منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#54913
تعتبر بريطانيا مهد الديمقراطية البرلمانية في العالم. ففيها نشأت و توطدت الركائز الأساسية لهده الديمقراطية ومنها انتشرت إلى مختلف الدول التي تبنتها فيما بعد.

والميزة الرئيسية التي يتصف بها النظام البرلماني في بريطانيا تكمن في انه يقوم بالأساس على مجموعة من القواعد القانونية الدستورية العرفية. ودلك بالإضافة إلى بعض القوانين العادية ذات الطابع الدستوري التي أقرتها البرلمانات في فترات متباعدة.

ولقد مر النظام السياسي في بريطانيا، عبر تاريخه الطويل بمراحل مختلفة إلى أن استقر على الوضع الذي هو عليه الآن.

الفقرة الأولى: التطور التاريخي للنظام البرلماني البريطاني

تعود الأصول التاريخية للنظام البرلماني القائم حاليا في بريطانيا إلى بدايات القرون الوسطى. فمنذ ذلك الحين عرف هذا النظام تطورات هامة بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في جسم المجتمع البريطاني.

ويمكن تلخيص هذا التطور التاريخي بثلاث مراحل رئيسية استمرت الأولى من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، وتميزت بالصراع بين الأرستقراطية والملك من أجل توطيد الحريات العامة والحد من السلطة الملكية المطلقة. ودامت الثانية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتم فيها توطيد سلطة البرلمان وإقامة الأسس التقليدية للنظام البرلماني. وأما المرحلة الثالثة التي بدأت خلال النصف الأول من القرن الماضي فقد كانت مرحلة النضال في سبيل إرساء قواعد النظام الديمقراطي.

أولا: الصراع من أجل الحريات العامة، والحد من السلطة الملكية المطلقة

تميز تاريخ بريطانيا منذ استيلاء النورمانديين عليها في عام 1066 بصراع مرير على السلطة بين الملوك الذين كانوا يطمحون لحكم مطلق و بين طبقة النبلاء الأرستقراطيين،ملاكي الأراضي، الذين كانوا يحرصون على صيانة امتيازاتهم ويطمعون بالحد من سلطات الملك المطلقة لمصلحتهم.

و خلال هدا الصراع الطويل الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر اضطر الملوك أمام ضغط النبلاء و تمردهم للتخلي عن جزء من سلطاتهم وللاعتراف للنبلاء ببعض الحقوق والحريات. إلا أن تراجع الملوك في هدا الصدد لم يخل من عدة محاولات ناجحة لإعادة بسط الحكم المطلق الذي لم يتم وضع حد نهائي له ألا بعد ثورة 1688.

ولقد تجلت انتصارات النبلاء خلال هدا الصراع بعدد من الشرع التي أعلنها الملوك أو اضطروا للقبول بها و التي كان من أهمها الماكناكارتا، وعريضة الحقوق، وقانون الهابياس كوربوس (أو قانون سلامة الجسد)، ولائحة الحقوق.

1- الماكنكارتا ( Magna – Carta) أو الشرعة الكبرى وأصدرها عام 1215 الملك جون، المعروف باسم جون بلا أرض (Jean sans terre) على أثر الثورة التي أعلنها الأرستقراطيون ورجال الدين بعد أن أخذ حكم الطاغي يهدد مصالحهم. فما كان منهم إلا أن تمردوا على سلطته ونشروا لائحة ضمنوها مطالبهم، ولم يعودا للطاعة إلا بعد أن رضخ الملك ووافق على الاعتراف لهم بالحقوق الواردة في لائحتهم.

ولقد تضمنت الشرعة عددا من المواد المتعلقة بحقوق النبلاء الإقطاعيين وخاصة لجهة صيانة ممتلكاتهم من تعديات الملك وتأمين حرية الكنيسة في اختيار رؤسائها والتزام النزاهة والعدالة في الإدارة والقضاء وضمان الحرية الشخصية لأفراد الطبقة الأرستقراطية.

كما نصت الشرعة على اعتراف الملك بحق البرلمان في الموافقة على فرض الضرائب، وفي تقديم العرائض والاقتراحات له. واشترطت الشرعة تشكيل لجنة من 25 عضوا من الطبقة الأرستقراطية مهمتها مراقبة تنفيذ أحكامها، وذلك تحت طائلة استئناف التمرد في حال مخالفة الملك لها أو نقضه لأحكامها.

إلا أن الملك جون تنكر في العام التالي لهذه الشرعة وتمكن من تجاهل ما جاء فيها من بنود. وهكذا عاد الحكم المطلق للظهور، وظل قائما حتى مطلع القرن السابع عشر. وطوال تلك المدة كانت الماكناكارتا تمثل رمزا للصراع في سبيل الحرية، ومن هنا استمدت قيمتها كأهم وثيقة دستورية في تاريخ بريطانيا السياسي، باعتبارها المصدر الأول وحجر الزاوية للحريات الإنجليزية الحديثة.

ومع ارتقاء الملك جاك الأول، أول ملوك أسرة الستيوارت، عرش بريطانيا في عام 1603، واستئنافه للحروب التاريخية ضد ملوك فرنسا، سنحت الفرصة ثانية للنبلاء للمطالبة بحقوقهم. واتخذت هذه المطالبة شكل صراع بين الملوك والبرلمان الذي يمثله حول حق هذا الأخير في الموافقة على فرض الضرائب. لما كان الملك الجديد مضطرا للحصول على الأموال اللازمة لتغطية نفقات الحرب اضطر لتنازل أمام البرلمان ووافق على منحه حق التصويت علة فرض الضرائب.

2- عريضة الحقوق (Pétition of right) وزهي الوثيقة التي أصدرها الملك شارل الأول في عام 1628 بعد تجدد الخلاف الذي نشب بينه وبين البرلمان الذي اعترض على محاولة الملك فرض ضرائب جديدة على النبلاء دون موافقته. وقد أكدت العريضة، مرة أخرى، على حقوق البرلمان ولاسيما في مجال مناقشة المسائل الضريبية وإقرارها، كما تضمنت تأكيد على مبدأ الحرية الشخصية وتحريم توقيف الكيفي للمواطنين.

ورغم إعلان الملك لهذه العريضة فقد تفاقم الصراع بينه وبين البرلمان إلى أن انتهى بقيام ثورة 1642 التي قادها أوليفر كروموبل (O. Cromwell) وحظيت بتأييد البرلمان، ولاسيما مجلس العموم، والتي قامت بإعلان الجمهورية في عام 1649، وبإصدار أول دستور خطي حديث في بريطانيا والعالم. لكن الجمهورية الجديدة لم تصمد إلا أشهرا قليلة بعد وفاة زعيمها في عام 1658، حيث عاد النظام الملكي مجددا إلى البلاد باعتلاء الملك شارل الثاني العرش في عام 1660 بعد أن تعهد للبرلمان باحترام سلطاته وحقوقه، واعترف للمواطنين بالحرية الدينية.

3- قانون الهابياس كوربوس ( Habeas Corpus Act) (أو قانون سلامة الجسد) وهو قانون أصدره البرلمان البريطاني في عام 1679. واضطر الملك شارل الثاني للموافقة عليه. والغاية منه ضمان الحرية الشخصية للمواطنين و حمايتها من تعسف السلطة. و يتضمن القانون القواعد الأساسية المتعلقة بحماية المواطن من الاعتقال، وبالإجراءات القانونية اللازمة للآعتقاله و لتقديمه للمحاكمة أمام القضاء بعد ذلك. ويعتبر هذا القانون الهام المحور الأساسي للحريات الشخصية التي ما يزال يعتد بها في بريطانيا.

4- لائحة الحقوق (Bill of rights) وهي إعلان دستوري وضعه البرلمان ووافق عليه الملك ويليم الثالث، في عام 1689، بعد اعتلائه العرش بدعوة من البرلمان على إثر الثورة التي نشبت في العام السابق ضد الملك جيمس الثاني، آخر ملوك آل ستيوارت، الذي حاول العودة بالبلاد، مرة أخرى، إلى عهود الحكم المطلق. وقد وضعت هذه الثورة واللائحة التي نجمت عنها حدا نهائيا للحكم الملكي المطلق في بريطانيا وفتحت المجال لعهد جديد هو عهد الملكية البرلمانية. فقد تخلى الملك بموجب هذه اللائحة عن حقه السابق في التشريع، وفي تعليق مفعول القوانين. كما أكدت اللائحة حرمان الملك من فرض أية ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان، وأقرت حق هذا الأخير في مراقبة نفقات الدولة وتحديدها سنويا، وحظرت على إنشاء المحاكم بدون موافقة البرلمان، كما منعته من القيام بأي تجنيد منظم للقوات في وقت السلم، وأقرت اللائحة، أخيرا، عددا من الحريات الشخصية واعترفت للمواطنين بحق تقديم العرائض.

ثانيا: قيام النظام البرلماني

أخذت ملامح النظام البرلماني في بريطانيا تبرز منذ أواخر القرن السابع عشر وخاصة بعد ثورة 1688. ثم ما لبثت أسس هذا النظام وقواعده التقليدية أن اتضحت وترسخت خلال القرنين التاليين. فالصراع الذي دار بين الملك والبرلمان، الممثل للأرستقراطية، خلال القرون الخمسة السابقة أدى تدريجيا إلى ضعف وزن الملك وتأثيره في الحياة السياسية في حين انتقلت مهام ممارسة الحكم إلى حكومة متضامنة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت مراقبته. وهكذا أصبح البرلمان، الممثل للإرادة "الشعبية" المصدر الأساسي للسلطة بينما تحولت الملكية إلى مؤسسة رمزية تتولى ولا تحكم.

ولقد لعبت بعض الظروف التاريخية الطارئة دورا مساعدا وهاما في قيام النظام البرلماني وتوطيد أسسه.

ومن أهم هذه الظروف أن الملك ويليم الثالث اضطر للتخلي عن جزء هام من مقاليد الحكم ومهامه إلى وزرائه، وذلك نتيجة انهماكه بأمور الحرب مع الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، في بداية القرن الثامن عشر. ونظرا لما كانت تتطلبه هذه الحرب من نفقات باهضة لابد من تغطيها بواسطة الضرائب الجديدة التي لا سبيل لفردها إلا عن طريق البرلمان، فقد اضطر الملك لاختيار وزرائه من بين أعضاء البرلمان، وخاصة من الأعضاء المنتمين لحزب الأغلبية فيه وذلك رغبة في كسب تأييده ودفعه للموافقة على الاعتمادات التي تتطلبها الحرب. وهكذا نشأ واستقر العرف البرلماني المتمثل بأن يترك الملك شؤون الحكم الفعلية لوزارة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت إشرافه ومراقبته. وبعد وفاة الملك ويليم الثالث، وخليفته الملكة أنا، تولى العرش للملك جورج الأول، (1714)، وكان هذا الملك الألماني الأصل يجهل اللغة الإنجليزية تماما لذا كان لا يستطيع المشاركة في مناقشات مجلس الوزراء. وأدى هذا الأمر لنشوء واستقرار قاعدة عرفية جديدة في النظام البرلماني البريطاني وهي أن يجتمع الوزراء فيما بينهم فيتداولوا ويقررا ما يشاءون في أمور الدولة بغياب الملك، وبدون أخذ رأيه فيها.

وأدة قيام الوزراء بممارسة مهام الحكم الفعلي بعيدا عن تأثير وتدخل الملك الذي كان مضطرا لاختيارهم من بين أعضاء البرلمان، لظهور القاعدة البرلمانية الجوهرية المتمثلة بمسؤولية الحكومة سياسيا أمام البرلمان، وكان وزراء الملك في السابق، المختارين من قبله بحرية ليعاونوه في شؤون الحكم، مسؤولين مباشرة أمامه فقط. وهكذا أضيفت إلى مسؤولية الوزراء السابقة أمام الملك، مسؤولية جديدة أمام البرلمان. وقد استمرت قاعدة المسؤولية السياسية المزدوجة هذه طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت خلال ذلك تتحول شيئا فشيئا ومع ازدياد سلطة البرلمان ونفوذه لتصبح مسؤولية وحيدة اتجاه البرلمان فقط.

ولم يكن الوزراء في البدء مسؤولين أمام البرلمان إلا انفراديا، كما كان حالهم أمام الملك. وقد بدأت هذه المسؤولية بالظهور في الميدان الجنائي حيث كان باستطاعة مجلس العموم أن يوجه للوزراء الاتهام في حال ارتكابهم لجرم ما، ويؤدي هذا الاتهام لتقديمهم للمحاكمة أمام مجلس اللوردات، وشيئا فشيئا أخذ البرلمان يعتبر ارتكاب الوزراء لأخطاء سياسية فادحة بمثابة جرم يمكن أن يؤدي إلى توجيه اتهام يكون من نتيجته على الأقل إجبار وزير على استقالته.

لما كان الوزراء قد اعتادوا أن يجتمعوا فيما بينهم ويتداولوا ويقرروا ما يشاءون من أمور متعلقة بقضايا الحكم، فقد ظهر لديهم شعور من التكافل والتضامن ما لبث أن تطور تدريجيا ليأخذ شكل المسؤولية التضامنية أمام البرلمان باعتبارهم يشكلون هيئة جماعية واحدة.

ومقابل تخليه لوزرائه عن مهام الحكم الفعلي، احتفظ الملك لنفسه بحق اعتباره غير مسؤول عن أعماله اتجاه أي سلطة أخرى. وإذا كانت حرمة الملك وقدسية شخصه قاعدة مؤكدة منذ القدم ومستندة للاعتقاد القائل بأن الملك لا يمكن أن يخطأ فإن هذه القاعدة أصبحت مقبولة بصورة أفضل بعد ابتعاد الملك فعليا عن ممارسة مسؤوليات الحكم.

وهكذا استقرت من خلال الظروف والممارسات العرفية مجموعة القواعد الأساسية التي اتصف ويتصف بها النظام البرلماني.

ثالثا: إرساء أسس الديمقراطية

كانت الديمقراطية بمعناها الواسع، الذي يفترض مشاركة جميع المواطنين، على قدم المساواة، في تقرير شؤون الحكم وتسيير القضايا العامة، غير معروفة في المجتمع البريطاني حتى بداية القرن الحالي. فالنظام البرلماني الذي أمكن تحقيق خلال المرحلة السابقة من خلال الصراع بين الأرستقراطية والملك. كان نظاما غير ديمقراطي لأنه كان يحصر قضية المشاركة في الحياة السياسية بفئة قليلة من أفراد الشعب تضم بشكل رئيسي أبناء الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، في حين أن الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب كانت مستبعدة عن الحياة العامة ومحرومة من أبسط الحقوق السياسية.

ولقد تصدت الطبقة البرجوازية منذ بداية القرن التاسع عشر لقيادة الحركة الديمقراطية وذلك خدمة لمصالحها السياسية وتلبية لمطالب جماهير سكان المدن الكبرى التي كانت ترى أن من غير الطبيعي استمرار إبعادها عن الحياة السياسية بعد أن ازداد وزنها وتأثيرها في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.

وقد استهدف نضال الحركة الديمقراطية تحقيق أمرين رئيسيين القضاء على نظام الانتخاب القديم وإقرار مبدأ الانتخاب العام و الشامل، وإعطاء الأولوية في الحياة السياسية لمجلس العموم باعتباره المجلس المنتخب من الشعب والمعبر بالتالي عن إرادته.

1- نظام الانتخاب: كانت المؤسسات السياسية التمثيلية التي قامت في بريطانيا منذ عدة قرون، لا تعبر إلا عن إرادة جزء يسير من الشعب البريطاني. أما الأغلبية الساحقة من هذا الشعب فلم يكن لها أي دور في الحياة السياسية. فنظام الانتخاب الذي كان معتمدا لاختيار أعضاء مجلس العموم كان نظاما مقيدا يحصر حق الانتخاب بفئة قليلة من المواطنين، الذكور والأغنياء الذين يؤدون للدولة مقدارا مرتفعا من الضرائب. أما القسم الأكبر الباقي من المواطنين فكان محروما من جميع الحقوق السياسية ولاسيما حق الانتخاب والتوظيف وذلك بسبب الوضع الاجتماعي (البرجوازية الصغيرة والعمال) أو المذهب الديني (الكتوليك واليهود والبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية) أو ضعف الولاء للتاج (الإرلنديين) كما كان نظام الانتخاب نظاما غير متكافئ لا تتمثل بموجبه مختلف المدن والمقاطعات بنسبة عدد سكانها. فقد كانت المقاعد المخصصة للمدن والمقاطعات في مجلس العموم محددة بإرادة ملكية منذ زمن بعيد. ولم يطرأ عليها تعديل يذكر رغم التغيير الجذري الذي حدث في المجتمع البريطاني، خلال القرنين الماضيين، نتيجة الثورة الصناعية، و الذي أدى إلى تضخم عدد سكان المدن بشكل كبير بالنسبة لعدد سكان المقاطعات الريفية، و إلى ظهور مدن صناعية جديدة وهامة لم يكن لها أي ممثل في المجلس.

ولقد بدأت الحركة الديمقراطية بتحقيق أولى انتصاراتها في هذا المجال في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ففي 1828 تمكنت من دفع البرلمان لإصدار قانون يتضمن الإقرار بالحقوق السياسية للبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية، وفي العام التالي دفعت البرلمان أيضا لإصدار قانون مماثل يقر بهذه الحقوق للأقلية الكاثوليكية.

وفي عام 1832 وبعد فترة من النضال والاضطرابات الثورية العنيفة.حققت الحركة الديمقراطية انتصارا هاما تمثل بصدور "قانون الإصلاح" الذي زاد عدد مقاعد مجلس العموم ووزعها على المدن والمقاطعات التي كانت محرومة منها، كما وسع حق الانتخاب ليشمل فئات جديدة من المواطنين وذلك بتخفيض المقدار المطلوب من الضرائب السنوية التي يجب على المواطن دفعها لخزينة الدولة من أجل التمتع بحق الانتخاب.

إلا أن هذا الانتصار، على أهميته، لم يؤد إلى دائرة توسيع نطاق الجسم الانتخابي، إلا بحدود ضيقة استفادت منه بالدرجة الأولى الطبقة البرجوازية الكبيرة التي زادت عدد ممثليها في مجلس العموم، ولهذا استمر نضال الحركة الحيمقراطية الشعبية من اجل التوسيع التدريجي لحق الانتخاب، وظهرت في عام 1838، الحركة الشارتية (اللائحية) التي أعلنت أن هدف نضالها النهائي يتمثل بتحقيق مبدأ الانتخاب العام والشامل والسري. ولقد أثمرت جهود هذه الحركة شيئا فشيئا ففي عام 1876 صدر قانون يقضي بتخفيض مقدار الرسم الانتخابي، وفي عام 1884 صدر قانون آخر ألغيت بموجبه فروقات تمثيلية بين المدن والأرياف، وفي 1918 توجهت الحركة الديمقراطية الشعبية انتصاراتها بإقرار حق الانتخاب العام والشامل للرجال والنساء مع تميز واحد يكمن في أن الرجال يبلغون سن الرشد الانتخابي في الواحدة والعشرين، في حين أن النساء لا يبلغونه إلا في الثلاثين وقد ألغي هذا التمييز بموجب قانون صدر في عام 1928. وفي عام 1970 صدر قانون جديد قضى بتخفيض السن الانتخابي للرجال والنساء إلى 18 سنة.

2- ازدياد وزن مجلس العموم: إن توسيع حق الانتخاب ليشمل كافة القطاعات الشعبية كان بحاجة لكي يأخذ كل معانيه السياسية أن يقترن بتغيير وزن المجلس الممثل للإدارة الشعبية داخل البرلمان.

فحتى عام 1909 كان مجلس اللوردات متمتعا بسلطات تشريعية ومالية وقضائية تميزه عن مجلس العموم وتعطيه مركز الأولوية داخل البرلمان. وكان لابد للحركة الديمقراطية أن تتعرض بالنقد لهذه المؤسسة الأرستقراطية وذلك من أجل إضعافها لصالح مجلس العموم لقد سنحت الفرصة للحركة الديمقراطية لتحقيق هذا الهدف على إثر الخلاف الذي نشب في عام 1909، بين حكومة الأحرار ومجلس اللوردات حول إقرار مشروع قانون الموازنة العامة الذي كان يتضمن بعض التدابير الإصلاحية ومن بينها فرض ضريبة على الدخل. وقد اعتبر المجلس أن من شأن هذه التدابير إحداث تغيير جدري للمجتمع يهدد مصالح أرستقراطية، ولذلك قام برفض الموافقة على المشروع، وإزاء هذا الموقف، قررت الحكومة الاستمرار في المواجهة وإدخال الشعب في القضية، فطلبت إلى الملك حل مجلس العموم وإجراء انتخابات جديدة \يمكن من خلالها معرفة ما إذا كانت الأغلبية الشعبية تساند الحكومة في موقفها أم تعارضها وتؤيد مجلس اللوردات. وعندما أسفرت الانتخابات عن فوز الأكثرية الجديدة من حزب الأحرار تأكدت الحكومة من تأييد الشعب لها فزادت من ضغطها على مجلس اللوردات الذي لم يجد أمامه إلا الإذعان بالإرادة الشعبية فرضخ للحكومة المجسدة لها، واضطر في عام 1911 للتصويت بالموافقة على مشروع قانون هام عرف فيما بعد "بالقانون البرلماني" الذي نص على حصر جميع الصلاحيات المالية بمجلس العموم فقط، وعلى قصر صلاحيات مجلس اللوردات، في المجال التشريعي العادي، على تصويته بالفيتو على مشاريع القوانين التي يقرها مجلس العموم. وكان من شأن هذا التصويت تأجيل تنفيذ القانون لمدة عامين، وفي عام 1949 أقر البرلمان البريطاني قانونا جديدا خفض بموجبه هذه المدة وجعلها تقتصر على عامل واحد فقط.

وهكذا أصبح مجلس العموم المنتخب من الشعب هو المجلس الأهم في البرلمان البريطاني، في حين تراجع مجلس اللوردات ليكتفي بدور رمزي وهامشي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية في النظام البرلماني البريطاني

يقوم النظام البرلماني في بريطانيا على أساس تفاعل تام بين عدة مؤسسات سياسية من بينها المؤسسة الانتخابية والحزبية والبرلمان، والحكومة، الملك.