منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

صورة العضو الرمزية
By نهاد
#5804
تطور الحركة الإسلامية في السودان


مقدمة
أهمية الموضوع:

تشغل قضية الدين حيزاً كبيراً في الفكر والواقع العربي – الإسلامي، فمن الملاحظ تنامي الظاهرة الدينية مع تزايد العلمنة ، والاتجاه لإبعاد الدين عن الحياة العامة وعن المجالات المختلفة سواء السياسية أو الاقتصادية على سبيل المثال، ومحاول قصره على الجوانب الروحية والنفسية والوجدانية لدى الفرد.

إلا أن ظاهرة الانتشار الديني ونمو الحركات الإسلامية أو ما يسميه الكثيرون " الصحوة الدينية " وبالتحديد الإسلامية، بدأت تحظى باهتمام الكثير من الباحثين لمحاولة دراسة تلك الظاهرة، وتفسير أسباب انتشار المد الديني ، وخاصة ما يموج به الفكر العربي من مناقشات وحوارات وتنظيرات فيما يتعلق بعلاقة الدين بالسياسة، ودور الإسلام في محاولة تقديم حل لتأسيس مشروع حضاري حديث.

ولعل الاهتمام بنمو وتطور الحركة الإسلامية في السودان، إنما ينبع من الخصوصية التي تميز الإسلام في السودان ، بالذات دور الطرق والجماعات الصوفية في المجتمع السوداني، إلا أنه يتعين علينا تحديد مفهوم للحركة الإسلامية السياسية مناط الدراسة كتعبير عن الإسلام السياسي المعاصر، ونقصد بها تلك التنظيمات المتعددة المنتسبة للإسلام والتي تعمل في ميدان العمل السياسي في إطار نظرة شمولية للحياة البشرية، وتجاهد لإعادة صياغتها لتنسجم مع توجهات الإسلام، وتعمل إلى إحداث نهضة شاملة للشعوب الإسلامية منفردة أو متجمعة من خلال هذا المنظور الإسلامي، وتحاول التأثير في كل نواحي حياة المجتمع من أجل إصلاحها وإعادة تشكيلها وفق المبادئ الإسلامية.
أما الحركات التي لا تتبنى هذه النظرة الشمولية ، وتحصر اهتمامها في بعض جوانب حياة المجتمع فلا تدخل ضمن المحاور الأساسية لبحثنا. (1)

الهدف من الدراسة :

ولعل الهدف من تلك الدراسة ينبع من ضرورة فهم التطورات التي طرأت على الحركة الإسلامية السياسية السودانية ، سواء على المستوى الفكري ، أو التنظيمي، لفرض نموذجها الإسلامي أو مشروعها الحضاري الإسلامي ، التي كانت تنادي به طوال أكثر من خمسين عاماً، والوقوف على الأسباب الحقيقية وراء تراجع مثل هذا المشروع، وتطلع الحركة لتبني صياغة جديدة ، تخرجها من أزمة الحركة الإسلامية التقليدية، ومن جمود الفكر الإسلامي التقليدي وركوده.

المبحث الأول - ( السودان والأصولية الإسلامية ) 1946-1989

دخل الإسلام السودان عن طريق المجموعات التي هاجرت إلى السودان من المسلمين العرب، إلا أن تلك المجموعات كانت تغلب عليها البداوة، ولم تكن ذات مستوى ثقافي أو اقتصادي، ولم يكن مستوى علمها الديني أو تفقها في الدين ذو تأثير عميق لتدشين ما نسميه بالأصولية الإسلامية، التي تتبنى هذه النظرة الشمولية للحياة البشرية.

إلا أن الصوفية كان لها تأثير واضح على تطور الإسلام في السودان، فقد كان مشائخ الطرق الصوفية أقرب إلى وجدان وعقول الناس، مما أدى إلى انتظام تلك العلاقة في إطار الطوائف والطرق الدينية، وأصبح دورها واضحاً في حياة القطر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفي التطور السياسي للسودان.

وعلى الرغم من أن تلك الطوائف الدينية عملت أيضاً كأحزاب سياسية، إلا أنه لا يمكن أن تصنف ضمن حركات الإسلام السياسي، حيث أنها لم تسعى لفرض تصوراً شاملاً لتغيير المجتمع السوداني إسلامياً، وحينما نادت ببعض الشعارات الإسلامية مثل " الإسلام دين ودولة " فهي تفهم ذلك بمعنى عدم وجود تعارض بين التشريعات القائمة وبين الشريعة الإسلامية.

فلقد ارتبطت تلك الطوائف بالواقع المحلي ولم تعتمد مثلاً على استيراد أفكاراً من الخارج كأفكار المودودي أو البنا أو الخميني. (1)
وبناء على ما تقدم يمكن تتبع تطور الحركة الإسلامية السياسية في السودان كالآتي :

أولاً : مرحلة النشأة والتكوين 1946-1957

ظهر أول رافد للحركة الإسلامية في السودان 1944 مع زيارة الأستاذين صلاح عبد السيد وجمال السنهوري اللذان خطبا في نادي الخريجين داعين لفكرة الإخوان المسلمين، وبالفعل تشكلت أول لجنة للإخوان في السودان برئاسة إبراهيم المفتي وبدوي مصطفى وعلي طالب، إلا أنه لم تكن تلك اللجنة فعالة وإنما كانت محاولة من الأشقاء لاحتواء الحركة القادمة من مصر. (2) وعلى أي حال ظهرت العديد من الأسر الإخوانية مما أثار حماس مركز الإخوان المسلمين في مصر، فأرسل اثنين من قادته 1946 هما عبد الحكيم عابدين وجمال الدين السنهوري، وتم تشكيل مجموعة من الشعب وتم تجنيد الكثيرين، إلا أن هذا الإنجاز لم يكن فعالاً وذلك لغياب الفكر التنظيمي السليم واقتصر الأمر على مجموعة من الخطب التي تلهب الحماس وتسجيل المنفعلين، كما تعزز المد المصري بالطلاب السودانيين الذين هاجروا إلى مصر للتعليم واتصلوا بحركة الإخوان المسلمين ولكن كانت عودتهم أقرب إلى الحركة الطلابية منها إلى الحركة الشعبية الإسلامية، ومن هنا يتضح عفوية الحركة وعدم ارتكازها على نمط تنظيمي، معتمد على ما هو مستورد من المركز في مصر.

وفي 1949 تأثر مجموعة من الطلاب بأفكار التحرر والاستقلال والمساواة التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية وكلف بابكر كرار، محمد يوسف بكتابة مذكرة تعريفية باسم ( حركة التحرير الإسلامي ) (1) تم استخلاصها من كتاب حياة محمد للكاتب محمد حسين هيكل، تميزت أفكارها بالنهج الاشتراكي وحددت الحركة خطها الفكري والسياسي على أساس أنها حركة تحرير وليس إخوان مسلمين، وأنهم منحازون إلى العمال والفلاحين والطلاب، وأقروا في اجتماع لهم 1953 إعداد رسالة عن التجنيد وأخرى عن " الأرض لمن يفلحها " وثالثة عن تأميم مرافق الإنتاج. ولقد أعطى هذا الاجتماع المنعقد الشكل العام والمحدد للإخوان في السودان. (2)

من هنا ظهر صدام بين تلك الحركة ونقصد بها الحركة المحلية وبين الاتجاه الآخر الذي هو امتداد لحركة الإخوان في مصر، إلا أنه في النهاية انتصر الاتجاه المحلي على الاتجاه القادم من مصر، ومع انقطاع المد الإخواني من مصر بما اعترى الحركة من ابتلاء، وقوة الخريجين الصاعدة في قيادة المجتمع السياسي وصلابة الحركة الطلابية، تلك الأمور كانت سبباً في تدشين منظومة الحركة الإسلامية، فامتدت فروعها وتأسست أركانها فيما يعرف بمؤتمر العيد 1954 الذي انتهى بعدد من القرارات كانت أهمها : اختيار اسم الإخوان المسلمين تأكيداً لاستقلال الحركة وعدم ارتباطها بالأحزاب، علنية الدعوة، الاهتمام بقضية الدستور، تكوين مجلس تسيير يكون مسئولاً عن حركة الدعوة في كل أنحاء السودان. (1)
تلك القرارات رفضتها حركة التحرير الإسلامي وكونوا الجماعة الإسلامية، وهي بالفعل حركة فكرية إسلامية مجتهدة وتجديدية تختلف عن حركة الإخوان المسلمين التي تعتمد على التجيش ومخاطبة عواطف الجماهير. وبهذا تمثل تلك الفترة نقطة تحول في مجمل العمل الإسلامي انتهت بسيادة الإسلاموية سياسياً وسلوكاً وتفكيراً. (2)

ثانياً : مرحلة التطور والانتشار 1958-1969


لازمت الحركة الإسلامية العفوية وعدم التأصيل الفكري، واعتمدت على الإعداد الروحي قبل أداء أي مهام سياسية، واعتبرت الحركة تلك المرحلة مرحلة كمون وإعداد ظلت الحركة فيها ساكنة لم تقاوم انقلاب عبود ولم تصدر حتى بياناً تقاوم فيه اغتيال الديمقراطية. وظلت جماعة الإخوان المسلمين في تلك المرحلة تسعى إلى تنمية كوادرها خاصة من الطلاب، واستغلال العمل الثقافي والديني لتوصيل أفكارها من خلال الاحتكاك بالجماهير عن طريق المنابر.

وبعد قيام ثورة أكتوبر 1964 والتي ينسب الإخوان المسلمين الفضل في قيامها والإعداد لها لأنفسهم (3)، توصل الإخوان إلى شكل تنظيمي إسلامي يتناسب مع تلك المرحلة فقام حسن الترابي بتأسيس جبهة الميثاق الإسلامي ، ويشير حسن الترابى فى هذا الصدد الى أن الحركة " مؤسسة على منهاج حركة سياسية موحدة، وتعد واجهة العمل السياسي وحاملة الدعوة للدستور بكل معاني الإسلام "(1).

إلا أنه يتضح من خلال إستراتيجية العمل الإسلامي التي أعلنتها الجبهة ونشرت في صحيفة " الميثاق الإسلامي " الناطقة باسمها ، مدى الضعف الفكري للحركة الإسلامية السودانية، والتي لم تنجح إلا في شغل الرأي العام السوداني والقوى السياسية بقضيتي الدستور الإسلامي ومحاربة الشيوعيين(2).
ثالثاً : مرحلة التمكين والانقضاض للحركة الاسلامية على السلطة 1969-1989

حسمت الحركة الإسلامية على يد حسن الترابي خيارها بأن تكون سياسية تستهدف الدين كوعي سائد بين غالبية الشعب السوداني، وأصبحت قضية الدستور الإسلامي أداة جيدة لتعبئة الجماهير و استثارة عاطفتها الدينية(3). إلا أنه بحدوث انقلاب مايو 1969 بقيادة جعفر النميري خاضت الحركة صراعات عنيفة اصطدمت الحركة فيها بنظام مايو بداية عن طريق التحالفات السياسية التى قامت بها الحركة لاحتواء عناصر وقيادات الأنصار، الذين تصدوا لمواجهة النظام فى ودنوباوى الجزيرة أبا 1970(4)، مستغلة العاطفية الجهادية لديهم من خلال استثارة عاطفتهم الدينية ، خاصة اذا كان الموضوع الخطر على الاسلام(1). ويشير مكى الى هذا التنسيق بأن "الاسلامييين رأوا فى الصادق خير نصير مرحلى ، كما كان من استراتجيهم: تسخير الصادق فى ضرب الطائفية والعشائرية والشيوعية ، كان التنسيق وليد استراتيجة دفاعية ، اذا كانت الأحزاب الكبيرة تحاول تحطيم الجبهة كحزب ناشئ ، اذا الاتحاديون نظروا لها من خلال أنها تتوسع على حسابهم وسط جماهيرهم ، والأنصار لم يفرقوا بينها وبين حركة اليسار ونظروا اليها بشك عميق"(2)

وقد عبرت الحركة الاسلامية السودانية بوضوح عن تفرد الخط الداعى للوصول الى السلطة ، سواء عن طريق التحالف ، أو الائتلاف أو النصح ، أو الاستشارة ،أو الاستقرار والهيمنة الكلية. وهذا التوجه نشطا فى ذهنها ومسلكها بعد تصفية الشيوعيين على يد النميرى بعد انقلاب 19 يوليو 1971،(3) وظهرت بصمات الاخوان واضحة جلية من خلال ميثاق الجبهة الوطنية المجاز فى مطلع عام 1976 ، كبرنامج لمحاولة انقلاب 2يوليو 1976 ، إلا انها لم تقدم حلا لمشاكل السودان يختلف عما طرحته أحزاب الرأسمالية السودانية (4). ولكنه وبعد اعلان المصالحة الوطنية بين نظام مايو وكافة القوى السياسية السودانية 1977 ، بدأ تسلل الحركة الاسلامية السودانية داخل المنظمات السياسية ، وأصبح للإخوان "تكتيكا" فى سياسة التحالف مع نميرى ، لكسب مزيد من الوضع السياسى والاقتصادى.

إلا أنه لم يرضى كل الإسلاميين عن هذه العلاقة والتوجه الجديد المرتبط تماماً بنظام النميري ، فأعلن الصادق عبد الماجد انفصاله عن الترابي وجماعته 1980، معللاً ذلك للأسباب التالية :
عدم رضائه عن الفتاوى والاتجاهات التنظيمية التي يقودها الترابي ، وعدم اقتناعه بمسوغات المصالحة ، كما أكد إيمانه بوحدة الحركة الإسلامية ، وتمسكه بصيغة الموالاة للتنظيم الدولي الإخواني. إلا أن الترابي اتجه إلى تقييم هذا الموقف من خلال التفسير التآمري، كمحاولة من التنظيم الدولي للضغط على تنظيم السودان لارتضاء صيغة مبايعة التنظيم الإخواني المصري والعمل من خلال أطره.(1)

وبهذا استطاع الجناح الذي يتزعمه الترابي ونتيجة للأوضاع الدولية والإقليمية في هذا الوقت أن ينتصر على مثل هذه التيارات الانفصالية، واستمر جناح الترابي في التعاون مع النميري وفي الانتشار داخل أجهزة الحكم ،حتى تم تعيينه مسئولاً عن الفكر والمنهجية في الاتحاد الاشتراكي ،بالإضافة إلى منصب النائب العام.
كما أبرز مجلس الشعب القومى 1981 عددا من الاخوان مثل : على عثمان ،عبد الجليل الكارورى ، يس عمر الامام ، حافظ الشيخ ، عبد الله حميده ، كما أصبح كلا من أحمد عبد الرحمن وزيرا للشؤون الداخلية والرعاية الاجتماعية ، ويس عمر الامام عين رئيسيا لمجلس ادارة وتحرير جريدة الأيام(2). على أى حال أجتهد الاخوان فى استثمار المناخ العام للمصالحة ، وقد عبر الترابى عن هذا النجاح "أما الثمرات المقدرة فى المصالحة فقد جاءت بأكثر مما كان مرجوا لاسيما اذا نسب كسب الحركة من اغتنام الحرية والمشاركة الى كسب سائر المصالحين الذين تجمدوا وتبلدوا لأنهم لا يحسنون العمل فى ظروف السرية والحرية المحدودة ، أو لأنهم طلبوا المصالحة لقسمة فى السلطة ثم لم يرضوا بما جاء به النظام النجيل بحكر سلطته ولم يصبروا ويعدوا للآجله"(1)
وبهذا تعد المصالحه الوطنية مرحلة كسب للحركة الاسلامية السياسية السودانية على عدة مستويات:
أولاً : على المستوى السياسي :
عبرت الحركة عن تفرد الهدف السياسي الذي يدعو للوصول إلى السلطة، خاصة وأنهم مقتنعون بأنه هدف سياسي مشروع لأي حزب أو حركة سياسية، مع الأخذ في الحسبان الغاية الأعظم وهي إقامة شرع الله على الأرض، لذلك فكل الوسائل مباحة ومبررة، وهذا ما يفسر برجماتية الحركة التي تعتبر كل ما يوصل إلى الهدف المنشود هو الحق وغير ذلك يعتبر باطل.(2)
ثانياً: على المستوى الشعبي :
تيقنت الحركة من استحالة أن تعتمد على قواها الذاتية فقامت بتأسيس جمعيات اجتماعية وشبابية ونسائية وثقافية وإغاثية وتطوعية في ربوع السودان، كما تفننت في أساليب الاختراق داخل صفوف الطلاب واستقطابهم لتكوين جيل ضخم من الشباب والشابات، وداخل الجيش لتجنيد العديد من الضباط كي يمثلوا جيل الطلائع العسكري الإخواني.(3)
ثالثاً على المستوى الاقتصادي:
تم إنشاء مؤسسات إسلامية متعددة كالبنوك الإسلامية والمؤسسات الاستثمارية مدعاة لاكتشاف تجارب تطبيقية للاقتصاد الإسلامي.
مما ساعد على ارتقائهم الى مراكز السلطة والسيطرة الاقتصادية ، مما كان له أثره السلبي على جموع الشعب السودانى ، فالسودان حديث العهد بالملايين لقلة الخبرة ، وبهذا استطاعت البنوك أن تخرج بأموال السودان للخارج (1)، ونجحت فى أن تحقق استراتيجياتها فى التمكن بالوصول الى السلطة / الملوك والثروة / البنوك.
رابعا على المستوى الخارجى:
لم تكتفى بما حققته داخليا بل سعت الى تكوين شبكة من العلاقات الخارجية ، كتلك التى كونتها مع كل من باكستان والصين واليابان وكوريا الجنوبية (2)، وغيرها من الدول العربية والقوى الغربية ، وتعد أكبر الانجازات – حسب تقديرهم – فى المجال الخارجي ، حين اعتبروا عام 1982 عام أمانة العلاقات الخارجية ، التى كان يرأسها د. التيجانى أبو جديري(3) ، حيث بدأت الحركة فى تشجيع ودعم الإسلامويين الليبيين ، كما فتح مكتب العلاقات الخارجين أبواب السودان للمقاومة الإخوانية الليبية ، مما أحدث هزة عنيفة فى نظام الأمن الليبي ، بدا شكل الاخوان كتنظيم رجعى ارهابي ، يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فى بلد يحترم أهله الدين ويقدسونه .
أدّى هذا الصعود الاسلامى للحركة فى السودان خلال تلك الفترة الى انتهازية لتحقيق الهدف الاستراتيجى للحركة ، استغلوا تحالفهم من النميري حتى دفعوه دفعا لإعلان قانون الشريعة الاسلامية فى سبتمبر 1983 ، التى لم تلق تأييد كل القوى السياسية فى البلاد(4).
وعلى الرغم من أن تلك القوانين كانت بدافع من قيادات الحركة ، ويقصد بها العناصر أكثر راديكالية بداخلها ، إلا أن الترابي المرشد العام للإخوان المسلمين فى السودان ينفى
ويشير فى هذا الصدد "تعد هذه القوانين مسئولية طلبتي من خريجي كلية الحقوق، وكانت تعليمات نميري المشددة لهم ألا يطلعوني عن أعمالهم ، وعندما بدأت مرحلة الصياغة أسرع بقرار عزلي من منصب النائب العام وإحالتي إلى الشئون الخارجية. ولذلك كان تدخلي في عملية الصياغة محدوداً جداً " ويستطرد الترابي كلامه ويشير إلى رأيه في تلك التشريعات فيقول " لقد تدخل نميري في هذه التشريعات بالقدر الذي شوه وجه الإسلام وامتهن العدالة وسلامة إجراءات التطبيق، ويكفي أن هذه التشريعات التي نسبت ظلماً إلى الإسلام كانت تخلي سبيل عتاة المجرمين إذا تابوا وردوا ما سرقوه، بينما توقع العقاب على خصومه السياسيين وتقطع يد الجائع والفقير الذي لم يجد قوت يومه ". (1)
وسواء كان موقف الحركة الإسلامية إزاء تلك القوانين واعتبار مناهضتها هي مناهضة لشرع الله وارتداد عن دينه، أو أنهم عادوا إزاء الموقف الشعبي الواضح من هذه القوانين – عقب سقوط النميري – يتحدثون عن ضرورة مراجعة تلك القوانين لإزالة ما فيها من غلواء(2) ، إلا أنه على أي حال لم تستمر تلك العلاقة بين الحركة الإخوانية وجعفر نميري حيث انقلب الأخير عليهم وأودع قادتهم في غياهب السجون.

ويقول الترابي " أراد نميري أن يخلد في السلطة خليفة للمسلمين أمد الدهر، وأن يكتب كتاباً ويختمه ويولي فيه العهد من يخلفه، وأن يوصي له بالكتاب حتى بعد موته ويضمن له البيعة مسبقاً، أراده دستوراً خلافياً وراثياً، وفضلنا أن يكون دستوراً وضعياً غير منسوب للإسلام، الصياغات إسلامية إلى حد ما ولكن مضمونه لم يكن إسلامياً قط ".(3)

كانت تحركات النظام تجاه حركة الإخوان بمثابة طوق النجاة، الذي أفلت الترابي ومن معه من الاتهامات الموجهة إليهم بالانتهازية من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية للتنظيم والأفراد التابعين لهم على حساب معاناة جموع الشعب السوداني، في الوقت الذي كان من المفروض أن تلتزم الحركة بالمثاليات و الأسس الأخلاقية التي تدعو بها.

الجبهة القومية الإسلامية 1986:
نتيجة لتلك الجهود سواء على المستوى التنظيمي أو المستوى التكتيكي، استطاعت الحركة أن تحرز مكاسب مفاجئة في انتخابات 1986 البرلمانية، إذ احتلت المرتبة الثالثة بعد حزبي الأمة والاتحادي، وحصلت على 51 مقعداً بفارق ضئيل عن الحزب الاتحادي الذي كان يتمتع بسيطرة تقليدية في البرلمانات السابقة، إلا أنه تراجع إلى المركز الثاني ليفسح الصدارة لحزب الأمة الذي يقوده الصادق المهدي.(1) وطبقاً لطبيعة المرحلة واستمرار لنهج التطور، اتجه الترابي إلى اتخاذ اسم جديد وكيان جديد للحركة، فأعلن عن قيام الجبهة القومية الإسلامية، وتم توسيع إطار العضوية والانضمام لها بشروط ميسرة، ترتكز على الالتزام الأولي بشعائر الدين مع مناصرة برنامج الجبهة وأهدافها.

وعلى الرغم من نجاح الجبهة القومية الإسلامية من تحقيق مكاسب سياسية في المشاركة في الحكم، إلا أنه كان هناك تياراً قوياً يفضل الاستفراد بالحكم ، وليس بالضرورة عن طريق الشعب والديمقراطية، ويرى هذا التيار أن تلك الفترة تعد مرحلة قد اكتملت، ويعتبر الدخول في الحكم تمريناً للممارسة تجنباً للأخطاء، كما أن الفترة الديمقراطية هذه ما هي إلا مرحلة يجب أن تجتازها الحركة وتعتبرها مرحلة للإعداد، وبهذا كان للحركة الإسلامية داخل الحكومة نفس العقلية والأهداف وبالذات ما يتعلق بتقوية الجماعة، ويقول الترابي عن تلك الفترة – فترة الديمقراطية – " ومازالت تجربة السلطة الجزئية تطرح للجماعة حين وجهاً جديداً من الابتلاء وتثير لها قضية اجتهاد أو جهاد في وحدتها أو خطتها أو حركتها هي وفي سياستها للأمر العام ". (1)

وبناء على ما تقدم يتضح موقف الجبهة الإسلامية القومية من الفكر الليبرالي فالديمقراطية في نظرهم لا تحترم في حد ذاتها كوسيلة وأسلوب للحكم، بل تقيم حسب تقاربها لنظرتهم الإسلامية، والتي تعتبر نفسها الإسلام الصحيح، وإذا لم تحقق الديمقراطية هذا الهدف فهي مجرد عبث أو حتى مؤامرة أو مكايدة غربية أو علمانية.

وبدأت الجبهة بحكم مركزها في السلطة بعرقلة الحياة الديمقراطية والحزبية، وما أكثر الاتهامات التي وجهت لبعض القوى السياسية خلال تلك المرحلة، خاصة عند التصويت داخل الجمعية التأسيسية حول قرار تأجيل مناقشة مشروع القانون الجنائي لسنة 1988 والذي أعده دكتور حسن الترابي، فأعتبره قانوناً إسلامياً صحيحاً بدلاً عن قوانين سبتمبر 1983، يراعي فيع واقع السودان وتباينه الثقافي.(2) فاتهمتهم بالردة واتجهت الجبهة إلى ما أسمته بثورة المصاحف والمساجد. وقاطعت جلسات الجمعية التأسيسية وسحبت نوابها منها، كما أعلن حسن الترابي " الأمين العام للجبهة الإسلامية " الجهاد ضد ما أسماه حكومة الشتات والطابور الخامس ودعا إلى إسقاطها.(3) وفي الوقت الذي اتجهت فيه الجبهة الإسلامية القومية إلى تفتيت دعائم الديمقراطية معتمدة على إعلامها المتعدد القنوات وتدعو لمن يعتلي ظهر دبابة لينقذ البلاد من الحزبية والطائفية، بدأت تمد جسورها داخل جسم القوات المسلحة، حتى نجحت الجبهة الإسلامية القومية في تنفيذ الانقلاب باستيلاء الجيش على السلطة في 30/6/1989 بقيادة العميد " عمر حسن أحمد البشير " معلنة ذلك انتهاء عهد الديمقراطية الثالثة.

المبحث الثاني - حكومة الإنقاذ وسقوط المشروع الحضاري

استطاعت المؤسسة العسكرية الاستيلاء على السلطة تحت مسمى ثورة الإنقاذ بقيادة الفريق/ عمر البشير وبقيادة غير منظورة أو معلومة من الدكتور حسن الترابي، هذا إلى جانب ما تم التمويه به لتبدو الجبهة الإسلامية القومية بعيدة عن الانقلاب، فقد تم إلقاء القبض على حسن الترابي فور تسلم البشير زمام الحكم، إلا أنه وبعد أن ثبت النظام دعائم حكمه بدأ الإفصاح تدريجياً عن وجهه الإسلاموي.

وأخذ المنظرون والمبررون لهذا الانقلاب في تحويله إلى ثورة وتجديد ومشروع حضاري عوضاً عن كونه انقلاباً وعملاً تآمرياً. وقد حاول هؤلاء المنظرون والمبررون أن يكونوا منهجيين وعقلانيين من خلال كتاباتهم الخارجية في تقديم هذا المشروع الحضاري باعتباره تجديداً في الفكر الإسلامي، وعلى الرغم من تعدد المسميات التي أطلقت على هذا المشروع الحضاري، كالمشروع الإسلامي السوداني، أو مشروع النهضة الحضارية الشاملة، أو النموذج الإسلامي في السودان، إلا أن مفكروا ومنظروا هذا المشروع لم يقوموا بتحديد ما المقصود بهذا اللفظ (1)، فنجد مثلاً أن حسن الترابي عندما يشير إلى هذا النموذج أو المشروع الحضاري من خلال دور الحركات الإسلامية فهو يقصره على التوحيد، ويحدد واجبها بقوله " أن تبدأ بإحياء التوحيد في الحياة السياسية حتى تكون إخلاصاً لعبادة الله لا ابتغاء للسلطة ، وتجرداً للخير العام ، لا حباً في إرضاء شهوة السلطة والسيطرة على الآخرين. وحتى تكون علاقات السياسة علاقات أخوة في الله ووحدة وعدالة، ولا تصبح علاقات صراع سياسي – كما هي في العالم قاطبة – صراع أحزاب وطوائف وشخصيات وأقطار ".(1)

وقد تعددت الرؤى والآراء لهذا المشروع الحضاري، مثل كتابات أمين حسن عمر وعبد الوهاب فندى على سبيل المثال يرى البعض أن هذا المشروع يمثل نموذجاً للمشروع الحضاري الشامل، وبعضهم يرى أن هذا المشروع ينتهي إلى تكامل المجتمع، حتى يستطيع إقامة العدل، فهو مجتمع رباني عادل متسم بالقيم الأخلاقية العالية.(2) كما ينظر آخرون لهذا المشروع على أنه مشروع للنهضة الإسلامية من حيث أنه مشروع للتحرر من الهيمنة الامبريالية الغربية، وهو بذلك يعد مشروع لإعادة البناء الاجتماعي وفق رؤية تجديدية للدين، يجمع بين الأصل السابق للظاهرة الاستعمارية والعصر التالي لها.(3)
ليس هذا فحسب بل ارتكز آخرون إلى أن " المشروع الإسلامي أهم ما يميزه هو مبدأ الثورة، باعتبارها ليست عملاً عسكرياً أهوج ولكنها عمل دءوب نحو إحياء الأمة بالتذكير والتفكير والموعظة الحسنة، والقدرة وترفع الهمة ".

مثل هذه التفسيرات والتحليلات لا تستند إلى عمق فكري، ولكنها أقرب إلى شعارات، تغلب عليها الصبغة الأيدلوجية لمجرد خلق جو عام من القبول والترويج الإعلامي لما أطلقوا عليه " المشروع الحضاري"، إلا أنه وبعد ثلاثة أعوام من عمر الإنقاذ، ادعى مفكروا النظام أنهم قد أكملوا تقديم النموذج الإسلامي للحكم والذي يجذب الشعوب الأخرى،
وهذا ما يهدد الغرب،وأشادوا بانجازات الإنقاذ على مدار الثلاث سنوات سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني أو على مستوى السلطة السياسية(1) ، إلا أن هذا المشروع الحضاري الترابي قد كتب نهايته " سودانياً وإقليميا ودولياً ".
أولاً : على المستوى التنظيمي:
أخذت الجبهة الإسلامية القومية على عاتقها فكرة الإعداد للانقلاب فى 1989، واستمرار لنهج الحركة الاسلامية استطاعت الجبهة أن تشكل قاعدة لها من الكوادر العسكرية الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية السودانية ، وبالتالى انقسمت حركة يونيو1989 الى اتجاهين أساسيين فى الانقلاب الذى تم ، الاتجاه المدنى الممثل فى التنظيم الخاص لحركة الجبهة الإسلامية القومية والذى ضم ، على عثمان محمد طه ومهران إبراهيم ، ربيع حسن ، بجانب أحمد سليمان المحامى ، أما الجانب العسكرى فقد ضم العميد كمال على مختار ، والعقيد عبد الرحمن أحمد حسن ، والجدير بالذكر أن العميد كمال على مختار كان يشغل موقع نائب مدير المخابرات السودانية ، والذى انتمى روحيا للإخوان المسلمين ثم الى الجبهة الإسلامية القومية ، إلا أن الجبهة الإسلامية القومية قد اختارت العميد عمر حسن أحمد البشير ، ليكون قائدا ومنفذا للانقلاب(2). وعلى أى حال وانطلاقا من تلك المقدمات، الذى سيطر على الأوضاع آنذاك ليس المجلس العسكرى، وإنما هو المجلس الأربعينى(3) ، والذى اختفى وراءه حسن الترابى ، وقد شكل هذا المجلس من أكثر عناصر التنظيم داخل القوات المسلحة اخلاصا، ويعد من كل النواحى هيئة أركان الجبهة الاسلامية القومية داخل القوات المسلحة قبل الانقلاب، ويعد هو المسئول عن الجوانب التنفيذية فى العملية الانقلابية .
ووصف جون قرنق الانقلاب العسكرى بأنه حدث خطير فى تاريخ السودان ، لأنه لم يكن انقلابا عسكريا بواسطة الجيش، ومن أجل الجيش، ولكن كان انقلابا عسكريا باسم الجبهة الإسلامية ، وهى حركة سياسية لها أيدلوجية ورؤية للمجتمع.(1)
لم تحظ تلك المنظومة بالتأييد الدولى لها ، ووجدت حكومة الإنقاذ نفسها فى وضع لا تحسد عليه إقليميا ، وعالميا.
عالميا: فقد امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن إعطاء السودان أى معونات اقتصادية ، واشترطت فى هذا الصدد ضرورة العودة للنظام الديمقراطى فى السودان لعودة معوناتها ، هذا الى جانب ضرورة احترام حقوق الانسان ، مع ضرورة العمل على الاصلاح الاقتصادى.
أما عن أوربا الغربية: فقد أوقفت هى الأخرى كافة المساعدات الاقتصادية ، ووضعت الشروط الواجب اتباعها لعودة تلك المساعدات على غرار ما قدمته أمريكا من شروط واجبة التنفيذ ، كما قام البرلمان الأوربي بوقف المفاوضات فى يونيو 1990 فى اطار برامج الدعم المستقبلية ، انطلاقا من تصرفات نظام البشير / الترابى لانتهاك حقوق الانسان فى السودان ، وقام البرلمان الأوربي برفع تلك القرارات الى كل من الجامعة العربية ، ومنظمة الوحدة الأفريقية.
أما عن الدول العربية: فقد اتخذت موقفا سلبيا فى علاقاتها مع النظام الجديد فى السودان، فيما عدا كل من العراق وليبيا ، حيث وضعت حرب الخليج الثانية كل من مصر والسعودية ودول الخليج فى مواجهة مع السودان لرفضهم احتلال العراق للكويت وعدم تأيدهم الحرب ، هذا بالإضافة الى سياسة النظام الجديدة فى احتضان بعض العناصر الإرهابية ، مما كان سببا فى توقف كل القنوات السياسية المفتوحة بين السودان وكل من مصر والسعودية ودول الخليج.(2)
أما عن الدول الإفريقية : فلقد تخندقت فى مواجهة النظام وأيدلوجيته كنتيجة طبيعيه لانعكاس الاوضاع الجديدة فى السودان على القوى والتيارات غير الاسلامية ، مما كان سببا فى انتعاش الحركة الشعبية لتحرير السودان ، والجيش الشعبي لتحرير السودان، وقدمت لها كافة المساعدات اللازمة لمواجهة النظام الجديد و الحد من سياساته الجديدة فى المنطقة.
ويضاف الى ذلك اشتراك أثيوبيا فى حدودها المباشرة مع السودان والتى يبلغ طولها 2000 ك م ، وأثيوبيا يحكمها الفكر الماركسي بقيادة منجستو هيلاماريم ، الذى يختلف كلية عن توجهات النظام الجديد مما أدى الى دخول النظام فى مواجهة مباشرة مع النظام الأثيوبي ، والعكس صحيح.
وإذا اضفنا الى ذلك اشتراك السودان فى حدودها الجغرافية مع العديد من الدول العربية والإفريقية ، تلك الحدود تجمعها دول اسلامية وغير اسلامية ودول ناطقى بالعربية وغير العربية ، هذا الى جانب وجود امتدادات ثقافية وعرقية مع هذه الدول تؤثر على وحدتها القبلية واللغوية ، فإننا ندرك صعوبة حكم الجبهة فى السودان.(1) فلم يكن النظام بريئا قطعا من مساعدة ودعم بعض حركات التمرد فى تلك الدول كأوغندا ، وتشاد ، مما خلق نقاط توتر ومواجهات مباشرة مع حكومات تلك الدول.
ثانيا: على المستوى السياسي :
لم يسمح النظام أبداً في إقناع أهل السودان بما أخذ منظروه في الترويج له، فمنذ البداية لم يتسع هذا النموذج المثالي الذي ابتدعه الترابي وتولاه بالدعاية سوى للجبهويين، حيث بدأت القيادة السياسية للحركة الإسلامية المهيمنة على السلطة في التراجع عن فكرة تسليم السلطة للشعب من خلال نظام المؤتمرات الذي اتخذته ثورة الإنقاذ كأنسب الصيغ البديلة لتجربة التعددية البرلمانية والحزب الواحد الشمولي.(2) وبهذا تملصت الحركة من أهم مرتكزاتها في ضرورة الالتزام بمبدأ التعددية المجتمعية التي تستوعب كافة أفراد المجتمع، تحقيقاً لمبدئي الديمقراطية والمشاركة في إطار العمل السياسي الذي يحقق أهم أهداف الحركة كالحرية والشورى والمساواة والعدل، كما تعد إشكالية الدستور السوداني لسنة 1998 والذي أجيز بعد مناقشات طويلة من داخل المجلس الوطني برئاسة حسن الترابي خير دليل على انهيار مثل هذا المشروع الحضاري الذي نادت به الجبهة الإسلامية، فعندما تم قطع الطريق على تجربة نظام المؤتمرات وتحول المؤتمر الوطني إلى تنظيم حزبي، أصبح حسن الترابي ممسكاً بكل خيوط الدولة باعتباره الأمين العام للمؤتمر الوطني وفي الوقت ذاته رئيس المجلس الوطني ( البرلمان ). وبهذا اتضحت دوافع الحركة في أن العودة لأسلمة التنظيم السياسي هو أحد الركائز للانتفاع بالمناصب الدستورية وغيرها. باعتبارهم أهل التنظيم الحاكم ومن حقهم تقسيم السلطة فيما بينهم، وهذا ما أكده قانون التوالي السياسي والذي قصد به حشد الولاء السياسي للوطن كله في إطار تنظيم مركزي وهو المؤتمر الوطني تطبيقاً لإستراتيجية الحركة. هذا بالإضافة إلى ما جاءت به مواد الدستور من ألفاظ وعبارات مشحونة ذات مدلول إسلامي في محاولة للتمويه لتأمين المشروع الإسلامي، بينما يعكس واقع الأمر خلو الدستور من أي مضامين إسلامية حقيقية وفقاً للمعايير التي تحددها أدلة الأحكام أو السياسة الشرعية. كما تجدر الإشارة إلى بعض حقوق المواطنة وحقوق الإنسان التي أوردها الدستور والتي تتقاطع كلية مع المبادئ الإسلامية، بعد ما كان يكفر بها من ينادي بالدولة المدنية.(1)

ونتيجة لما سبق تعرض الدستور السوداني لسنة 1998 لنقد شديد من قبل القانونيين والسياسيين باعتباره دستوراً معيباً في ديمقراطيته ومدى حرياته، وتصاعدت الحملات المناهضة لهذا الدستور من الإسلاميين وغير الإسلاميين، كتلك التي قام بها أئمة المساجد والدعاة، كما أصدر طلاب أنصار السنة في الجامعات بياناً سياسياً انتقض واقعية غموض المواد وضبابية ما تشتمل عليه من مضامين، كما أصدر أمناء هيئة حفظ القرآن الكريم بياناً ينتقدون فيه ما جاء به الدستور من مواد، وأضافت جماعة الإخوان المسلمين التي يقودها الصادق عبد الله عبد الماجد موقفاً معادياً لهذا الدستور، وانتقدت فيه ما حمله مثل هذا الدستور من مخالفات شرعية، التي لا يملك أحداً تغيرها أو إنقاصها.(1)

الصراع بين شقى النظام:

بدأت الصراعات الداخلية باستفراد الترابي بالسلطة وغياب الديمقراطية ، وهذا يعد وضعاً طبيعياً داخل حركة قبلت بأبويه وكاريزمية الشيخ(2) ، إلا أنه بعد أن ثبت النظام دعائم سلطته، بدأت مرحلة إعادة هيكلة المؤسسات السياسية فكانت أزمة إعادة هيكلة مؤسسات المؤتمر الوطني ( الحزب المعبر عن نظام الإنقاذ ) حيث قدم عشرة من أعضاء هيئة الشورى لحزب المؤتمر الوطني الحاكم مذكرة في ديسمبر1998 عرفت إعلامياً باسم " مذكرة العشرة "، يطالبون فيها بتقليص صلاحيات موقع الأمين العام للحزب والذي كان يشغله د/ حسن الترابي، كما طالبوا بزيادة سلطات رئيس الجمهورية ( عمــر البشير ) داخل الحزب، وكانت حجة الموقعين على المذكرة أنهم يهدفون إلى تفعيل الشورى في جسم التنظيم السياسي وتقوية المؤسسية على حساب النزعة الفردية وتوحيد القيادة. واستطاعوا من خلال المفاجأة التي أحدثوها أن يجيزوا تعديلا في اللائحة الداخلية للحزب يجعل من الرئيس عمر البشير رئيساً للدولة ورئيساً للحزب، مما يعد انقلاباً حقيقياً بكل المقاييس. فحتى هذا الوقت كانت الأمانة العامة للحزب هي الجهاز التنفيذي الأعلى في التنظيم، مما يجعل الأمين العام للحزب هو الرئيس التنفيذي الفعلي للحزب، وهكذا كان الأمر في جبهة الميثاق الإسلامي، وفي الجبهة القومية الإسلامية، وبهذا التصور كان يحتل منصب الأمين العام للمؤتمر الوطني بعد أن حلت الحركة الإسلامية نفسها وقررت أن تذوب في كيان المؤتمر الوطني.

وبناء على ما سبق فقد أدى هذا التعديل إلى حدوث انشقاق كبير بين جناحي الحركة، وتعرضت المعادلة التي قام عليها النظام إلى شرخ كبير.(1)

ونتيجة التطورات السابقة احتفظ الترابي برئاسة المجلس الوطني ( البرلمان ) بعد أن فقد موقعه في التنظيم الحزبي، وقد حاول الترابي أن يحدث بعض التعديلات الدستورية والقانونية للحد من سلطة رئيس الجمهورية في تعيين حكام الولايات وأن يجعل هذا الموقع بالانتخاب، وذلك للحد من قدرة الرئيس على التحكم في الولايات بعد إقرار النظام الفيدرالي وتقسيم السودان إلى 26 ولاية، إلا أن الجناح المناوئ للترابي بقيادة على عثمان طه، قام بضربة استباقية فأعلن الرئيس البشير حالة الطوارئ وحل البرلمان فيما عرفت بقرارات 4 رمضان / ديسمبر1999 ثم تبعتها قرارات صفر / مايو 2000 مما أحدثت ضجة كبيرة لما فجرته من تساؤلات حول مدى مشروعيتها الدستورية، وبدأ الاستقطاب داخل الحركة والنظام السياسي، واتخذ الشد والجذب لدى طرفي النزاع أشكالاً متعددة على عدة مستويات بدئاً بالتعبئة من خلال شرح الملابسات ثم دخل الطرفان في جدل سياسي وفكري ثم تدنى مستوى النزاع إلى التكفير والتراشق والتهديد بالقضاء والقانون واتهامات الخيانة والعمالة. مما أدى في النهاية إلى إعلان الترابي في 27 يونيو 2000 تكوين حزب " المؤتمر الوطني الشعبي " ككيان يجمعه وأنصاره.
وهكذا فإن ما حدث من صراع جعل الحركة الإسلامية منقسمة إلى قسمين، قسم استقل ركب النظام بالقول أن هذا النظام كان ثمرة جهد الحركة الإسلامية وهو كسب لا يمكن التخلي عنه أو الزهد فيه أو التنكر له.
أما القسم الثاني هو الموالي للشيخ الترابي الذي هندس كل شيء في بناء الحركة الإسلامية وقد انتقل إلى صف المعارض، ينتقد التجربة بعنف ويبرئ نفسه منها ويبتعد بقدر ما يستطيع عن أخطاء الإنقاذ.(1)

ويقول الترابي في حديث له لصحيفة الوطن العمانية " كنا نظن أنه يمكن بعد الانقلاب مباشرة أن ننحني ونعود، ولكن غرتنا السلطة وهذا هو سبب الخلاف الذي أدى إلى الانشقاق ".(2)

وهناك بعض التحليلات التي ترى أن الترابي ونتيجة لخبراته الطويلة قد رأى ما آلت تجربة الإنقاذ تتجه إلى الفشل بعد أن تكاثرت عليها العداوات الإقليمية والدولية، فضلاً على التجاوزات الكثيرة التي حدثت في الداخل، خاصة ممارسات النظام كالاعتقالات، والتعذيب، والطرد من الخدمة المدنية، وما حاول القيام به من تغيير شامل في الدفاع الشعبي للقتال في الجنوب. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الترابي أدرك
أن آليات النظام لن تسمح له بالاستمرار، وأن مآله هو السقوط ومن ثم اختار أن ينتقل إلى الصف المعارض.

وعلى أي حال أدى هذا الانشطار داخل النظام إلى حدوث هذا الشرخ الغائر في مصداقية الحركة، مما كان له أثره على جدية الخطاب السياسي وجدارته أخلاقياً وعملياً.
وبناء على ما سبق وبعد أن استقر الأمر لصالح جناح البشير، أصبح نظام الإنقاذ مطالباً بمرجعية بديله ومقنعة وقوية في ظل الظروف التي تحيط بعملية تسوية الأزمة السودانية ومفاوضاتها، وأن يفي بالمتطلبات المفروضة عليه، خاصة وأنه يقع الآن تحت مطرقة التدخل الأمريكي المباشر وسندان الاحتفاظ بمصدر شرعيته المستمده من الخطاب الإسلامي ومقولات المشروع الحضاري.(1)
أيديولوجية الجبهة الإسلامية القومية تجاه مشكلة جنوب السودان:
حاولت عناصر الجبهة الإسلامية القومية جعل الجنوب ساحة للصراع ، فتقييم الترابي للحرب فى الجنوب مدهش للغاية يظهر من قواه فى مجلة"المجلة" عام 1983، "لقد كانت رؤيتنا (الإخوان) لقرنق (جون قرنق زعيم الثورة فى الجنوب) أنقذ من رؤية الآخرين ، إلا أن قرنق أكثر من معارض لنظام نميري ، وأنه مرهون بالمخطط الذى يحدد علاقة أثيوبيا بالسودان ، وإن ثمة تلازما بين قضية أرتريا (قبل الاستقلال عن الحبشة بالطبع) وقضية قرنق والجنوب وبالتالى فان الأثيوبيين لن يدعو قرنق يصل الى حل ولن يقبلوا بالحلول المعقولة... وأنه يهدف لضرب الكيان العرب الإسلامى"(2).
وتفسير الترابي هذا يدل على التعصب وضيق الأفق ، أنه يحول الاختلافات الجنسية ، والاقتصادية ، والثقافية ، واللغوية وغيرها مما يجب البحث عن حلول له الى صراع دينى فقط ، مما يدفع الجانب الآخر (الجنوب) للسير فى طريق التعصب الدينى أيضا.(3)
إلا أنه وبعد انقلاب يونيو 1989 م ، أسست حكومة الانقاذ توجهاتها منذ البداية تجاه الجنوب ، فى ضرورة التمسك بالطرح الفيدرالى ، واعتبرت أن تلك الرؤية هى المخرج الأساسي من أزمة الجنوب ، وكان النظام يستهدف من طرح الفيدرالية ما هو معرف سلفا وهو التمسك بالقوانين الإسلامية التى أصدرها النميرى ، وبالتالى حكمت توجهاته ناحية مشكلة الجنوب رؤية طبيعية استمدت من جذور الحركة الفكرية ، ولعل حكومة الانقاذ أدركت أن تقوم بتأييدها لتطبيق النظام الفيدرالى ، واعتباره اساسا لحل مشكلة جنوب السودان ، يمكن من خلاله أن تكون هناك رؤية جغرافية للبلاد مؤسسة على ذلك الفكر ، وتستطيع من خلال ذلك ، أن تنجو بالتشريعات الاسلامية ، وأن يخرج الجنوب من تطبيق الشريعة ، وأن يكف عن مواجهة النظام واستبعدت فى ذلك طرح الحركة الشعبية لتحرير السودان لحل مشكلة الجنوب ، والذى تمثل فى المطالبة بسودان جديد علمانى.
وانطلاقا من تلك الرؤية ، أصبحت الفيدرالية من أهم الركائز التى ارتكن اليها نظام الانقاذ فى تعامله مع الجنوب ، إلا أن هذا الطرح الفيدرالى الذى يعتبره البعض من أهم انجازات حكومة الانقاذ ، ما هو إلا نوعا من التوجه الحضارى الإسلامى ، والذى رأت أنه يمكن أن يعم على المنطقة بالكامل ، وانبثق من ذلك الفكر الرؤية الجهادية للسودان، وكانت الرؤية الجهادية للسودان هى إحدى الركائز الأساسية فى التوجه نحو الجنوب، والتى رأت حكومة الانقاذ أنه أحد المواقع التى تمثل رؤية جهادية.(1)


الخاتمة

تعد تجربة الثلاثة عشر عاماً المنصرمة في العمل الإسلامي من أوسع التجارب التي يجب أن تحظى بالمراجعات النقدية الواسعة، ويمكن القول أن الأصوات المتأملة بدأت تظهر بالفعل على خجل لتقيم التجربة ونقض الذات. فانطلقت تلك الأصوات ترصد التجربة، وتعيد النظر في مآل ومستقبل الحركة، وأصبح السؤال المحوري الذي يدور حوله الحوار الفكري: أين الخلل في الحركة ولماذا أخذت هذا المسار؟ وما الطريق البديل؟
وعل الرغم من تعدد الاتجاهات الفكرية في نقض وتقييم تلك التجربة، إلا أنه يجب أن تتدبر الحركة مستقبلها ودورها السياسي بعد أن اتضح جلياً لكل ذي بصيرة أنه لا يمكن لنظام عسكري أن يقيم نظاماً إسلامياً.
إلا أنه في النهاية يمكن القول بأن أزمات العمل الإسلامي تظل الفرصة نحو تقويم العمل الإسلامي وتصويبه نحو النهضة الشامة، ولكن استثمار تلك الفرصة مشروط بقراءة للتاريخ قراءة صحيحة وإدراك المشكلات والتحديات بمنهج عقلي وموضوعي.
خاصة لو أدركنا أن ايديولوجية الحركة وتوجهاتها الاسلامية لها تأثير مباشر على دول الجوار السودانى ، يضاف الى ذلك أنه كلما ارتفع المد الاسلامى العربى فى شمال السودان،ارتفع المد الزنوجى والإفريقية فى جنوب السودان ،ويرفض الجنوب سيادة الثقافة العربية الاسلامية. وبالتالى فان توجهات الحركة مستقبلا يجب أن تتسم برؤية معتدلة فى اطار السياسة الداخلية ، والإقليمية ، والدولية.
#5809
موضوع هام جدا ،، ولابد أن نضيف هنا ظاهرة هامة تتسم بها الحياة السياسية السودانية عبر تاريخها ألا وهي ارتباط أمهات هذه الأحزاب (كحزب الأمة مثلا) بالطرق الصوفية ،،، شكرا نهاد على الطرح ،، تحياااااااااتي
صورة العضو الرمزية
By نهاد
#5810

كان لنمو الحركة الوطنية فى مصر أثر واضح فى تكوين الوعى السياسى لدى المثقفين والمتعلمين السودانيين وكان لهذا الدور الأثر البالغ فى إنطلاقة الحركة الوطنية السياسية فقد بدأت الكوادر السياسية فى تركيز جهودها فيما يعرف بنادى الخرجين 1924 والذى حدد أفكارة فى المناداة بمبدأ وحدة وادى النيل إلا أنه بدأت تحدث الإنقسامات والإختلافات داخل صفوف هذا النادى والتى إعتمدت كلية على الطائفية وبدأت تتشكل الأحزاب السياسية من رحم الطائفية مستندة إلى النفوذ الذى تتمتع به خاصة كل من طائفتى الأنصار والختمية مما أفرز هذا الوضع أحزاب إستقلالية _تنادى بضرورة الإنفصال بين كل من مصر والسودان- وأحزاب إتحادية تنادى بمبدأ وحدة وادى النيل .

على أى حال ظهرت أيضا أحزاب عقائدية كالحزب الشيوعى السودانى و أحزاب وجماعات إسلامية -والتى هى محل دراستنا السابقة- وتشكلت الحياة السياسية فى السودان وفقا لسيناريو " تجمع السيدين"حزب الأمة الموالى لطائفة الأنصار و حزب الإتحادى الديمقراطى الموالى لطائفة الختمية إلى أن بدأت تتغلل الحركة الإسلامية بداية من مسمى الإخوان المسلمين ثم جبهة الميثاق الإسلامى ثم الجبهة القومية الإسلامية على النحو المشار إلية سلفا فى الحياة السياسية وكان لها دور بالغ الأهمية فى فترة تولى جعفر نميرى الحكم وكانت سببا غير مباشر فى إنهاء تجربة الحكم الذاتى فى الجنوب والتى يمكن أن نقول أنها تجربة عاشت فى ظلها السودان حالة من السلام النسبى فى تلك الفترة تم إعلان قوانين الشريعة الإسلامية فى 1983 وتم تطبيقها فى الجنوب ومن المهم أن نشير إلى الخصوصية التى يتمتع بها الجنوب من إعتناق معظم قاطنية للعقيدة المسيحية كذلك كان لها دور بالغ فى إحداث حالة من الإضطراب أفضت إلى إنهاء مرحلة الديمقراطية الثالثة فى السودان والتى إمتازت بأنها أفضل المراحل تطبيقا للمبدأ الديمقراطى إلى أن تولت حكومة الإنقاذ الحكم فى 1989 كما أشرنا سابقا.