- الخميس أغسطس 28, 2008 1:16 pm
#5774
جاء ابن رشد الى مراكش بطلب من الخليفة الموحدي الذي أسند اليه مهمة شرح كتب أرسطو من أجل أن يسهل مأخذها على الناس، وبالفعل قام هذا الفيلسوف بشرح أغلب كتب أرسطو ما عدا كتابا واحدا لم يقع بين يديه، وهو كتاب السياسة لأرسطو، هذا الكتاب الذي شكل غيابه لغزا محيرا، فهل تم تخييبه بسبب مواقفه النقدية للاستبداد أو الحكم الطغياني، أم أنه لم يصل بالفعل الى المترجمين العرب؟
يعلل ابن رشد لجوءه الى شرح جمهورية أفلاطون بكونه لم يقف على كتاب السياسة لأرسطو، لأنه لم يستطع الحصول في الأندلس كما في مراكش على ترجمته العربية التي يقول عنها أنها تمت في المشرق، هكذا نجد فيلسوف مراكش يرغب في تفسير أفلاطون انطلاقا من فلسفة أرسطو، وبخاصة الفلسفة الخلقية كما نجدها في كتاب الأخلاق النيقوماخية (1)
يقول فيلسوف قرطبة ومراكش في مقدمة جوامع سياسة أفلاطون: "وإن القسم الأول من هذا العلم (علم السياسة) يوجد في كتاب الأخلاق النيقومافية لأرسطو، ذلك أن ما يحمله هذا الكتاب من آراء يشبه تلك الآراء التي يحملها كتاب الجمهورية لأفلاطون. هذا الكتاب الذي نقوم بتلخيصه، مادام أن كتاب السياسة لأرسطو لم يقع بين أيدينا" (2) لكن ما هي القيمة المعرفية لهذا التوفيق الذي قام به ابن رشد بين رأي أفلاطون ورأي أرسطو؟ وهل استطاع ابن رشد أن يؤسس علما جديدا يمكن تسميته بالسياسة الخلقية؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة الاختلاف الحاصل حول كتاب جوامع سياسة أفلاطون بين الباحثين في الرشديات، إذ نجدهم يخلفون في تاريخ كتابته، وفي تحديد هويته، أي هل ينتمي الى صنف الجوامع، أم الى صنف التلاخيص. وهذا الاختلاف له أهميته الخاصة في معرفة قيمة هذا المؤلف الذي نحن بصدد استعراض روح النظر التي حملها في مجال السياسة الخلقية، ودورها في تأسيس صناعة للتمدن.
لقد ذهب بعض الدارسين لمؤلفات ابن رشد (رينان، استاينشيدر، جورج قنواتي) الى أن تاريخ تأليف هذا الكتاب هو 572 هـ وهو نفس التاريخ الذي ألف فيه هذا الفيلسوف الشرح الوسيط لكتاب الأخلاق النيقوماخية لكن الاب ما نويل النسويرى أن تاريخ تأليفه هو 590هـ (3) ويتفق على هذا التاريخ كل من جمال الدين العلوي ومحمد عابد الجابري (4). وتكمن أهمية معرفة تاريخ تأليف هذا الكتاب في كون أن الباحثين في الرشديات يرغبون في التعرف على موقعه في المتن الرشدي، هل كان بالفعل سببا من الأسباب التي أدت الى نكبة هذا الفيلسوف (5) وأخيرا هل ينتمي الى المخطوطات المراكشية؟ أم الى المخطوطات الأندلسية؟
يقول رينان عن أهمية المخطوطات المراكشية في الدراسات الرشدية: "كان من نتائج قلة شهرة ابن رشد لدى المسلمين وسرعة أفول الدراسات الفلسفية بعد وفاته، إذ كان انتشار المخطوطات العربية قليلا جدا ولم تكد تخرج من الأندلس، وهناك الاتلاف الذي تعرضت له هذه المخطوطات بأمر من اكزمنز (وقد بلغ عدد ما أحرق منها في غرناطة ثمانين ألفا) وهذا ما جعل النص العربي لمؤلفات الشارح الفلسفية نادرا. وما انتهى الينا من مخطوطات كله بالكتابة المراكشية".
كما أن الباحثين في مجال الرشديات يخلفون أيضا في اثبات هوية هذا الكتاب الذي نحن بصدده، هل هو من صنف الجوامع أو من التلاخيص؟ ذلك أن رينان، وهو أول من قام بتصنيف المؤلفات الرشدية الا، يعتبره جوامع (7) ويتفق معه كل من ألنسو وكروث هـ. ( على هذه التسمية، لكن ج. قنواتي نجده في كتابه مؤلفات ابن رشد يختار المنزلة بين المنزلتين، فهو من جهة أولى يعتبره تلخيصا استنادا الى عبارة «بيور» العبرية التي تعني بالعربية التلخيص، ومن جهة ثانية نجده يقول أن ابن رشد يعلن في بداية الكتاب بأنه جوامع (9). أما محسن مهدي فإننا نجده يقول في بحث خاص نشره في كتاب "ابن رشد المتعدد" بأنه تلخيص ويؤكد على هذه المسألة. ويشكل موقفا استثناء في مجال الرشديات (10).
ولا شك أن جمال الدين العلوي في كتابه الرائد "المتن الرشدي" قد فحص هذه الأشكال فحصا دقيقا، إذ نجده يقول في هذا الصدد: "إن هنالك شكا في عنوان هذا الكتاب، وذلك أننا لا نعرف على وجه القطع هل هو جوامع أو تلاخيص؟ فإذا نظرنا الى اعلان ابن رشد الوارد في مقدمة الكتاب أعني الاعلان الذي يؤكد فيا أنه يريد تجريد الأقاويل العلمية من كلام أفلاطون، فإننا، لا نملك إلا أن نجزم بأن الأمر يتعلق بجوامع لا بتلخيص، وأما إذا ما نظرنا الى بناء الكتاب والى تكرار كلمة "قال" وهي احدى مميزات التلاخيص وان كانت أضعفها قلنا أنه تلخيص" (11).
ولكن الأمر الذي لا يستقيم مع الجوامع ولا مع التلاخيص هو أن فيلسوف مراكش لم يخرج مؤلفه هذا في عشر مقالات، وهي عدد مقالات كتاب الجمهورية لأفلاطون، كما جرت بذلك عادته في جوامعه وتلاخيصه وشروحه باستثناء جوامع ما بعد الطبيعة.
من المعلوم أن كتاب جوامع سياسة أفلاطون مفقود في نصه العربي، ولم يعثر عليه لحد الآن، وانما بقي منه ترجمته العبرية التي قام بها صموئيل بن يهودا من مرسيليا. وهناك أيضا ترجمة لاتينية قام بها الطبيب اليهودي يعقوب مانتيوس سنة 1539 بطب من البابا بولس الثالث. وقد نقله الى الانجليزية عن العبرية روزنتال وبعده ليرنير الى نفس اللغة (12). كما نقله الى الاسبانية الباحث كروث هيرنانديز (13). وعلى هذه الترجمة الأخيرة سنعتمد في قراءتنا لعلاقة السياسة بالأخلاق عند ابن رشد، لكن ما الشروط التي ينبغي توافرها من أجل قيام سياسة خلقية عند هذا الفيلسوف؟ وما هو العلم الذي بإمكانه توفير السعادة للانسان الذي يملكه، وللمدينة التي يعيش فيها؟ يعترف ابن رشد في مقدمة كتابه "جوامع سياسة أفلاطون" بأن هذا الكتاب وكتاب "الأخلاق النيقوماخية" يكونان جزءين متكاملين لعلم واحد هو علم السياسة (14). أو السياسة الخلقية كما يدعوها أحيانا (15) ولذلك لم يكتف فيلسوف قرطبة ومراكش بشرح جمهورية أفلاطون، بل قام بدمجها مع كتاب الأخلاق النيقوماخية، مادام أن كتاب السياسة لم يقع بين يديه، على الرغم من اطلاعه على بعض الشذرات منه، إذ نجده يقول في تلخيص كتاب الخطابة: "والذي قاله ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارها... وينبغي أن تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها أرسطو ليست كفى بسيطة، وانما تلفى أكثر ذلك مركبة كالحال في السياسة الموجودة الآن فإنها اذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب."(16). والحال ان الحديث عن سياسة مركبة يضعنا أمام صعوبة خاصة، إذ أن ابن رشد لا يستند على أرسطو في هذا الكلام ولا على الفارابي، بل انه يستلهم ابن سينا الذي يقول في كتاب ريطوريقا:«كما أن السياسة الموجودة في بلادنا هي مركبة من سياسة التغلب مع سياسة القلة مع الكرامة وبقية من السياسة الجماعية وان وجد فيها شيء من سياسة الاختيار فقليل جدا» (17). هكذا يتضح أن هناك تشابها بين ابن رشد وابن سينا في هذه المسألة من الممكن تفسير ذلك بالعودة الى غياب كتاب السياسة لأرسطو وأيضا الى صعوبة مقاصده.
وبالفعل ليس من السهل استيعاب مقاصد كتاب السياسة لارسطو، ذلك لأنه عبارة عن نظرية فلسفية في ماهية الأحكام السياسية، وفي ماهية الدولة، وبعبارة أخرى أن يؤسس تصورا فلسفيا متكاملا لعلم السياسة في شقيه النظري والعلمي. وقد تساءل أرسطو في مطلع هذا الكتاب قائلا: كيف يمكن للفيلسوف أن ينتقل من البحث في علم الموجود بما هو موجود الى البحث في فن السياسة وفن التجارة والاقتناء والكسب؟ (1
إن خير الانسان يجب أن يكون هو غاية العلم السياسي، ولذلك لا يستطيع الانسان أن يصل الى خيره الأسمى إلا من حيث هو عضو في المجتمع السياسي، إذ أن الرجل الذي تشغله السياسة هو أفضل رجل في الوجود حسب أرسطو: «لأن الاهتمام بصلاح الناس احرى من الاهتمام بصلاح الممتلكات وما نسميه ثروة» (19). والسياسة عند أرسطو هي حياة الدولة، ولذلك نجد ابن رشد يتعامل مع السياسة الخلقية، لا باعتبارها مجرد علاج للتناقضات السائدة في المدينة الاندلسية والمغربية فحسب، ولكنها أيضا في نظره ترغب في تتميم غاية الفضيلة الاخلاقية في هذه المدينة انطلاقا من تربية الانسان على فضيلة الحرية وفضيلة العدل وملكة العقل.
ولهذه الأسباب وغيرها قام فيلسوف مراكش بالتوفيق بين رأي أرسطو في الأخلاق ورأي افلاطون في السياسة لكن هل الأخلاق هي نفسها علم السياسة، بعبارة أخرى هي علم الأخلاق وعلم السياسة اثنان بالعدد واحد بالماهية، أم أن الأمر يختلف عن ذلك؟
إذا كان كتاب الأخلاق عبارة عن نظرية فلسفية ل ماهية الفضيلة باعتبارها غاية الانسان في العالم، وباعتبارها أيضا معبرا لتحقيق السعادة، فإن كتاب السياسة يعلمنا كما يقول أرسطو في جانب من جوانبه: "بأي وجه يجب اتباع الخير وتجنب الشر، فهذه مسائل لابد من دراستها في الأبحاث السياسية" (20). هكذا يتبين كيف ان هذين الكتابين يتحركان في نفس الأفق، وهو أفق البحث عن مصداقية للانسان في علاقته بالمدينة من خلال صحبته للخير وتشبثه بالفضيلة باعتبارها غايته في الوجود.
والحق أن ابن رشد في رأي روزنتال لم يكتف بشرح كتاب الجمهورية في ضوء الأخلاق النيقوماخية لأرسطو فحسب، بل نظر الى الجمهورية ككتاب يصف أفضل نظام سياسي يصلح لتسيير شؤون المدينة، ولم يتعامل معه كبديل لكتاب السياسة لارسطو الذي لم يصل اليه. وينبغي الا ننسى، كما يؤكد ذلك روزنتال أن ابن رشد مسلم يؤمن بالطابع الالهي للشريعة الاسلامية، ولذلك قام بشرح أفلاطون بموجب مقتضياتها (21).
بيد أن ليرنير الذي قام بترجمة جواميع سياسة افلاطون الى الانجليزية سنة 1974، يرفض هذا التأويل الذي قدمه روزنتال، ويعتبر من بين الأسباب الهامة التي أدت الى عدم نجاح ترجمته، ذلك أن روزنتال في رأي ليرنير، قد ترجم النص العبري وهو معتقد أن ابن رشد كان يعتبر النظام السياسي الاسلامي هو النظام المثالي، وأن الشريعة الاسلامية تفوق محبة الحكمة. ولعل هذا المؤلف هو الذي أثر في ترجمة روزنتال وفي تعليقاته. وقد حاولت الترجمة الجديدة أن تتفادى هذه الهفوات كما يعلن عن ذلك صاحبها (22).
أما محسن مهدي فإنه يرى بأن ابن رشد كان ينتقد افلاطون في صمت، من خلال انتقاده للقيمة النظرية والعلمية للحجج والبراهين الافلاطونية، إذ نجد ابن رشد يقول مثلا:«إن ما سنقوم به في هذا الكتاب هو تلخيص الأقاويل البرهانية لافلاطون والتي حملها كتاب الجمهورية وسنترك جانبا الحجج والأقاويل الجدلية» (23). لكن لا ينبغي الاستناد على هذا التمرير من أجل القول بأن ابن رشد كان ينتقد افلاطون ذلك أن فيلسوف مراكشى كان دائما في ديباجة جوامعه الأرسطية أو غيرها يعن أنه سيلتقط الأقاويل البرهانية وسيترك جانبا الأقاويل الجدلية الا أن هذه المسألة فيها نظر بالنسبة لبعض الباحثين (24).
لقد فتح ابن رشد كتاب الجمهورية وبدأ كما يقول، في البحث عن الاقاويل البرهانية فيه، وترك تلك الجوانب الجدلية والشعرية ولذلك نجده يرفض شرح الكتاب الأول وجزء هام من الثاني وبعض الأجزاء من الثالث، معللا ذلك بأنها أقاويل جدلية، وقد اختتم شرحه على الجمهورية بالكتاب التاسع وليس بالعاشر. لأن هذا الكتاب الأخير في رأيه ليس مفيدا إذ «أن ما يحتويه لا أهمية له بالنسبة لهذا العلم أن افلاطون يدافع فيه عن مسألة خلود النفس لكن بواسطة الأقاويل الشعرية والجدلية. (25).
فهل كان ابن رشد يرغب في نقل علم السياسة من أفق علم الخطابة والجدل الى أفق البرهان وكيف يمكن لعلم السياسة أن يصبر برهانيا؟
كان ابن رشد يمارس سلطة خاصة على النص الافلاطوني وهذه السلطة تستمد مشروعيتها من أرسطو وجالينوس وأبي نصر الفارابي، على الرغم من أن كل واحد من هؤلاء يحتل المكانة التي تليق به، بل أن هناك تفاوتا في هذا الحضور، لأنه إذا كان جالينوس يحضر باعتباره لم يستوعب مقاصد أفلاطون في كتاب الجمهورية، أو أنه يمزج بين بعض الحقائق وفي أغلب الحالات يجهلها، فإن أبي نصر الفارابي يحضر باعتباره مناصرا لرأي أرسطو، وأنه قد استطاع أن يبلور سياسة مدنية انطلاقا من توفيقه بين افلاطون وأرسطو. وهذا أمر لا يعترض عليه ابن رشد، وبخاصة في شرحه لكتاب الجمهورية، أما في كتبا الأخرى فإنه يرفض هذا التوفيق.
ويرى محسن مهدي أن ابن رشد قد وجد نفسه مضطرا لمسايرة الفارابي في آرائه السياسية والأخلاقية، لأنه لم يكن على اطلاع لا على كتاب السياسة فحسب، بل وكتاب الأخلاق لأرسطو أيضا. والواقع أن معظم الباحثين في مجال الرشديات يحتلفون مع هذا الرأي، وخاصة أن بعض الشذرات من شرح ابن رشد على كتاب الأخلاق النيقوماخية توجد حاليا بقبة القرويين بفاس، وقد نشرها عبدالرحمن بدوي في كتاب الأخلاق النيقوماخية لأرسطو الذي ترجمة اسحق
ابن حنين (26).
وهل ما ينبغي الاشارة اليه هو الموقف الذي عبر عنه محسن مهدي بصدد علاقة ابن رشد بالفارابي، إذ يرى أن أغلب ملاحظات فيلسوف مراكش على كتاب الجمهورية يمكن مقارنتها مع الآراء التي تحملها كتب الفارابي: السياسة المدنية، أراء أهل المدينة الفاضلة، فلسفة أفلاطون وأرسطو شروح أبي نصر على كتاب الأخلاق، وعلى كتاب الجمهورية، على الرغم من أن هذين الكتابين الأخيرين لم يتوصل الى قراءتهما كما يعلن عن ذلك الباحث نفسه.
نعم لقد كان ابن رشد مضطرا، في رأيه الى هذا التوفيق بين افلاطون والفارابي، وذلك من أجل فهم المقاصد السياسية والأخلاقية لأرسطو، بخاصة ما يتعلق منها بالعلاقة بين هذه الفلسفة السياسية ومقاصد الشريعة الاسلامية، والمثير للانتباه كما يقول، أن ابن رشد كان يستعين بالفارابي وهو يشرح أفلاطون دون أن يذكره.
لكن إذا كان الفا رابي في كتاب «التوفيق بين رأي الحاكمين» قد دافع بحماس كبير عن عدم اختلاف افلاطون مع أرسطو، وتوافقهما المذهبي والفكري، فإن ابن رشد في كتاب «جوامع سياسة افلاطون»، على الرغم من اتفاقه مع أفلاطون في عدة قضايا منها مثلا نظريته في تربية حراس الجمهورية وموقفه من المرأة، وكذلك نظريته في الملكية المشتركة، فإنه يختلف معه اختلافا كبيرا في تلك القضايا الجوهرية التي تميز مذهبه عن مذهب المعلم الأول كالقول ببعث النفوس، وخلق العالم، والقول بنظرية المثل، وبعبارة أخرى أن ابن رشد يقترح مدينته الفاضلة في مقابل مدينة أفلاطون التي تهيمن فيها الخرافات والحكايات الشعرية، ذلك أن فيلسوف مراكش يرى:«بأن سائر المدن ما عدا المدينة الفاضلة قد تفسد من قبل السنة الموضوعة فيها، وذلك إذا كانت السنة مفرطة الضعف واللين، أو مفرطة الشدة، وسواء كانت في رأي أو في خلق أو في فعل» (27).
إن العبرة التي ينبغي استخلاصها من خلال قراءة بعض مؤلفات ابن رشد هي أن السياسة تستمد جوهرها، بل وانطلاقتها من علم الأخلاق وغايتها هي دائما تأسيس مدينة فاضلة يكون على رأسها الفيلسوف، ولا ينبغي القول أنها تنطلق من الأخلاق الى السياسة في ذاتها، ذلك أن السياسة هي نفسها وجود بالقوة تحتاج الى محرك يخرجها الى الفعل، وهذا المحرك هو علم الأخلاق.
والملاحظ أن السياسة، كما يقول بول ريكور، غالبا ما تكون غائبة كمعلم أو صناعة عند السياسيين المحترفين ولذلك نجد الفيلسوف هو الذي يبحث لها عن تفسير علمي، ويهبها معنى كليا، والحق أنه «لما كان غرض السياسة يشمل الأغراض المختلفة لجميع العلوم، كانت السياسة هي علم الخير الأعلى للانسان. فكون علم السياسة أشرف من علم الأخلاق ليس سببا فقط أن المملكة أكبر أهمية من الفرد، وإن اسعاد أمة هو أجمل من اسعاد فرد واحد، بل السياسة فوق علم الأخلاق في درجات الشرف العلمي وموضوعها هو أسمى من موضوعه» (2.
والحال أن اتباع الأخلاق للسياسة، كما يعلن عن ذلك أرسطو في مقدمة كتاب الأخلاق النيقوماخية، يعود بالأساس الى أن السياسة هي العلم الأساسي والرئيسي للعلوم الأخرى (29)، وبلغة ابن رشد أنها ملم العلوم، لأن السياسة لا تبحث فقط عن العلوم الضرورية لبقاء المدينة، بل هي التي تبين أيضا العلوم التي يجب على أهل المدينة أن يتعلموها لكي يحافظوا على مدينتهم. ولقد سبق لابن رشد وان أعلن عن بعض المسائل التي تؤدي الى فساد المدن (انظر تلخيص الخطابة ص 28 و 29).
وللسياسة أيضا دور فعال في الحفاظ على هذه المدن ذلك لأنها ترغب في جعل الناس فضلاء مطيعين للقوانين، خصوصا وأنها، كما يقول ابن رشد: «علم أعظم وأنفع من صناعة الطب».
وأخيرا يمكن القول أنه ينبغي الاستفادة من روح النظر الرشدي، هذه الروح التي تعلمنا كيف نتجاوز تلك النظرة الضيقة لعلم السياسة باعتباره أسمى علم في الوجود، لأنه مسؤول عن تدبير شؤون المدينة وعن مصلحة الانسان، وعن سعادته في هذا العالم. كما يجب تجاوز ذلك المنظور الضيق للأخلاق وتأسيس منظور شامل يساهم في بناء مدينة فاضلة والابتعاد عن المدينة الجاهلة، مستندين في ذلك على الجوانب المتنورة في تراثنا الفلسفي. ولا ينبغي أن نتحمس الى تلك الدعوة التي ترغب في احداث قطيعة مع التراث، على الرغم من جهلها له باسم الحداثة اننا ننتصر لما بعد الحداثة التي يتعانق فيها التراث مع الحداثة.
يعلل ابن رشد لجوءه الى شرح جمهورية أفلاطون بكونه لم يقف على كتاب السياسة لأرسطو، لأنه لم يستطع الحصول في الأندلس كما في مراكش على ترجمته العربية التي يقول عنها أنها تمت في المشرق، هكذا نجد فيلسوف مراكش يرغب في تفسير أفلاطون انطلاقا من فلسفة أرسطو، وبخاصة الفلسفة الخلقية كما نجدها في كتاب الأخلاق النيقوماخية (1)
يقول فيلسوف قرطبة ومراكش في مقدمة جوامع سياسة أفلاطون: "وإن القسم الأول من هذا العلم (علم السياسة) يوجد في كتاب الأخلاق النيقومافية لأرسطو، ذلك أن ما يحمله هذا الكتاب من آراء يشبه تلك الآراء التي يحملها كتاب الجمهورية لأفلاطون. هذا الكتاب الذي نقوم بتلخيصه، مادام أن كتاب السياسة لأرسطو لم يقع بين أيدينا" (2) لكن ما هي القيمة المعرفية لهذا التوفيق الذي قام به ابن رشد بين رأي أفلاطون ورأي أرسطو؟ وهل استطاع ابن رشد أن يؤسس علما جديدا يمكن تسميته بالسياسة الخلقية؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة الاختلاف الحاصل حول كتاب جوامع سياسة أفلاطون بين الباحثين في الرشديات، إذ نجدهم يخلفون في تاريخ كتابته، وفي تحديد هويته، أي هل ينتمي الى صنف الجوامع، أم الى صنف التلاخيص. وهذا الاختلاف له أهميته الخاصة في معرفة قيمة هذا المؤلف الذي نحن بصدد استعراض روح النظر التي حملها في مجال السياسة الخلقية، ودورها في تأسيس صناعة للتمدن.
لقد ذهب بعض الدارسين لمؤلفات ابن رشد (رينان، استاينشيدر، جورج قنواتي) الى أن تاريخ تأليف هذا الكتاب هو 572 هـ وهو نفس التاريخ الذي ألف فيه هذا الفيلسوف الشرح الوسيط لكتاب الأخلاق النيقوماخية لكن الاب ما نويل النسويرى أن تاريخ تأليفه هو 590هـ (3) ويتفق على هذا التاريخ كل من جمال الدين العلوي ومحمد عابد الجابري (4). وتكمن أهمية معرفة تاريخ تأليف هذا الكتاب في كون أن الباحثين في الرشديات يرغبون في التعرف على موقعه في المتن الرشدي، هل كان بالفعل سببا من الأسباب التي أدت الى نكبة هذا الفيلسوف (5) وأخيرا هل ينتمي الى المخطوطات المراكشية؟ أم الى المخطوطات الأندلسية؟
يقول رينان عن أهمية المخطوطات المراكشية في الدراسات الرشدية: "كان من نتائج قلة شهرة ابن رشد لدى المسلمين وسرعة أفول الدراسات الفلسفية بعد وفاته، إذ كان انتشار المخطوطات العربية قليلا جدا ولم تكد تخرج من الأندلس، وهناك الاتلاف الذي تعرضت له هذه المخطوطات بأمر من اكزمنز (وقد بلغ عدد ما أحرق منها في غرناطة ثمانين ألفا) وهذا ما جعل النص العربي لمؤلفات الشارح الفلسفية نادرا. وما انتهى الينا من مخطوطات كله بالكتابة المراكشية".
كما أن الباحثين في مجال الرشديات يخلفون أيضا في اثبات هوية هذا الكتاب الذي نحن بصدده، هل هو من صنف الجوامع أو من التلاخيص؟ ذلك أن رينان، وهو أول من قام بتصنيف المؤلفات الرشدية الا، يعتبره جوامع (7) ويتفق معه كل من ألنسو وكروث هـ. ( على هذه التسمية، لكن ج. قنواتي نجده في كتابه مؤلفات ابن رشد يختار المنزلة بين المنزلتين، فهو من جهة أولى يعتبره تلخيصا استنادا الى عبارة «بيور» العبرية التي تعني بالعربية التلخيص، ومن جهة ثانية نجده يقول أن ابن رشد يعلن في بداية الكتاب بأنه جوامع (9). أما محسن مهدي فإننا نجده يقول في بحث خاص نشره في كتاب "ابن رشد المتعدد" بأنه تلخيص ويؤكد على هذه المسألة. ويشكل موقفا استثناء في مجال الرشديات (10).
ولا شك أن جمال الدين العلوي في كتابه الرائد "المتن الرشدي" قد فحص هذه الأشكال فحصا دقيقا، إذ نجده يقول في هذا الصدد: "إن هنالك شكا في عنوان هذا الكتاب، وذلك أننا لا نعرف على وجه القطع هل هو جوامع أو تلاخيص؟ فإذا نظرنا الى اعلان ابن رشد الوارد في مقدمة الكتاب أعني الاعلان الذي يؤكد فيا أنه يريد تجريد الأقاويل العلمية من كلام أفلاطون، فإننا، لا نملك إلا أن نجزم بأن الأمر يتعلق بجوامع لا بتلخيص، وأما إذا ما نظرنا الى بناء الكتاب والى تكرار كلمة "قال" وهي احدى مميزات التلاخيص وان كانت أضعفها قلنا أنه تلخيص" (11).
ولكن الأمر الذي لا يستقيم مع الجوامع ولا مع التلاخيص هو أن فيلسوف مراكش لم يخرج مؤلفه هذا في عشر مقالات، وهي عدد مقالات كتاب الجمهورية لأفلاطون، كما جرت بذلك عادته في جوامعه وتلاخيصه وشروحه باستثناء جوامع ما بعد الطبيعة.
من المعلوم أن كتاب جوامع سياسة أفلاطون مفقود في نصه العربي، ولم يعثر عليه لحد الآن، وانما بقي منه ترجمته العبرية التي قام بها صموئيل بن يهودا من مرسيليا. وهناك أيضا ترجمة لاتينية قام بها الطبيب اليهودي يعقوب مانتيوس سنة 1539 بطب من البابا بولس الثالث. وقد نقله الى الانجليزية عن العبرية روزنتال وبعده ليرنير الى نفس اللغة (12). كما نقله الى الاسبانية الباحث كروث هيرنانديز (13). وعلى هذه الترجمة الأخيرة سنعتمد في قراءتنا لعلاقة السياسة بالأخلاق عند ابن رشد، لكن ما الشروط التي ينبغي توافرها من أجل قيام سياسة خلقية عند هذا الفيلسوف؟ وما هو العلم الذي بإمكانه توفير السعادة للانسان الذي يملكه، وللمدينة التي يعيش فيها؟ يعترف ابن رشد في مقدمة كتابه "جوامع سياسة أفلاطون" بأن هذا الكتاب وكتاب "الأخلاق النيقوماخية" يكونان جزءين متكاملين لعلم واحد هو علم السياسة (14). أو السياسة الخلقية كما يدعوها أحيانا (15) ولذلك لم يكتف فيلسوف قرطبة ومراكش بشرح جمهورية أفلاطون، بل قام بدمجها مع كتاب الأخلاق النيقوماخية، مادام أن كتاب السياسة لم يقع بين يديه، على الرغم من اطلاعه على بعض الشذرات منه، إذ نجده يقول في تلخيص كتاب الخطابة: "والذي قاله ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارها... وينبغي أن تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها أرسطو ليست كفى بسيطة، وانما تلفى أكثر ذلك مركبة كالحال في السياسة الموجودة الآن فإنها اذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب."(16). والحال ان الحديث عن سياسة مركبة يضعنا أمام صعوبة خاصة، إذ أن ابن رشد لا يستند على أرسطو في هذا الكلام ولا على الفارابي، بل انه يستلهم ابن سينا الذي يقول في كتاب ريطوريقا:«كما أن السياسة الموجودة في بلادنا هي مركبة من سياسة التغلب مع سياسة القلة مع الكرامة وبقية من السياسة الجماعية وان وجد فيها شيء من سياسة الاختيار فقليل جدا» (17). هكذا يتضح أن هناك تشابها بين ابن رشد وابن سينا في هذه المسألة من الممكن تفسير ذلك بالعودة الى غياب كتاب السياسة لأرسطو وأيضا الى صعوبة مقاصده.
وبالفعل ليس من السهل استيعاب مقاصد كتاب السياسة لارسطو، ذلك لأنه عبارة عن نظرية فلسفية في ماهية الأحكام السياسية، وفي ماهية الدولة، وبعبارة أخرى أن يؤسس تصورا فلسفيا متكاملا لعلم السياسة في شقيه النظري والعلمي. وقد تساءل أرسطو في مطلع هذا الكتاب قائلا: كيف يمكن للفيلسوف أن ينتقل من البحث في علم الموجود بما هو موجود الى البحث في فن السياسة وفن التجارة والاقتناء والكسب؟ (1
إن خير الانسان يجب أن يكون هو غاية العلم السياسي، ولذلك لا يستطيع الانسان أن يصل الى خيره الأسمى إلا من حيث هو عضو في المجتمع السياسي، إذ أن الرجل الذي تشغله السياسة هو أفضل رجل في الوجود حسب أرسطو: «لأن الاهتمام بصلاح الناس احرى من الاهتمام بصلاح الممتلكات وما نسميه ثروة» (19). والسياسة عند أرسطو هي حياة الدولة، ولذلك نجد ابن رشد يتعامل مع السياسة الخلقية، لا باعتبارها مجرد علاج للتناقضات السائدة في المدينة الاندلسية والمغربية فحسب، ولكنها أيضا في نظره ترغب في تتميم غاية الفضيلة الاخلاقية في هذه المدينة انطلاقا من تربية الانسان على فضيلة الحرية وفضيلة العدل وملكة العقل.
ولهذه الأسباب وغيرها قام فيلسوف مراكش بالتوفيق بين رأي أرسطو في الأخلاق ورأي افلاطون في السياسة لكن هل الأخلاق هي نفسها علم السياسة، بعبارة أخرى هي علم الأخلاق وعلم السياسة اثنان بالعدد واحد بالماهية، أم أن الأمر يختلف عن ذلك؟
إذا كان كتاب الأخلاق عبارة عن نظرية فلسفية ل ماهية الفضيلة باعتبارها غاية الانسان في العالم، وباعتبارها أيضا معبرا لتحقيق السعادة، فإن كتاب السياسة يعلمنا كما يقول أرسطو في جانب من جوانبه: "بأي وجه يجب اتباع الخير وتجنب الشر، فهذه مسائل لابد من دراستها في الأبحاث السياسية" (20). هكذا يتبين كيف ان هذين الكتابين يتحركان في نفس الأفق، وهو أفق البحث عن مصداقية للانسان في علاقته بالمدينة من خلال صحبته للخير وتشبثه بالفضيلة باعتبارها غايته في الوجود.
والحق أن ابن رشد في رأي روزنتال لم يكتف بشرح كتاب الجمهورية في ضوء الأخلاق النيقوماخية لأرسطو فحسب، بل نظر الى الجمهورية ككتاب يصف أفضل نظام سياسي يصلح لتسيير شؤون المدينة، ولم يتعامل معه كبديل لكتاب السياسة لارسطو الذي لم يصل اليه. وينبغي الا ننسى، كما يؤكد ذلك روزنتال أن ابن رشد مسلم يؤمن بالطابع الالهي للشريعة الاسلامية، ولذلك قام بشرح أفلاطون بموجب مقتضياتها (21).
بيد أن ليرنير الذي قام بترجمة جواميع سياسة افلاطون الى الانجليزية سنة 1974، يرفض هذا التأويل الذي قدمه روزنتال، ويعتبر من بين الأسباب الهامة التي أدت الى عدم نجاح ترجمته، ذلك أن روزنتال في رأي ليرنير، قد ترجم النص العبري وهو معتقد أن ابن رشد كان يعتبر النظام السياسي الاسلامي هو النظام المثالي، وأن الشريعة الاسلامية تفوق محبة الحكمة. ولعل هذا المؤلف هو الذي أثر في ترجمة روزنتال وفي تعليقاته. وقد حاولت الترجمة الجديدة أن تتفادى هذه الهفوات كما يعلن عن ذلك صاحبها (22).
أما محسن مهدي فإنه يرى بأن ابن رشد كان ينتقد افلاطون في صمت، من خلال انتقاده للقيمة النظرية والعلمية للحجج والبراهين الافلاطونية، إذ نجد ابن رشد يقول مثلا:«إن ما سنقوم به في هذا الكتاب هو تلخيص الأقاويل البرهانية لافلاطون والتي حملها كتاب الجمهورية وسنترك جانبا الحجج والأقاويل الجدلية» (23). لكن لا ينبغي الاستناد على هذا التمرير من أجل القول بأن ابن رشد كان ينتقد افلاطون ذلك أن فيلسوف مراكشى كان دائما في ديباجة جوامعه الأرسطية أو غيرها يعن أنه سيلتقط الأقاويل البرهانية وسيترك جانبا الأقاويل الجدلية الا أن هذه المسألة فيها نظر بالنسبة لبعض الباحثين (24).
لقد فتح ابن رشد كتاب الجمهورية وبدأ كما يقول، في البحث عن الاقاويل البرهانية فيه، وترك تلك الجوانب الجدلية والشعرية ولذلك نجده يرفض شرح الكتاب الأول وجزء هام من الثاني وبعض الأجزاء من الثالث، معللا ذلك بأنها أقاويل جدلية، وقد اختتم شرحه على الجمهورية بالكتاب التاسع وليس بالعاشر. لأن هذا الكتاب الأخير في رأيه ليس مفيدا إذ «أن ما يحتويه لا أهمية له بالنسبة لهذا العلم أن افلاطون يدافع فيه عن مسألة خلود النفس لكن بواسطة الأقاويل الشعرية والجدلية. (25).
فهل كان ابن رشد يرغب في نقل علم السياسة من أفق علم الخطابة والجدل الى أفق البرهان وكيف يمكن لعلم السياسة أن يصبر برهانيا؟
كان ابن رشد يمارس سلطة خاصة على النص الافلاطوني وهذه السلطة تستمد مشروعيتها من أرسطو وجالينوس وأبي نصر الفارابي، على الرغم من أن كل واحد من هؤلاء يحتل المكانة التي تليق به، بل أن هناك تفاوتا في هذا الحضور، لأنه إذا كان جالينوس يحضر باعتباره لم يستوعب مقاصد أفلاطون في كتاب الجمهورية، أو أنه يمزج بين بعض الحقائق وفي أغلب الحالات يجهلها، فإن أبي نصر الفارابي يحضر باعتباره مناصرا لرأي أرسطو، وأنه قد استطاع أن يبلور سياسة مدنية انطلاقا من توفيقه بين افلاطون وأرسطو. وهذا أمر لا يعترض عليه ابن رشد، وبخاصة في شرحه لكتاب الجمهورية، أما في كتبا الأخرى فإنه يرفض هذا التوفيق.
ويرى محسن مهدي أن ابن رشد قد وجد نفسه مضطرا لمسايرة الفارابي في آرائه السياسية والأخلاقية، لأنه لم يكن على اطلاع لا على كتاب السياسة فحسب، بل وكتاب الأخلاق لأرسطو أيضا. والواقع أن معظم الباحثين في مجال الرشديات يحتلفون مع هذا الرأي، وخاصة أن بعض الشذرات من شرح ابن رشد على كتاب الأخلاق النيقوماخية توجد حاليا بقبة القرويين بفاس، وقد نشرها عبدالرحمن بدوي في كتاب الأخلاق النيقوماخية لأرسطو الذي ترجمة اسحق
ابن حنين (26).
وهل ما ينبغي الاشارة اليه هو الموقف الذي عبر عنه محسن مهدي بصدد علاقة ابن رشد بالفارابي، إذ يرى أن أغلب ملاحظات فيلسوف مراكش على كتاب الجمهورية يمكن مقارنتها مع الآراء التي تحملها كتب الفارابي: السياسة المدنية، أراء أهل المدينة الفاضلة، فلسفة أفلاطون وأرسطو شروح أبي نصر على كتاب الأخلاق، وعلى كتاب الجمهورية، على الرغم من أن هذين الكتابين الأخيرين لم يتوصل الى قراءتهما كما يعلن عن ذلك الباحث نفسه.
نعم لقد كان ابن رشد مضطرا، في رأيه الى هذا التوفيق بين افلاطون والفارابي، وذلك من أجل فهم المقاصد السياسية والأخلاقية لأرسطو، بخاصة ما يتعلق منها بالعلاقة بين هذه الفلسفة السياسية ومقاصد الشريعة الاسلامية، والمثير للانتباه كما يقول، أن ابن رشد كان يستعين بالفارابي وهو يشرح أفلاطون دون أن يذكره.
لكن إذا كان الفا رابي في كتاب «التوفيق بين رأي الحاكمين» قد دافع بحماس كبير عن عدم اختلاف افلاطون مع أرسطو، وتوافقهما المذهبي والفكري، فإن ابن رشد في كتاب «جوامع سياسة افلاطون»، على الرغم من اتفاقه مع أفلاطون في عدة قضايا منها مثلا نظريته في تربية حراس الجمهورية وموقفه من المرأة، وكذلك نظريته في الملكية المشتركة، فإنه يختلف معه اختلافا كبيرا في تلك القضايا الجوهرية التي تميز مذهبه عن مذهب المعلم الأول كالقول ببعث النفوس، وخلق العالم، والقول بنظرية المثل، وبعبارة أخرى أن ابن رشد يقترح مدينته الفاضلة في مقابل مدينة أفلاطون التي تهيمن فيها الخرافات والحكايات الشعرية، ذلك أن فيلسوف مراكش يرى:«بأن سائر المدن ما عدا المدينة الفاضلة قد تفسد من قبل السنة الموضوعة فيها، وذلك إذا كانت السنة مفرطة الضعف واللين، أو مفرطة الشدة، وسواء كانت في رأي أو في خلق أو في فعل» (27).
إن العبرة التي ينبغي استخلاصها من خلال قراءة بعض مؤلفات ابن رشد هي أن السياسة تستمد جوهرها، بل وانطلاقتها من علم الأخلاق وغايتها هي دائما تأسيس مدينة فاضلة يكون على رأسها الفيلسوف، ولا ينبغي القول أنها تنطلق من الأخلاق الى السياسة في ذاتها، ذلك أن السياسة هي نفسها وجود بالقوة تحتاج الى محرك يخرجها الى الفعل، وهذا المحرك هو علم الأخلاق.
والملاحظ أن السياسة، كما يقول بول ريكور، غالبا ما تكون غائبة كمعلم أو صناعة عند السياسيين المحترفين ولذلك نجد الفيلسوف هو الذي يبحث لها عن تفسير علمي، ويهبها معنى كليا، والحق أنه «لما كان غرض السياسة يشمل الأغراض المختلفة لجميع العلوم، كانت السياسة هي علم الخير الأعلى للانسان. فكون علم السياسة أشرف من علم الأخلاق ليس سببا فقط أن المملكة أكبر أهمية من الفرد، وإن اسعاد أمة هو أجمل من اسعاد فرد واحد، بل السياسة فوق علم الأخلاق في درجات الشرف العلمي وموضوعها هو أسمى من موضوعه» (2.
والحال أن اتباع الأخلاق للسياسة، كما يعلن عن ذلك أرسطو في مقدمة كتاب الأخلاق النيقوماخية، يعود بالأساس الى أن السياسة هي العلم الأساسي والرئيسي للعلوم الأخرى (29)، وبلغة ابن رشد أنها ملم العلوم، لأن السياسة لا تبحث فقط عن العلوم الضرورية لبقاء المدينة، بل هي التي تبين أيضا العلوم التي يجب على أهل المدينة أن يتعلموها لكي يحافظوا على مدينتهم. ولقد سبق لابن رشد وان أعلن عن بعض المسائل التي تؤدي الى فساد المدن (انظر تلخيص الخطابة ص 28 و 29).
وللسياسة أيضا دور فعال في الحفاظ على هذه المدن ذلك لأنها ترغب في جعل الناس فضلاء مطيعين للقوانين، خصوصا وأنها، كما يقول ابن رشد: «علم أعظم وأنفع من صناعة الطب».
وأخيرا يمكن القول أنه ينبغي الاستفادة من روح النظر الرشدي، هذه الروح التي تعلمنا كيف نتجاوز تلك النظرة الضيقة لعلم السياسة باعتباره أسمى علم في الوجود، لأنه مسؤول عن تدبير شؤون المدينة وعن مصلحة الانسان، وعن سعادته في هذا العالم. كما يجب تجاوز ذلك المنظور الضيق للأخلاق وتأسيس منظور شامل يساهم في بناء مدينة فاضلة والابتعاد عن المدينة الجاهلة، مستندين في ذلك على الجوانب المتنورة في تراثنا الفلسفي. ولا ينبغي أن نتحمس الى تلك الدعوة التي ترغب في احداث قطيعة مع التراث، على الرغم من جهلها له باسم الحداثة اننا ننتصر لما بعد الحداثة التي يتعانق فيها التراث مع الحداثة.