By تركي الشبانات 101 - الجمعة أكتوبر 05, 2012 12:01 pm
- الجمعة أكتوبر 05, 2012 12:01 pm
#54172
--------------------------------------------------------------------------------
القضايا الخلافية بين التيار الإسلامي والعلماني
في مجال الفكر والرؤى الحضارية فإن البون شاسع والبأس شديد.. فهناك حريا فكرية تقوم بين الطرفين(3). كما نجد صراحة لدي أصحاب الإتجاه التغريبي بمختلف اتجاهاته علمانيا أو ليبراليا أو ماركسيا فكرهم يقوم على أمرين:-
1. القطيعة الكاملة مع الموروث الثقافي الإسلامي فكرا وعقيدة
2. الدعوة إلى التبي التام لكل قيم وتوجهات المدنية القريبة (4)
ثم هناك النظر إلى الإ...سلام بأنه عقيدة وليس نظاما وأنه دين مفصول عن الدولة وأن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر فيما يتعلق بأحكام الدنيا.. وهذه الإدعاءات ترجع لعاملين :
أولهما: الجهل بالشريعة
ثانيهما: تأثرهم بالثقافة الأوربية(5). وكانت هذه النظرة المتطرفة فكريا اللعلمانية هي في مراحلها الأولى.
الموقف المتسامح لعلماء المسلمين مع هذه التيارات الفكرية الغربية لابد تفاوتت العلاقات بين التيار الفكري الموروث والتيار العلماني ففي البداية كان تطبيق العلمانية في الدول الإسلامية فيه تطرف وغلو لدرجة أزاحت الإسلام عن الصدارة عمليا وفكريا وناصبته الأعداء كما نجد في تركيا أو من خلال الممارسات السياسية للدول التي تبنت المنهج الغربي سواء كان
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملامح العامة للفكر الإسلامي، ص72: 74
(2) الإسلام ومشروعات النهضة مقال إضمحلال المشروع العلماني للنهضة، د.السيد رزق الحجر ص166
(3) الملامح العامة للفكر الإسلامي ص67
(4) الإسلام ومشروعات النهضة، ص166، 167
(5) الأعمال الكاملة: عبد القادر عودة ص31، 251
على تيار أو شيوعيا كما وجدنا موقف عبد الناصر من حركة الإخوان المسلمين وهنا نتساءل عن موقف الفكر الإسلامي بعلمائه البارزين من هذا التيار ؟وهل ظل علماؤنا على نفس نهج السابقين من موقفهم الذي شهد تسامحا عاليا مع الفرق الإسلامية والفلاسفة..؟
موقف مفكري الإسلام في العصر الحديث
فهناك من دعي إلى التسامح الفكري المبني على أساس من السماحة النفسية والخلقية والتي حث عليها الدين ومحاولة الإلتقاء وتجميع الصف على القضايا المصيرية والمشتركة والتي لايختلف على تحقيقها أحد وممن يدعو إلى ذلك. د.يوسف القرضاوي بقوله: "إن من المطالب المهمة إشاعة التسامح الفكري بين أصحاب الإتجاهات الفكرية ولاسيما بين أهل الإعتدال منهم بحيث يحاور يعضهم بعضا ويسع يعضهم يعضا ويبحثوا عن الجوامع المشتركة ليلتقوا عندها وعن العدو المشترك ليواجهوه معا في جبهة واحدة"(1)
وفي هذا الصدد كتب المستشار طارق البشري عن وجوه التنافر بين الوضع العلماني والإسلامي والقومي وأبرزها تطبيق الشريعة الإسلامية "وأنه يجب أن لاتنصرف الجهود في بحث وجوه المفاضلة أو محاولة الجمع بين الإسلام والعلمانية والتي قام بها ساسة ومفكرون وإعلاميون لأنها لم تنجح حيث لا تجتمع علمانية وإسلام إلا بطريق التلفيق وبطريق صرف أي منهما إلى حقيقة معناه فهو يؤكد هنا على خصوصية كل فكرة وصعوبة هيمنتها أو دمجها في الأخرى إلا إذا كانت هذا أمر يرجع إلى الفرد في تغيير فلسفته وجدنا عند زكي نجيب محمود ويكون الحل من وجهة نظره هي أن ما يرتكز موضوعيا هو وجوه التقريب وجوانب الخلاف فما أمكن التقريب بشأنه أمكن ومالم يمكن نظرنا في تحديد منطقة الخلاف الفكري وفي أثرها الحركي ونظرنا في إمكان حصر الأثار العملية والحركية للخلاف في أضيق نطاق"(2)
وفي موضوع آخر يحث على التعاون والحوار حول القضايا المشتركة وأن تحدث توازن يبقى على الجماعة قوتها وهنا يتساءل "هل نضع مفردات مطالبنا الجماعية في وضع التآلف والتآزر؟ أم نبقيها هكذا في وضع التفكك والتنافر؟ وهل نبقي بأسنا بيننا بهذه الشدة ؟ أم نجمعه بأسا على من يخاصمنا ؟ هل نقدم لجيل المستقبل من شبابنا عناصر نهوض وإمكانات عز ونصر ؟ أم العكس ؟" (3)
وبناءاً على هذا فإن المصلحة قد تقتضي في مرحلة الإصلاحات الجزئية التنسيق المرحلي مع بعض الإتجاهات العلمانية المعتدلة لإمضاء أمر هو محل قبول من الناس كافة .. كإلغاء الأحكام العرفية وقوانين الطواريء ويكون هذا العمل من جنس حلف الفضول وسائر الأحلاف المشروعة التي تكون لنصرة المظلوم وإشاعة العدل والتناصف ونحوه وهذا ما أجازه ابن الأثير والنووي والتفريق بينه وبين الأحلاف الممنوعة التي تكون على الفتن والقتال وما منع منه الشرع وهذا ما ذهب إليه الشيخ بن صالح العثيمين.(4)
فهذه الدعوات السابقة تدعو إلى عدم بروز الخلافات وجعلها سبيلا للشقاق فتتأخر الأمة عن تحقيق أهدافها الإصلاحية المنشودة وإنما هي صهر هذه الخلافات الشخصية سواء اتفقنا أو اختلفنا معها في بوتقة المصلحة العامة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ص226، جمال البنا: الإسلام وحرية الفكر ص144-125
(2) في المسألة الإسلامية المعاصرة: ص91 طارق البشري، دار الشروق كتاب "بين الجامعة الدينية والوطنية"
(3) الملامح العامة للفكر الإسلامي: طارق البشري ص482 ، 88
(4) الثوابت والمتغيرات: د,صلاح الصاوي ص326 نقلا عن النجنوع الثمين من قتاوي الشيخ بن صالح العثيمين
أما موقف الأستاذ جمال البنا فخطى خطوة واسعة في محاولة التفصيل للقواسم المشتركة التي من الممكن أن نجتمع عليها الفكرة الإسلامية والعلمانية ومن العوامل المساعدة في تطبيق مساحة الخلاف هى طبيعة الإسلام نفسه وإقراره للتعددية وحرية الفكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الإسلامي الصحيح الذي سبق ذكره بالإضافة إلى انتقاء المؤسسة الدينية منه (1)
وفي سبيل تضيق هوة الخلاف فلابد من عرض الإسلام بصورة صحيحة لأن أغلب أحكام المفكرين العلمانيين تأتي من الجهل بأحكامه في أمور الحياة المتنوعة أو المعرفة السطحية والمحدودة عنه وهذا ما ذهب إليه الشهيد عبد القادر عودة قائلا: "من الإنصاف لهؤلاء أن نقول إن أغلبهم على جهلهم بالشريعة الإسلامية متدينون يؤمنون إيمانا عميقا ويؤدون عبادتهن بقدر ما يعلمون وهم على إستعداد طيب لتعلم مالايعلمون لكنهم لا يطيقون أن يرجعوا بأنفسهم إلى كتب الشريعة للألمام بما يجهلون.. لأن البحث في كتب الشريعة غير ميسر إلا لمن مرن على قراءتها طويلا"(2)
وبالإضافة إلى ما سبق فإن القضايا الخلافية والمتعلقة بالدين والدولة وحرية الإعتقاد أو مناهضة عقوبة الردة* فإن هناك من علماء المسلمين ومفكريهم .(3) ماله إجتهادات معتمدة على الكتاب والسنة من الممكن أن يلتقي عليها الطرفين أو يتقاربا لأن الإسلام يشملهم جميعا بسماحته
موقف المجددون المسلمون من التيار الفكري العلماني
إن مما نستقرئه من التاريخ أن معظم مجددي الإسلام قد ظهروا والحركة العلمانية في قمة أوجهها حتى لا تكاد تسلم منها دولة إسلامية صاحب ذلك الكثير من الدعوات والأفكار المتطرفة التي تجهل حقيقة الإسلام فحاول هؤلاء المجددون أن يحافظوا على الإسلام في نفوس أبنائه ضد هذه الموجة العاتية وتراوحت مناهجهم في هذا الصدد ولكنهم أجمعوا على إقامة جسور مع التيارات الفكرية الغربية وتراوحت مشاربهم في هذا الصدد منهم:
1- محمد إقبال (باكستان)
لقد لاحظ إقبال وجود نزعة معادية حاولت أن نشكك في الدين بعامة وفي الإسلام بخاصة على أيدي بعض الفلاسفة الوضعيين والماديين في الغرب. فكان الأساس الذي أقام عليه دعوته للإصلاح الشامل والنهضة هو الإسلام محاولا تفنيد هذه الشبهات(4) ومنها
القول بأن الدين يتعارض مع العلم "وفي رأي إقبال أن هذا العداء الذي حدث في أوربا بين العلم والدين لا يمكن أن يحدثولا أن يتصور بين الإسلام والعلم لأنه ليس هناك دين كالإسلام في حثه على العلم ودعوته إلى التفكير والنظر في مكوث السماوات والأرض.. فالحركة العلمية الكبرى التي نشأ منها العلم الحديث في القرب قد نشأت من وحي الإسلام وتوجيهه(5)
كما حاول إقبال أن يثبت كيف أن الإسلام هو دين النهضة والحضارة والتقدم وأنه صالح لكل العصور وأن الحياة في نظر الإسلام هى متحركة متطورة لاتعرف الوقوف والركود ومن ــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه مسألة خلافية الآن هل يعاقب المرتد بالقتل أم إن شرط ذلك أن يعادي الإسلام ويهاجمه؟ مرادهوفمان ص73
(1) العلمانية القومية الإشتراكية: جمال البنا، ص15 : 38
(2) الأعمال الكاملة: عبد القادر عودة ص30
(3) ينظر إلى الإسلام كبديل: مرادهوفمان ص73، 74، الشيخ محمد زكي ابراهيم: السلفية المعاصرة، جمال البنا "الإسلام دين وأمة"، الإسلام وحرية الفكر"
(4) مشروع النهضة عند إقبال ودور الدين فيه: د.عبد المقصود عبد الغني بحث مقدم في المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية من كتاب الإسلام ومشروعات النهضة الحديثة ص294، 245
(5) محمد إقبال ومنهجية في تجديد الفكر الإسلامي د.عبد المقصود عبد الغني ص81 مكتبة الزهراء القاهرة
ثم أكد على قبول الشريعة للتطور لهذا كان التجديد عنده شاملا للشريعة والعقيدة والفكر ويؤكد هذا قوله "إن حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته المعاصرة (1) أي نأخذ من التراث ما يكون دافعا لنا إلى التطورفاستهدف إقبال أن يقف ضد تلك الثنائية التي تروج بين المسلمين وهى ثنائية الروح والمادة وثنائية الدين والدولة.. والقديم الأصلي الموروث والجديد البراق الوافد ويذكر أن هذه الثنائية ليست من الإسلام كما يفهمه ويقول: إن الدين في الإسلام "هو أسمى مظاهره وليس عقيدة فحسب أو كهنوتا أو شعيرة من الشعائر بل هو وحده القادر على اعداد الإنسان العصري إعدادا خلقيا ئؤهله لتحمل التبعه العظمى التي لابد أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث.. (2)
إذا فإطار العلاقة هنا قائم على الحوار والحجة لمناهضة دعاوي الطرف الآخر من طريق الدفاع عن الإسلام بإجلاء الصورة الصحيحة له وكما كان في عصوره الأولى
2- سعيد النورسي (تركيا)
حين يكون الإسلام مهدد في وجوده تكون الإستجابة بعيدة عن الوديان العنيفة والسياسة متبعة سبيل الإنتشار بالتسرب العقدي الهادئ الذي يركز جهده على حفظ العقيدة والعبادات وأقصى أمنية أن يوصى الناس بضبط سلوكهم الفردي على وفق وصايا الدين ومن هؤلاء سعيد النورسي في تركيا وجماعة التبليغ في الهند (3)
كانت حركة سعيد النورسي في تركيا إيان حكم كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية وأقصى الإسلام عن كل جوانب الحياة وألزم الناس بالنظم والشرائع الغربية وفي ظل هذه الظروف طالب سعيد النورسي بتطبيق مبادئ الإسلام وأصول الشريعة فنفي وبدأ يحرر "رسائل النور" وفيها يدعو إلى التمسك بالإسلام داعيا للوسطية والإعتدال والتسامح(4)
فمن إصلاحاته التي اشتملت جوانب الحياة نقتصر منها على الإصلاح العلمي ودعوته إلى الإغتراف من العلم وأن رقي الإنسان يتحقق بترابط العلم والإيمان فماذا يفيد التفوق في علوم الإقتصاد وملايين البشر يموتون جوعا وطالب بالإجتهاد لإستخراج كنوز القرآن وإبراز عظمة الشريعة وما تحويه من مدنيه تلائم أرقى العصور الحضارية ومن هنا أصبح الإجتهاد ضرورة عقائدية تقرضها روح العصر وطالب بالإلتزام بالقرآن وعدم تقليد الغرب بطريقة عمياء لأن ذلك جعلنا نترك جوهر الإسلام وحصرنا النظر في ظاهرة فقط فأسأنا الفهم وأسأنا الأدب معه وأشار إلى أن قضية الإسلام ليست قضية صراع سياسي وإنما هي صراع حضاري(5)
وعلى هذا فإنه كلما كانت الراية لغير الإسلام في بلد من البلاد كانت المداراة أنفع من الهجر في التعامل مع المخالف من أهل البدع ممن لا يزالون على أصل إقرارهم بالإسلام (6) وكما يقول الشيخ بن العثيمين .. إن كان في هجره مصلحة فعلناه وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لايحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث "(7)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1. تجديد الفكر الديني في الإسلام: نحمد إقبال، ص193 ترجمة عباس محمود نقلا عن الإسلام ومشروعات النهضة ص261 :268
2. لملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي ص20
3. المرجع السابق ص26، 27
4. المرجع السابق ص29
5. بديع الزمان النورسي: الملاحق ص77، 88 ترجمةإحسان قاسم، بديع الزمان النورسي: الكلمات ص761 بديع الزمان النورسي: محمد رشيد عبيد، في مؤتمر عالمي حول تجديد الفكر الإسلامي ص86، 78 نقلا عن مشروع النهضة عند النورسي، أ.د فردوس أبو المعاطي بحث في كتاب " الإسلام ومشروعات النهضة ص 543، 569
6. الثوابت والمتغيرات: د.صلاح الصاوي ص323،324
7. المجموع الثمين من فتاوى محمد بن صالح العثيمين 1/31 وينظر إلى فتاوى ابن تيمية 28/206، 207
"فكل مؤمن.. وإن كان فاسقا فإنه يحرم هجره مالم يكن في الهجر مصلحة.."(1) وعلى طريق الحوار والنقد للإتجاه العلماني كان الشيخ محمد عبده
3- الشيخ محمد عبده
كان من الناقدين للنزعة المادية للنموذج الغربي الحضاري مبرزا الإسلام بوسطيته والملائم للفطرة الإنسانية قائلا عن الحضارة الغربية "إنها مدنية الملك والسلطان ..حاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم "الليرا" عند قوم آخرين ولا دخل للإنجيل في شئ من ذلك.." ووعنى الإسلام ونموذجه الحضاري يقول "..الإسلام لم يدع مال قيصر بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله .. فكان الإسلام : كمالا للشخص وألفة في البيت ونظاما للملك امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه" (2) وأنه في هذا الصدد ينبغي أن نعرف أن الشيخ محمد عبده كان له علاقة مع رأس السلطة العلماني في هذا الوقت وهو اللورد كرومر ولكن ربما رأي أن في ذلك تحقيقا لمصلحة الإسلام من جوانب معينة. فهو كغيره لم يدع إلى القطيعة وإنما مد الجسور مع التيارات الفكرية المغايرة وعلى نفوس الدرب كان حسن البنا(3) وكان هذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه تعامل بتسامح مع كل الفئات ذوي التوجهات والأراء المتباينة فنجده صلى الله عليه وسلم كثيرا ما أثنى على حلف الفضول الذي كان في الجاهلية ويقول لو دعيت إليه الآن لأجبت –وكان رؤسائه من المشركين
والمهم أن حركة التجديد الفكرية الإسلامية حاولت تجميع الصف الإسلامي علي مختلف توجهاته متجاوزة الخلاف وأنها كما يقول المستشار طارق البشري: "اتخذت سمات عامة هي تأكيد دعوة التوحيد في صورته المجردة بالرجوع للأصول من الأحكام المنزلة بالقرآن والسنة والأخذ عنها مباشرة ويتبقى القداسة عن المذاهب المختلفة "(4) ولا شك أن كل هذه رسائل تساعد على التقارب مع أصحاب التيارات الفكرية المغايرة وتنقية الصورة المشوهة العالقة في أذهانهم عن الإسلام وأحكامه مستعملة المرونة حين تشتد العواصف العاتبة على الإسلام.
.. ولاشك أن أصحاب الفكر التجديدي كانت لهم سمات شخصية انعكست على أفكارهم المستنيرة إلى نشر المحبة ونبذ الكره والتباغض بين أفراد المجتمع مهما علت الإختلافات فلا يكون ذلك سببا للتفرق الذي نهى عنه الدين وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثالا لقوله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"
وفي هذا الصدد يقول دكتور ماجد عرسان الكيلاني: "الإنسان المجدد إنسان محب للإنسانية متواضع يؤمن بالحوار والإقتناع ويرفض الإنفعال والعنف ويخضع أعماله للتفكير والنقد الواعي ولا يرفض حق الآخرين في التفكير والإختيار ولا يحاول أن يفرض إختياراته عليهم .. ولا يحاولون سحق خصومهم وإنما يحاولون إقناعهم وتحويلهم لمناصرة أفكارهم والعمل معهم . صحيح أن للمجددين الحق في الوقوف ضد إعتداء الآخرين الذين ينتهكون حرماتهم ويحاولون باسم الحرية إسكاتهم وذبح حرياتهم إلا أنهم لا يستفزون ولا يتوعدونهم ويظلون يمدون جسور التفاهم معهم وإذا ظهر عليهم عفوا عنهم وسامحوهم ثم فتحوا الأبواب مشرعة لمن يبدل منهم.." (5)
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق ص324
(2) الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده: محمد عمارة ج3 ص223 ،307
(3) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي: ص27 ومن دلائل ذلك أن حسن البنا دعى إلى ضرورة الجلاء ودعوة العلاقات الودية على ماكانت عليه من صفاء قبل الإستعمار وطالب الدول الغربية بإزالة الوهم الناتج من أن تطبيق الإسلام يباعد بين البلاد الإسلامية والبلاد الغربية المسيحية ، مجموعة رسائل الإمام الشهيد: رسالة نحو النور ص186، 187، 218 نقلا عن "الإخوان المسامون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المعاصرة : د.ذكريا سليمان بيومي ص155
(4) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي: ص53
(5) التربية والتجديد وتنمية الفاعلية عند المسلم المعاصر: ماجد عرسان الكيلاني ص105: 107
ومن دلائل صدق كلام د.ماجد الكيلاني أننا وجدنا رجوع أقطاب العلمانية عن الكثير من أفكارهم التي تتعارض مع المفهوم الصحيح عن الإسلام فحاولوا أن يكونوا حلقة الوصل بين التيارين وتقليص ما بينهما من فجوات ناجمة عن سوء الفهم للإسلام منهم :
دكتور ذكي نجيب محمود الذي يقول في كتابه "رؤية إسلامية" لقد أوهمنا أنفسنا وهما عجيبا قيد خطواتنا على طريق التقدم وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضا بين أن يكون الإنسان مسلما بعقيدته الدينية وأن يكون في الوقت نفسه ساعيا إلى ما يسعى إليه أهل الغرب من إيجاد لعلم جديد وقد كان الأمر يكون كذلك لو أن إسلامنا لم يجعل العلم وتطبيقاته ركنا أساسيا في بنائه وإني لأتصور أن الأمة الإسلامية لوكانت اليوم على مثل قوتها الأولى لكانت هى التي ملكت زمام عصرنا هذا بكل ما فيه من علوم وتقنيات(1)
ثم هو ينبذ الفكرة القائلة بفصل الدين عن الدولة موضحا أن الإسلام يتسم بشموله وعمومه لكافة مناشط الحياه ومما يدل على ذلك ما ذكره في مقال له نشر في الأهرام سنة 1985 قائلا: "إن الذين يقولون إن العلمانية خطر على الإسلام فاتهم أنهم في كل ما ذكروه إنما يتكلمون عن ديانات أخرى غير الإسلام وأنا أطالبهم أن يذكروا لي مثلا واحدا مر في التاريخ الإسلامي على شعب مسلم قد تم فيه الفصل بين الدين والدولة بالصورة التي يذكرونها. وأنا أطلب منهم أن يصوروا لي كيف يمكن لمسلم يحيي دينه الإسلام ثم يفصل بين الدولة والدين.. وذلك لأن للإسلام طبيعته الخاصة به فهو طريقة حياة فوق أنه دين بالمعنى المفهوم عند أصحاب الديانات الأخرى (2)
ومن العلماء البارزين الذين رجعوا عن الكثير من المفاهيم الخاطئة تحت تأثير الإنبهار بالغرب ونموذجه العلماني طه حسين والشيخ علي عبد الرازق "فطه حسين" في كتابه "الوعد الحق" تخلى عن نظريته عن حضارة البحر الأبيض المتوسط وركز على الإسلام باعتباره مذهبا ثوريا ودينا للحرية والمساواة والعدالة الإجتماعية.. وبعد قيام ثورة يوليو 1952 أصبح حلم الوحدة العربية يراود كل العرب كتب معلنا تأييده لهذه الوحدة العربية بشرط أن يصبح القرآن الكريم كما كان في السابق قاعدة لهذه الوحدة(3)
وأعتقد أن كثيرا مما يتبنون النهج العلماني في التفكير إذا أطلعوا على المراجعات لهؤلاء الأعلام البارزين في دنيا الفكر العربي الإسلامي والذي لا يختلف عليهم أحد فسوف يرجعون عن كثير من المفاهيم المغلوطة عن دينهم أو في أقل تقدير لا يبدون استخفافهم حين القول بأنه صالح لكل زمان ومكان. فإن أبو افلا سبيل إلا استعمال الأساليب التي دعا إليها علماؤنا ومفكرينا والقائمة على الحوار والمودة والتجاوز عن نقاط الخلاف الحساسة والتعاون على ماهو مشترك لخدمة وطننا وأمتنا ونبذ العنف مهما كانت الاستفزازات والإحتساب إلى الله ثقة بقوله تعالى "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا" ويوم يقوم (الأشهاد) ونبذا للعنف واستحلال الدم الذي لا يمت للدين بأي صلة ويتعارض مع إقرار الإسلام لحرية الفكر ومنهجه وما اتبعه علماء المسلمين مع المخالفين لهم والتي قد بلغت ذروتها كما أسلفنا من تسامح وصبر وتورعهم الشديد عن رميهم بالكفر لأن الإيمان متعلق بالقلب ولا يعلم ما في القلوب إلا الله. ولايعد الإنسان كافرا إلا إذا أقر بلسانه على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
زكي نجيب محمود: رؤية إسلامية، ص8
"ملاك الحقيقة المطلقة" د.مراد وهبة ص64، 65 الهيئة المصرية العامة للكتاب
مدخل لدراسة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر: د.السيد رزق الحجر ص294 الإسلام بين التنوير والتزوير" ص162 محمد عمارة، بحث أضمحلال المشروع العلماني للنهضة د.السيد رزق الحجر ص177: 192 المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية، كلية دار العلوم
وعلى هذا فإن العنف مرفوض شرعا ولا يجوز إلا في حالة واحدة يوضحها د.يوسف القرضاوي بقوله: "إن العنف الوحيد المشروع هو العنف لمقاومة الإحتلال الغاصب مثل مقاومة الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي البوسنة والهرسك وفي كوسوفا وكشمير وهو مايجب أن يقرره أهل الحل والعقد ولا يترك الأمر فوضى لكل من يقدر على حمل السلاح(1) فهناك ضوابط حتى للكفاح المسلح مع الأعداء
فكل ما سبق يمثل أساس أقامه الإسلام وعلمائه ومثلت تربة صالحة بلغت أقصى مدى مسموح لتعددية الأفكار والأراء وحريتها دون قيد أو إرهاب إلا ضمير الإنسان وعقله وخوفه من ربه وكلها ضوابط ذاتية تتفاوت من إنسان لآخر حسب مرجعيته والأيديولوجية التي يتبناها وليس قيودا خارجية تعيق نمو الأفكار وتنوعها إنطلاقا من نظرية الإسلام في الإختلاف بأنه إختلاف للتكامل وليس للتنافر والشقاق والتباغض وقد نختلف مع التيارات الفكرية الأخرى في قضايا لا يمكن قبول لي عنق الإسلام لها أو خروجا به عن مضامنيه الصحيحة ولكن حينذاك يكون هناك آليات للحوار والإختلاف لا تخرج عن الأداب التي دعى إليها ديننا مع المتخالفين والأجدى أن ننفق ونتعاون على مافيه خيرا أمتنا وكما يقول الشاطبي في الموافقات كل مسألة لايبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلب شرعا(2)
ومن أبلغ ما يختتم به في هذا الموضوع قول الشيخ محمد الغزالي "إن منابع التقدم العالمي بدأت من الإنسان الحر في فطرته وفكرته فحرروا الطبائع والأفكار تفقهوا معنى الدين وتذوقوا معنى الدنيا(3)
وكما يقول أيضا د.حسين الحاج "إن حرية الرأي والعقول في الحدود التي وضعتها الشريعة الإسلامية تعود بلا شك على جميع الأفراد بالنفع العام والتقدم المثمر وتؤدي إلى نمو الإخاء والحب والإحترام بين الأفراد والجماعات وبذلك نحفظ توازن المجتمع ووحدة صفوفه وضبط الأمور على أكمل وجه(4) وقد توصل إلى هذه النتيجة بعد دراسة مستفيضة لهذا الموضوع في كتابه النظم الإسلامية
وفي هذا الصدد يذكر مظاهر حرية الفكر في صدر الإسلام :بأنه في ظل الإسلام استعمل الناس هذه الحرية (الفكرية) في التعبير بشكل واسع من حرية التعبير عن الرأي إلى حرية المحاورة إلى حرية النقد للحكم القائم إذا شذ عن طريق الحق .. بوسائل عدة عن طريق الكتابة وعن طريق الخطابة وبطرق أخرى مختلفة.. (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد: ص331
2. كيف نتعامل مع التراث والتذهب والإختلاف، ص260 نقلا عن الموافقات للشاطبي "المقدمة الخامسة"
3. الإسلام والمناهج الإشتراكية: محمد الغزالي، ص27 نهضة مصر
4. النظم الإسلامية: د.حسين الحاج ص53
5. حضارة العرب في صدر الإسلام: د.حسين الحاج ص244 (بتصوف)
القضايا الخلافية بين التيار الإسلامي والعلماني
في مجال الفكر والرؤى الحضارية فإن البون شاسع والبأس شديد.. فهناك حريا فكرية تقوم بين الطرفين(3). كما نجد صراحة لدي أصحاب الإتجاه التغريبي بمختلف اتجاهاته علمانيا أو ليبراليا أو ماركسيا فكرهم يقوم على أمرين:-
1. القطيعة الكاملة مع الموروث الثقافي الإسلامي فكرا وعقيدة
2. الدعوة إلى التبي التام لكل قيم وتوجهات المدنية القريبة (4)
ثم هناك النظر إلى الإ...سلام بأنه عقيدة وليس نظاما وأنه دين مفصول عن الدولة وأن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر فيما يتعلق بأحكام الدنيا.. وهذه الإدعاءات ترجع لعاملين :
أولهما: الجهل بالشريعة
ثانيهما: تأثرهم بالثقافة الأوربية(5). وكانت هذه النظرة المتطرفة فكريا اللعلمانية هي في مراحلها الأولى.
الموقف المتسامح لعلماء المسلمين مع هذه التيارات الفكرية الغربية لابد تفاوتت العلاقات بين التيار الفكري الموروث والتيار العلماني ففي البداية كان تطبيق العلمانية في الدول الإسلامية فيه تطرف وغلو لدرجة أزاحت الإسلام عن الصدارة عمليا وفكريا وناصبته الأعداء كما نجد في تركيا أو من خلال الممارسات السياسية للدول التي تبنت المنهج الغربي سواء كان
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملامح العامة للفكر الإسلامي، ص72: 74
(2) الإسلام ومشروعات النهضة مقال إضمحلال المشروع العلماني للنهضة، د.السيد رزق الحجر ص166
(3) الملامح العامة للفكر الإسلامي ص67
(4) الإسلام ومشروعات النهضة، ص166، 167
(5) الأعمال الكاملة: عبد القادر عودة ص31، 251
على تيار أو شيوعيا كما وجدنا موقف عبد الناصر من حركة الإخوان المسلمين وهنا نتساءل عن موقف الفكر الإسلامي بعلمائه البارزين من هذا التيار ؟وهل ظل علماؤنا على نفس نهج السابقين من موقفهم الذي شهد تسامحا عاليا مع الفرق الإسلامية والفلاسفة..؟
موقف مفكري الإسلام في العصر الحديث
فهناك من دعي إلى التسامح الفكري المبني على أساس من السماحة النفسية والخلقية والتي حث عليها الدين ومحاولة الإلتقاء وتجميع الصف على القضايا المصيرية والمشتركة والتي لايختلف على تحقيقها أحد وممن يدعو إلى ذلك. د.يوسف القرضاوي بقوله: "إن من المطالب المهمة إشاعة التسامح الفكري بين أصحاب الإتجاهات الفكرية ولاسيما بين أهل الإعتدال منهم بحيث يحاور يعضهم بعضا ويسع يعضهم يعضا ويبحثوا عن الجوامع المشتركة ليلتقوا عندها وعن العدو المشترك ليواجهوه معا في جبهة واحدة"(1)
وفي هذا الصدد كتب المستشار طارق البشري عن وجوه التنافر بين الوضع العلماني والإسلامي والقومي وأبرزها تطبيق الشريعة الإسلامية "وأنه يجب أن لاتنصرف الجهود في بحث وجوه المفاضلة أو محاولة الجمع بين الإسلام والعلمانية والتي قام بها ساسة ومفكرون وإعلاميون لأنها لم تنجح حيث لا تجتمع علمانية وإسلام إلا بطريق التلفيق وبطريق صرف أي منهما إلى حقيقة معناه فهو يؤكد هنا على خصوصية كل فكرة وصعوبة هيمنتها أو دمجها في الأخرى إلا إذا كانت هذا أمر يرجع إلى الفرد في تغيير فلسفته وجدنا عند زكي نجيب محمود ويكون الحل من وجهة نظره هي أن ما يرتكز موضوعيا هو وجوه التقريب وجوانب الخلاف فما أمكن التقريب بشأنه أمكن ومالم يمكن نظرنا في تحديد منطقة الخلاف الفكري وفي أثرها الحركي ونظرنا في إمكان حصر الأثار العملية والحركية للخلاف في أضيق نطاق"(2)
وفي موضوع آخر يحث على التعاون والحوار حول القضايا المشتركة وأن تحدث توازن يبقى على الجماعة قوتها وهنا يتساءل "هل نضع مفردات مطالبنا الجماعية في وضع التآلف والتآزر؟ أم نبقيها هكذا في وضع التفكك والتنافر؟ وهل نبقي بأسنا بيننا بهذه الشدة ؟ أم نجمعه بأسا على من يخاصمنا ؟ هل نقدم لجيل المستقبل من شبابنا عناصر نهوض وإمكانات عز ونصر ؟ أم العكس ؟" (3)
وبناءاً على هذا فإن المصلحة قد تقتضي في مرحلة الإصلاحات الجزئية التنسيق المرحلي مع بعض الإتجاهات العلمانية المعتدلة لإمضاء أمر هو محل قبول من الناس كافة .. كإلغاء الأحكام العرفية وقوانين الطواريء ويكون هذا العمل من جنس حلف الفضول وسائر الأحلاف المشروعة التي تكون لنصرة المظلوم وإشاعة العدل والتناصف ونحوه وهذا ما أجازه ابن الأثير والنووي والتفريق بينه وبين الأحلاف الممنوعة التي تكون على الفتن والقتال وما منع منه الشرع وهذا ما ذهب إليه الشيخ بن صالح العثيمين.(4)
فهذه الدعوات السابقة تدعو إلى عدم بروز الخلافات وجعلها سبيلا للشقاق فتتأخر الأمة عن تحقيق أهدافها الإصلاحية المنشودة وإنما هي صهر هذه الخلافات الشخصية سواء اتفقنا أو اختلفنا معها في بوتقة المصلحة العامة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ص226، جمال البنا: الإسلام وحرية الفكر ص144-125
(2) في المسألة الإسلامية المعاصرة: ص91 طارق البشري، دار الشروق كتاب "بين الجامعة الدينية والوطنية"
(3) الملامح العامة للفكر الإسلامي: طارق البشري ص482 ، 88
(4) الثوابت والمتغيرات: د,صلاح الصاوي ص326 نقلا عن النجنوع الثمين من قتاوي الشيخ بن صالح العثيمين
أما موقف الأستاذ جمال البنا فخطى خطوة واسعة في محاولة التفصيل للقواسم المشتركة التي من الممكن أن نجتمع عليها الفكرة الإسلامية والعلمانية ومن العوامل المساعدة في تطبيق مساحة الخلاف هى طبيعة الإسلام نفسه وإقراره للتعددية وحرية الفكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الإسلامي الصحيح الذي سبق ذكره بالإضافة إلى انتقاء المؤسسة الدينية منه (1)
وفي سبيل تضيق هوة الخلاف فلابد من عرض الإسلام بصورة صحيحة لأن أغلب أحكام المفكرين العلمانيين تأتي من الجهل بأحكامه في أمور الحياة المتنوعة أو المعرفة السطحية والمحدودة عنه وهذا ما ذهب إليه الشهيد عبد القادر عودة قائلا: "من الإنصاف لهؤلاء أن نقول إن أغلبهم على جهلهم بالشريعة الإسلامية متدينون يؤمنون إيمانا عميقا ويؤدون عبادتهن بقدر ما يعلمون وهم على إستعداد طيب لتعلم مالايعلمون لكنهم لا يطيقون أن يرجعوا بأنفسهم إلى كتب الشريعة للألمام بما يجهلون.. لأن البحث في كتب الشريعة غير ميسر إلا لمن مرن على قراءتها طويلا"(2)
وبالإضافة إلى ما سبق فإن القضايا الخلافية والمتعلقة بالدين والدولة وحرية الإعتقاد أو مناهضة عقوبة الردة* فإن هناك من علماء المسلمين ومفكريهم .(3) ماله إجتهادات معتمدة على الكتاب والسنة من الممكن أن يلتقي عليها الطرفين أو يتقاربا لأن الإسلام يشملهم جميعا بسماحته
موقف المجددون المسلمون من التيار الفكري العلماني
إن مما نستقرئه من التاريخ أن معظم مجددي الإسلام قد ظهروا والحركة العلمانية في قمة أوجهها حتى لا تكاد تسلم منها دولة إسلامية صاحب ذلك الكثير من الدعوات والأفكار المتطرفة التي تجهل حقيقة الإسلام فحاول هؤلاء المجددون أن يحافظوا على الإسلام في نفوس أبنائه ضد هذه الموجة العاتية وتراوحت مناهجهم في هذا الصدد ولكنهم أجمعوا على إقامة جسور مع التيارات الفكرية الغربية وتراوحت مشاربهم في هذا الصدد منهم:
1- محمد إقبال (باكستان)
لقد لاحظ إقبال وجود نزعة معادية حاولت أن نشكك في الدين بعامة وفي الإسلام بخاصة على أيدي بعض الفلاسفة الوضعيين والماديين في الغرب. فكان الأساس الذي أقام عليه دعوته للإصلاح الشامل والنهضة هو الإسلام محاولا تفنيد هذه الشبهات(4) ومنها
القول بأن الدين يتعارض مع العلم "وفي رأي إقبال أن هذا العداء الذي حدث في أوربا بين العلم والدين لا يمكن أن يحدثولا أن يتصور بين الإسلام والعلم لأنه ليس هناك دين كالإسلام في حثه على العلم ودعوته إلى التفكير والنظر في مكوث السماوات والأرض.. فالحركة العلمية الكبرى التي نشأ منها العلم الحديث في القرب قد نشأت من وحي الإسلام وتوجيهه(5)
كما حاول إقبال أن يثبت كيف أن الإسلام هو دين النهضة والحضارة والتقدم وأنه صالح لكل العصور وأن الحياة في نظر الإسلام هى متحركة متطورة لاتعرف الوقوف والركود ومن ــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه مسألة خلافية الآن هل يعاقب المرتد بالقتل أم إن شرط ذلك أن يعادي الإسلام ويهاجمه؟ مرادهوفمان ص73
(1) العلمانية القومية الإشتراكية: جمال البنا، ص15 : 38
(2) الأعمال الكاملة: عبد القادر عودة ص30
(3) ينظر إلى الإسلام كبديل: مرادهوفمان ص73، 74، الشيخ محمد زكي ابراهيم: السلفية المعاصرة، جمال البنا "الإسلام دين وأمة"، الإسلام وحرية الفكر"
(4) مشروع النهضة عند إقبال ودور الدين فيه: د.عبد المقصود عبد الغني بحث مقدم في المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية من كتاب الإسلام ومشروعات النهضة الحديثة ص294، 245
(5) محمد إقبال ومنهجية في تجديد الفكر الإسلامي د.عبد المقصود عبد الغني ص81 مكتبة الزهراء القاهرة
ثم أكد على قبول الشريعة للتطور لهذا كان التجديد عنده شاملا للشريعة والعقيدة والفكر ويؤكد هذا قوله "إن حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته المعاصرة (1) أي نأخذ من التراث ما يكون دافعا لنا إلى التطورفاستهدف إقبال أن يقف ضد تلك الثنائية التي تروج بين المسلمين وهى ثنائية الروح والمادة وثنائية الدين والدولة.. والقديم الأصلي الموروث والجديد البراق الوافد ويذكر أن هذه الثنائية ليست من الإسلام كما يفهمه ويقول: إن الدين في الإسلام "هو أسمى مظاهره وليس عقيدة فحسب أو كهنوتا أو شعيرة من الشعائر بل هو وحده القادر على اعداد الإنسان العصري إعدادا خلقيا ئؤهله لتحمل التبعه العظمى التي لابد أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث.. (2)
إذا فإطار العلاقة هنا قائم على الحوار والحجة لمناهضة دعاوي الطرف الآخر من طريق الدفاع عن الإسلام بإجلاء الصورة الصحيحة له وكما كان في عصوره الأولى
2- سعيد النورسي (تركيا)
حين يكون الإسلام مهدد في وجوده تكون الإستجابة بعيدة عن الوديان العنيفة والسياسة متبعة سبيل الإنتشار بالتسرب العقدي الهادئ الذي يركز جهده على حفظ العقيدة والعبادات وأقصى أمنية أن يوصى الناس بضبط سلوكهم الفردي على وفق وصايا الدين ومن هؤلاء سعيد النورسي في تركيا وجماعة التبليغ في الهند (3)
كانت حركة سعيد النورسي في تركيا إيان حكم كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية وأقصى الإسلام عن كل جوانب الحياة وألزم الناس بالنظم والشرائع الغربية وفي ظل هذه الظروف طالب سعيد النورسي بتطبيق مبادئ الإسلام وأصول الشريعة فنفي وبدأ يحرر "رسائل النور" وفيها يدعو إلى التمسك بالإسلام داعيا للوسطية والإعتدال والتسامح(4)
فمن إصلاحاته التي اشتملت جوانب الحياة نقتصر منها على الإصلاح العلمي ودعوته إلى الإغتراف من العلم وأن رقي الإنسان يتحقق بترابط العلم والإيمان فماذا يفيد التفوق في علوم الإقتصاد وملايين البشر يموتون جوعا وطالب بالإجتهاد لإستخراج كنوز القرآن وإبراز عظمة الشريعة وما تحويه من مدنيه تلائم أرقى العصور الحضارية ومن هنا أصبح الإجتهاد ضرورة عقائدية تقرضها روح العصر وطالب بالإلتزام بالقرآن وعدم تقليد الغرب بطريقة عمياء لأن ذلك جعلنا نترك جوهر الإسلام وحصرنا النظر في ظاهرة فقط فأسأنا الفهم وأسأنا الأدب معه وأشار إلى أن قضية الإسلام ليست قضية صراع سياسي وإنما هي صراع حضاري(5)
وعلى هذا فإنه كلما كانت الراية لغير الإسلام في بلد من البلاد كانت المداراة أنفع من الهجر في التعامل مع المخالف من أهل البدع ممن لا يزالون على أصل إقرارهم بالإسلام (6) وكما يقول الشيخ بن العثيمين .. إن كان في هجره مصلحة فعلناه وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لايحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث "(7)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1. تجديد الفكر الديني في الإسلام: نحمد إقبال، ص193 ترجمة عباس محمود نقلا عن الإسلام ومشروعات النهضة ص261 :268
2. لملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي ص20
3. المرجع السابق ص26، 27
4. المرجع السابق ص29
5. بديع الزمان النورسي: الملاحق ص77، 88 ترجمةإحسان قاسم، بديع الزمان النورسي: الكلمات ص761 بديع الزمان النورسي: محمد رشيد عبيد، في مؤتمر عالمي حول تجديد الفكر الإسلامي ص86، 78 نقلا عن مشروع النهضة عند النورسي، أ.د فردوس أبو المعاطي بحث في كتاب " الإسلام ومشروعات النهضة ص 543، 569
6. الثوابت والمتغيرات: د.صلاح الصاوي ص323،324
7. المجموع الثمين من فتاوى محمد بن صالح العثيمين 1/31 وينظر إلى فتاوى ابن تيمية 28/206، 207
"فكل مؤمن.. وإن كان فاسقا فإنه يحرم هجره مالم يكن في الهجر مصلحة.."(1) وعلى طريق الحوار والنقد للإتجاه العلماني كان الشيخ محمد عبده
3- الشيخ محمد عبده
كان من الناقدين للنزعة المادية للنموذج الغربي الحضاري مبرزا الإسلام بوسطيته والملائم للفطرة الإنسانية قائلا عن الحضارة الغربية "إنها مدنية الملك والسلطان ..حاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم "الليرا" عند قوم آخرين ولا دخل للإنجيل في شئ من ذلك.." ووعنى الإسلام ونموذجه الحضاري يقول "..الإسلام لم يدع مال قيصر بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله .. فكان الإسلام : كمالا للشخص وألفة في البيت ونظاما للملك امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه" (2) وأنه في هذا الصدد ينبغي أن نعرف أن الشيخ محمد عبده كان له علاقة مع رأس السلطة العلماني في هذا الوقت وهو اللورد كرومر ولكن ربما رأي أن في ذلك تحقيقا لمصلحة الإسلام من جوانب معينة. فهو كغيره لم يدع إلى القطيعة وإنما مد الجسور مع التيارات الفكرية المغايرة وعلى نفوس الدرب كان حسن البنا(3) وكان هذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه تعامل بتسامح مع كل الفئات ذوي التوجهات والأراء المتباينة فنجده صلى الله عليه وسلم كثيرا ما أثنى على حلف الفضول الذي كان في الجاهلية ويقول لو دعيت إليه الآن لأجبت –وكان رؤسائه من المشركين
والمهم أن حركة التجديد الفكرية الإسلامية حاولت تجميع الصف الإسلامي علي مختلف توجهاته متجاوزة الخلاف وأنها كما يقول المستشار طارق البشري: "اتخذت سمات عامة هي تأكيد دعوة التوحيد في صورته المجردة بالرجوع للأصول من الأحكام المنزلة بالقرآن والسنة والأخذ عنها مباشرة ويتبقى القداسة عن المذاهب المختلفة "(4) ولا شك أن كل هذه رسائل تساعد على التقارب مع أصحاب التيارات الفكرية المغايرة وتنقية الصورة المشوهة العالقة في أذهانهم عن الإسلام وأحكامه مستعملة المرونة حين تشتد العواصف العاتبة على الإسلام.
.. ولاشك أن أصحاب الفكر التجديدي كانت لهم سمات شخصية انعكست على أفكارهم المستنيرة إلى نشر المحبة ونبذ الكره والتباغض بين أفراد المجتمع مهما علت الإختلافات فلا يكون ذلك سببا للتفرق الذي نهى عنه الدين وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثالا لقوله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"
وفي هذا الصدد يقول دكتور ماجد عرسان الكيلاني: "الإنسان المجدد إنسان محب للإنسانية متواضع يؤمن بالحوار والإقتناع ويرفض الإنفعال والعنف ويخضع أعماله للتفكير والنقد الواعي ولا يرفض حق الآخرين في التفكير والإختيار ولا يحاول أن يفرض إختياراته عليهم .. ولا يحاولون سحق خصومهم وإنما يحاولون إقناعهم وتحويلهم لمناصرة أفكارهم والعمل معهم . صحيح أن للمجددين الحق في الوقوف ضد إعتداء الآخرين الذين ينتهكون حرماتهم ويحاولون باسم الحرية إسكاتهم وذبح حرياتهم إلا أنهم لا يستفزون ولا يتوعدونهم ويظلون يمدون جسور التفاهم معهم وإذا ظهر عليهم عفوا عنهم وسامحوهم ثم فتحوا الأبواب مشرعة لمن يبدل منهم.." (5)
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق ص324
(2) الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده: محمد عمارة ج3 ص223 ،307
(3) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي: ص27 ومن دلائل ذلك أن حسن البنا دعى إلى ضرورة الجلاء ودعوة العلاقات الودية على ماكانت عليه من صفاء قبل الإستعمار وطالب الدول الغربية بإزالة الوهم الناتج من أن تطبيق الإسلام يباعد بين البلاد الإسلامية والبلاد الغربية المسيحية ، مجموعة رسائل الإمام الشهيد: رسالة نحو النور ص186، 187، 218 نقلا عن "الإخوان المسامون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المعاصرة : د.ذكريا سليمان بيومي ص155
(4) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي: ص53
(5) التربية والتجديد وتنمية الفاعلية عند المسلم المعاصر: ماجد عرسان الكيلاني ص105: 107
ومن دلائل صدق كلام د.ماجد الكيلاني أننا وجدنا رجوع أقطاب العلمانية عن الكثير من أفكارهم التي تتعارض مع المفهوم الصحيح عن الإسلام فحاولوا أن يكونوا حلقة الوصل بين التيارين وتقليص ما بينهما من فجوات ناجمة عن سوء الفهم للإسلام منهم :
دكتور ذكي نجيب محمود الذي يقول في كتابه "رؤية إسلامية" لقد أوهمنا أنفسنا وهما عجيبا قيد خطواتنا على طريق التقدم وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضا بين أن يكون الإنسان مسلما بعقيدته الدينية وأن يكون في الوقت نفسه ساعيا إلى ما يسعى إليه أهل الغرب من إيجاد لعلم جديد وقد كان الأمر يكون كذلك لو أن إسلامنا لم يجعل العلم وتطبيقاته ركنا أساسيا في بنائه وإني لأتصور أن الأمة الإسلامية لوكانت اليوم على مثل قوتها الأولى لكانت هى التي ملكت زمام عصرنا هذا بكل ما فيه من علوم وتقنيات(1)
ثم هو ينبذ الفكرة القائلة بفصل الدين عن الدولة موضحا أن الإسلام يتسم بشموله وعمومه لكافة مناشط الحياه ومما يدل على ذلك ما ذكره في مقال له نشر في الأهرام سنة 1985 قائلا: "إن الذين يقولون إن العلمانية خطر على الإسلام فاتهم أنهم في كل ما ذكروه إنما يتكلمون عن ديانات أخرى غير الإسلام وأنا أطالبهم أن يذكروا لي مثلا واحدا مر في التاريخ الإسلامي على شعب مسلم قد تم فيه الفصل بين الدين والدولة بالصورة التي يذكرونها. وأنا أطلب منهم أن يصوروا لي كيف يمكن لمسلم يحيي دينه الإسلام ثم يفصل بين الدولة والدين.. وذلك لأن للإسلام طبيعته الخاصة به فهو طريقة حياة فوق أنه دين بالمعنى المفهوم عند أصحاب الديانات الأخرى (2)
ومن العلماء البارزين الذين رجعوا عن الكثير من المفاهيم الخاطئة تحت تأثير الإنبهار بالغرب ونموذجه العلماني طه حسين والشيخ علي عبد الرازق "فطه حسين" في كتابه "الوعد الحق" تخلى عن نظريته عن حضارة البحر الأبيض المتوسط وركز على الإسلام باعتباره مذهبا ثوريا ودينا للحرية والمساواة والعدالة الإجتماعية.. وبعد قيام ثورة يوليو 1952 أصبح حلم الوحدة العربية يراود كل العرب كتب معلنا تأييده لهذه الوحدة العربية بشرط أن يصبح القرآن الكريم كما كان في السابق قاعدة لهذه الوحدة(3)
وأعتقد أن كثيرا مما يتبنون النهج العلماني في التفكير إذا أطلعوا على المراجعات لهؤلاء الأعلام البارزين في دنيا الفكر العربي الإسلامي والذي لا يختلف عليهم أحد فسوف يرجعون عن كثير من المفاهيم المغلوطة عن دينهم أو في أقل تقدير لا يبدون استخفافهم حين القول بأنه صالح لكل زمان ومكان. فإن أبو افلا سبيل إلا استعمال الأساليب التي دعا إليها علماؤنا ومفكرينا والقائمة على الحوار والمودة والتجاوز عن نقاط الخلاف الحساسة والتعاون على ماهو مشترك لخدمة وطننا وأمتنا ونبذ العنف مهما كانت الاستفزازات والإحتساب إلى الله ثقة بقوله تعالى "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا" ويوم يقوم (الأشهاد) ونبذا للعنف واستحلال الدم الذي لا يمت للدين بأي صلة ويتعارض مع إقرار الإسلام لحرية الفكر ومنهجه وما اتبعه علماء المسلمين مع المخالفين لهم والتي قد بلغت ذروتها كما أسلفنا من تسامح وصبر وتورعهم الشديد عن رميهم بالكفر لأن الإيمان متعلق بالقلب ولا يعلم ما في القلوب إلا الله. ولايعد الإنسان كافرا إلا إذا أقر بلسانه على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
زكي نجيب محمود: رؤية إسلامية، ص8
"ملاك الحقيقة المطلقة" د.مراد وهبة ص64، 65 الهيئة المصرية العامة للكتاب
مدخل لدراسة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر: د.السيد رزق الحجر ص294 الإسلام بين التنوير والتزوير" ص162 محمد عمارة، بحث أضمحلال المشروع العلماني للنهضة د.السيد رزق الحجر ص177: 192 المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية، كلية دار العلوم
وعلى هذا فإن العنف مرفوض شرعا ولا يجوز إلا في حالة واحدة يوضحها د.يوسف القرضاوي بقوله: "إن العنف الوحيد المشروع هو العنف لمقاومة الإحتلال الغاصب مثل مقاومة الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي البوسنة والهرسك وفي كوسوفا وكشمير وهو مايجب أن يقرره أهل الحل والعقد ولا يترك الأمر فوضى لكل من يقدر على حمل السلاح(1) فهناك ضوابط حتى للكفاح المسلح مع الأعداء
فكل ما سبق يمثل أساس أقامه الإسلام وعلمائه ومثلت تربة صالحة بلغت أقصى مدى مسموح لتعددية الأفكار والأراء وحريتها دون قيد أو إرهاب إلا ضمير الإنسان وعقله وخوفه من ربه وكلها ضوابط ذاتية تتفاوت من إنسان لآخر حسب مرجعيته والأيديولوجية التي يتبناها وليس قيودا خارجية تعيق نمو الأفكار وتنوعها إنطلاقا من نظرية الإسلام في الإختلاف بأنه إختلاف للتكامل وليس للتنافر والشقاق والتباغض وقد نختلف مع التيارات الفكرية الأخرى في قضايا لا يمكن قبول لي عنق الإسلام لها أو خروجا به عن مضامنيه الصحيحة ولكن حينذاك يكون هناك آليات للحوار والإختلاف لا تخرج عن الأداب التي دعى إليها ديننا مع المتخالفين والأجدى أن ننفق ونتعاون على مافيه خيرا أمتنا وكما يقول الشاطبي في الموافقات كل مسألة لايبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلب شرعا(2)
ومن أبلغ ما يختتم به في هذا الموضوع قول الشيخ محمد الغزالي "إن منابع التقدم العالمي بدأت من الإنسان الحر في فطرته وفكرته فحرروا الطبائع والأفكار تفقهوا معنى الدين وتذوقوا معنى الدنيا(3)
وكما يقول أيضا د.حسين الحاج "إن حرية الرأي والعقول في الحدود التي وضعتها الشريعة الإسلامية تعود بلا شك على جميع الأفراد بالنفع العام والتقدم المثمر وتؤدي إلى نمو الإخاء والحب والإحترام بين الأفراد والجماعات وبذلك نحفظ توازن المجتمع ووحدة صفوفه وضبط الأمور على أكمل وجه(4) وقد توصل إلى هذه النتيجة بعد دراسة مستفيضة لهذا الموضوع في كتابه النظم الإسلامية
وفي هذا الصدد يذكر مظاهر حرية الفكر في صدر الإسلام :بأنه في ظل الإسلام استعمل الناس هذه الحرية (الفكرية) في التعبير بشكل واسع من حرية التعبير عن الرأي إلى حرية المحاورة إلى حرية النقد للحكم القائم إذا شذ عن طريق الحق .. بوسائل عدة عن طريق الكتابة وعن طريق الخطابة وبطرق أخرى مختلفة.. (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد: ص331
2. كيف نتعامل مع التراث والتذهب والإختلاف، ص260 نقلا عن الموافقات للشاطبي "المقدمة الخامسة"
3. الإسلام والمناهج الإشتراكية: محمد الغزالي، ص27 نهضة مصر
4. النظم الإسلامية: د.حسين الحاج ص53
5. حضارة العرب في صدر الإسلام: د.حسين الحاج ص244 (بتصوف)