- الثلاثاء ديسمبر 18, 2012 1:47 pm
#58101
كيف يضمن النظام السوري اندحاره؟
في سعيه المحموم للبقاء مهما كلفه الأمر، يبدو أن نظام بشار الأسد - بدلا من ذلك – قد عقد العزم على حفر قبره بنفسه. ولم يكن هذا الطريق محتوما، فرغم أن حركة المظاهرات قوية وتزداد قوة، فإنها لم تصل بعد إلى الكتلة الحرجة التي تضع الأمر على طريق اللاعودة. ولا يزال الخوف يساور كثيرا من السوريين حيال إمكانية الانزلاق إلى الفوضى وتفكك البلاد، ومع ذلك يتصرف النظام كما لو أنه ألدّ أعداء نفسه، حيث يعزل نفسه عن أعمدة الدعم المحورية له: قاعدته الاجتماعية بين الفقراء، والغالبية السورية الصامتة، بل وربما قواته الأمنية أيضا. من جانبها تزعم السلطات السورية أنها تحارب عصابات إجرامية وحركة تمرد إسلامية ومؤامرة عالمية، وهي ادعاءات تحمل بعض الحقيقة، ذلك أن العصابات الإجرامية مستشرية بالفعل في البلاد، وتضم الثورة تيارات إسلامية، إلا أن هذه العناصر ليست نتاجا لأعداء النظام، وإنما هي وليدة عقود من سوء الإدارة الاجتماعية - الاقتصادية. والملاحظ أن غالبية الصدامات وقعت في مناطق حدودية، حيث ازدهرت شبكات الاتجار على علم وتواطؤ من قوات الأمن الفاسدة. في تلك الأثناء يعكس صعود الأصولية الدينية إهمال الدولة التدريجي لمسؤولياتها في مناطق كانت من قبل معاقل للحزب البعثي.
على امتداد الجزء الأكبر من الأحداث الأخيرة تورط النظام في حرب ضد الشريحة الاجتماعية المؤيدة له. جدير بالذكر أنه عندما تولى حافظ الأسد، والد بشار، السلطة طرح حزبه، الذي تهيمن عليه الطائفة العلوية، باعتباره ممثلا عن الريف المهمل وفلاحيه والطبقة الفقيرة المطحونة. واليوم نسيت النخبة الحاكمة جذورها، وقد ورثوا السلطة ولم يحاربوا من أجلها، ونشأوا داخل دمشق ليحاكوا أسلوب حياة الطبقة الحصرية الراقية التي اختلطوا بها، وقادوا عملية تحرير للاقتصاد على حساب الأقاليم.
الملاحظ أن بعض المتظاهرين يبدون سلوكا طائفيا عنيفا أقرب للسلوك البلطجية، إلا أنه عند النظر إلى بلطجية القوات الأمنية العلوية والعنف الذي تمارسه - في صورة اعتقالات واسعة وتعذيب وعقاب جماعي منذ اندلاع الثورة مطلع هذا الربيع - نجد أن رد الفعل الشعبي أبدى درجة مذهلة من ضبط النفس. ويسلط متظاهرون شباب الضوء على هذا الأمر عبر تداول صور لهم وهم يقفون مثل الإرهابيين المسلحين حاملين باذنجانا وقاذفات صواريخ مقلدة تطلق خيارا.
ويأمل النظام في الاعتماد على «الغالبية الصامتة»، وهم الأقليات، خصوصا العلويين والمسيحيين الذين يساورهم القلق إزاء إمكانية سيطرة الإسلاميين على السلطة، والطبقة الوسطى (المؤلفة من موظفي الدولة)، وطبقة رجال الأعمال التي تنبع ثرواتها من قربها من النظام. ولن تستفيد أي من هذه الفئات حال صعود طبقة فقيرة من الأقاليم، ويرون في العراق ولبنان ثمن الحرب الأهلية في مجتمع مقسم طائفيا، إلا أنه كلما طال أمد الاضطرابات تضاءلت صورة النظام كممثل للاستقرار، خصوصا وأن ادعاءه بأنه الضامن لهذا الاستقرار تدحضها أفعاله يوميا، وهي مزيج محير من الوعود بالإصلاح والمناشدة للحوار والقمع المتطرف المجنون. ومع استشراء القلاقل يتداعى الاقتصاد، مما يثير سخط طبقة رجال الأعمال.
ويعتقد كثير من المراقبين أن الأصل الجوهري الذي يتمتع به النظام هو أجهزته الأمنية، وليس الجيش، الذي لا يوليه النظام ثقته، ويعاني منذ أمد بعيد من تراجع الروح المعنوية في صفوفه. وتنصبّ ثقة النظام على وحدات بعينها مثل الحرس الجمهوري وفصائل من الشرطة السرية تعرف باسم المخابرات. وتتألف هذه الوحدات في معظمها من علويين. ويبدو أن النظام يؤمن بهذا الأمر أيضا، ويعتمد بالفعل على هذه الفئات لاحتواء الأزمة الراهنة، بيد أن هذا الأمر قد يأتي بنتائج عكسية، ذلك أن العنف فشل في وقف الطوفان المتصاعد من المظاهرات، وحتى بالنسبة لمن يرتكبون العنف لا يبدو أنه يخدم هدفا دفاعيا أو يترك تأثيرا ملموسا. إن شن الحملات القاسية ضد الجماعات الإسلامية المسلحة هي مهمة ربما بمقدور قوات الأمن تنفيذها إلى الأبد، لكن مطالبتهم بالتعامل مع إخوانهم المواطنين كأعداء أجانب أمر مختلف تماما وتبريره أصعب بكثير.
ولا يزال نظام الأسد يعول على غريزة البقاء الطائفية، مبديا ثقته في أن القوات العلوية - رغم ما يتعرضون له من أعباء كبيرة وما يتلقونه من رواتب ضئيلة - ستقاتل حتى النهاية المريرة. لكن الغالبية ستجابه صعوبة في تحقيق ذلك، فبعد ما يكفي من العنف الأخرق ربما تدفع هذه الغرائز القوات لاتجاه معاكس لما يأمله النظام. وبعد معاناتهم قرونا من التمييز والاضطهاد على أيدي الغالبية السنية، ينظر العلويون إلى قراهم الواقعة داخل مناطق قبلية يتعذر الوصول إليها نسبيا باعتبارها الملاذ الوحيد الحقيقي لهم. وتلك هي المناطق التي أرسل الضباط السوريون أسرهم إليها بالفعل. ومن غير المحتمل أن يرى هؤلاء أنهم في أمان داخل العاصمة (التي يشعرون فيها بأنهم ضيوف مؤقتون)، حيث تحميهم قوات نظام الأسد (الذي يعتبره شذوذا عن القاعدة التاريخية) أو مؤسسات الدول (التي لا يثقون بها). وعندما يشعرون أن النهاية اقتربت لن يحارب العلويون حتى آخر رجل فيهم داخل العاصمة، وإنما سيفضلون التوجه إلى مسقط رأسهم. إلا أن النظام لا يزال يحظى بتأييد المواطنين المذعورين من مستقبل يكتنفه الغموض وقوات الأمن التي تخشى من انهيار النظام، وإن ظلت هناك مخاطرة أن يؤيد ذلك لإقناع القيادة المعتدة بنفسها أنه يكفي للخروج من الأزمة الراهنة إقرار مزيد من الإصلاحات المتذبذبة وشن مزيد من الجهود لكسر حركة المظاهرات بلا هوادة. في الواقع، هذا لن يسفر سوى تقريب المسافة من نقطة الانهيار الأخير.
وحتى في هذه اللحظة من الصعب تقييم ما إذا كانت غالبية واضحة من السوريين تأمل في الإطاحة بالنظام، لكن الواضح أن غالبية داخل النظام تعمل بمرور الوقت على الإسراع من اندحاره.
في سعيه المحموم للبقاء مهما كلفه الأمر، يبدو أن نظام بشار الأسد - بدلا من ذلك – قد عقد العزم على حفر قبره بنفسه. ولم يكن هذا الطريق محتوما، فرغم أن حركة المظاهرات قوية وتزداد قوة، فإنها لم تصل بعد إلى الكتلة الحرجة التي تضع الأمر على طريق اللاعودة. ولا يزال الخوف يساور كثيرا من السوريين حيال إمكانية الانزلاق إلى الفوضى وتفكك البلاد، ومع ذلك يتصرف النظام كما لو أنه ألدّ أعداء نفسه، حيث يعزل نفسه عن أعمدة الدعم المحورية له: قاعدته الاجتماعية بين الفقراء، والغالبية السورية الصامتة، بل وربما قواته الأمنية أيضا. من جانبها تزعم السلطات السورية أنها تحارب عصابات إجرامية وحركة تمرد إسلامية ومؤامرة عالمية، وهي ادعاءات تحمل بعض الحقيقة، ذلك أن العصابات الإجرامية مستشرية بالفعل في البلاد، وتضم الثورة تيارات إسلامية، إلا أن هذه العناصر ليست نتاجا لأعداء النظام، وإنما هي وليدة عقود من سوء الإدارة الاجتماعية - الاقتصادية. والملاحظ أن غالبية الصدامات وقعت في مناطق حدودية، حيث ازدهرت شبكات الاتجار على علم وتواطؤ من قوات الأمن الفاسدة. في تلك الأثناء يعكس صعود الأصولية الدينية إهمال الدولة التدريجي لمسؤولياتها في مناطق كانت من قبل معاقل للحزب البعثي.
على امتداد الجزء الأكبر من الأحداث الأخيرة تورط النظام في حرب ضد الشريحة الاجتماعية المؤيدة له. جدير بالذكر أنه عندما تولى حافظ الأسد، والد بشار، السلطة طرح حزبه، الذي تهيمن عليه الطائفة العلوية، باعتباره ممثلا عن الريف المهمل وفلاحيه والطبقة الفقيرة المطحونة. واليوم نسيت النخبة الحاكمة جذورها، وقد ورثوا السلطة ولم يحاربوا من أجلها، ونشأوا داخل دمشق ليحاكوا أسلوب حياة الطبقة الحصرية الراقية التي اختلطوا بها، وقادوا عملية تحرير للاقتصاد على حساب الأقاليم.
الملاحظ أن بعض المتظاهرين يبدون سلوكا طائفيا عنيفا أقرب للسلوك البلطجية، إلا أنه عند النظر إلى بلطجية القوات الأمنية العلوية والعنف الذي تمارسه - في صورة اعتقالات واسعة وتعذيب وعقاب جماعي منذ اندلاع الثورة مطلع هذا الربيع - نجد أن رد الفعل الشعبي أبدى درجة مذهلة من ضبط النفس. ويسلط متظاهرون شباب الضوء على هذا الأمر عبر تداول صور لهم وهم يقفون مثل الإرهابيين المسلحين حاملين باذنجانا وقاذفات صواريخ مقلدة تطلق خيارا.
ويأمل النظام في الاعتماد على «الغالبية الصامتة»، وهم الأقليات، خصوصا العلويين والمسيحيين الذين يساورهم القلق إزاء إمكانية سيطرة الإسلاميين على السلطة، والطبقة الوسطى (المؤلفة من موظفي الدولة)، وطبقة رجال الأعمال التي تنبع ثرواتها من قربها من النظام. ولن تستفيد أي من هذه الفئات حال صعود طبقة فقيرة من الأقاليم، ويرون في العراق ولبنان ثمن الحرب الأهلية في مجتمع مقسم طائفيا، إلا أنه كلما طال أمد الاضطرابات تضاءلت صورة النظام كممثل للاستقرار، خصوصا وأن ادعاءه بأنه الضامن لهذا الاستقرار تدحضها أفعاله يوميا، وهي مزيج محير من الوعود بالإصلاح والمناشدة للحوار والقمع المتطرف المجنون. ومع استشراء القلاقل يتداعى الاقتصاد، مما يثير سخط طبقة رجال الأعمال.
ويعتقد كثير من المراقبين أن الأصل الجوهري الذي يتمتع به النظام هو أجهزته الأمنية، وليس الجيش، الذي لا يوليه النظام ثقته، ويعاني منذ أمد بعيد من تراجع الروح المعنوية في صفوفه. وتنصبّ ثقة النظام على وحدات بعينها مثل الحرس الجمهوري وفصائل من الشرطة السرية تعرف باسم المخابرات. وتتألف هذه الوحدات في معظمها من علويين. ويبدو أن النظام يؤمن بهذا الأمر أيضا، ويعتمد بالفعل على هذه الفئات لاحتواء الأزمة الراهنة، بيد أن هذا الأمر قد يأتي بنتائج عكسية، ذلك أن العنف فشل في وقف الطوفان المتصاعد من المظاهرات، وحتى بالنسبة لمن يرتكبون العنف لا يبدو أنه يخدم هدفا دفاعيا أو يترك تأثيرا ملموسا. إن شن الحملات القاسية ضد الجماعات الإسلامية المسلحة هي مهمة ربما بمقدور قوات الأمن تنفيذها إلى الأبد، لكن مطالبتهم بالتعامل مع إخوانهم المواطنين كأعداء أجانب أمر مختلف تماما وتبريره أصعب بكثير.
ولا يزال نظام الأسد يعول على غريزة البقاء الطائفية، مبديا ثقته في أن القوات العلوية - رغم ما يتعرضون له من أعباء كبيرة وما يتلقونه من رواتب ضئيلة - ستقاتل حتى النهاية المريرة. لكن الغالبية ستجابه صعوبة في تحقيق ذلك، فبعد ما يكفي من العنف الأخرق ربما تدفع هذه الغرائز القوات لاتجاه معاكس لما يأمله النظام. وبعد معاناتهم قرونا من التمييز والاضطهاد على أيدي الغالبية السنية، ينظر العلويون إلى قراهم الواقعة داخل مناطق قبلية يتعذر الوصول إليها نسبيا باعتبارها الملاذ الوحيد الحقيقي لهم. وتلك هي المناطق التي أرسل الضباط السوريون أسرهم إليها بالفعل. ومن غير المحتمل أن يرى هؤلاء أنهم في أمان داخل العاصمة (التي يشعرون فيها بأنهم ضيوف مؤقتون)، حيث تحميهم قوات نظام الأسد (الذي يعتبره شذوذا عن القاعدة التاريخية) أو مؤسسات الدول (التي لا يثقون بها). وعندما يشعرون أن النهاية اقتربت لن يحارب العلويون حتى آخر رجل فيهم داخل العاصمة، وإنما سيفضلون التوجه إلى مسقط رأسهم. إلا أن النظام لا يزال يحظى بتأييد المواطنين المذعورين من مستقبل يكتنفه الغموض وقوات الأمن التي تخشى من انهيار النظام، وإن ظلت هناك مخاطرة أن يؤيد ذلك لإقناع القيادة المعتدة بنفسها أنه يكفي للخروج من الأزمة الراهنة إقرار مزيد من الإصلاحات المتذبذبة وشن مزيد من الجهود لكسر حركة المظاهرات بلا هوادة. في الواقع، هذا لن يسفر سوى تقريب المسافة من نقطة الانهيار الأخير.
وحتى في هذه اللحظة من الصعب تقييم ما إذا كانت غالبية واضحة من السوريين تأمل في الإطاحة بالنظام، لكن الواضح أن غالبية داخل النظام تعمل بمرور الوقت على الإسراع من اندحاره.