- السبت إبريل 13, 2013 11:06 pm
#60494
تزول الأمم عن مسرح التاريخ، حين يبلغ الانقسام فيها عتبة السجال التقليدي حول "الدين التاريخي" للأمة ويصبح المكان الديني ميداناً للقتال. إنها تبدأ بالتآكل في اللحظة التي ينقسم فيها المتدّينون إلى فريقين متقاتلين، وتتزايد حاجاتهما مع الوقت إلى توسيع معسكريهما لغير المتدّينين أيضاً، وبحيث ينغمس المجتمع بأسره، وبأشكال مختلفة في صراعات عنيفة ومرّوعة.
وكما في التاريخ القديم، فقد تفككّت مجتمعات بأكملها، حين بلغ الصراع عتبة المعبد الديني، ووقعت جرائم قتل مروعة داخله. ولذلك نفرت المجتمعات القديمة من كل صراع يجري على مقربة من المعبد، وقامت بتحريم القتال في محيطه. ولعل تعبير "الحرم" الذي أُطلق في الجاهلية على محيط الكعبة، يتضمن هذا المعنى المنسيّ.
"
في الصراعات التي يمكن أن يصبح فيها الدين موضوعاً صراعيًا، غالباً ما لجأت المجتمعات القديمة إلى تحييد المعبد، والتوافق على حمايته
"
كما أن العرب في الجاهلية أسسّوا ما يمكن تسميته بـ"الزمن الديني المقدّس" حين قاموا بتحريم بعض الشهور "الشهور الحرم" ومنعوا فيها القتال الداخلي، أي أنهم أخرجوا بضعة شهور في السنة من الزمن الواقعي، وأعادوا إدراجها في زمن ديني جديد، لحماية المعبد، وضمان استمرار الطقوس الدينية.
وفي الصراعات التي يمكن أن يصبح فيها الدين موضوعاً صراعيًا، غالباً ما لجأت المجتمعات القديمة إلى تحييد المعبد والتوافق على حمايته. وفي الموروث العربي والإنساني القديم والمعاصر، ليس ثمة منظر أبشع من منظر جريمة قتل داخل مكان ديني مقدّس "محرّم".
وفي الأيام الأولى للاحتلال الأميركي للعراق 2003، حدثت واقعة قتل مروعة داخل ضريح الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف، راح ضحيتها نجل المرجع الشيعي الأعلى السابق "الخوئي" وذلك عندما قام شبان شيعة بذبح نجل المرجع داخل الضريح، فاهتز وجدان كل العراقيين للحادث.
ولذلك، فليس من غير معنى أن سائر المسلمين الذين باتوا يشهدون عمليات الاعتداء على المساجد وهي تتكرر في بغداد ودمشق وسواهما من العواصم العربية المنكوبة، استعادوا تلقائياً مع وقوع جريمة التفجير الإرهابي لجامع الإيمان في دمشق -ونجم عنها استشهاد الشيخ الجليل محمد سعيد رمضان البوطي مع ما يزيد عن40 من المصلين- وقائع مماثلة جرت في الماضي البعيد، كان فيها المكان الديني مسرحاً للجريمة. ولعل الواقعتين التاريخيتين المروعتين في تاريخ الإسلام "حين ارتكب رجلان مسلمان جريمتي قتل داخل مسجدين في مكة والكوفة، وسقط إثرهما اثنان من الخلفاء الراشدين العظام مضرجين بدمائهما: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب" هما من بين أكثر الوقائع التي ارتبطت بتفكك الإسلام.
لقد كانت الجريمة الأولى في مسجد المدينة المنورة، تمهيداً لجريمة ثانية في مسجد الكوفة، وكانتا بداية تفكك مجتمع الإسلام القديم. وفي التاريخ المعاصر، ظلت ذكريات حروب الفرنجة تقضّ مضاجع أوروبا المسيحية، بسبب جرائم قتل كثيرة وقعت داخل كنائس الشرق.
لقد صورّت مسرحية "مقتل في الكاتدرائية" لصاموئيل بيكت، هذا الجانب من إشكالية الصراع الذي يدور داخل المكان الديني. ومع أن المسرحية لا تصور وقوع جريمة قتل حقيقية لكاردينال مسنّ، بمقدار ما كانت تتخيّلها، إلا أنها أصابت جمهور المؤمنين من المسيحيين في أوروبا بالذهول، وارتعدت فرائص كثيرين من مجرد تخيل مشهد تتحول فيه الكنيسة -كمكان ديني- إلى مسرح لصراع عنيف بين المسيحيين.
كانت مسيحيّة أوروبا تستعيد مع مسرحية بيكت، ذكرياتها الحزينة عن مذابح القسطنطينية خلال حروب الفرنجة، حين حطم مسيحيون تماثيل المسيح وأمه. الفارق النوعي بين جريمة مسجد الإيمان وجريمة كاتدرائية صموئيل بيكت أن إحداهما -فقط- وقعت بالفعل، وأصابت جمهور المسلمين بالذهول.
العرب يشعرون بالذهول من "إسلام" يقتحم المسجد ويفجره. هذه هي خلاصة النتائج التي أسفرت عنها جريمة تفجير جامع الإيمان بدمشق.
لم تعد الجريمة موجهة للتخلص من شخص بعينه في المسجد، سواء أكان خليفة أم رئيساً أم زعيماً سياسياً، بل بات المسجد نفسه بمن فيه هو الهدف. ولهذا السبب يغدو السؤال المركزي حتى في الأوساط الشعبية المتدينة مطروحاً بقوة: أي دين هذا؟ هل هذا ديننا؟ ومثل هذا السؤال هو الذي يدفعنا إلى التحذير من تحول الصراع الدائر حول الإسلام إلى مصدر من مصادر تفكك المجتمع العربي.
لقد زالت -من قبل- شعوب وقبائل وجماعات قديمة وثنية وموحّدة على حدّ سواء، حين تجاوز الصراع عتبة هذا التساؤل، وحين تنامى الشعور بين الأفراد العاديين بأنهم يوشكون على الصدام مع دينهم التاريخي.
إن الآية الكريمة في القرآن "تلك أمةٌ قد خلت" تشير إلى ذلك صراحة، فقد سجلت لنا واقعة زوال أمم وشعوب وقبائل عربية قديمة اصطدمت بأديانها التاريخية، وهو مصير أعاد القرآن تذكير العرب به "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" -سورة الحج-
فهل يوشك العرب على الصدام مع مسجدهم؟
مع كل حادث مفجع من هذا النوع -تتسبب به بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة "قتل، تفجيرات، فتاوى تكفير إلخ"- تثور التساؤلات المرّة من جديد، حول إسلام آخر يجوب طرقات العالم العربي بأقدام ثقيلة، ناشراً الذعر والخوف، وربما روح المجابهة. إن ما يميّز الحالة الأصولية الإسلامية عن سائر الأصوليات الدينية المسيحية واليهودية وسواها، يكمن في الفارق الجوهري التالي: أن الأصوليات الأخرى خارج العالم الإسلامي، لا تقدّم نفسها ديناً موازياً أو بديلاً للدين الرسمي، وتكتفي بعرض قراءة مختلفة للنص المقدّس مفارقة ومغايرة للقراءة الرسمية، بينما الأصولية الإسلامية تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حين تؤسس لتعارض فقهي مع الدين الرسمي غير قابل للتسوية.
"
زالت شعوب وقبائل وجماعات قديمة وثنية وموحدة على حد سواء، حين تنامى الشعور بين الأفراد العاديين بأنهم يوشكون على الصدام مع دينهم التاريخي
"
برأيي، ليس ما يجري مجرد سجال ساخن يتعلق بمشكلة "تأويل الإسلام" وتنوع الاجتهادات في قراءة النصوص، ولا يتعلق -بكل تأكيد- بظاهرة الإسلام السياسي، فتاريخ المسلمين يعرف الظاهرة نفسها منذ العصرين الأموي والعباسي. ألم يكن هناك إسلام سياسي من قبل؟ ما يجري اليوم أمر مختلف تماماً.
إن جزءا حيوياً من السجال يمس لبّ المسألة المطروحة: ثمة إسلام آخر، موازٍ يعيش إلى جوار "الدين التاريخي"، وله مجتمعه الخاص وأتباعه وشيوخه وجمهوره ونصوصه "المقدّسة"، ويقدّم نفسه على أنه هو الإسلام الحقيقي، وأن إسلام الأمة القديم والمتوارث بتقاليده وتأويلاته وتفسيراته وأبطاله هو إسلام محرّف؟ وهذا الإسلام الموازي الذي يعيش العرب في ظلاله هو مصدر الإشكالية، وليس وجود جماعات الإسلام السياسي.
وكما تبيّن الوقائع، فقد تخطىّ الإسلام الموازي مسألة "الإسلام السياسي". إن الذين يعتقدون أن المعضلة تكمن في هذا الجانب الضيّق فقط، يحجبون الحقيقة عن أنظار المجتمع بأسره، ويساهمون في صياغة وعي سطحي لواحدة من أخطر المشكلات التي تواجه العرب. فهل يتعيّن علينا الاعتراف بأن الحقيقة ممزقة، وأن العرب يعيشون في قلب عالم عربي منقسم حول الإسلام؟ وأنهم يندفعون أكثر فأكثر نحو مزيد من الانقسام، وحول موضوعات لا نهاية لها سوف يثيرها الإسلام الموازي باستمرار؟
ما يتوجب الاعتراف به قد يكون أبعد من هذه الحدود. إن العرب ينقسمون حول دينهم التاريخي. وتناقضاتهم في الرؤى والتصورات باتت تطال كل المفاهيم. لقد أصبح الإسلام نفسه موضوعاً صراعياً وخلافياً في المجتمع. ولذلك، فليس صحيحا ما يقال بأن جوهر الصراع يدور حول الإسلام السياسي وإشكالياته، وأن الخلافات والتناقضات تدور في نطاق الدور الذي يلعبه في حياة العرب.
والأدق أنه يدور حول الإسلام نفسه ومفاهيمه، فما يبدو "صحوة إسلامية" عند كثيرين، يتبدى كنوع من "صدمة إسلامية" عند آخرين. وقد يتعيّن علينا أن نتحلى بشجاعة أكثر لنقول صراحة إن العرب يعيشون بالفعل "لحظة الذهول من الإسلام" وإن الصدمة قد تؤدي إلى "الصدام" مع الإسلام لا مع تأويلاته وحسب؟ وإن المجتمع قد يتجه نحو التشكيك، بأكثر ممّا يتجه نحو الإيمان؟
ولعل أخطر ما تمكن رؤيته في هذا التنازع حول الإسلام، أن المجتمع العربي لن ينقسم بين إسلاميين وعلمانيين، وإنما أيضاَ بين إسلاميين جدد وإسلاميين قدامى. والنتائج التي سوف يسفر عنها مثل هذا التناقض، تمكن رؤيتها مع تحلل شرائح اجتماعية بأكملها، قد تتجه نحو التشكيك واللاتدين، أو البحث عن "دين أكثر رأفة" بدلاً من التمسك بالإسلام؟ فماذا تبقى من شعار "الإسلام هو الحل" إذا كان احتمال الصدام مع الإسلام نفسه بات احتمالاً واقعياً في مجتمع تتعاظم فيه الشروخ والتناقضات؟ وكيف تحولت الصحوة إلى كابوس؟
ليس الإسلام السياسي الراهن سوى تعبير أولي عن مشكلة عميقة سوف تستمر لوقت طويل، وينقسم فيها مجتمع المسلمين إلى جماعتين متصادمتين، إحداهما تريد إحلال "دينها الموازي" وأخرى تدافع عن دينها التاريخي. وقد لا تنتهي هذه المرحلة الطويلة إلا بصدام واسع النطاق.
في التحليل الأنثروبولوجي للظاهرات الدينية -في مختلف المجتمعات القديمة- تمكن ملاحظة الكيفية التي ينقلب فيها المقدّس إلى مدّنس أو العكس. إن أديان وأساطير العرب ومروياتهم وطقوسهم وشعائرهم الدينية التي سادت في عصور الوثنية الطويلة تقدّم لنا تصوراً دقيقياً عن هذا التزاحم بين الصور المقدّسة والمدّنسة، حيث يتحول المعبد المقدس إلى مكان مدنس. ومن قلب هذا التزاحم يولد الصدام بين المجتمع ودينه التاريخي.
فهل نحن في قلب صحوة إسلامية أم في قلب "صدمة الإسلام"؟
تولد الصحوة من رحم الصدمة. وليس ثمة صحوة من دون صدمة يفيق منها المرء مذهولاً وحائراً. لكن الصحوة ذاتها يمكن أن تصبح نوعاً من صدمة جديدة مروعة؟ وهذه الكلمة تتضمن من المنظور الدلالي المباشر معنى الاستيقاظ من "نوم عميق".
"
لعل أخطر ما تمكن رؤيته في شأن التنازع حول الإسلام، أن المجتمع العربي لن ينقسم بين إسلاميين وعلمانيين، وإنما أيضاَ بين إسلاميين جدد وإسلاميين قدامى
"
لكن التعبير السائد في ثقافتنا المعاصرة، وفي الأدبيات السياسية والإعلامية يشير إلى دلالة سياسية مختلفة، فهي صحوة جماعات إسلامية أو متأسلمة، تبدو لنا كما لو أنها كانت راقدة "نائمة" ثم استيقظت فجأة، لتجد فرصتها التاريخية السانحة للظهور بقوة في المسرح السياسي.
مثل هذا التصور -وهو شائع في ما يكتب اليوم- لا يبدو كافياً لتفسير وتحليل جوهر المشكلة. ولذلك يبدو تعبير "الصحوة الإسلامية" تعبيراً ملتبساً، فهي صحوة أكثر شبهاً بالصدمة، أو هي الصدمة بالفعل.
وهناك أغلبية في المجتمع العربي اليوم، تشعر بالصدمة والذهول من "إسلام" آخر، تقدّمه أقلية قوامها رجال دين ومشايخ وفقهاء ومثقفين، وتزعم أنه هو الإسلام الحقيقي. وليس أدل على هذا من تنامي شعور جماعي في المجتمع، بأنه يستيقظ على وقع أقدام "إسلام" غريب، يقتحم عليه حياته ويثير فيه الذعر، جراء قيمه ورؤاه وتصوراته وحلوله الغريبة.
قبل سنوات ترددت كلمتا الصدمة والصحوة من دون أن تثيرا انتباه أحد.
كان الاسم الذي أطلق على عملية غزو العراق في ربيع 2003 ملفتاً للانتباه Shock and Awe "" "الصدمة والذهول". لقد عرّف الاحتلال نفسه منذ البداية بأنه "الصدمة". وكان لافتاً أكثر، أن الأميركيين سارعوا بعد أشهر إلى طرح ما يعرف ببرنامج "الصحوة" وهو برنامج تمّت تغطيته بسحب كثيفة من التضليل الإعلامي والفكري، وذلك حين طرح كبرنامج "لتسليح العشائر" في مواجهة إرهاب القاعدة، وأدّى إلى تجنيد آلاف الشبان كمرتزقة محليين، يعملون كتفاً لكتف مع قوات الاحتلال في مختلف المهام. لقد كانوا في نظره "تجسيداً للصحوة".
كانت هناك صدمة لم نستفق منها بعد. أما "الصحوة الإسلامية" الراهنة فهي استكمال للصدمة نفسها بأدوات أخرى.
وفي ختام مسرحية "مقتل في الكاتدرائية" كتب صموئيل بيكيت عبارته اليائسة التالية: لم يتبق لنا نحن المساكين سوى الفرجة.
وكما في التاريخ القديم، فقد تفككّت مجتمعات بأكملها، حين بلغ الصراع عتبة المعبد الديني، ووقعت جرائم قتل مروعة داخله. ولذلك نفرت المجتمعات القديمة من كل صراع يجري على مقربة من المعبد، وقامت بتحريم القتال في محيطه. ولعل تعبير "الحرم" الذي أُطلق في الجاهلية على محيط الكعبة، يتضمن هذا المعنى المنسيّ.
"
في الصراعات التي يمكن أن يصبح فيها الدين موضوعاً صراعيًا، غالباً ما لجأت المجتمعات القديمة إلى تحييد المعبد، والتوافق على حمايته
"
كما أن العرب في الجاهلية أسسّوا ما يمكن تسميته بـ"الزمن الديني المقدّس" حين قاموا بتحريم بعض الشهور "الشهور الحرم" ومنعوا فيها القتال الداخلي، أي أنهم أخرجوا بضعة شهور في السنة من الزمن الواقعي، وأعادوا إدراجها في زمن ديني جديد، لحماية المعبد، وضمان استمرار الطقوس الدينية.
وفي الصراعات التي يمكن أن يصبح فيها الدين موضوعاً صراعيًا، غالباً ما لجأت المجتمعات القديمة إلى تحييد المعبد والتوافق على حمايته. وفي الموروث العربي والإنساني القديم والمعاصر، ليس ثمة منظر أبشع من منظر جريمة قتل داخل مكان ديني مقدّس "محرّم".
وفي الأيام الأولى للاحتلال الأميركي للعراق 2003، حدثت واقعة قتل مروعة داخل ضريح الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف، راح ضحيتها نجل المرجع الشيعي الأعلى السابق "الخوئي" وذلك عندما قام شبان شيعة بذبح نجل المرجع داخل الضريح، فاهتز وجدان كل العراقيين للحادث.
ولذلك، فليس من غير معنى أن سائر المسلمين الذين باتوا يشهدون عمليات الاعتداء على المساجد وهي تتكرر في بغداد ودمشق وسواهما من العواصم العربية المنكوبة، استعادوا تلقائياً مع وقوع جريمة التفجير الإرهابي لجامع الإيمان في دمشق -ونجم عنها استشهاد الشيخ الجليل محمد سعيد رمضان البوطي مع ما يزيد عن40 من المصلين- وقائع مماثلة جرت في الماضي البعيد، كان فيها المكان الديني مسرحاً للجريمة. ولعل الواقعتين التاريخيتين المروعتين في تاريخ الإسلام "حين ارتكب رجلان مسلمان جريمتي قتل داخل مسجدين في مكة والكوفة، وسقط إثرهما اثنان من الخلفاء الراشدين العظام مضرجين بدمائهما: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب" هما من بين أكثر الوقائع التي ارتبطت بتفكك الإسلام.
لقد كانت الجريمة الأولى في مسجد المدينة المنورة، تمهيداً لجريمة ثانية في مسجد الكوفة، وكانتا بداية تفكك مجتمع الإسلام القديم. وفي التاريخ المعاصر، ظلت ذكريات حروب الفرنجة تقضّ مضاجع أوروبا المسيحية، بسبب جرائم قتل كثيرة وقعت داخل كنائس الشرق.
لقد صورّت مسرحية "مقتل في الكاتدرائية" لصاموئيل بيكت، هذا الجانب من إشكالية الصراع الذي يدور داخل المكان الديني. ومع أن المسرحية لا تصور وقوع جريمة قتل حقيقية لكاردينال مسنّ، بمقدار ما كانت تتخيّلها، إلا أنها أصابت جمهور المؤمنين من المسيحيين في أوروبا بالذهول، وارتعدت فرائص كثيرين من مجرد تخيل مشهد تتحول فيه الكنيسة -كمكان ديني- إلى مسرح لصراع عنيف بين المسيحيين.
كانت مسيحيّة أوروبا تستعيد مع مسرحية بيكت، ذكرياتها الحزينة عن مذابح القسطنطينية خلال حروب الفرنجة، حين حطم مسيحيون تماثيل المسيح وأمه. الفارق النوعي بين جريمة مسجد الإيمان وجريمة كاتدرائية صموئيل بيكت أن إحداهما -فقط- وقعت بالفعل، وأصابت جمهور المسلمين بالذهول.
العرب يشعرون بالذهول من "إسلام" يقتحم المسجد ويفجره. هذه هي خلاصة النتائج التي أسفرت عنها جريمة تفجير جامع الإيمان بدمشق.
لم تعد الجريمة موجهة للتخلص من شخص بعينه في المسجد، سواء أكان خليفة أم رئيساً أم زعيماً سياسياً، بل بات المسجد نفسه بمن فيه هو الهدف. ولهذا السبب يغدو السؤال المركزي حتى في الأوساط الشعبية المتدينة مطروحاً بقوة: أي دين هذا؟ هل هذا ديننا؟ ومثل هذا السؤال هو الذي يدفعنا إلى التحذير من تحول الصراع الدائر حول الإسلام إلى مصدر من مصادر تفكك المجتمع العربي.
لقد زالت -من قبل- شعوب وقبائل وجماعات قديمة وثنية وموحّدة على حدّ سواء، حين تجاوز الصراع عتبة هذا التساؤل، وحين تنامى الشعور بين الأفراد العاديين بأنهم يوشكون على الصدام مع دينهم التاريخي.
إن الآية الكريمة في القرآن "تلك أمةٌ قد خلت" تشير إلى ذلك صراحة، فقد سجلت لنا واقعة زوال أمم وشعوب وقبائل عربية قديمة اصطدمت بأديانها التاريخية، وهو مصير أعاد القرآن تذكير العرب به "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" -سورة الحج-
فهل يوشك العرب على الصدام مع مسجدهم؟
مع كل حادث مفجع من هذا النوع -تتسبب به بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة "قتل، تفجيرات، فتاوى تكفير إلخ"- تثور التساؤلات المرّة من جديد، حول إسلام آخر يجوب طرقات العالم العربي بأقدام ثقيلة، ناشراً الذعر والخوف، وربما روح المجابهة. إن ما يميّز الحالة الأصولية الإسلامية عن سائر الأصوليات الدينية المسيحية واليهودية وسواها، يكمن في الفارق الجوهري التالي: أن الأصوليات الأخرى خارج العالم الإسلامي، لا تقدّم نفسها ديناً موازياً أو بديلاً للدين الرسمي، وتكتفي بعرض قراءة مختلفة للنص المقدّس مفارقة ومغايرة للقراءة الرسمية، بينما الأصولية الإسلامية تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حين تؤسس لتعارض فقهي مع الدين الرسمي غير قابل للتسوية.
"
زالت شعوب وقبائل وجماعات قديمة وثنية وموحدة على حد سواء، حين تنامى الشعور بين الأفراد العاديين بأنهم يوشكون على الصدام مع دينهم التاريخي
"
برأيي، ليس ما يجري مجرد سجال ساخن يتعلق بمشكلة "تأويل الإسلام" وتنوع الاجتهادات في قراءة النصوص، ولا يتعلق -بكل تأكيد- بظاهرة الإسلام السياسي، فتاريخ المسلمين يعرف الظاهرة نفسها منذ العصرين الأموي والعباسي. ألم يكن هناك إسلام سياسي من قبل؟ ما يجري اليوم أمر مختلف تماماً.
إن جزءا حيوياً من السجال يمس لبّ المسألة المطروحة: ثمة إسلام آخر، موازٍ يعيش إلى جوار "الدين التاريخي"، وله مجتمعه الخاص وأتباعه وشيوخه وجمهوره ونصوصه "المقدّسة"، ويقدّم نفسه على أنه هو الإسلام الحقيقي، وأن إسلام الأمة القديم والمتوارث بتقاليده وتأويلاته وتفسيراته وأبطاله هو إسلام محرّف؟ وهذا الإسلام الموازي الذي يعيش العرب في ظلاله هو مصدر الإشكالية، وليس وجود جماعات الإسلام السياسي.
وكما تبيّن الوقائع، فقد تخطىّ الإسلام الموازي مسألة "الإسلام السياسي". إن الذين يعتقدون أن المعضلة تكمن في هذا الجانب الضيّق فقط، يحجبون الحقيقة عن أنظار المجتمع بأسره، ويساهمون في صياغة وعي سطحي لواحدة من أخطر المشكلات التي تواجه العرب. فهل يتعيّن علينا الاعتراف بأن الحقيقة ممزقة، وأن العرب يعيشون في قلب عالم عربي منقسم حول الإسلام؟ وأنهم يندفعون أكثر فأكثر نحو مزيد من الانقسام، وحول موضوعات لا نهاية لها سوف يثيرها الإسلام الموازي باستمرار؟
ما يتوجب الاعتراف به قد يكون أبعد من هذه الحدود. إن العرب ينقسمون حول دينهم التاريخي. وتناقضاتهم في الرؤى والتصورات باتت تطال كل المفاهيم. لقد أصبح الإسلام نفسه موضوعاً صراعياً وخلافياً في المجتمع. ولذلك، فليس صحيحا ما يقال بأن جوهر الصراع يدور حول الإسلام السياسي وإشكالياته، وأن الخلافات والتناقضات تدور في نطاق الدور الذي يلعبه في حياة العرب.
والأدق أنه يدور حول الإسلام نفسه ومفاهيمه، فما يبدو "صحوة إسلامية" عند كثيرين، يتبدى كنوع من "صدمة إسلامية" عند آخرين. وقد يتعيّن علينا أن نتحلى بشجاعة أكثر لنقول صراحة إن العرب يعيشون بالفعل "لحظة الذهول من الإسلام" وإن الصدمة قد تؤدي إلى "الصدام" مع الإسلام لا مع تأويلاته وحسب؟ وإن المجتمع قد يتجه نحو التشكيك، بأكثر ممّا يتجه نحو الإيمان؟
ولعل أخطر ما تمكن رؤيته في هذا التنازع حول الإسلام، أن المجتمع العربي لن ينقسم بين إسلاميين وعلمانيين، وإنما أيضاَ بين إسلاميين جدد وإسلاميين قدامى. والنتائج التي سوف يسفر عنها مثل هذا التناقض، تمكن رؤيتها مع تحلل شرائح اجتماعية بأكملها، قد تتجه نحو التشكيك واللاتدين، أو البحث عن "دين أكثر رأفة" بدلاً من التمسك بالإسلام؟ فماذا تبقى من شعار "الإسلام هو الحل" إذا كان احتمال الصدام مع الإسلام نفسه بات احتمالاً واقعياً في مجتمع تتعاظم فيه الشروخ والتناقضات؟ وكيف تحولت الصحوة إلى كابوس؟
ليس الإسلام السياسي الراهن سوى تعبير أولي عن مشكلة عميقة سوف تستمر لوقت طويل، وينقسم فيها مجتمع المسلمين إلى جماعتين متصادمتين، إحداهما تريد إحلال "دينها الموازي" وأخرى تدافع عن دينها التاريخي. وقد لا تنتهي هذه المرحلة الطويلة إلا بصدام واسع النطاق.
في التحليل الأنثروبولوجي للظاهرات الدينية -في مختلف المجتمعات القديمة- تمكن ملاحظة الكيفية التي ينقلب فيها المقدّس إلى مدّنس أو العكس. إن أديان وأساطير العرب ومروياتهم وطقوسهم وشعائرهم الدينية التي سادت في عصور الوثنية الطويلة تقدّم لنا تصوراً دقيقياً عن هذا التزاحم بين الصور المقدّسة والمدّنسة، حيث يتحول المعبد المقدس إلى مكان مدنس. ومن قلب هذا التزاحم يولد الصدام بين المجتمع ودينه التاريخي.
فهل نحن في قلب صحوة إسلامية أم في قلب "صدمة الإسلام"؟
تولد الصحوة من رحم الصدمة. وليس ثمة صحوة من دون صدمة يفيق منها المرء مذهولاً وحائراً. لكن الصحوة ذاتها يمكن أن تصبح نوعاً من صدمة جديدة مروعة؟ وهذه الكلمة تتضمن من المنظور الدلالي المباشر معنى الاستيقاظ من "نوم عميق".
"
لعل أخطر ما تمكن رؤيته في شأن التنازع حول الإسلام، أن المجتمع العربي لن ينقسم بين إسلاميين وعلمانيين، وإنما أيضاَ بين إسلاميين جدد وإسلاميين قدامى
"
لكن التعبير السائد في ثقافتنا المعاصرة، وفي الأدبيات السياسية والإعلامية يشير إلى دلالة سياسية مختلفة، فهي صحوة جماعات إسلامية أو متأسلمة، تبدو لنا كما لو أنها كانت راقدة "نائمة" ثم استيقظت فجأة، لتجد فرصتها التاريخية السانحة للظهور بقوة في المسرح السياسي.
مثل هذا التصور -وهو شائع في ما يكتب اليوم- لا يبدو كافياً لتفسير وتحليل جوهر المشكلة. ولذلك يبدو تعبير "الصحوة الإسلامية" تعبيراً ملتبساً، فهي صحوة أكثر شبهاً بالصدمة، أو هي الصدمة بالفعل.
وهناك أغلبية في المجتمع العربي اليوم، تشعر بالصدمة والذهول من "إسلام" آخر، تقدّمه أقلية قوامها رجال دين ومشايخ وفقهاء ومثقفين، وتزعم أنه هو الإسلام الحقيقي. وليس أدل على هذا من تنامي شعور جماعي في المجتمع، بأنه يستيقظ على وقع أقدام "إسلام" غريب، يقتحم عليه حياته ويثير فيه الذعر، جراء قيمه ورؤاه وتصوراته وحلوله الغريبة.
قبل سنوات ترددت كلمتا الصدمة والصحوة من دون أن تثيرا انتباه أحد.
كان الاسم الذي أطلق على عملية غزو العراق في ربيع 2003 ملفتاً للانتباه Shock and Awe "" "الصدمة والذهول". لقد عرّف الاحتلال نفسه منذ البداية بأنه "الصدمة". وكان لافتاً أكثر، أن الأميركيين سارعوا بعد أشهر إلى طرح ما يعرف ببرنامج "الصحوة" وهو برنامج تمّت تغطيته بسحب كثيفة من التضليل الإعلامي والفكري، وذلك حين طرح كبرنامج "لتسليح العشائر" في مواجهة إرهاب القاعدة، وأدّى إلى تجنيد آلاف الشبان كمرتزقة محليين، يعملون كتفاً لكتف مع قوات الاحتلال في مختلف المهام. لقد كانوا في نظره "تجسيداً للصحوة".
كانت هناك صدمة لم نستفق منها بعد. أما "الصحوة الإسلامية" الراهنة فهي استكمال للصدمة نفسها بأدوات أخرى.
وفي ختام مسرحية "مقتل في الكاتدرائية" كتب صموئيل بيكيت عبارته اليائسة التالية: لم يتبق لنا نحن المساكين سوى الفرجة.