- السبت ديسمبر 15, 2012 1:16 pm
#57155
ليس ثمة من أحد يجيد اللعب بالكلمات وإطلاق المبادرات وفرض المصطلحات كما هو حال الصهاينة بما يملكون من أدوات إعلامية، أما العرب فيقومون بدور المستهلك في غالب الأحيان، ولا شك أن قصة الدولة الفلسطينية كانت من اختراعهم.
حدث ذلك قبل عقود عندما أخرج العرب أنفسهم من دائرة الصراع، وصارت منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، الأمر الذي مكنها من الاعتراف بقرار 242 وتبني مقولة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67.
"
منذ تبني مقولة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67 وقصة الدولة الفلسطينية -وأحيانا بمسمى الاستقلال وليس التحرير- هي البوصلة والعنوان، مع أن الأصل هو أن يحدث التحرير قبل قيام الدولة وليس العكس
"
منذ ذلك الحين وقصة الدولة الفلسطينية، وأحيانا بمسمى الاستقلال (لاحظ المصطلح) وليس التحرير هي البوصلة والعنوان، مع أن الأصل هو أن يحدث التحرير قبل قيام الدولة وليس العكس، ما يعني وضع العربة أمام الحصان وإضاعة البوصلة.
أوسلو كان التدشين الأبرز للمسار المذكور، حيث صنع ما يشبه الدولة قبل أن يحدث التحرير، وأقنع القوم أنفسهم بأنهم سيحولونها إلى دولة حقيقية بحسب قرارات الشرعية الدولية، فكان أن اصطدموا بالجدار المسدود، ليس فقط لأن ما عرض عليهم كان أقرب إلى الحكم الذاتي منه إلى الدولة ذات السيادة، بل أيضا لأن المساحة والتفاصيل لم تكن مرضية بحال، لاسيما ما يتعلق بملف القدس والمقدسات.
نتذكر ذلك كله بين يدي المصطلح الجديد الذي صار الأكثر تداولا في السوق السياسية خلال العام الماضي والحالي، والذي كرسه الصهاينة مصطلحا دوليا عندما جعلوه جوهر الخلاف بين حزب كاديما الذي خرج من عباءة الليكود بقيادة شارون، وبين الليكود بطبعته القديمة بقيادة نتنياهو.
لم يسأل أحد عن السبب في عدم التوصل إلى حل سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل نتنياهو ما دامت قيادة كاديما مقتنعة بحل الدولتين. ولماذا لم تسفر مئات الساعات التفاوضية بين أولمرت وتسيبي ليفني من جهة ومحمود عباس وأحمد قريع من جهة أخرى عن صفقة نهائية؟
واقع الحال هو أن الحل كان قاب قوسين أو أدنى، وليس صحيحا ما قيل ويقال عن أن تفاهمات لم تنجز، لكن العقدة التي أفشلت مفاوضات كامب ديفد صيف العام 2000 هي ذاتها التي أفشلت المفاوضات هنا، مع العلم أن القيادة الفلسطينية الجديدة تبدو أكثر مرونة من القيادة السابقة، والعقدة هي المتعلقة بالقدس الشرقية، إذ طالب محمود عباس بموطئ قدم فيها يسميه عاصمة للدولة، وبالطبع لكي يكون بالإمكان تسويقها على الشعب الفلسطيني في الداخل.
ما قاله أولمرت مرارا خلال الأسابيع الأخيرة من وجوده في السلطة أكد ندمه على ما جرى، وهو حذّر من ضياع الوقت ومن أن ما ترفضه الدولة العبرية الآن ستندم عليه في المستقبل، ويبدو أن هذه القناعة قد سادت، ليس في الوسط السياسي والأمني والعسكري في الدولة، بل أيضا في أوساط اللوبي الصهيوني الأميركي صاحب التأثير في القرار الإسرائيلي.
ضمن هذه الرؤية جاهد الأميركان والكثيرون في الدولة العبرية من أجل فوز كاديما بزعامة ليفني بالانتخابات، ودائما على قاعدة استغلال فرصة وجود محمود عباس في السلطة، ومن ورائه قيادة عربية بائسة تملك قابلية استثنائية للتراجع، وبالطبع من أجل تمرير الاتفاق، ويبدو أن موضوع القدس صار أكثر قابلية للمرونة، مع إمكانية استغلاله في أخذ مزيد من التنازلات من عباس، لعل أبرزها الاعتراف بالدولة العبرية كدولة لليهود، وبالطبع عبر تبادل للأراضي والسكان يسمح بتحويل العبء السكاني الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 48 إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.
وقعت المفاجأة وفاز نتنياهو، فكان لا بد من أن يشرع اللوبي الصهيوني بتدجينه كي يقبل بحل الدولتين الذي صار معزوفة على كل لسان، من دون التردد في استغلاله من أجل دفع الفلسطينيين والعرب نحو مزيد من التنازلات، وهي اللعبة التي تمارس بعناية هذه الأيام.
ثمة بالطبع ما يشير إلى أن نتنياهو لن يرفض الحل المذكور، ومن ذلك تصريحاته ذاتها، فضلا عن سلوكه خلال وجوده في السلطة بين عامي 96 و99، وفي التصريحات التي أطلقها خلال حفل تنصيبه ومن ثم في كلمته المتلفزة أمام منظمة "الإيباك" الصهيونية تأكيد على ذلك، لكن الوضع الفلسطيني والعربي ببؤسه المعروف هو الذي يمنحه القابلية لمزيد من الابتزاز، حتى لو أدى ذلك إلى تأجيل الحل، لاسيما أن ضغطا على أعصاب الاحتلال لا يتوفر هذه الأيام، وبالطبع في ظل تهدئة غزة وقيام السلطة بمهمة قمع المقاومة في الضفة وهدوء جبهة لبنان، فضلا عن الحاجة إلى التركيز على الملف النووي الإيراني، وإن احتاج ذلك بعض المرونة في الملف الفلسطيني من أجل تجييش الأنظمة العربية في المعركة.
"
عندما وقعت المفاجأة وفاز نتنياهو، كان لا بد من أن يشرع اللوبي الصهيوني بتدجينه كي يقبل بحل الدولتين الذي صار معزوفة على كل لسان، من أجل دفع الفلسطينيين والعرب نحو مزيد من التنازلات، وهي اللعبة التي تمارس بعناية هذه الأيام
"
في أكثر من تصريح تحدث نتنياهو عن مسار أمني واقتصادي وسياسي. وفي حين يمضي المسار الأمني بشكل غير مسبوق منذ توقيع اتفاق أوسلو قبل 15 سنة كما ذهبت صحيفة هآرتس (5/5/2009) نقلا عن مصادر أمنية، فإن المسار الاقتصادي يتقدم هو الآخر، وعندما يعمل أبناء الرئيس في البزنس ويقول أحدهم إن أرباح مجموعة شركاته السنوية تساوي 35 مليون دولار، كما جاء في حوار مع موقع أسواق نت قبل أن يجري تعديل نصه، فإن ذلك يؤكد أن ملف المسار الاقتصادي فاعل كذلك.
يبقى المسار السياسي، وهنا أعلن نتنياهو أنه مستعد لاستئنافه دون شروط، الأمر الذي يشير إلى إدراكه لخطورة إدارة الظهر للعبة المفاوضات، من دون أن يكفّ كما فعل أسلافه "المعتدلون" عن تصعيد الاستيطان الذي يصاب بالسعار كلما كانت اللعبة المذكورة فاعلة على الأرض.
ما ينبغي أن يشار إليه هنا هو أن الرئيس الأميركي أوباما ليس هو من يحاور نتنياهو ويضغط عليه بخصوص ملف التسوية، بل اللوبي الصهيوني. وللتذكير فالذي قال إن "قدرتنا على مواجهة إيران منوطة بقدرتنا على تحقيق تقدم في الجبهة الفلسطينية" ليس أوباما، بل كبير موظفي البيت الأبيض، الصهيوني "رام إيمانويل" الذي وصف من قبل الدوائر الإسرائيلية عشية تعيينه، بأنه "رجلنا في البيت الأبيض"، وأحيانا "ابننا في البيت الأبيض".
هكذا تبدو اللعبة متبادلة، فمواجهة إيران التي كانت ولا تزال أولوية نتنياهو تتطلب شيئا من التقدم في عملية التسوية يتيح دمج عرب الاعتدال في المعركة، كما أن مساعدة أميركا في الخروج من المستنقعات التي ورطها فيها جورج بوش تتطلب مساعدة من ذات المنظومة العربية، أكان في العراق أم في أفغانستان، أم حتى في مواجهة الطموحات الإيرانية.
أهم من ذلك هو ما أشرنا إليه من قبل ممثلا في القناعة بأن رياح التحولات الدولية لا تسير وفق ما تشتهيه السفن الإسرائيلية، فضلا عن توفر قيادة فلسطينية وأخرى عربية هي الأكثر قابلية لتقديم التنازلات قد لا تبقى في مكانها إلى أمد طويل، لاسيما أن الوضع العربي الشعبي يسير نحو مزيد من الانحياز لخيار المقاومة بطبعتها الإسلامية، فيما تحقق جبهة الممانعة تقدما جيدا على مختلف الصعد.
في هذه الأجواء تسير اللعبة، وبالطبع في ظل قناعة عربية لدى بعض دول الاعتدال أن إيران خطر حقيقي، مع أن بعضهم ينشرون النظرية المذكورة لحساب واشنطن من أجل حسابات داخلية، كما هو حال النظام المصري المرتهن لمعادلة التوريث وقمع المعارضة من دون ضجيج ولا انتقادات.
لا يتوقف الأمر عند ذلك، فها هي دول الاعتدال تبدي مزيدا من القابلية لتقديم التنازلات التي تشجع نتنياهو على المفاوضات، بل على إتمام الصفقة، سواء تم ذلك بتعديل المبادرة العربية، أم بإظهار القابلية لدعم صفقة بائسة يتوصل إليها محمود عباس مع نتنياهو، سواء تم ذلك بائتلافه الحالي، أم جرى تعديله بإخراج ليبرمان وإدخال كاديما.
مرونة العرب تتعلق ابتداء بتفهم المطلب الإسرائيلي بشطب حق العودة، مع العلم أن ذلك متوفر بقدر ما في المبادرة العربية التي تتحدث عن حل متفق عليه، كما تتعلق بإمكانية القيام بخطوات تطبيعية مع الدولة العبرية تخرجها من حالة العداء التي أنتجتها الحرب على غزة (هناك حديث عن رسالة بهذا الشأن يمكن اعتمادها، كانت تسيبي ليفني قد بعثت بها قبل مغادرتها مبنى رئاسة الوزراء لجورج متشيل تتضمن ثلاث خطوات تطبيعية هي: تأييد علني من زعماء الدول العربية لمسيرة التسوية، ودعم السلطة ماليا وسياسيا، وفتح ممثليات تجارية ودبلوماسية في العواصم العربية)، بينما تتعلق مرونة نتنياهو بإظهار قدر من المرونة في ملف الاستيطان، وربما القدس أيضا.
ولا يعرف ما إذا كانت هناك تحت الطاولة أحاديث عن إمكانية منح نتنياهو ورقة مهمة تدخله التاريخ (هو يريد دخوله من بوابة إيران) تتمثل في القبول بفكرة الدولة اليهودية بتمرير نقل تجمعات عرب 48 إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.
في هذه الأثناء جاء لقاء نتنياهو أوباما الأول ليقول للعرب إن الثاني متفهم لمطالبهم، بينما كان على الثاني أن يواصل تشدده ما دام الطرف الآخر قابلا للابتزاز، الأمر الذي سيسهل على أوباما الحصول على تنازلات من العرب لتشجيع نتنياهو على السلام، مع دمجهم في المواجهة مع إيران.
"
المعطيات تشير إلى تكريس واقع الدولة المؤقتة في الضفة بدون الإعلان رسميا عنها بهذا الاسم، مع استمرار مساعي التخلص من حكم حماس في القطاع، مع العلم أنه إذا لم يتم التخلص من حكم حماس في القطاع أو تدجينها لقبول الحل، فإن الدولة ستقام في الضفة وحدها
"
بعد ذلك تواترت الأنباء عن خطة لأوباما سيعلن عنها في الرابع من يونيو/حزيران القادم، خلاصتها إطلاق عملية تفاوض تتخللها موجة تطبيع عربية إسلامية مع الدولة العبرية مقابل وقف الاستيطان، بينما تنتهي في غضون أربع سنوات بدولة فلسطينية دون جيش ومع ترتيبات أمنية يرضى عنها الإسرائيليون، وبدون عودة اللاجئين مع حصة في القدس تكون عاصمة للدولة، مع إقرار تبادل الأراضي كي تبقى الكتل الاستيطانية الكبيرة في مكانها.
كل ذلك يعني تكريس واقع الدولة المؤقتة في الضفة بدون الإعلان رسميا عنها بهذا الاسم، مع استمرار مساعي التخلص من حكم حماس في القطاع، مع العلم أنه إذا لم يتم التخلص من حكم حماس في القطاع أو تدجينها لقبول الحل، فإن الدولة ستقام في الضفة وحدها.
هكذا يتبدى الثمن الباهظ الذي على الفلسطينيين أن يدفعوه لقاء دولة منقوصة السيادة تفتتها الكتل الاستيطانية الكبيرة إلى كانتونات، وبالطبع في ظل قيادة لا مثيل لها في رفض المقاومة والفخر بالتعاون الأمني والقابلية للتنازل، وفي ظل وضع عربي بالغ الهشاشة بقيادة الشقيقة الكبرى.
بقي القول إن على قوى المقاومة أن تستعد لسائر الاحتمالات، سواء الدولة المؤقتة، أم الصفقة الشاملة بعد ذلك، وعليها ألا تركن كثيرا إلى مقولة تشدد نتنياهو، ولا شك أنها لن تنجح في المواجهة على قاعدة الحوارات التي تدعي الحرص على المصالحة والوحدة (الوحدة على قاعدة ضم القطاع إلى الضفة في ظل برنامج دايتون وإخراج حماس من باب الانتخابات الذي دخلت منه بأية طريقة)، بل على قاعدة استثمار انتصار غزة في رفض الخضوع للسلطة المصممة لخدمة الاحتلال وديمقراطيتها الخاضعة لذات المنطق، والعمل على تكريس برنامج المقاومة كبرنامج لكل الشعب الفلسطيني تحت شعار إدارة القطاع بالتوافق كقاعدة شبه محررة للمقاومة، وإطلاق مقاومة حتى دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط في الضفة الغربية كمقدمة للتحرير الشامل.
حدث ذلك قبل عقود عندما أخرج العرب أنفسهم من دائرة الصراع، وصارت منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، الأمر الذي مكنها من الاعتراف بقرار 242 وتبني مقولة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67.
"
منذ تبني مقولة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67 وقصة الدولة الفلسطينية -وأحيانا بمسمى الاستقلال وليس التحرير- هي البوصلة والعنوان، مع أن الأصل هو أن يحدث التحرير قبل قيام الدولة وليس العكس
"
منذ ذلك الحين وقصة الدولة الفلسطينية، وأحيانا بمسمى الاستقلال (لاحظ المصطلح) وليس التحرير هي البوصلة والعنوان، مع أن الأصل هو أن يحدث التحرير قبل قيام الدولة وليس العكس، ما يعني وضع العربة أمام الحصان وإضاعة البوصلة.
أوسلو كان التدشين الأبرز للمسار المذكور، حيث صنع ما يشبه الدولة قبل أن يحدث التحرير، وأقنع القوم أنفسهم بأنهم سيحولونها إلى دولة حقيقية بحسب قرارات الشرعية الدولية، فكان أن اصطدموا بالجدار المسدود، ليس فقط لأن ما عرض عليهم كان أقرب إلى الحكم الذاتي منه إلى الدولة ذات السيادة، بل أيضا لأن المساحة والتفاصيل لم تكن مرضية بحال، لاسيما ما يتعلق بملف القدس والمقدسات.
نتذكر ذلك كله بين يدي المصطلح الجديد الذي صار الأكثر تداولا في السوق السياسية خلال العام الماضي والحالي، والذي كرسه الصهاينة مصطلحا دوليا عندما جعلوه جوهر الخلاف بين حزب كاديما الذي خرج من عباءة الليكود بقيادة شارون، وبين الليكود بطبعته القديمة بقيادة نتنياهو.
لم يسأل أحد عن السبب في عدم التوصل إلى حل سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل نتنياهو ما دامت قيادة كاديما مقتنعة بحل الدولتين. ولماذا لم تسفر مئات الساعات التفاوضية بين أولمرت وتسيبي ليفني من جهة ومحمود عباس وأحمد قريع من جهة أخرى عن صفقة نهائية؟
واقع الحال هو أن الحل كان قاب قوسين أو أدنى، وليس صحيحا ما قيل ويقال عن أن تفاهمات لم تنجز، لكن العقدة التي أفشلت مفاوضات كامب ديفد صيف العام 2000 هي ذاتها التي أفشلت المفاوضات هنا، مع العلم أن القيادة الفلسطينية الجديدة تبدو أكثر مرونة من القيادة السابقة، والعقدة هي المتعلقة بالقدس الشرقية، إذ طالب محمود عباس بموطئ قدم فيها يسميه عاصمة للدولة، وبالطبع لكي يكون بالإمكان تسويقها على الشعب الفلسطيني في الداخل.
ما قاله أولمرت مرارا خلال الأسابيع الأخيرة من وجوده في السلطة أكد ندمه على ما جرى، وهو حذّر من ضياع الوقت ومن أن ما ترفضه الدولة العبرية الآن ستندم عليه في المستقبل، ويبدو أن هذه القناعة قد سادت، ليس في الوسط السياسي والأمني والعسكري في الدولة، بل أيضا في أوساط اللوبي الصهيوني الأميركي صاحب التأثير في القرار الإسرائيلي.
ضمن هذه الرؤية جاهد الأميركان والكثيرون في الدولة العبرية من أجل فوز كاديما بزعامة ليفني بالانتخابات، ودائما على قاعدة استغلال فرصة وجود محمود عباس في السلطة، ومن ورائه قيادة عربية بائسة تملك قابلية استثنائية للتراجع، وبالطبع من أجل تمرير الاتفاق، ويبدو أن موضوع القدس صار أكثر قابلية للمرونة، مع إمكانية استغلاله في أخذ مزيد من التنازلات من عباس، لعل أبرزها الاعتراف بالدولة العبرية كدولة لليهود، وبالطبع عبر تبادل للأراضي والسكان يسمح بتحويل العبء السكاني الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 48 إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.
وقعت المفاجأة وفاز نتنياهو، فكان لا بد من أن يشرع اللوبي الصهيوني بتدجينه كي يقبل بحل الدولتين الذي صار معزوفة على كل لسان، من دون التردد في استغلاله من أجل دفع الفلسطينيين والعرب نحو مزيد من التنازلات، وهي اللعبة التي تمارس بعناية هذه الأيام.
ثمة بالطبع ما يشير إلى أن نتنياهو لن يرفض الحل المذكور، ومن ذلك تصريحاته ذاتها، فضلا عن سلوكه خلال وجوده في السلطة بين عامي 96 و99، وفي التصريحات التي أطلقها خلال حفل تنصيبه ومن ثم في كلمته المتلفزة أمام منظمة "الإيباك" الصهيونية تأكيد على ذلك، لكن الوضع الفلسطيني والعربي ببؤسه المعروف هو الذي يمنحه القابلية لمزيد من الابتزاز، حتى لو أدى ذلك إلى تأجيل الحل، لاسيما أن ضغطا على أعصاب الاحتلال لا يتوفر هذه الأيام، وبالطبع في ظل تهدئة غزة وقيام السلطة بمهمة قمع المقاومة في الضفة وهدوء جبهة لبنان، فضلا عن الحاجة إلى التركيز على الملف النووي الإيراني، وإن احتاج ذلك بعض المرونة في الملف الفلسطيني من أجل تجييش الأنظمة العربية في المعركة.
"
عندما وقعت المفاجأة وفاز نتنياهو، كان لا بد من أن يشرع اللوبي الصهيوني بتدجينه كي يقبل بحل الدولتين الذي صار معزوفة على كل لسان، من أجل دفع الفلسطينيين والعرب نحو مزيد من التنازلات، وهي اللعبة التي تمارس بعناية هذه الأيام
"
في أكثر من تصريح تحدث نتنياهو عن مسار أمني واقتصادي وسياسي. وفي حين يمضي المسار الأمني بشكل غير مسبوق منذ توقيع اتفاق أوسلو قبل 15 سنة كما ذهبت صحيفة هآرتس (5/5/2009) نقلا عن مصادر أمنية، فإن المسار الاقتصادي يتقدم هو الآخر، وعندما يعمل أبناء الرئيس في البزنس ويقول أحدهم إن أرباح مجموعة شركاته السنوية تساوي 35 مليون دولار، كما جاء في حوار مع موقع أسواق نت قبل أن يجري تعديل نصه، فإن ذلك يؤكد أن ملف المسار الاقتصادي فاعل كذلك.
يبقى المسار السياسي، وهنا أعلن نتنياهو أنه مستعد لاستئنافه دون شروط، الأمر الذي يشير إلى إدراكه لخطورة إدارة الظهر للعبة المفاوضات، من دون أن يكفّ كما فعل أسلافه "المعتدلون" عن تصعيد الاستيطان الذي يصاب بالسعار كلما كانت اللعبة المذكورة فاعلة على الأرض.
ما ينبغي أن يشار إليه هنا هو أن الرئيس الأميركي أوباما ليس هو من يحاور نتنياهو ويضغط عليه بخصوص ملف التسوية، بل اللوبي الصهيوني. وللتذكير فالذي قال إن "قدرتنا على مواجهة إيران منوطة بقدرتنا على تحقيق تقدم في الجبهة الفلسطينية" ليس أوباما، بل كبير موظفي البيت الأبيض، الصهيوني "رام إيمانويل" الذي وصف من قبل الدوائر الإسرائيلية عشية تعيينه، بأنه "رجلنا في البيت الأبيض"، وأحيانا "ابننا في البيت الأبيض".
هكذا تبدو اللعبة متبادلة، فمواجهة إيران التي كانت ولا تزال أولوية نتنياهو تتطلب شيئا من التقدم في عملية التسوية يتيح دمج عرب الاعتدال في المعركة، كما أن مساعدة أميركا في الخروج من المستنقعات التي ورطها فيها جورج بوش تتطلب مساعدة من ذات المنظومة العربية، أكان في العراق أم في أفغانستان، أم حتى في مواجهة الطموحات الإيرانية.
أهم من ذلك هو ما أشرنا إليه من قبل ممثلا في القناعة بأن رياح التحولات الدولية لا تسير وفق ما تشتهيه السفن الإسرائيلية، فضلا عن توفر قيادة فلسطينية وأخرى عربية هي الأكثر قابلية لتقديم التنازلات قد لا تبقى في مكانها إلى أمد طويل، لاسيما أن الوضع العربي الشعبي يسير نحو مزيد من الانحياز لخيار المقاومة بطبعتها الإسلامية، فيما تحقق جبهة الممانعة تقدما جيدا على مختلف الصعد.
في هذه الأجواء تسير اللعبة، وبالطبع في ظل قناعة عربية لدى بعض دول الاعتدال أن إيران خطر حقيقي، مع أن بعضهم ينشرون النظرية المذكورة لحساب واشنطن من أجل حسابات داخلية، كما هو حال النظام المصري المرتهن لمعادلة التوريث وقمع المعارضة من دون ضجيج ولا انتقادات.
لا يتوقف الأمر عند ذلك، فها هي دول الاعتدال تبدي مزيدا من القابلية لتقديم التنازلات التي تشجع نتنياهو على المفاوضات، بل على إتمام الصفقة، سواء تم ذلك بتعديل المبادرة العربية، أم بإظهار القابلية لدعم صفقة بائسة يتوصل إليها محمود عباس مع نتنياهو، سواء تم ذلك بائتلافه الحالي، أم جرى تعديله بإخراج ليبرمان وإدخال كاديما.
مرونة العرب تتعلق ابتداء بتفهم المطلب الإسرائيلي بشطب حق العودة، مع العلم أن ذلك متوفر بقدر ما في المبادرة العربية التي تتحدث عن حل متفق عليه، كما تتعلق بإمكانية القيام بخطوات تطبيعية مع الدولة العبرية تخرجها من حالة العداء التي أنتجتها الحرب على غزة (هناك حديث عن رسالة بهذا الشأن يمكن اعتمادها، كانت تسيبي ليفني قد بعثت بها قبل مغادرتها مبنى رئاسة الوزراء لجورج متشيل تتضمن ثلاث خطوات تطبيعية هي: تأييد علني من زعماء الدول العربية لمسيرة التسوية، ودعم السلطة ماليا وسياسيا، وفتح ممثليات تجارية ودبلوماسية في العواصم العربية)، بينما تتعلق مرونة نتنياهو بإظهار قدر من المرونة في ملف الاستيطان، وربما القدس أيضا.
ولا يعرف ما إذا كانت هناك تحت الطاولة أحاديث عن إمكانية منح نتنياهو ورقة مهمة تدخله التاريخ (هو يريد دخوله من بوابة إيران) تتمثل في القبول بفكرة الدولة اليهودية بتمرير نقل تجمعات عرب 48 إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.
في هذه الأثناء جاء لقاء نتنياهو أوباما الأول ليقول للعرب إن الثاني متفهم لمطالبهم، بينما كان على الثاني أن يواصل تشدده ما دام الطرف الآخر قابلا للابتزاز، الأمر الذي سيسهل على أوباما الحصول على تنازلات من العرب لتشجيع نتنياهو على السلام، مع دمجهم في المواجهة مع إيران.
"
المعطيات تشير إلى تكريس واقع الدولة المؤقتة في الضفة بدون الإعلان رسميا عنها بهذا الاسم، مع استمرار مساعي التخلص من حكم حماس في القطاع، مع العلم أنه إذا لم يتم التخلص من حكم حماس في القطاع أو تدجينها لقبول الحل، فإن الدولة ستقام في الضفة وحدها
"
بعد ذلك تواترت الأنباء عن خطة لأوباما سيعلن عنها في الرابع من يونيو/حزيران القادم، خلاصتها إطلاق عملية تفاوض تتخللها موجة تطبيع عربية إسلامية مع الدولة العبرية مقابل وقف الاستيطان، بينما تنتهي في غضون أربع سنوات بدولة فلسطينية دون جيش ومع ترتيبات أمنية يرضى عنها الإسرائيليون، وبدون عودة اللاجئين مع حصة في القدس تكون عاصمة للدولة، مع إقرار تبادل الأراضي كي تبقى الكتل الاستيطانية الكبيرة في مكانها.
كل ذلك يعني تكريس واقع الدولة المؤقتة في الضفة بدون الإعلان رسميا عنها بهذا الاسم، مع استمرار مساعي التخلص من حكم حماس في القطاع، مع العلم أنه إذا لم يتم التخلص من حكم حماس في القطاع أو تدجينها لقبول الحل، فإن الدولة ستقام في الضفة وحدها.
هكذا يتبدى الثمن الباهظ الذي على الفلسطينيين أن يدفعوه لقاء دولة منقوصة السيادة تفتتها الكتل الاستيطانية الكبيرة إلى كانتونات، وبالطبع في ظل قيادة لا مثيل لها في رفض المقاومة والفخر بالتعاون الأمني والقابلية للتنازل، وفي ظل وضع عربي بالغ الهشاشة بقيادة الشقيقة الكبرى.
بقي القول إن على قوى المقاومة أن تستعد لسائر الاحتمالات، سواء الدولة المؤقتة، أم الصفقة الشاملة بعد ذلك، وعليها ألا تركن كثيرا إلى مقولة تشدد نتنياهو، ولا شك أنها لن تنجح في المواجهة على قاعدة الحوارات التي تدعي الحرص على المصالحة والوحدة (الوحدة على قاعدة ضم القطاع إلى الضفة في ظل برنامج دايتون وإخراج حماس من باب الانتخابات الذي دخلت منه بأية طريقة)، بل على قاعدة استثمار انتصار غزة في رفض الخضوع للسلطة المصممة لخدمة الاحتلال وديمقراطيتها الخاضعة لذات المنطق، والعمل على تكريس برنامج المقاومة كبرنامج لكل الشعب الفلسطيني تحت شعار إدارة القطاع بالتوافق كقاعدة شبه محررة للمقاومة، وإطلاق مقاومة حتى دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط في الضفة الغربية كمقدمة للتحرير الشامل.