منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
By رياض الغامدي
#56281
إن من سمات الأمم في مرحلة صعودها الحضاري تنفتح على الأمم الأخرى، عبر التبادل والتواصل الثقافي. لتتفاعل وتتلاقح قيم ومفاهيم تلك الحضارة مع الأخرى، مما يولد حراك الحضاري بين المتفاعلين. فتظهر قيم ومفاهيم جديدة ومركبة على حساب تراجع قيم أخرى جراء هذه المثاقفة. كما حصل ذلك مع الحضارة الإسلامية في تفاعلها مع الحضارات الهندية والفارسية واليونانية والرومانية والفرعونية نتج عن ذلك التفاعل حضارة إسلامية متميزة. نورد هذا الاستشهاد بالتاريخ لما يمكن أن يكون من تفاعل حضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي و أحد روافده وجود الجاليات المسلمة في الغرب يثير حضورها في الغرب العديد من قضايا تتعلق بالاندماج في المجتمع الغربي، فإذا انعزلت هذه الجاليات في تجمعات خاصة بها أصبحت مجتمعات مغلقة مما سيزيد من التباعد، وعدم معرفة الآخر بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون في كنفه، وبالتالي سيعطوا صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين. فالجاليات بهذا السلوك تعطينا مجتمعاً ممزقاً وضائعاً بين هويتين وثقافتين، يعيش الفرد المسلم أبعادهما السلبية دون أن تغني شخصيته صفة التعدد. وهي ظاهرة خطيرة مطلوب التصدي لها وإفشالها. لقد ثبت بالتجربة الاجتماعية أن الاختلاط والتداخل ولو في حدود بسيطة، يخلق تفاهماً مشتركاً وأفاقاً تولد قيماً تحترم، تنعكس على الأوضاع العامة بشكل أو آخر، والاختلاط يبدد نظرية الخوف من الإسلام والارتياب والرهبة منه عند الغربيين، ويجعلهم يتعاملون مع المسلمين من واقع الحياة اليومية، ربما الكثير من الشباب المسلم من تربوا في البيئة الغربية وحملوا صفة المواطنة فيه، قد شعروا ولمسوا ايجابيات الاندماج بصورة عامة.

إن الدعوات التي يطلقها أنصار عزل الإسلام والمسلمين تأتي نتيجة لعدم قدرتهم التعايش مع الأديان والثقافات الأخرى، أخذت هذه الأفكار في الانتشار عند الاتجاهات المحافظة في الغرب. هذه الدعوات سواء صدرت من الجهات التي تطلقها أو تتبناها لا تصمد امام النقد ولا التجربة التاريخية التي تكذبها حيث نجد هناك تعايشاً وتكافلاً في المجتمعات الغربية التي توجد فيها أقليات من مختلف أجناس العالم، وقد وجدت في الغرب نظم وقوانين لإدارة الاختلاف بطرق سلمية وأخلاقية. لذا كل هذه الدعوات الإيديولوجية والمتشددة مصيرها الفشل.

بالمقابل استقرار ملايين المسلمين في الغرب أثّر بشكل مباشر في مجتمعاتهم الجديدة، فقد انتشرت المساجد وارتفع صوت الآذان، وأصبحت أحياء وشوارع يتواجد فيها المسلمون يقدمون أفضل ما عند المطبخ العربي/الإسلامي من المأكولات والمشروبات، وانتشرت المقاهي ذات الطراز العربي فيما تقدمه للزبائن الغربيين من منتجات عربية، واتسع نطاق ارتداء الحجاب بين الفتيات المسلمات، وكثرة الجمعيات والمدارس والمراكز الإسلامية والعربية، وفرضت تلك المظاهر ازدياد مساحة الثقافة العربية الإسلامية في برامج التلفزيون والصحف، هذه المتغيرات حقائق اجتماعية وهي تعد تطور أيضاَ مع زيادة الاستثمارات والمصالح الإسلامية في مختلف المجالات الاقتصادية.

لم يتقبل الكثير من أبناء المجتمع الغربي بسهولة هذا الواقع، فتعالت دعوات لمنع تدفق المهاجرين وبالتالي وقف زحف ثقافتهم، والحفاظ على نقاء عادات الغربيين وتقاليدهم. اتخذت صيغة النظر إلى الإسلام والمسلمين في الغرب مستويين مختلفين:

الأول: عدائي.
والآخر: يمثل حالة القبول والتعايش.
وهناك مظاهر عديدة للتعبير عن هذا التباين نلمسها بشكل مباشر في وسائل الإعلام مثلاً.

ولكن ما يمكن تأكيده، هو إن العلاقات الثقافية تبادلية بين الحضارات في جوهرها، وإن إكساب تلك العلاقات فاعلية، ومسؤولية كل الأطراف المشاركة، ولا يُستثنى من ذلك المسلمون ذاتهم، فعليهم أن يصوغوا أدوارهم الخاصة، ويتفاعلوا مع المجتمعات التي يشكلون جزءاً منها، عبر بوابة الاندماج مع تلك التجمعات البشرية. فوجود الجاليات المسلمة في الغرب صنع حراكاً اجتماعياً وثقافياً باتجاهين مختلفين:

الاتجاه الأول:

سلبي تمثّل في أقلية من المسلمين تظهر في منظمات متطرفة عصبوية متزمتة تحمل نزعات الاحتجاج الدموي والانتقام من الغرب(كتفجيرات باريس، مدريد، لندن،...) كرد على سياسات الغرب تجاه العرب والمسلمين كما تراها تلك المنظمات. ملتفين حول بعض من تعلم جزءاً من علوم الدين والشريعة من مدرسة دينيه متواضعة، وبرؤية سلفية ضيقة، مع عدم معرفة أكثر دعاة العلم من المتعصبين في الغرب اللغة العربية، وحتى لغة الدولة الغربية التي يقيمون فيها، فقد غاب عن أولئك خصائص المجتمعات التي عاشوا فيها. ليصدروا إلى إتباعهم فتاوى ضالة مضلة تستحلل المحظورات الواضحة في الدين، تشجع على قتل النفس المحترمة كقتل الأبرياء، والتفجيرات الإجرامية للمرافق العامة، بل تجيز الفتاوى أن يسرقوا أموال تلك البلاد التي آوتهم، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف، وان يستولوا عليها بكل ما يستطيعون، بالاختلاس، أو التزوير، أو بالغش، أو بأي وسيلة كانت. هذه العقلية التدميرية تشكل وصمة سوداء تسيء الى الإسلام، وتلحق بالجاليات الإسلامية أبلغ الضرر، وتصور المسلمين بصورة مجموعات لا تؤمن بقيم و لا أخلاق، ولا تعترف بعهد ولا ميثاق، فهؤلاء(الدعاة المعممّون) هم رؤوس الجهالة، الذين وصفهم الحديث الصحيح أنهم إذا سئلوا { أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.

هذه الجماعات تدّعي نصرة الإسلام لكن بدون أن تمتلك نظرية سياسية تحدد معالم مواقفهم، ولا برنامجاً سياسياً يسعون إلى تنفيذه، إنهم يقترفون عمليات عنفيّة، تستهدف إحداث الفوضى والدفع في أتون محرقة الفتنة، لا أول لها ولا أخر. ثقافتهم صادرة عن نظرة متخلفة جامدة للنص الديني. استغلت هذه الجماعات لبعض محاسن النظام الغربي، والمنعدمة في نظم منطقتنا، والمتمثلة في منح حق اللجوء السياسي المؤطرة باحترام حقوق الإنسان، وتقديم منحة مالية كمعونة معاشيه للمهاجرين مع توفير سكن شبه مجاني، والحصول على الخدمات الطبية والقانونية والتعليمية والتدريبية والتأهيل المهني بدون أجر، لحين أن يصبح اللاجئ مؤهلاً للعمل، وربما ينخرط بعضهم بحرية العمل أو النشاط السياسي ليقوموا بأفعالهم المخالفة لأبسط المبادئ الإسلامية.

والاتجاه الثاني :

كان ايجابياً تصالحياً مع القيم الغربية نتج عن الحراك الاجتماعي بين الإسلام في الغرب، وجد أصحاب هذا الاتجاه العديد من القيم الغربية ما يناظرها في الإسلام. هذه القيم تجد عدداً كبيراً منها أصولاً متداخلة في بعدها الفكري والفلسفي والقيمي مع حضارتنا الإسلامية ومن المسلّم به أنها جاءت عبر التداخل و التراكم المعرفي الإنساني، مما مهد لولادة ما بات يعرف بـ "الإسلام الليبرالي" المثير للنقاش والجدل في الأوساط الدينية، رغم أنه يقوم على الإيمان بالثوابت الإسلامية المتسمة بالوضوح والعقلانية (أصول وفروع الدين كما هي عند المسلمين) منها الأيمان بالله تعالى، ونبوة المصطفى(صلى الله عليه وسلم)...وما يترتب على المسلم من ممارسات عبادية، وهذا لا يعني التفاعل مع غيرهم يقود إلى تنازلات تمسّ جوهر الدين لعرف سائد أو تيار جارف، ومن أوليات الإسلام الليبرالي تأكيد والتزام المسؤولية الأخلاقية في طريقة التعامل مع الآخرين أياً كانوا، مثل الصدق في المعاملات ودقة المواعيد، احترام الإنسان بغض النظر عن معتقده، أو أصوله الأثينية، أو السياسية،... وهذا جوهر الاختلاف عن ما هو معروف عند المسلين في الشرق، إضافة إلى مجموعة الأحكام الفقهية المتعلقة بالقضايا الحياتية والأحوال الشخصية المشتقة من واقعهم الغربي، صارت تعرف "فقه الأقليات أو مرشد المغترب".

دفعت الأجواء السائدة في أوروبا المسلمين منذ فترة سنين طويلة في الاتجاه التصالحي مع قيمها، فأوروبا اليوم لم تعد مستعمِرة، وهي ليست أوروبا الحروب الصليبية، ولا أوروبا القرن التاسع عشر، الباحثة عن أسواق لتصريف منتجاتها وقيمها والاستيلاء على ثروات الشعوب، و هي غير أوروبا الحربين العالميتين أو الحرب الباردة في القرن العشرين، أوروبا اليوم تعاطفت مع القضايا العربية والإسلامية واتضح ذلك في مزيد من الدعم للقضية الفلسطينية وحماية المسلمين في كوسوفو و البوسنة والهرسك، وتقديم الدعم والمعونات الاقتصادية عبر اتفاق الشراكة الأورو ـ متوسطية، إنها أوروبا التعددية في تكوينات شعوبها المتنوعة والغنية ثقافياً. فالمسلم الأوروبي تصالح وتفاعل وتعامل مع منجزات الحضارة الغربية وفي مقدمتها الديمقراطية على الصعيد السياسي والاقتصاد الحر وحقوق الإنسان من الناحية المدنية، وسيادة القانون والحريات العامة على المستوى الاجتماعي، ومنها حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية. إذ وجد المسلمون لهذه المفاهيم ما يؤيدها في الإسلام مع وجود استثناءات في بلد أو بلدين لا تمس الجوهر، ومن هذه الأرضية انطلق الإسلام الأوروبي بدون شعوره بعقدة نقص، يساهم في بناء أوروبا الجديدة.

ما يفسر الجزء الأكبر من ذلك التغيير، هو النشاط الايجابي للمسلمين في الغرب، المتأتي من الاندماج والتفاعل مع مجتمعاتهم المضيفة، وانطلاقهم من المفاهيم الإسلامية في التعامل مع الآخرين. بوصفهم مواطنين أصليين كما في البوسنة والهرسك وألبانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، أو ممن اكتسبوا جنسية البلد الذي حلوا فيه، يساهمون في بناء بلدهم الذي يعيشون به. وكان لهم دور فعال في مناصرة قضايا بلدانهم الأصلية في نفس الوقت، ولخروجهم من الإحساس النسبي بالتهميش، ولاكتسابهم الخبرة والتنظيم، وتركهم سياسة عدم الاكتراث واللامبالاة الناجمة عن تحررهم من الطبيعة المنغلقة التي شرنقوا أنفسهم فيها سابقاً، داخل الأقليات الأثينية المسلمة، حيث أفقدتهم تلك الانعزالية مبادرة تأسيس قيادة واضحة تمثلهم، فسعوا إلى التداخل في صفوف المجتمع الغربي، وأخذوا مواقعهم في مجالات الحياة العامة باقتدار، واكتشفوا حاجة تنظيم أنفسهم، عبر تكوين مؤسسات وتجمعات تتحدث باسمهم، لأن السلطات الرسمية والأهلية ووسائل الإعلام تتعامل مع مؤسسات ومراكز ولا تتعامل مع أفراد، وتريد أن تعرف من هم مخولون بالتحدث باسم المسلمين في البلدان الأوروبية، لمحاصرة الجهلة والمتطفلين وعزلهم عن مجتمع المسلمين.

ولكن لا يزال يواجه المسلمون في الغرب العديد من مشاكل الاندماج التي لم تحسم بعد: كالمواطنة واكتساب الجنسية الغربية، العمل في المنشات الحكومية والجيش والشرطة، ومراجعة المحاكم المدنية غير الإسلامية، والانتماء للأحزاب السياسية لتحقيق مصالح الجالية، ومن المواضيع التي لم تحسم بعد وتثير جدلاً واسعاً عند الإسلاميين، المشاركة في الحياة السياسية الغربية هل هي شرعية، وكذلك التصويت لمرشحين غير مسلمين، أو تأييد أحزاب أو الترشيح عنها وهي غير إسلامية، ودفع الضرائب الى حكومات سياساتها الخارجية إن لم تكن متعارضة فهي ليست مؤيده للعديد من قضايا العالم الإسلامي، كل هذه الأمور تحتاج الى توجيه ديني واستنباط أحكام فقهية جديدة لم يألفها المسلم في بلد المنشأ.

ومن الانجازات المهمة التي حققها المسلمون في أوروبا هي، انبثاق المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، الذي حدد مهمته في محاولة (توحيد الفتوى) في الديار الأوروبية قدر الإمكان، عن طريق التشاور، والبحث المشترك، والاجتهاد الجماعي، الذي أصبح اليوم فريضة وضرورة حياتية للمسلمين، طبقاً لما ورد في مقدمة كتاب "قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" المجموعتان الأولى والثانية، بذلك أصبح المجلس مرجعية دينية لأغلبية المسلمين في أوروبا، يعتمد الأصول المطلوبة في إصدار الفتوى، حسب ما جاء في النص الأتي من نفس المصدر المتقدم:

" كما يراد أن يكون هذا المجلس (مرجعية دينية معتمدة) لدى السلطات المحلية في كل بلد، وهذا يقوى شأن الجاليات الإسلامية، ويشد من أزرها.

إن فقهاءنا ـ رحمهم الله ـ قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وأعظم مظهر لتغيير المكان هو: اختلاف دار الإسلام عن غيرها. ومن هنا كانت رسالة هذا المجلس أن ييسّر في فتواه على هؤلاء ولا يعسّر، وأن يبشّر في دعوته ولا ينفّر، وأن يستبقى الناس في إطار الدين، ولو بالحد الأدنى من الإسلام، وأن يفتيهم بالأيسر لا بالأحوط، وقد قال الإمام سفيان الثوري (رضي الله عنه) : إنما الفقه الرخصة من الثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.

مهمة المسلم الغربي التكييف مع المجتمع الحاضن له، مع الاحتفاظ بانتمائه الإسلامي كمنظومة دين وحضارة وتأريخ وهوية دينية، وهو يساهم في بناء أوروبا الحديثة، كما في تجربة ألاف الأتراك الذين ساهموا في بناء ألمانيا، فضلاً عن ملايين المسلمين من المغرب العربي في فرنسا، شاركوا حتى في مقاومة النازية، ناهيك عن انخراط مسلمي بريطانيا القادمين من شبه القارة الهندية والبلاد العربية وغيرها في بناء بريطانيا، فالمئات من جميع المسلمين شغلوا مواقع في التعليم حتى الجامعي، ومنهم من ارتقى سلم الوظيفة في العديد من الوزارات والمصالح الحكومية والأهلية وأصبحوا نواباً في برلمانات بلدانهم الأوروبية، ولا غرابة في ذلك لأننا بناة حضارة ساهمت في الرقي الإنساني وانتقلت الى أوروبا عبر الأندلس، ويكفي النظرة الى نظام الأرقام العربية المتداول في الغرب للتدليل على ذلك.

يدور الحديث الآن عن " الاسلام الليبرالي أو الأوروبي" في الأوساط الغربية والمسلمين في الغرب بوصفه مكوناً أساسياً لهوية ملايين المسلمين المواطنين في البلدان الغربية، فقد أصبح المصطلح متداولاً ويستجيب لخصوصيات الدولة الغربية الديمقراطية والعلمانية، ومن أهمها: احترامها للأقليات، وضمانها حقوق الجماعات الدينية والعرقية في الحفاظ على مميزاتها، ويتطلب الأمن الداخلي للمجتمع الغربي ضرورة دوام التواصل الايجابي مع المسلمين (والمهاجرين الآخرين) والذي يحتاجهم الغرب للمساهمة في إغناء الثقافة المحلية، وللتزود باستمرار بعادات وقيم جديدة. يتميز الإسلام الليبرالي بقفزه فوق الانتماءات والصراعات المذهبية الإسلامية وعقدها، وينأى بنفسه عن حصر الاهتمام بالقضايا الجزئية ذات البعد الجغرافي الضيق، لأن همّه الأول مجابهة التحديات المشتركة التي تواجه كل المسلمين في الغرب، وليس البحث عن حلول للمشاكل والصعوبات في بلاد المسلمين، نعم هي في جدول اهتمامه وعمله.

الإسلام الليبرالي مفهوم بحد ذاته يعد إحدى تعبيرات الإسلام عن تجديده، الناتج عن إعمال الذهن في الأركان التشريعية للدين وأهمها القران الكريم والسنة النبوية، بهدف اكتشاف ما تحتويه من أفكار وآراء معرفية ورؤى تنسجم مع متطلبات الواقع الذي يعيشه الفرد، والذي هو في حالات تجدد مستمر، والتجديد صفة ملازمة للدين الإسلامي كما يعتقد بذلك جمهرة من المفكرين والعلماء والباحثين استناداً لما يروى في الحديث النبوي "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدّد لها دينها" والتجديد ليس إضافة مصدر تشريعي آخر، أو إحداث تغيير في متون ونصوص القران الكريم مثلاً، بل فهم القران والسنة منهجاً وعمقاً واتساعاً وتأويلاً، ضمن القواعد المتعارف عليها في أصول البحث الإسلامي، عن طريق إعمال العقل فيهما، وتكوين علاقات جديدة بين مفرداتهما يمكن من خلالها اكتشاف بل توليد المزيد من المفاهيم والمعالجات، وهذا معنى التدبر في القران الكريم، وناتج التدبر واستنطاق القران والسنة ما نصطلح عليه اليوم بـ الفكر الإسلامي باعتباره ثمرة تفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية، وبهذا المعنى فهو فكر بشري غير مقدس قابل للنقاش والنقد.

والإسلام الليبرالي يستوعب ويتعايش مع مفاهيم الحضارة الغربية، بروح متسامحة أكثر ومتحرّرة من عقدة "الغربفوبيا" كما هي عند أهلنا في الشرق الإسلامي يخافون سطوة الغرب، كما إن الإسلام الأوروبي يميل وبقوة نحو العقلانية، ويتجه إلى التركيز على بناء قيم عالمية مشتركة بين جميع البشر مثل حق الحياة والعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والعيش الكريم، ويتعامل الإسلام الليبرالي بطريقة أكثر تمدناً مع المرأة وقضاياها، حيث تنشط المرأة المسلمة في الغرب أكثر مما هي في الشرق الإسلامي، وتعمل في كل المجالات، وتدخل إلى الحياة السياسية والمشاركة في صناعة القرار من خلال عضوية المسلم في الأحزاب السياسية المختلفة التسميات، والاتجاهات السياسية المتنافسة في الانتخابات العامة والمحلية، ساعياً لتقديم دعم لشؤون الجالية المسلمة، والإسلام الليبرالي يعتقد بأن تعايش الأديان والثقافات في جو من التسامح والسلم الاجتماعي، يزيد من تماسك الأواصر الثنائية والدينية والاجتماعية، وهو لا يسعى لأسلمه أوروبا وتحويلها من دار العهد والدعوة إلى دار الإسلام، إنما يتفاعل مع آليات التكامل والاندماج مع المجتمع الغربي.

ويستند في تفاعله مع الحياة الغربية من منطلقات دينية متعددة منها:

1- مبدأ عالمية الاسلام فخطابه موجهه لكافة البشر، فهو غير محدود لا مكانياً ولا قومياً حيث تقول الآية الكريمة " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا "، الآية 28 سورة سبأ.

2- الأرض يرثها عباد الله الصالحين أينما وجدوا "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، الأنبياء آية 105، والله تعالى كفل للمسلمين التمكن في الأرض، فكيف يحدث التمكن من دون الاندماج والتعلم واكتساب الخبرات.

3- الآية الكريمة واضحة في دلالتها لتمكين المسلمين في الأرض، وهي مساحة كاملة لحركة الاسلام وميداناً له "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً،.."، سورة النور آية 55.

4- البشرية خلق الله، وهي أسرة واحدة أينما حلّت، وكل البشرية عيال الله، وأقربه إليه أحسنهم الى عياله من دون تحديد لأي شرط آخر للقرب منه تعالى كما جاء في الحديث " الخلق عيال الله وأقربهم إليه أحسنهم لعياله" .

5- اعتبار الأرض كلها دون حصرها ببقعة مسجداً وطهورا كما جاء في الحديث النبوي"جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا".

6- التعامل بالقسط والتعاون (وتعاونوا على البر والتقوى)، المائدة آيه 2 على فعل الخير والدفع بالتي هي أحسن "أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، سورة فصلت آية 34، والجدال بالحكمة والموعظة الحسنة "وجادلهم بالتي هي أحسن"، سورة النحل آية 125، والبر والقسط في علاقة المسلمين بغيرهم.

7- الأخذ بقاعدة التيسير لا التعسير في العلاقة مع غير المسلمين.

8- الاستفادة من التشريعات الدولية مثل حقوق الإنسان والعهود الأخرى التي تعطي حقوق وحريات للإنسان طالما هو إنسان بغض النظر عن دينه.

9- الاستفادة من النظام السياسي الغربي العلماني الذي يوجب الحياد تجاه عقائد وثقافات المواطنين ويعاملهم جميعا بروح من المساواة.

10- الحديث النبوي المشهور في الدعوة للاجتهاد في أمور الدنيا بصورة عامة " أنتم أعلم بأمور دنياكم".

11- تمثل القيم الإسلامية الواردة في وصية النبي الواردة في خطبة حجة الوداع الداعية الى مبادئ العدل والمساواة والكرامة والحرية في البلاد الغربية التي تتيح أجواء تمتع حقوق مواطنيها من الأديان والأعراق.

كل تلك المنطلقات شكلت أرضية لتحرك المسلمين لطرح رؤيتهم عن الاسلام في موطنهم الجديد.

ويوما بعد آخر يتجذر هذا المصطلح، وكما هو مشاع عن وجود إسلام مشرقي يتصف بالعاطفة والتصوف والركون إلى النص تأويلياً أو جموداً عليه، ووجود إسلام مغاربي يجنح إلى العقلانية أكثر، وهناك قراءتان مختلفتان منذ القرن الأول للإسلام قراءة سنية وأخرى شيعية، أو صوفية، وإذا أردنا أن نرصد حركة الإسلام في دول العالم الإسلامي المختلفة، فسنجد تصنيفات مكانية كإسلام ماليزي استطاع أن يبني دولة متقدمة، وأخر إسلام محافظ ومتطرف و متشدد في تفسيره كما هو في السعودية واليمن، في حين الإسلام التركي تمكن من التزاوج بين الديمقراطية والعلمانية في صيغة حزب العدالة والتنمية الحاكم في الوقت الحاضر، وبالتأكيد يتباين مع الإسلام الإيراني المستند في حكمه إلى سلطة الفقهاء المستمدة من نظرية "ولاية الفقيه" التي تعطي للفقيه العادل سلطة الرئيس الأعلى للدولة وغيرها من التصنيفات ذات الصفة الجغرافية.

كان هناك الإسلام الغربي الذي انبثق من تعامل المسلمين مع واقع الحياة الغربية ذات الحضارة المادية والمدنية المتقدمة. وهذه القراءات للإسلام تنم عن حركة التفاعل الحيوي بين الدين الإسلامي والشعوب ذات الخصوصيات والثقافات واللغات المحلية التي حل فيها، فأثر في عاداتها وقيمها وحضارتها، والشعوب فهمت الدين بالطريقة الحياتية التي نشأت حسب تراثها وتقاليدها وفلكلورها فأثرت عليه في تطبيقات الإسلام هي أيضاً، وأحسن مثال لذلك حجاب المرأة المسلمة يختلف في كل بلد عن الآخر، أو الفهم العام الدين ولرسالته اختلف من شعب إلى آخر مع ملاحظة الحفاظ على الأسس العقدية للدين.

يعتقد المتداولون للمصطلح بأن هناك إسلاماً أوروبياً عقيدةً وديناً لملايين المسلمين الذين عاشوا لقرون طويلة في أوروبا، فهي وطنهم الأصلي ومنها تكونت ثقافتهم.

أولاً: القرب الجغرافي لبلاد المسلمين سهّل امتزاج وتفاعل القيم واللغات بحيث تجد تجسيداً واقعياً للعديد من المبادئ والقيم الإسلامية.

ثانياً: تزايد هجرة ملايين المسلمين لأوروبا بشكل اسمه عند البعض بـ"الاحتلال الصامت" والذي غير في نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية، والتفاعل الحياتي لدرجة دخل المطبخ العربي وبعض عادات وتقاليد المسلمين في صلب الحياة الأوروبية.

ثالثاً: أثر السياسات للدول الاستعمارية وما خلفته من ثقافة التبعية لها.

رابعاً: العلاقات الاقتصادية الناشئة بعد مرحلة الاستعمار جعل الالتصاق بل المستعمر أكثر عندما فشلت الدولة الوطنية في تحقيق مشروعها.

خامساً: يحل مصطلح الإسلام الأوروبي مشكلة الهوية عند المسلم، باتساق الهوية مع الوضع السائد في أوروبا، ويحرّر المسلم من عقدة مَنْ نحن، وينشئ شخصية واثقة من نفسها، تعمّق ولاءها للبلد المقيمة فيه، وفي نفس الوقت يعمل لمناصرة قضايا منشأه الأصلي بدون اتهام أو تخوين، انطلاقا من مملكة الضمير الذي يؤمن بالقيم الروحية التي استلهمها المسلم من دينه، وليس بوحي من منطق الحضارة المادية فقط. فالحفاظ على الهوية لا يتم من خلال العزلة، بل العزلة تسبب مزيداً من العقد، كما أنها تقود الى التعصب.

إن الحفاظ على الهوية يتم عبر الشراكة الاجتماعية مع الآخر، لأنها تتيح فرصة اكتشاف الذات، وبالتالي اكتشاف الهوية كقيمة مُعَرفة بوضوح ومحددة بدقة، وهذا الاكتشاف للهوية يحتاج الى وسط متنوع أكثر مما يحتاج الى وسط متجانس.

يستمد المسلم الليبرالي القدرة على ممارسة النقد الذاتي لأوضاعه وتصرفاته سواء الفردية منها أو المجتمعية، من السياق والمحيط الاجتماعي الأوروبي العام الذي يجبر الفرد على مراجعة نفسه، ليتسق مع البيئة المعاشة، ويتعامل مع القوانين والأعراف الضابطة لحركة الفرد، وتنطلق عند جماعة من المسلمين ملكة العمل على أن يكون جسراً بين ثقافتين إسلامية غنية بالقيم والمفاهيم الأخلاقية والروحية، وثقافة غربية مادية حداثية، ليعزز أواصر الثقة بين الطرفين، ويقلل من سياسة الاتهام والرفض التي تعتري أحياناً العلاقة بينهما، ناهيك عن دور المسلم الليبرالي كسفير لثقافته ووسيط ناقل للصفات والعادات وحتى الفلكلور الشعبي لمجتمعه الشرقي.

أن وجود المسلمين في الغرب كمواطنين كاملي الأهلية بوصفهم يشاركون في كل مناحي الحياة ويتحملون واجباتهم ككل المواطنين الآخرين أصبح ضرورياً في عصر العولمة للمساهمة في خلق مستقبل قائم على التنمية والتعايش السلمي بين الشعوب.

في حين لم يتم التصالح بعد مع القيم الأمريكية التي تلقي بظلال من عدم الإرتياح والإرتياب تجاه الإسلام والمسلمين، بكونها بلد مهاجرين يتصفون عادة بالتمسك الشديد بدينهم.

أولاً: مع وجود قوى ضغط سياسية/اقتصادية تريد حكر التأييد والدعم الرسمي الأمريكي لإسرائيل، فتسعى لتوليد عقبات أمام تصاعد النفوذ العربي/الإسلامي، من خلال عرض الصورة النمطية للإسلام والمسلمين.

ثانياً: وما ألقته أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من تداعيات من تكوين صورة سلبية بالغة عن الاسلام، جعلت كل المسلمين في سلة واحدة.

ثالثاً: لذا جرى الحديث والتركيز على "الاسلام الأوروبي". يجعل من المسلمين الأوروبيين أن يعوا هذا الوضع ويعملوا لانتصار إسلامهم، وجعله واقعاً يطبع حياتهم اليومية، وإلا فان خصومهم سيعملون بكل الوسائل للتعامل معهم كعنصر خارجي طارئ وطفيلي يجب إزالته. فعدد من الجهات الأوروبية لا تريد للمسلمين الأوروبيين أن يكونوا مندمجين كمواطنين صالحين، لأن ذلك سيكون خطراً تستشعره في تأثيرهم على الأوربيين، بل تدفع ليكون المسلمون متطرفين، ليسهل حصرهم والتضييق عليهم ومنع امتداد تأثيرهم في المجتمع.