- الجمعة ديسمبر 14, 2012 9:20 pm
#57084
السائد فى الفكر السياسى العربى أن العالم يقف ضدنا، وأن المؤامرات الدولية تقطع طريقنا.. إن هذا الفكر صحيح تماماً، ولكنه ناقص تماماً، ذلك أن الحقيقة ليست أن «العالم ضد العرب» بل الحقيقة هى أن «العالم ضد العالم».(1)يمثل تاريخ الصين نموذجاً ممتداً للصراع مع العالم، أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة عام عمر الدولة فى الصين.. ولا يكاد يمر قرن من القرون الخمسة والأربعين دون صراع أو صدام.بعد أربعة قرون من نشأة الصين تم بناء سور الصين العظيم، وقد حمى السور الداخل فترات طويلة.. لكنه لم يصمد أمام غزو المغول للصين بقيادة جنكيزخان فى القرن الثالث عشر الميلادى.حتى سور الصين العظيم لم يتمكن من حماية الصين إلى الأبد.. ويمكن القول إن أكبر ضيوف الصين على مر تاريخها كانوا المغول فى القرن الثالث عشر والأوروبيين فى القرن السادس عشر.. لكن المغول أسسوا حالة من البناء والعمران واتخذوا من بكين عاصمة للصين. أما الأوروبيون فكانوا أسوأ ضيوف فى تاريخ البلاد.. وقد شارك اليابانيون والأوروبيون فى تشكيل التاريخ الحديث للمعاناة فى ذلك البلد العملاق.(2)يتشكل تاريخ الصين الحديث والمعاصر من حقبتين كبيرتين.. الحقبة التى حكمت فيها أسرة المانشو والحقبة التى سادت فيها الشيوعية، أو هى فى كلمتين: «المانشوية» و«الشيوعية».كانت أسرة «مينج» تحكم الصين حتى عام 1644، وبعدها أصبح حكم الصين لأسرة المانشو، حكمت أسرة المانشو من عام 1645 حتى عام 1911، أى أكثر من قرنين ونصف القرن.. من منتصف القرن السابع عشر وحتى قبيل الحرب العالمية الأولى.. وهى مدة طويلة وعصيبة فى آن.(3)فى عهد أسرة المانشو جاء الأوروبيون إلى الصين.. ومثل كل النماذج كان الصليب يتقدم السلاح.. وكانت الحملات التبشيرية تتقدم الوحدات العسكرية. وكان انقسام السياسة تعبيراً عن انقسام الدين.. احتمت الأطماع البريطانية والهولندية بالغطاء البروتستانتى، بينما احتمت الأطماع الإسبانية والبرتغالية بالغطاء الكاثوليكى!ودخلت الصين طريقاً شاقاً من الهزائم والمعاناة.. إن الفترة الممتدة من عام 1840 حتى عام 1899 تمثل أسوأ خمسين عاماً يمكن أن تعيشها دولة.. فى عام 1840 كانت حرب الأفيون وتمت هزيمة الصين أمام بريطانيا، وفى عام 1895 جرى غزو اليابان للصين، وفى عام 1899 قامت القوى الأجنبية بتقسيم مناطق نفوذها فى الصين.. أصبح الفرنسيون فى الجنوب، والبلجيكيون فى بكين، والألمان فى تسنجتاو، والأمريكان فى كانتون، والإنجليز فى وادى اليانج، والروس فى منشوريا!(4)تمثل «حرب الأفيون» أكبر نماذج الاستفزاز فى تاريخ الحروب، إنها قصة خيالية، تبدأ القصة بالتجار الأوروبيين الذين كانوا يأتون بالأفيون من الهند ويذهبون لبيعه فى الصين، انتشر مخدر الأفيون فى الصين وواصل التجار مسيرتهم من مصادر الإنتاج فى الهند إلى أماكن التوزيع فى الصين. اتخذت حكومة الصين قراراً بوقف توزيع الأفيون فى البلاد، كان ذلك فى عام 1800 وتم حظر استيراد الأفيون من الخارج، كما تم وقف التجار وعقاب الأشخاص الذين يشترون أو يتعاطون الأفيون.فشلت بريطانيا التى كانت تقف وراء تجارة الأفيون فى إثناء الصين عن موقفها، ولما لم تستجب الصين فاجأت بريطانيا العالم وقامت بشن الحرب عليها من أجل إرغامها على السماح بتجارة الأفيون!تمت هزيمة الصين، ووقّعت الصين مع بريطانيا معاهدة نانكينج، وبموجبها تم إرغام الصين على فتح موانيها أمام تجارة الأفيون! وكان من نتائج هزيمة الصين فى حرب الأفيون استيلاء بريطانيا على جزيرة هونج كونج، وأصبحت مهانة الصين بلا حدود.(5)إن مأساة الصين لا تقف عند حرب شنتها بريطانيا من أجل السماح بتجارة المخدرات، لكن المأساة تمتد إلى التضحيات الجسيمة التى تكبدها الشعب الصينى وهو يقاوم النفوذ الأجنبى فى البلاد.ففى عام 1850 قامت «ثورة تايبنج» فى الصين لتنادى بتطهير الوطن من الأجانب، وطالبت الحركة الوطنية فى الصين أثناء ثورة تايبنج بملاحقة وقتل الأجانب أعداء البلاد.إنه مما يتجاوز الخيال ذلك الكم من شهداء ثورة الصين فى عام 1850، فقد راح ضحية هذه الثورة - طبقاً لبعض المصادر - عشرون مليوناً من القتلى!■ يذكر «سردان بانيكار» فى كتابه «آسيا والسيطرة الغربية» أن الأوروبيين كانوا يسمون العمال الصينيين بـ«الخنازير»، وكانوا يبيعون الصينيين فى أوروبا كرقيق!كان الأوروبيون إذن تجار رقيق، وكان الصينيون، الذين تمثل بلادهم حضارة كبرى قبل أن تدخل أوروبا إلى التاريخ، أذلاء فى بلادهم أو أرقاء خارجها!■ إنها السنوات السوداء فى تاريخ الصين الحديث: الهزيمة فى حرب الأفيون، وفتح البلاد لتجارة المخدرات بناءً على معاهدة نانكنج، ولما قام الشعب بثورة تايبنج وانشغلت السلطة بمحاولة إخمادها، استغلت فرنسا وبريطانيا انشغال الحكم الصينى بإخماد الثورة ضد الأجانب، وزحفت قواتهما إلى بكين، فأحرقت القصر الإمبراطورى ودمرت العاصمة!■ أى أن الحكومة الصينية كانت تحاول إنهاء ثورة الشعب ضد الأجانب، وبدلاً من أن يساند الأجانب الحكومة التى تعمل لصالحهم وضد الشعب، استغل الأجانب انشغال الحكومة بالدفاع عنهم ضد الثوار، وقاموا باحتلال العاصمة وتدمير مقر السلطة الإمبراطورية فيها!جاء الدور على اليابان لتصبح الصين أسيرة الشرق والغرب معاً، كانت الصين تحكم كوريا، ولما ضعفت الصين بعد هزائمها وانكساراتها، قامت الحركات الثورية فى كوريا بتصعيد العداء للصين.كانت كوريا سوقاً للاقتصاد اليابانى، لكنها جزء من الإمبراطورية الصينية وتخضع تماماً للسلطة فى بكين.أرسلت الصين قوات عسكرية من أجل إخماد الثورة الكورية، واستغلت اليابان ذلك، وتحت دعوى حماية الاستثمارات اليابانية فى كوريا أرسلت اليابان الجيش إلى هناك، وخاضت القوات اليابانية معارك ضارية مع القوات الصينية، وانتهت المعارك بهزيمة الصين، وبعد الهزيمة وقّعت الصين مع اليابان معاهدة «شيمونسكى» عام 1895، ويذكر د. رأفت الشيخ فى كتاب «تاريخ آسيا الحديث والمعاصر» أن هزيمة الصين قادتها لتلك المعاهدة الإذلالية، فتم اعتراف الصين باستقلال كوريا، ودفع غرامة حربية كبرى، ومنح امتيازات اقتصادية وقضائية لليابان، والتنازل عن تايوان وعن ميناء بورت آرثر!■ فى مجمل هذه السنوات القاتمة فشلت «ثورة العشرين مليون شهيد» وفشل الجيش فى كل الحروب، واستقر النفوذ الأجنبى فى البلاد!(6)■ فى عام 1912 كان حكم أسرة المانشو للصين قد انتهى بعد أكثر من مائتين وخمسين عاماً، فشل أثناءها فى حماية الدولة والشعب.■ استقال الإمبراطور وانتهت الإمبراطورية التى تأسست عام 2593 قبل الميلاد، انتهت فى عام 1912 بعد الميلاد، وبعد رحلة طويلة استغرقت أكثر من أربعة آلاف عام!■ استقال الإمبراطور وأصبح الرئيس يوان شركاى أول رئيس لجمهورية الصين، وبدأت رحلة معاناة جديدة فى زمن الجمهورية بعد رحلة معاناة قديمة فى زمن الإمبراطورية!القادم (العالم ضد العالم «8»)