأيديولوجيا.
وماذا بعد؟
في الواقع لقد كانت الانتفاضات العربية التي شهدها العام المنصرم بمثابة الهزّة العنيفة التي أيقظت البعض منا من كابوس طويل. ولعلّ ما يلفت النظر حقاً، موقف الشباب الثائر في أكثر من بقعة من وطننا العربي، والذي بدا وكأنه قد نفض عنه فجأة كل الهراء السابق والذي رضعه منذ طفولته، موجداً معنًى جديداً لهويته تختصرها كلمات ثلاث: الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية.
في هذا الواقع، تحاول بعض التيارات الدينية ركوب الموجة والتقدّم إلى الصفوف الأمامية لكسب الجماهير، مستغلة حالة التعاطف الموجودة لدى شرائح مجتمعية واسعة، والناجمة عن تاريخها مع الأنظمة المهترئة ذاتها. تحاول هذه التيارات أن تقدّم نفسها كصاحبة المشروع البديل الذي طال انتظاره، المشروع الذي يزيح الأيديولوجيا ليفسح المجال أمام خطاب ديني يدغدغ المشاعر ويذكّر بالمجد التليد، لتكشف لنا أنها لم تستفد بدورها من دروس الماضي.
فيما أصيب الكثير من المثقفين العرب من متابعي المشهد الثوري بالصدمة والانكفاء، الأمر الذي تُرجم إلى مواقف مائعة ومخيّبة للأمل لعددٍ منهم. لقد وجدوا أنفسهم أمام ظاهرة غير مسبوقة، خارجة عن سياق نظرياتهم عن الثورة، إنها المرة الأولى التي تسبق فيها الثورة نظريتها، إنها المرة الأولى التي تتقدم فيها الثورة على الأيديولوجيا، وتبرز كعمل عفوي لشعوب مقهورة طال سكوتها عن الظلم الاجتماعي اللاحق بها، وبلغت نقطة الانفجار في غفلة عن تأملاتهم الثورية.
يقدّم لنا الربيع العربي فرصة غير مسبوقة قد لا تتكرّر مرة أخرى، لنقوم بقراءة عقلانية لتاريخنا بعيدة من جهة عن إلباس الماضي رداء المثالية الرومانسية البعيدة عن الواقع، وتتجنّب من جهة أخرى الوقوع في خطأ الأنظمة التي نتوق للتحرّر منها فلا تلجأ إلى تشويه هذا الماضي بما يخدم المصلحة الآنية. نحن أمام فرصة نادرة لنقوم بتشكيلٍ جديدٍ وواعٍ لهويتنا العربية، الإسلامية، الشرق الأوسطية… فهل نكون على قدر التحدي؟
ثمّة ظاهرة لافتة استوقفتني مطوّلاً في كلّ من الجزائر ومصر، في فترة إقامتي القصيرة في كلّ منهما، وتتجلّى في النقدّ الذاتي لمرحلة ما بعد الاستقلال في الجزائر وما بعد ثورة يوليو في مصر. في الجزائر مثلاً، تدور على صفحات الجرائد بين الفينة والأخرى عملية نقدٍ جريئة للماضي، لممارسات الثورة، وبالأخصّ للشهور الأخيرة من الثورة، ومن ثم للمرحلة التي أعقبت الاستقلال، وأداء القيادات في تلك المرحلة. ويحدث كثيراً حينما يلتقي المرء ببعض كبار السنّ في الجزائر، أن يسمعهم يتّهمون وبمرارة، تلك القيادات بسرقة الثورة، ويصنّفونهم ضمن “المارسيست”.
والمارسيست Marsistes أو الآذاريين، هو مصطلح يطلق على ثوّار الساعة الأخيرة، أي تلك الفئة من الناس التي ظلّت تدعم الفرنسيين حتى اللحظة الأخيرة، أو ظلّت أقلّه محجمةً عن دعم الثورة حتى تمّ توقيع اتفاقية ايفيان في 19 آذار 1962، وهي الاتفاقية التي أعطت الجزائريين حقّ تقرير المصير من خلال استفتاء عام، فسارع هؤلاء، بعدما بدا أن البلاد في طريقها إلى الاستقلال، إلى الانضمام للثورة، وتسجيل أسمائهم في جبهة التحرير الوطنية FLN، ووصلوا لاحقاً إلى مراكز متقدمة وقادوا البلاد والحزب، بعد أن قُتل عدد كبير من قيادات الثورة الأساسية خلال الحرب الطويلة.
ثمّة كثير من النقد إذن لتلك الفترة التي أعقبت الاستقلال، للأحادية الأيديولوجية التي طبعتها، ولملامحها التي اتسمت من بين ما اتسمت به، بسياسة تعريب قاسية قادها لسخرية القدر كثيرون ممّن ظلوا موالين لفرنسا حتى اللحظات الأخيرة. أنكرت تلك السياسة على باقي المكوّنات المجتمعيّة، حقوقها الثقافية، وجرّمت استعمال لغاتهم المحلية، محاولةً فرض فكرة العروبة بالقوّة، والتنكّر لأيّة قومية أخرى، بدعوى أن أيّ كلامٍ في القوميات المغايرة للقومية العربية هو عمل بغيض من آثار المرحلة الاستعمارية الفرنسية. ومن الجليّ اليوم أن هذه الممارسات ولّدت لدى بعض الأمازيغ، وعلى الأخصّ سكّان منطقة القبائل الساحلية، ردّ فعلٍ مرير يتسم برفضٍ للعروبة وبكل ما يمتّ إليها بصلة، لا بل أنك تجد منهم في أيامنا هذه من يفضّل التكلّم بالفرنسية على العربية، دون أن ننسى بروز بعض الأحزاب القومية المحلية التي تنادي بالاستقلال في منطقة القبائل.
لا تقتصر مثل هذه الممارسات على الجزائر وحدها بالطبع، فالفاشية سمة طبعت سياسات معظم الأحزاب التي ادعت تمثيلها للقومية العربية، وليس البعث في كلّ من العراق وسوريا بغريب عنها، وهو اتبع سياسة مماثلة فرضت القومية العربية واللغة العربية منكرةً كلّ ما عداها. وما مشكلة الإحصاء السكاني لأكراد الجزيرة السورية إلا إحدى الوجوه القاتمة الكثيرة لهذه السياسة.
وهل يمكن أن ننسى في هذا الإطار السودان، أكبر بلدان الجامعة العربية، ومشاكله الكثيرة، بدءاً من الجنوب الذي انفصل أخيراً، إلى المشاكل المستجّدة في دارفور والأقاليم الشرقية؟ كان ملفتاً للنظر إبان الأشهر القليلة التي أعقبت انفصال الجنوب، تلك العنجهية التي ميّزت الخطاب الرسميّ السوداني، الرافض لتحمل المسؤولية في المآل السيء للأمور، وهو الذي مارس سابقاً دوراً بارزاً في تفجير الأزمات التي يعانيها السودان فارضاً اللغة العربية على الجميع، ومستخدماً التهديد بفرض الشريعة الإسلامية في سياسةً تناوبت بين الترغيب والترهيب. وما يزال أولئك الحكام مصرّين على استخدام خطاب متخشّب يعتبر أن الحضارة العربية هي الحضارة المنتصرة على كل المكونات الأخرى في السودان، سواء أكانت في الجنوب الأفريقي الأسود أو الشرق غير العربي، وما على تلك المكوّنات إلا الرضوخ والخضوع لما يقرّره من نصبوا أنفسهم سدنة لتلك الحضارة المنتصرة.
أما في مصر فيتخذ الخطاب النقدي الحديث طابعاً آخر، إذ يلاحظ المراقب للمشهد الثقافي المصري، وخاصة في السنوات الأخيرة التي سبقت ثورة 25 يناير، محاولات لدى بعض المثقفين المصريين لإعادة اكتشاف تاريخهم الذي شوّهته التجربة الناصرية عن عمد. وما تجارب مثل مسلسل الملك فاروق للكاتبة لميس جابر، ورواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، وغير ذلك من المقالات الصحفية إلا محاولات جريئة لتقديم قراءة أخرى لهذا التاريخ، مختلفة عن الصورة النمطية الرائجة منذ ثورة يوليو، التي اعتبرت ذاتها منبع مصر الحديثة، والتي قدّمت كلّ ما سبقها على أنه خارج عن سياق الزمن والتاريخ. اكتشف المصريون شيئاً فشيئاً، واكتشف المتابعون العرب معهم، أن ذلك الماضي لم يكن مجرّد لوحة سوداء قاتمة، بل حفل بالكثير من المحطات المضيئة، والمواقف النضالية والوطنية المشرّفة، حتى فيما يخص من كان يطلق عليهم أبشع النعوت. الشيء ذاته يلاحظ لدى مثقفي العراق وسوريا في محاولاتهم لإعادة قراءة فترة ما قبل البعث، وإعادة فهم أدوار شخوصها من أمثال نوري السعيد وأديب الشيشكلي، ممن ارتبطت أسماؤهم في ذاكرة أجيال البعث بصفات قميئة كالرجعية والعمالة.
تشير الأمثلة السابقة على تنوّعها واختلافها، إلى أزمة هويّة عميقة تعاني منها الدول العربية، هوية لا تتحقّق إلا بنفي الآخر وعدم السماح له بالوجود ما لم ينصهر في بوتقة الأيديولوجيا أو الدين، أو بالأحرى في بوتقة “الثقافة المنتصرة”، بحيث يكون دائماً ثمّة خاسر ومقهور ومقموع. ولعل ما يثير الانتباه في هذه التجارب أنها عمدت إلى تبنّي خطاب أيديولجي، وإن اختلفت مقوّماته من دولة إلى أخرى، لا يكتفي بنفي الآخر وإنكار حقّه بالاختلاف فحسب، بل يعمد إلى تدمير الماضي وإلصاق أشنع الصفات به، فهو الماضي الاستعماري، الإقطاعي. ورموزه هم العميل للأجنبي، أو المتواطئ مع المؤامرات الإمبريالية، أو المستغل لدم الشعب، إلى ما هنالك من مفردات تحفل بها كتبنا المدرسية المؤدلجة. فكان أن نشأت أجيال تعتقد أن أنظمتها الحاكمة هي من صَنع التاريخ، وهي من خلق هويتها وأوجدها: هوية تماهت مع أحد المفهومين: الأيديولوجيّ، أو الدينيّ لمن ضاق ذرعاً بتلك الأيديولوجيا.
وماذا بعد؟
في الواقع لقد كانت الانتفاضات العربية التي شهدها العام المنصرم بمثابة الهزّة العنيفة التي أيقظت البعض منا من كابوس طويل. ولعلّ ما يلفت النظر حقاً، موقف الشباب الثائر في أكثر من بقعة من وطننا العربي، والذي بدا وكأنه قد نفض عنه فجأة كل الهراء السابق والذي رضعه منذ طفولته، موجداً معنًى جديداً لهويته تختصرها كلمات ثلاث: الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية.
في هذا الواقع، تحاول بعض التيارات الدينية ركوب الموجة والتقدّم إلى الصفوف الأمامية لكسب الجماهير، مستغلة حالة التعاطف الموجودة لدى شرائح مجتمعية واسعة، والناجمة عن تاريخها مع الأنظمة المهترئة ذاتها. تحاول هذه التيارات أن تقدّم نفسها كصاحبة المشروع البديل الذي طال انتظاره، المشروع الذي يزيح الأيديولوجيا ليفسح المجال أمام خطاب ديني يدغدغ المشاعر ويذكّر بالمجد التليد، لتكشف لنا أنها لم تستفد بدورها من دروس الماضي.
فيما أصيب الكثير من المثقفين العرب من متابعي المشهد الثوري بالصدمة والانكفاء، الأمر الذي تُرجم إلى مواقف مائعة ومخيّبة للأمل لعددٍ منهم. لقد وجدوا أنفسهم أمام ظاهرة غير مسبوقة، خارجة عن سياق نظرياتهم عن الثورة، إنها المرة الأولى التي تسبق فيها الثورة نظريتها، إنها المرة الأولى التي تتقدم فيها الثورة على الأيديولوجيا، وتبرز كعمل عفوي لشعوب مقهورة طال سكوتها عن الظلم الاجتماعي اللاحق بها، وبلغت نقطة الانفجار في غفلة عن تأملاتهم الثورية.
يقدّم لنا الربيع العربي فرصة غير مسبوقة قد لا تتكرّر مرة أخرى، لنقوم بقراءة عقلانية لتاريخنا بعيدة من جهة عن إلباس الماضي رداء المثالية الرومانسية البعيدة عن الواقع، وتتجنّب من جهة أخرى الوقوع في خطأ الأنظمة التي نتوق للتحرّر منها فلا تلجأ إلى تشويه هذا الماضي بما يخدم المصلحة الآنية. نحن أمام فرصة نادرة لنقوم بتشكيلٍ جديدٍ وواعٍ لهويتنا العربية، الإسلامية، الشرق الأوسطية… فهل نكون على قدر التحدي؟