منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By عبدالرحمن الهزاني
#56277
روسيا ما بعد الحرب الباردة من “اليلتسينيّة” إلى "البوتينية"

د. غسان العزّي أستاذ في الجامعة اللبنانيّة.


كان الانقلاب العسكري الذي قام به المحافظون في آب 1991 بمثابة الصحوة الأخيرة قبل موت الاتحاد السوفياتي, بعدما انتقلت كل الدول الدائرة في فلكه (المعسكر الاشتراكي الأوروبي السابق) إلى المعسكرالغربي المنافس, عقب انهيار جدار برلين في تشرين الثاني 1989. هذا الانقلاب وضع النهاية الفعلية لسنوات حكم ميخائيل غورباتشيف ليحلّ محلّه بطل مقاومة هذا الانقلاب بوريس يلتسين, أحد رجال الجهاز السابقين الذي انتُخب على رأس البرلمان (الدوما) الروسي في حزيران 1990 ثم على رأس الفدراليّة الروسيّة بعد ذلك بسنة واحدة تماماً.
وكان غورباتشيف قد وصل على رأس الكرملين, عام 1985, في وقت بدأت فيه علامات الهرم تبدو واضحة في جسد “الأمبراطوريّة” السوفياتية, مما حدا به إلى الإسراع في صياغة الإصلاحات وتطبيقها. وهكذا أرادت البريسترويكا (إعادة البناء) القيام بإصلاح متعدّد الأشكال والأوجه, ليشمل دوائر الاقتصاد والدبلوماسية والعلاقات مع المحيط القريب والخارج البعيد. ثم جاءت الغلاسنوست لتبيح الشفافية التي سمحت بإعادة النظر في المحرّمات عبر مناقشة تاريخ الممارسات السياسية منذ لينين نفسه مروراً بستالين وصولاً إلى بريجينيف. حتى الأيديولوجية نفسها صارت محل نقاشات وتساؤلات بعدما كانت فوق كل اعتبار. ثم فجّرت البريسترويكا كل الأقفال وفتحت الأبواب على مصاريعها, فدخلت الرياح العاتية لتحطّم كل شيء, بما في ذلك حكم غورباتشيف نفسه. لقد سقط هذا الأخير تحت عبء طموحه الإصلاحي المفرط الذي أراد بسرعة فائقة أن يحوّل المجتمع ويقطع عنه الدوغمائية ويقلب الاقتصاد وينهي الحرب الباردة(1).
وكان على بوريس يلتسين, الذي حظي بتأييد شعبي واسع, بدأ مع تصدّيه لانقلاب المحافظين, يعيد ضبط المسار الإصلاحي المنفلت ويحقّق انتقالاً عقلانياً هادئاً من إتحاد سوفياتي تفكّك إلى روسيا جديدة قويّة وثابتة. لكن “اليلتسينيّة” سوف تترك وراءها, بعد تسع سنوات من التخبّط والفوضى, بلداً كبيراً يصفه المراقبون بـ “المارد المتسوّل” و”العملاق المريض” المحاصر من كل الجهات. والإنجاز الوحيد, والمهمّ بالطبع, الذي يسجَّل ليلتسين هو منعه لانفجار الإتحاد السوفياتي على الطريقة اليوغوسلافيّة, ولو أنّ “مجموعة الدول المستقلّة” التي أسسها في الثامن من كانون الأول 1991 (وضمّت اثنتي عشر دولة من الإتحاد السوفياتي السابق(2) تعاني ما تعانيه من العجز والتفكّك.
وفي نهاية العام 1999, وبطريقة غير متوقّعة, قدّم يلتسين “هدية” إلى شعبه والعالم بمناسبة رأس السنة الميلادية والانتقال إلى العام 2000: استقال من منصبه ليسلّم مقاليد الحكم إلى فلاديمير بوتين الرجل الذي أتى به من عالم المجهول ليجعله رئيساً للوزراء في آب 1999.
وفي آذار 2000 تمكّن رئيس الوزراء السابق, الذي صار رئيساً بالوكالة, من الفوز في الانتخابات الرئاسيّة. وهكذا بدأت روسيا الألفيّة الثالثة في ظل “قيصر” جديد لا يعرف عنه المراقبون إلاّ القليل, مما يزيد من الصعوبات في طريق محاولة استشراف مستقبل روسيا “البوتينيّة” الجديدة.
ما هي الملفّات الموضوعة على طاولة الرئيس الجديد وما المشاكل التي ستعترض سبيل حكمه, داخلياً وخارجياً, وهل ستتمكّن روسيا, في عهده, من نفض غبار الذلّ والمهانة (تعبير يستخدمه عدد كبير من الروس) والعودة إلى الساحة الدوليّة؟ أم سيكون امتداداً لعهد سلفه, أي يلتسيناً متجدّداً بتعبير آخر.

I -­ من مخلّفات الحقبة اليلتسينيّة
1- ­ العلاج بالصدمة والدخول المتعثّر في السوق:
بعد حلّ الحزب الشيوعي الحاكم وإعلان موت الاتحاد السوفياتي والرغبة بالانتقال إلى اقتصاد السوق, كان يجب إيجاد الطريقة الأفضل لتحقيق هذا التحوّل الجذري الكبير. وبناء على نصائح صندوق النقد الدولي, تبنّى يلتسين ورئيس وزرائه, إيغور غيرار ابتداء من مطلع العام 1992, برنامج “العلاج بالصدمة” الذي يتضمّن إبعاد الدولة كلياً عن الساحة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص عبر مجموعة إجراءات, منها التحرير الكامل والسريع للأسعار والخصخصة على نطاق واسع وتحرير التجارة الخارجية وإغراء الرساميل والاستثمارات الأجنبية... الخ. لكنّ ردّ الاقتصاد السريع على هذه الإجراءات كان سلبياً: تراجع متسارع لسعر الروبل؛ تراجع الناتج الداخلي الإجمالي بنسبة 20 في المئة عام 1992 ثم 22 في المئة عام 1993 و15 في المئة عام 1994 ثم 4 في المئة عام 1995؛ تراجع الناتج الصناعي في هذه السنوات على التوالي بالنسب التالية: 18 في المئة, 4 في المئة, 21 في المئة, وتراجع الاستثمارات 40 في المئة, ثم 12 في المئة عام 1995. أما في عام 1996 فقد بلغ تراجع الناتج المحلّي ستة في المئة. وبالتالي زاد تراجع الناتج المحلي والإنتاج الصناعي عن 40 في المئة أي بنسبة عشرة في المئة سنوياً ما بين 1990 و1995, في مقابل نموّ سنوي بلغ اثنين في المئة بين 1980 و1990(3).
وفي محاولة لمنع الانهيار, قررت الحكومة الالتفات إلى قطاع الطاقة (إنتاج النفط تراجع إلى النصف في أقل من عشر سنوات) الذي يحتلّ حيّزاً واسعاً وفاعلاً في الاقتصاد الروسي (البترول وحده يشكّل 15 في المئة من صادرات البلد(4))عبر توجيهه إلى التصدير الخارجي البعيد, بعد اقتصاره على الاستهلاك المحلي والتصدير إلى المحيط القريب والدول الفقيرة.
لكن إصلاح هذا القطاع كان لا بدّ أن يتمّ على حساب القطاعات الأخرى مثل البناء والتجهيزات والمجمّع العسكري ­ الصناعي. وزاد الأمور سوءاً انخفاض سعر النفط العالمي, فصارت معظم الشركات عاجزة عن دفع رواتب موظفيها, وتراكمت الديون الداخلية بين الشركات ولم تعد الدولة قادرة لا على دفع رواتب الموظفين والعسكريين ولا على جباية الضرائب(5).
وباختصار شديد ودون التوغّل في شرح الإصلاحات الروسيّة, يمكن القول, إنها لم تحتوِ على برنامج عصرنة واضح بل قامت بتنظيم انتقال سريع وعشوائي لأملاك الدولة إلى القطاع الخاص, وذلك على أساس المحسوبيات وعلاقات النفوذ, في غياب أي نظام تشريعي وقضائي مناسب. ومن النتائج الكارثية لذلك فقدان الثقة بالدولة وعجزها الواضح عن السيطرة على الوضع. وهكذا فإن “العلاج بالصدمة” كان أشبه بحرب شاملة على اقتصاد الدولة الذي صارت تسيطر عليه المافيات وما يسميه الروس بـ “الأوليغاركيين” أي الأثرياء الجدد أصحاب النفوذ والاحتكارات.
عن إمساك المافيات بأعصاب وشرايين الدولة, يكشف ألكسندر كولسينكوف, المسؤول عن جهاز مكافحة الجريمة في روسيا في ربيع العام 1998, أن “المافيات الروسية تسيطر على 40 ألف شركة و550 مصرفاً منها العشرة الأولى الأهم”(6). وكان وزير الداخلية أناتولي كوليكوف قد صرّح في خريف العام 1997 بأنّ “ممثلي عالم الجريمة المنظمّة ينسلّون إلى كلّ أجهزة وبنى الدولة ويسيطرون, في الواقع, على قطاعات من الإدارة الروسية وميادين واسعة من الاقتصاد”(7). لكن غيرار “أب العلاج بالصدمة” يعتبر ذلك أمراً طبيعياً سبق له وحصل في الولايات المتحدة الأميركية في عزّ صعودها الرأسمالي, وهو ليس “إلاّ نتيجة من نتائج التراكم البدائي لرأس المال”, وهو “وإن كان مضرّاً لكنه ضروري لوضع البلاد على سكّة اقتصاد السوق”(8).
وقد عاشت القيادة السياسية التي تدير عملية التحوّل من الاقتصاد الموجّه إلى اقتصاد السوق الليبرالي, حالة تخبّط من أولى تعبيراتها الصريحة كان الصراع المكشوف بين الرئيس والبرلمان, عام 1993, الذي وإن حُسِمَ وقتها لصالح الرئيس, إلاّ انه كشف عن عجز الطبقة الحاكمة عن التخلّص من رواسب الماضي, فطريقة ممارسة اللعبة السياسية لم تدلّ على قطيعة نهائيّة مع ممارسات الماضي. التي يجري انتقادها. ذلك ان “قيصر روسيا المريض” يلتسين, كما لقّبته الصحافة وأوساط المراقبين ما انفكّ يعيّن ويقيل رؤساء الوزراء(9) على إيقاع حالته المرَضيّة النفسيّة والصحيّة التي استلزمت انقطاعاً عن الحكم مرّات عديدة بسبب ملازمة الفراش أو الدخول إلى المستشفى(10).
وفي تشرين الأول 1997, حصل الانهيار المالي في بلدان آسيا الجنوبيّة ­ الشرقية والذي كان له انعكاس مباشر على البورصات العالمية وعلى روسيا التي انخفض الطلب على نفطها بفعل هذا الانهيار متسبّباً بتراجع الأسعار بشكل ملحوظ. وهكذا طارت الآمال المعقودة على ميزانيّة العام 1998. وفي آذار من العام نفسه, رفض الدوما التصديق على الإصلاحات المالية التي تقدّم بها رئيس الوزراء الجديد كيرينكو. وتوقّفت الدولة عن دفع رواتب موظفيها وأعلنت عجزها عن دفع المستحق من الديون الخارجية عليها. وفي 20 تموز, وافق صندوق النقد الدولي على تقديم قرض بقيمة 22,6 مليار لروسيا على سنتين. في وقت كان عمّال المناجم المضربون يقطعون الطرق احتجاجاً على عدم قبض رواتبهم. وفي 11 آب, خسرت بورصة موسكو تسعة في المئة من قيمة أسهمها ووصلت سندات الخزينة إلى نسبة 150 في المئة خلال تسعة أشهر. وفي 12 آب, طالب الملياردير الأميركي جورج سوروس بتخفيض قيمة الروبل بنسبة 15 إلى 20 في المئة, الأمــر الذي رفضته السلطــات الروسيــة. وتمّ بسرعــة هائلة امتصاص مبلــغ الـ 4,8 مليارات دولار الذي دفعه صندوق النقد الدولي لدعم الروبل وتأمين خدمة الدين, بعد أن أعلن الروس أنهم عاجزون عن دفع مستحقات تشرين الأول(11). وهكذا راح الجميع يتخلّى عن الروبل لصالح الدولرة والمقايضة. فسقطت بذلك إحدى أهم أسس سيادة الدولة في روسيا.
في 14 آب, أعلن يلتسين رفضه تخفيض سعر الروبل. ولكن في 17 من الشهر نفسه, أعلن رئيس وزرائه كيرينكو تخفيضاً فعلياً بنسبة 34 في المئة وتعليق سداد الديون الخارجية لمدة تسعين يوماً والداخلية لأجل غير مسمى(12). وفي 21 آب, طالب الدوما باستقالة يلتسين, لكن هذا الأخير ضحّى برئيس وزرائه فأقاله في 23 من الشهر نفسه بعد أن حكم مئة يوم تقريباً. واستمرّ الانهيار فتضاعفت الأسعار وحلّق التضخّم (84,4 في المئة عام 1998 مقابل 11 في المئة عام 1997) وتخطى الدولار العشرين روبلاً بعد أن كان يساوي أقل من ستة روبلات في بداية العام 1998. إنها أولاً أزمة ثقة بالدولة التي فقدت سيطرتها على الأمور, مما يعني فقدان الثقة مسبقاً بأي مشروع إصلاحي تتقدّم به؛ وهي تالياً أزمة فقدان ثقة بكل النظام المالي والضريبي. فالتهرّب من دفع الضرائب صار رياضة وطنيّة رائجة (في أحسن الأحوال تجبي الدولة خمسين في المئة من الضرائب المستحقّة) وراحت المقايضة تمثّل نسبة خمسين في المئة من التبادلات اليوميّة, ووصلت الرواتب غير المدفوعة المستحقة على الشركات لموظفيها إلى نسبة 37 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وذلك بسبب فقدان السيولة(13).
أما الاستثمارات الأجنبية التي عُوِّل عليها كثيراً في عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق, فلم تتخطّ نسبة الأربعة في المئة من مجموع الاستثمارات. والعشرة مليارات دولار أو الإثنا عشر مليار دولار التي دخلت إلى روسيا عام 1998 توجّهت كلها تقريباً صوب سندات الخزينة ذات المردود العالي(14). وكان لهذه المضاربات أسوأ الأثر على الاقتصاد الروسي الذي كان يُهرَّب منه حوالى مليار دولار شهرياً إلى الخارج (تهريبات, تحويلات شركات, مضاربات). وقد اعترف جورج سوروس بأنه خسر ملياري دولار في رهانه على أسهم روسية, لكنها خسارة كان قد تمّ تعويضها سلفاً بواسطة الأرباح التي سبق وحققها سوروس في روسيا منذ وصول يلتسين إلى السلطة والبالغة عشرين مليار دولار(15). وقد جُنَّت الأسواق المالية نتيجة عدم القدرة على تسديد جزء من سندات الخزينة البالغة 40 مليار دولار مما أدّى إلى تعطيل النظام المصرفي وشلله. وقد استُنفد احتياطي المصرف المركزي من الذهب والنقد في عمليات تدخّل غير مجدية من أجل دعم العملة الوطنية. فبعد أن كان هذا الاحتياطي يبلغ عشرين مليار دولار في أوائل 1997, هبط إلى 11,6 مليار دولار(16). وقد جاء عنوان جريدة “فاينانشال تايمز” غداة الانهيار الكبير: “لقد انعدم كلياً إيمان الموسكوبيين بالرأسمالية”. وبالمناسبة فإن استطلاعات عديدة للرأي أجرتها مؤسسات غربية في روسيا, دلّت على تراجع تعلّق الشعب الروسي باقتصاد السوق وحنين نسبة متزايدة منه إلى الحقبة الشيوعية.
ولأسباب أيديولوجيّة وستراتيجية, على الأقل, لم تُعدم الدول الغربية, والولايات المتحدة خصوصاً, وسيلة لدعم النظام الروسي المتحوّل نحو الرأسمالية. ويقول الخبراء إنّ يوم 25 آذار 1996 كان مهماً في التاريخ الروسي المعاصر, إذ أكد صندوق النقد الدولي قراره بمنح روسيا قرضاً يزيد على عشرة مليارات دولار أميركي, وكانت روسيا قد حصلت, في تشرين الثاني 1995, على قرار نادي لندن بإعادة جدولة كاملة لديونها حيال المصارف التجارية. وفي 24 نيسان 1996, اتخذ نادي باريس قراراً مماثلاِ(17). وقد بلغت ديون روسيا الخارجية عام 1998 أكثر من 40 مليار دولار. وبالتالي فإن موسكو لا تستطيع إلاّ أن تخضع لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات العالمية الدائنة, والدول التي تقبع وراءها, وهي, في جلّها, شروط مهينة وتتعارض مع سيادة الدولة في بعض الأحيان.
أكثر من المساعدات فقد وافقت جماعة السبعة G 7 على إدخال روسيا إليها بصفة مراقب, فأصبحت بذلك جماعة الثمانية G 8, والهدف من وراء ذلك سياسي وليس اقتصادياً, إذ تبقى روسيا الدولة النووية الثانية في العالم ومن المهمّ جداً إبقاؤها تحت المراقبة(18). وأبرز تعبير عن الأهمية السياسية للمساعدات الغربية لموسكو للقاء الذي جرى في موسكو بين رئيس الوزراء بريماكوف ومدير عام صندوق النقد الدولي ميشال كامديسّو, خلال الحملة الأطلسيّة على صربيا في نيسان 1999 والذي وافق فيه هذا الأخير على دفع مبلغ خمسة مليارات دولار لموسكو كجزء من المساعدة الموعودة. ويقول المراقبون إنّ هذه المساعدة, وغيرها, لعبت دوراً كبيراً في إقناع الروس باتخاذ موقف معتدل من الحرب في كوسوفو.

2- ­ فقدان الهيمنة وضمور النفوذ الدوليان:

إذا استمرّت الأمور على حالها, فإنّ روسيا تسير إلى الكارثة لا أكثر ولا أقل. فهذا البلد الذي كان يشكّل تهديداً حقيقياً للعالم الغربي, صار ناتجه القومي القائم لا يكاد يصل إلى عشرين في المئة من نظيره الأميركي (مستوى قريب مما كان عليه عام 1928) ويلزمه, بحسب توقّع الخبراء, أكثر من 35 عاماً ليصل إلى المستوى الأميركي الحالي, ولكن إلى المستوى الوسطي السائد في الاتحاد الأوروبي اليوم, شريطة أن لا يتخلّى هذا الاتحاد عن وتيرة النمو الحالية البالغة اثنين في المئة سنوياً. وأن تحقق روسيا نسبة نموّ لا تقلّ عن ستة في المئة سنوياً(19). وبحسب منظمة الأمم المتحدة, يُشكّل الاقتصاد الروسي اليوم 1,1 في المئة من مجمل الناتج المحلي العالمي, ويمكن مقارنة هذا الرقم بأرقام الشرق الأدنى وأفريقيا الشمالية (1,9 في المئة) والبلدان الأوروبية المتحوّلة وآسيا الوسطى (2,4 في المئة) وأميركا اللاتينية ودول الكاريبي
(6,1 في المئة) وآسيا المحيط الهادئ (6 و10 في المئة)(20).
وهكذا ماذا يتبقّى من القوة العظمى التي عاشت ثلاثة أرباع القرن, إذا كانت هيبة الدولة تتراجع لصالح الجماعات الخارجة على القانون في غياب ستراتيجية متماسكة(21) ورؤية واضحة لمرحلة ما بعد الشيوعية, وحيث التماسك الوطني والتناغم الاجتماعي مفقودان في مجتمع تسيطر على أفراده هموم العيش اللحظوية...؟ هذا دون الكلام عن الجماعات الاتنية والدينية التي تبحث عن استقلالها (الشيشان وداغستان وغيرهما) وعن “رابطة الدول المستقلّة” التي بيّنت عن هشاشة بنيوية في أكثر من مناسبة.


تبقى القوّة العسكرية؟
في الحقيقة ما تزال روسيا تحظى بقوّة عسكرية مهابة, تقليدية ونووية. والجيش الروسي بعديده البالغ 1,2 مليون جندي (بعد أن كان 2,8 مليون عام 1991 وأكثر من أربع ملايين حتى الثمانينات) يبقى الأقوى في أوروبا, لكنه يعاني من أزمات عديدة تطال وسائل الاتصال واللوجستية والبنى التحتيّة, حتى ان أفراده يعانون من سوء التدريب والتغذية, وعدم دفع رواتبهم بانتظام, وهي متدنيّة جداً في الأصل, في حين تطال الفضائح ضباط القيادة الكبار ووزارات الأمن والداخلية.
وقد أطلق الرئيس يلتسين مشروعاً لتحديث الجيش. لكن ندرة الموارد أفشلت هذا المشروع (الميزانية العسكرية صارت أقل أربع عشرة مرة ممّا كانت عليه عام 1991 في حين أن عديد الجيش صار أقل مرتين ونصف)(22). هذا ويشكّل إصلاح الجيش مادة خلافات عميقة في الأوساط القيادية, وهو يتطلّب أموالاً يصعب تأمينها و”عقيدة عسكرية جديدة” تنبع من رؤية واضحة لمتطلّبات الأمن الروسي المستقبلي, وهو موضوع نقاش محتدم.
وبفضل السلاح الذري وحده, تستطيع روسيا الإدعاء بأنها قوّة عسكرية مهابة. وفي هذا الصدد, هناك أطروحتان متناقضتان تشكّلان محطّ جدل في موسكو. تقول الأولى إن روسيا لكي تبقى قوّة عظمى يجب أن تكون قادرة على مواجهة كل المخاطر من أي جهة أتت, لذلك لا بدّ لها من أن تحتفظ بقوّة عسكرية نووية تعادل قوة منافسيها مجتمعين. أما الأطروحة المقابلة, تقول إنّ الواقعية السياسية يجب أن تعترف بأن روسيا لم تعد قوة شاملة Globale على غرار الاتحاد السوفياتي السابق أو الولايات المتحدة الحالية. لذلك يجب أن تنصبّ مواردها المحدودة على حلّ المشاكل الداخلية ودرء المخاطر المتأتّية من المحيط القريب, أي أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
وإذا كانت موسكو لم تستكمل ترتيب العلاقة مع “الخارج القريب” داخل الفضاء السوفياتي السابق الذي “يحتوي مصالح حيوية بالنسبة لروسيا” إقتصادية وسياسية وأمنية, كما أعلن يلتسين في 14 أيلول 1995, فإن العلاقة مع “الخارج البعيد” لم تأخذ مساراً ثابتاً حتى نهاية عهده. فعدا الخلافات القديمة مع اليابان والصين وتوثيق العلاقات مع إيران والهند والدول الحليفة للسوفيات سابقاً, مثل سوريا وغيرها, فإنّ العلاقة مع الغرب كشفت عن ضعف مريب, من مظاهره اضطرار موسكو للإذعان لرغبة واشنطن بتوسيع حلف الأطلسي شرقاً, الأمر الذي كانت موسكو تعتبره تهديداً غير مقبول لأمنها(23).
وفي هذا الصدد, نظر الأميركيون إلى تصريحات يلتسين المتشددة على انها موجّهة للإستهلاك الداخلي عشية الانتخابات الرئاسية عام 1996 والتي ارتفعت خلالها أصوات قوميّة وشيوعيّة متشددة. ولكن, حتى بعد فوزه في الانتخابات, استمرّت معارضة موسكو لمثل هذا التوسيع الذي يهدّد أمنها القومي المباشر. وفي محاولة لإرضائها, أفرجت الولايات المتحدة عن مساعدات مالية وعينية لموسكو, ووافقت على إدخالها بصفة مراقب في مجلس حلف الأطلسي دون حق استخدام النقض ­ الفيتو (ما يسمى بمجلس 16x1) بعد قمّة يلتسين ­ كلينتون عام 1997. وفي الذكرى السنوية الخمسين لتوقيع معاهدة واشنطن التي أنشأت حلف الأطلسي (آذار 1999), دخلت تشيكيا وبولونيا وهنغاريا رسمياً في هذا الحلف الذي بات يضمّ 19 دولة, بعد تعهّد واشنطن بعدم نشر أسلحة نووية في هذه البلدان التي كانت جزءاً من المعسكر الشرقي السابق وحلف وارسو. وفي 24 آذار 1999, بدأت عملية حلف الأطلسي ضد صربيا حليفة روسيا, واستمرّ القصف الجوي المركّز للأراضي الصربية أسابيع عديدة دون أن تقدر موسكو على مدّ يد العون لحليفها الرئيس ميلويفيتش(24). وعندما صدرت تصريحات متشدّدة من صفوف القيادة العسكرية الروسية وتحرّكت بعض قطع الأسطول الروسي صوب منطقة النزاع, خشي مراقبون كثيرون من اندلاع حرب نووية بسبب تفوّق حلف الأطلسي على روسيا في السلاح التقليدي مما قد يدفعها إلى استخدام, ولو محدود, للأسلحة النووية.
ولكن لم يحصل شيء من هذا, بل ان رئيس الوزراء بريماكوف بدا مرتاحاً لزيارة مدير صندوق النقد الدولي, إلى موسكو, في نيسان 1999 والتي أفرج فيها هذا الأخير عن مساعدة قدرها خمسة مليارات دولار لروسيا. وقد كشف “البروفيل المنخفض” الذي اتبعته موسكو خلال الحرب الأطلسيّة على يوغوسلافيا, عن عجزها العسكري وإن عملت واشنطن على “تعويضها” بالمساعدات والموافقة على وساطة فكتور تشيرنوميردين الدبلوماسية, التي ساهمت في حلّ النزاع والقبول بمشاركة قوات روسية في قوة حفظ السلام الدولية في كوسوفو.
لم تتمكّن موسكو من استغلال موقعها في مجلس الأمن (حق النقض ­ الفيتو مثلاً) لأنّ واشنطن لم تلجأ إلى الأمم المتحدة كما فعلت في حرب الخليج الثانية وفي البوسنة وقبلها في الصومال. ويعرف الروس تماماً ان تمدّد حلف الأطلسي إلى تخومهم المباشرة لا يشكّل تهديداً لأمنهم فحسب, ولكنه قد يؤدّي إلى انفراط عقد الفيدرالية الروسية. ذلك ان أوكرانيا ترغب بالإنضمام لهذا الحلف الذي يطمح أيضاً إلى ضمّ دول البلطيق, في المستقبل غير البعيد, وهذا يعني محاصرة لينينغراد (بطرسبرغ) نفسها(25). من هنا فإنّ الخيار الأوروبي لروسيا قد يحميها من الحصار الأطلسي. وأوروبا, فرنسا على وجه الخصوص, تسعى لاجتذاب روسيا المفكّكة سياسياً والمحتاجة اقتصادياً لتنضمّ إلى القاطرة الخلفية للإتحاد الأوروبي, وربما لحلف الأطلسي مستقبلاً. وهكذا لم تعد روسيا قطاراً بذاته يضمّ الآخرين كما كانت في طريقها الطويل, القيصري, ثم السوفياتي.
كل ذلك لا يعني استسلاماً روسياً كاملاً للنظام العالمي “الجديد” الذي تمسك واشنطن بمفاصله الأساسية. فالتقارب الروسي ­ الفرنسي, في عهدي ميتران ثم شيراك, يسعى لإقامة “نظام عالمي متعدّد الأقطاب” كما تقول كل البيانات المشتركة الصادرة عن اجتماعات زعماء البلدين. كذلك الأمر مع الجار الصيني الباحث بدوره عن حليف في خضمّ التنافس العالمي الجديد. وقد وقّع الرئيسان زيمين ويلتسين في نيسان 1996 أربعة عشر اتفاقاً للتعاون في شتى الميادين, ومنها وثيقة تنصّ على إقامة “شراكة ستراتيجية” تهدف إلى إقامة نظام عالمي متعدّد الأقطاب”. وفي 9 تشرين الثاني 1997, وقّع الطرفان اتفاقاً تاريخياً ينهي خلافاً حدودياً بين البلدين عمره ثلاثة قرون, بالإضافة إلى عقد لإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز. وكان الجانبان قد سوّيا, في نيسان من العام نفسه, خلافاً حول ترسيم الحدود الواقعة إلى الغرب من منغوليا, وهو إنجاز مفصلي مهمّ, إذ انه للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين روسيا والصين يتمّ ترسيم القسم الشرقي من الحدود بينهما (نحو 4500 كلم) بدقّة على الأرض, وبذلك انتهى خلاف استمرّ 300 سنة في شأن الحدود الممتدّة على طول نهر أمور.
كذلك تحسّنت علاقات روسيا كثيراً مع اليابان ولو من دون الاتفاق على مصير جزر كوريل المتنازع عليها. ومع إيران, راحت العلاقات تسير في تحسّن تدريجي وبطيء بعدما كان يحول دون ذلك خلافات دينية وأيديولوجية وستراتيجية. وقد ساهمت موسكو في إفشال سياسة “الاحتواء المزدوج” الأميركية عبر انفتاحها على العراق وإيران, وتقدّم التعاون النووي مع هذه الأخيرة رغم الضغوط الأميركية والاسرائيلية على روسيا التي تسعى أيضاً إلى إقامة محور يضمها وإيران والصين لمواجهة “التسلّط الأميركي”. وفي الشرق الأوسط, سعت روسيا اليلتسينية لتنشيط دورها الذي فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, ولكن من دون نتائج باهرة. ولا تمانع واشنطن من استخدام روسيا لنفوذها من أجل التأثير في مواقف ليبيا والعراق وإيران وسوريا, لكنها ترفض تزويد روسيا لهذه الدول بالسلاح والعتاد.إلى ذلك, يبقى الدور الثاني للعرّاب الروسي في مفاوضات الشرق الأوسط محدوداً جداً, حيث باتت واشنطن تملك “كل” أوراق اللعبة وليس 99 في المئة منها كما كان يردّد الرئيس أنور السادات.

II - ­ روسيا البوتينيّة:

لم يكن من المفاجئ أن يفوز فلاديمير بوتين برئاسة الفدرالية الروسية في انتخابات 27 آذار 2000. فالرجل صار عملياً “قيصر” روسيا الجديد منذ استقالة يلتسين في نهاية العام 1999. لكن المفاجئ أن يحظى بوتين بهذا التفويض الشعبي الواضح منذ الدورة الأولى للإنتخابات بنسبة 52,52 في المئة من الأصوات وبمشاركة شعبية عارمة بلغت 68,96 في المئة ممن يحق لهم الاقتراع. هذا في وقت لم يحمل فيه الرجل مشروعاً سياسياً واضحاً لروسيا الجديدة ولا برنامجاً إنتخابياً محدوداً ولا جدولاً اقتصادياً, ولا قدّم وعوداً وإغراءات للناخبين, ذلك انه, منذ كان في “الكي.جي.بي”, معروف بصمته وقساوة معالم شخصيته الباردة. وقد لعبت مواقفه الصارمة إبّان قيادته لحرب الشيشان ,الدور الأبرز في فوزه بالانتخابات. فالشعب الروسي يشعر بالحاجة إلى الأمن والنظام وببعض الحنين إلى ماضي القوة العظمى التي بسطت نفوذها على نصف المعمورة. من هنا فإنّ صورة “الرجل الحديد” التي رسمها بوتين لنفسه إبّان حرب الشيشان أرضت حاجة شعبه إلى الأمن والقوّة, كذلك وعوده بفرض “دكتاتورية القانون” لمحاربة الفساد والفوضى وبناء روسيا عصرية ومنفتحة. “وإذا كان موقف يلتسين في كوسوفا يشكّل عنواناً لتعامل الغرب معه, فإنّ موقف بوتين في الشيشان يشكّل عنواناً لتعامله هو مع الغرب. في الحالة الأولى اضطرّ يلتسين للإذعان لإدارة حلف شمال الأطلسي. وفي الحالة الثانية اضطرّ حلف الأطلسي للإذعان لإرادة بوتين. من هنا شعبيّة بوتين الروسية التي أوصلته إلى الرئاسة. ومن هنا أيضاً قلق الغرب على مستقبل العلاقه معه”(26).

1- ­ مجهول اسمه فلاديمير فلاديمر يتش بوتين:

من دكتاتورية البروليتاريا إلى دكتاتورية القانون:
ما يزال الرئيس الروسي حتى اللحظة لغزاً يحيّر المسؤولين الغربيين وسيبقى كذلك, على الأرجح, فترة طويلة. صعوده كان سريعاً جداً, إذ لم يكن يعرفه أحد عندما فاجأ يلتسين الجميع بتعيينه رئيساً للوزراء في آب 1999 خَلَفاً لستيباتشين الذي حكم أسابيع قليلة. ويتساءل المراقبون ما إذا كانت محض مصادفة أن رؤساء الوزراء الثلاثة الأخيرين في عهد يلتسين (بريماكوف وستيباتشين ثم بوتين) أتوا من عالم الاستخبارات ومدرسة “الكي.جي.بي” تحديداً. وبعد فوز “حزب الكرملين” بزعامة بوتين ويلتسين في الانتخابات التشريعية في 20 كانون الأول 1999, دونما حاجة للتحالف مع الحزب الشيوعي الذي أتى في المرتبة الثانية, شعر يلتسين بأنه يستطيع الرحيل مطمئناً, فاستقال في نهاية هذا الشهر نفسه (آب 1999).
عقب تخرّجه من كلية الحقوق عام 1975, وكان له من العمر 23 عاماً, ذهب بوتين إلى “الكي.جي.بي” وأُرسل إلى دريزده في ألمانيا الشرقية حيث أتقن الألمانية وعرف الكثير من أسرار اللعبة السياسية الدولية. وفي وسط الانهيارات الكبرى, عام 1991, ترك الكي.جي.بي. ليلتحق بأناتولي سويتبشاك عمدة مدينة سان ـ بطرسبورغ الاصلاحي, وهي المدينة التي وُلد فيها بوتين وترعرع. وفي عام 1996 هُزم سويتبشاك في الانتخابات البلدية في وقت نجح فيه يلتسين في التجديد لنفسه في الانتخابات الرئاسية. وكان أحد أباطرة المال النافذين “أناتولي تشوبايس” مديراً لادارة الكرملين قد عرض على بوتين الالتحاق بهذه الإدارة, فوافق على أن يعيّنه يلتسين, عام 1998, على رأس ما كان يسمى “الكي.جي.بي” وصار اسمه “جهاز الأمن الفدرالي FSB” وذلك بغية حماية “العائلة الحاكمة” اليلتسنية التي تحيط بها فضائح فساد كثيرة. وفي آب 1999, عيّنه يلتسن, فجأة, رئيساً للوزراء وكان له من العمر 47 عاماً. وهكذا تبدو فضائل يلتسين عليه أكثر من واضحة, ولا يكفي لردّها المرسوم الجمهوري الذي وقعه فور تعيينه رئيساً بالوكالة في بداية العام ألفين والقاضي بمنح يلتسين وعائلته حصانة قضائية ترفع عنهم خطر التعرّض للمحاكمة بتهمة الفساد وغيره.
وأتاحت حرب الشيشان لرئيس الوزراء بوتين فرصة الارتقاء, وهو الذي يعرف أهمية صورته كرجل حازم. هذا رغم أن خطابه بقي مبهماً ومعه مستقبل روسيا. فهو يمتدح حسنات اقتصاد السوق ويرسل السفراء لتسويق صورته في الولايات المتحدة والغرب, وفي الوقت نفسه يفرض على الشركات المساهَمة في حرب الشيشان, ويقمع الصحف المعارضة ويمتدح حسنات تدخّل الدولة في الاقتصاد. نتيجة هذا الخطاب الثنائي المبهم: دعم اليمين واليسار على حدّ سواء, “أيّده الشعب لأن لا وجه سياسي له. إنه قاسٍ وديناميكي, وكلّ من الوطنيين والقوميين أو الشيوعيين أو الديمقراطيين ظنوا أن باستطاعتهم كتابة ما يشاؤون على هذه الورقة البيضاء. وأكثر من 50 إلى 65 في المئة من الروس يفضلون النظام والأمن على ديمقراطية غربية أتت عليهم بالفوضى”(27), كما تقول عالمة السياسة الروسية ليليا شفتسوفا.
ومن الأشهر الخمسة التي قضاها رئيساً للوزراء والثلاثة التي قضاها رئيساً بالوكالة, يمكن الاستنتاج أن بوتين يسعى لبناء نظام سلطوي قوي غير آبه بالوسائل كما تشهد جرائم حرب الشيشان, وأنه مصمم على إطلاق مسار الاصلاحات الاقتصادية تحت اشراف الدولة. لقد كرّر دوماً أن “الديمقراطية هي دكتاتورية القانون” وأنه كلّما ازدادت الدولة قوة كلّما شعر المواطن بأنه حرّ”, مضيفاً: “فقط دولة قوية وفعالة تستطيع ضمان حرية المبادرة وحرية الفرد والمجتمع”, واصفاً روسيا بأنها “بلد غني بالناس الفقراء وبدون نظام”(28). وهكذا, من أجل بناء الدولة المركزية القوية, أحاط نفسه بالعديد من زملائه السابقين في الكي.جي.بي ثم في جهاز الأمن الفدرالي (ومعظمهم من جيله ومن مدينة سان بطرسبورغ) معترفاً على الملء بأنه يثق بهم ويحب العمل معهم(29).
وفور استلامه لمهامه بموجب الدستور في السابع من أيار 2000, عيّن حكومة تضم شيوعيين وإصلاحيين ومعارضين, مبقياً وزير الخارجية والدفاع في منصبه (مكافأة له على حرب الشيشان على الأرجح). كما عيّن على رأس الحكومة ميخائيل كاسيانوف نائب رئيس الوزراء المكلّف بالشؤون الاقتصادية والذي بنى علاقات وثيقة مع الغرب والمؤسسات الدولية وانتزع في شباط 2000 اتفاقاً مع نادي لندن يخفّف الدين الخارجي لروسيا بمقدار 10,5 مليار دولار(30).