- الأربعاء مايو 01, 2013 5:30 pm
#61553
استمرت العلاقات المصرية السودانية ذات ارتباط وثيق وبُعْد عميق؛ على الرغم من أنها كانت ولا تزال في حالة مد وجزر؛ وذلك أن الحكومات المتعاقبة في البلدين لم تواجه ما يعيق استمرارها بالحل الشامل، واتخذت أسلوب التهدئة والتسكين للمشاكل العالقة بين البلدين؛ لإدراكها لأهمية هذه العلاقة للبلدين، وضرورة استمراريتها وتأكيدها والانطلاق بها إلى مراحل متقدمة؛ خوفاً من المواجهة التي قد تؤدي إلى انفصامها نهائياً أو الوصول بها إلى مرحلة الطريق المسدود.
وتتميز العلاقة بين مصر والسودان بالارتباط والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، والتمازج العرقي، ومشترك اللغة العربية والثقافة ومن ثَمَّ المصالح المشتركة.
وفي ظل تنامي العلاقات الدولية مؤخراً تتجه الدول إلى البحث عن المقومات المشتركة التي تنشدها مع غيرها في توثيق التعاون في ما بينها لخدمة مصالحها المشتركة؛ سواء كانت هذه المقومات سياسية، أو حضارية، أو اقتصادية. ومن هذا المنطلق اتجهت كلٌّ من مصر والسودان إلى الارتباط ببعضها برباط علاقات (التكامل) في فترة من الفترات؛ لتحقيق أفضل استخدامٍ للموارد المشتركة في مجالات السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأمن، وصولاً إلى غاية رفاهية شعبَي وادي النيل، وتأمينهما ضد المهددات الداخلية والخارجية.ولكن مؤشر توتر العلاقات بينهما ظل كعادته في الارتفاع، حتى توقف نشاط برنامج (التكامل)، وأُلغيت اتفاقية الدفاع المشترك بينهما. والآن وفي ظل ثورة الخامس والعشرين من يناير التي رفعت شعارات الوطنية ومحاربة الفساد والإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي، قد تجد مصر أنها في طريق العودة إلى موقع الريادة في الوطن العربي والإسلامي، وأن هذا الطريق يمر عبر بوابة السودان الذي ستحتاج لدعمه الأمني باعتباره العمق الإستراتيجي لمصر، ودعمه الاقتصادي لحل مشكلة الأمن الغذائي، ودعمه السياسي في المنظمات الإقليمية والدولية.
مصر:
مصر هي أرض الحضارات والثقافات، وظلت هكذا فاعلة عبر التاريخ تؤثر وتتأثر بالسياسيات الإقليمية والدولية سلباً وإيجاباً بما يفرضه موقعها الجغرافي، ودورها المتميز في الواقع السياسي.
تقع مصر في الركن الشمالي الشرقي لإفريقيا، وتدخل في قارة آسيا بجزء من أراضيها (7% من المساحة)؛ وذلك بين خطي عرض 22.35 - 32 شمالاً وخطي طول 25 - 35 شرقاً، تطل على البحر الأبيض المتوسط بساحل يبلغ طول 909 كم، وشاطئ البحر الأحمر بطول ساحل يصل إلى 1.370 كم، مساحتها 1.001.450 كم مربع، تحدُّها غرباً ليبيا، ومن الجنوب السودان، وشرقاً البحر الأحمر وفلسطين المحتلة، وشمالاً البحر الأبيض المتوسط.
تشير الدراسات إلى أن حجم السكان يفوق الـ 70 مليون نسمة الآن.
تُعَدُّ قناة السويس من أهم الممرات المائية؛ إذ تمرُّ من خلاله تجارة الشرق الأقصى، والخليج العربي وشرق إفريقيا في طريقها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وهي نقطة التقاء للشرق والغرب.
وتتأثر مصر بدول الجوار كثيراً، ولكن تأثُّرها بالسودان أكبر؛ فهو العمق الإستراتيجي لمصر كما ظهر في كل حروبها، وكل الحملات التي غزت السودان كانت تدخل عن طريق مصر. والسودان بحكم الموقع يمثل جواراً إستراتيجياً على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، والسودان يمثل أكبر وعاء لحوض النيل، وهو ثاني دول حوض النيل انتفاعاً بمياهه بعد مصر.
لقد احتلت مصر في القرن الثامن عشر موقعاً إستراتيجياً على خطوط التجارة العالمية، نتيجة للثورة الصناعية في أوروبا؛ جعلتها محطة أساسية للغربيين في طريقهم إلى الهند، وهدفاً لمطامع الإمبراطوريات الأوروبية المتنافسة على آسيا وإفريقيا، بعد أن خسرت مستعمراتها الأمريكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وازدادت أهمية الموقع الجغرافي لمصر بعد إنشاء قناة السويس التي اختصرت طريق الملاحة التجارية، وسهلت استعمار إفريقيا والشرق الأوسط، ولعبت مصر دوراً هاماً في القرن العشرين، عبر مساهمتها في تحرير المناطق المستعمرة في العالم العربي وإفريقيا، ومن ثَمَّ القضاء على الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية، وشكلت سداً منيعاً أمام المشروع الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل الكبرى.
ساهمت مصر في إعداد النخب والقيادات العربية والإسلامية عبر الأزهر الشريف، والجامعات المصرية، وعبر مراكزها التربوية وبعثاتها التعليمية في الوطن العربي، ولعبت دور القطب الجاذب للعالم العربي والإسلامي.
في نهايات القرن العشرين بدأ نجم مصر يخبو بعد توقيع اتفاقية (كامب دافيد) مع إسرائيل، تلك الاتفاقية التي أدت إلى انحسار تأثير مصر على دول المنطقة إلى موقع لا يتناسب مع حجم مصالحها وقيادتها لدول المنطقة لفترة طويلة، وظلت هذه الاتفاقية تحكم السياسة الخارجية المصرية، وتؤثر سلباً على دورها في المنطقة عموماً وعلى السودان خصوصاً. والواقع يقول أيضاً: إن انحسار الدور المصري في السياسة الخارجية للإقليم، لم تعوضه أيٌّ من عواصم الإقليم حتى يومنا هذا منفردة أو مجتمعة.
وتكتسب جمهورية مصر العربية أهمية كبرى في المنطقة؛ لِـمَا لها من دور في البيئة الإقليمية والدولية، ولِـمَا لها من ثقل سياسي واقتصادي وإعلامي واجتماعي وثقافي وأمني وعسكري لا يستهان به، ولِـمَا لها من تأثير في العالَـمين العربي والإسلامي.
وتشير الدراسات المتعلقة بالتركيب العرقي للعالم، أن سكان مصر القديمة وسكان شمال السودان ينتمون للعنصر الحامي، الذي دخل هذه المنطقة منذ أزمنة بعيدة، ويُعتَقَد أنه جاءها من جنوب الجزيرة العربية، وبالنزوح جنوباً ظهرت القبائل النيلية الحاميَّة في جنوب السودان.
ظل الدين عامل ربط بين شمال الوادي وجنوبه؛ حيث وفدت الوثنية المصرية على السودان ثم النصرانية، ودخل الإسلام إفريقيا بعد الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي؛ حيث صارت مركزاً لانتشار الدعوة غرباً وجنوباً، ومنها دخل الإسلام للسودان في عام 651م، وتدفقت بعدها القبائل العربية إلى السودان حاملة معها ثقافتها وحضارتها، التي أصبحت بمرور الوقت ثقافة وحضارة غالبية السكان في السودان.
تطوُّر العلاقات بين الدولتين:
بعد استيلاء محمد علي باشا على مصر وتثبيت دعائم سلطانه فيها، أخذ يعمل جاهداً في توسيع رقعة مُلْكه، وتحقيق تطلعاته شرقاً في الأراضي الحجازية، وغرباً في ليبيا، وجنوباً في السودان الذي يحقق له تجنيد رجاله في جيشه لرد أطماع فرنسا وإنجلترا في حكمه، وأن يدعم اقتصادياً دولته من مناجم الذهب التي اشتهر بها السودان، وله هدف إستراتيجي آخر من فتح السودان وهو تأمين منابع النيل، الذي تعتمد عليه مصر اعتماداً كلياً باعتباره مورد الري الوحيد للأراضي الزراعية، ثم استغلال موارد السودان من غير الذهب، وتسويقها في الأسواق العالمية، وفتح أسواق جديدة لصادرات مصر في السودان. وكان محمد علي يدرك حقيقةً أن السودان يمثل العمق الإستراتيجي لمصر، وضرورة تأمين سواحل البحر الأحمر لضمان حماية وسلامة الملاحة لأساطيله بعد سيطرته على الحجاز، وأخيراً أدرك محمد علي باشا أن السودان يمثل العمق لمصر ويمكن استغلاله كعمق دفاعي إذا هاجمته إحدى الدول الأوروبية، وعلى الرغم من الجهد التركي في إبراز ملامح خريطة السودان الحديث في الفترة من (1863 - 1869م) وإدخال الثقافة العربية والإسلامية، وتفعيل النشاط الاستثماري في مجال التعدين وزراعة القطن وحلجه؛ إلا أن سياسة القهر التركية في معاملة السودانيين أدت إلى تذمرهم، وشكَّلت بداية التمرد عليهم وتفعيل الثورة الوطنية، وقيام الثورة المهدية في السودان حتى تحرير الخرطوم من قبضة الأتراك في 26 يناير 1885م. ثم قررت بريطانيا استعادة السودان، وتم ذلك بعد معركة (كرري) في 2/9/1898م، وهو بداية ما يعرف بالحكم الثنائي، الذي أجج بدوره الغضب السوداني على مصر لتعاونها مع الإنجليز في مواجهة السودان؛ علماً بأن مصر كانت تَحْكُم اسمياً، وكانت السيادة الحقيقة للإنجليز. وعند هبوب رياح النهضة الوطنية المصرية طالب قادتها باستعادة السيادة على السودان لصالح مصر ولم يصححوا الوضع القائم والدعوة لاستقلال السودان، في حين أن المفهوم الذي ارتبط بأذهان الوطنيين السودانيين بعد ثورة 1924م وفي الأعوام 1945 - 1956م كان يطالب بجلاء الاستعمار عن مصر والسودان، وفي هذا يقول الكاتب المصري عمر طوسون: (فالسودان هو أرض السلام الذي ظل مفتوحاً لمصر منذ الأزمان الخالية، ويجب أن يبقى كذلك؛ لأنه لازم لها لزوم الروح للجسد، وإلى هذا الغرض يجب أن تصوَّب جميع مجهودات أولئك الذين في يدهم حظ مصر، وفي قلبهم يضمرون لها النفع والمصلحة).
تكونت (جمعية اللواء الأبيض) في السودان في عام 1924م بقيادة علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين، واعتُمد التنسيق بين العسكريين والمدنيين في مناهضة الحكم الإنجليزي في السودان. وكان توُّجه الجمعية وحدوياً؛ أي الاتحاد مع مصر، ونسق في ذلك مع الحركة الوطنية في مصر ممثلة في الجمعية الوطنية المصرية للدفاع عن السودان، التي رفعت شعار (وحدة وادي النيل)؛ إلا أن مفهوم الشعار كما أشار الأستاذ أبو القاسم حاج حمد في كتابه (السودان المأزق التاريخ وآفاق المستقبل) كان يعني عند السودانيين الحق العربي الإسلامي كإطار يحتوي البلدين ثقافة وتاريخاً ورباطاً قومياً، ولكنه في الجانب المصري كان يعني عندهم حقوق مصر في السودان ومصالح السودان في مصر، وهي كما أشار الكاتب تتفق وروح الـمَلَكية الإقطاعية التي كانت سائدة ردحاً من الزمان في مصر؛ لذا لم يحقق الشـعار تكامـلاً حقيقياً شـعبياً بينهما، ولا إستراتيجية ولا تحركاً موحداً؛ فقد اتصفت مصر بالسلبية تجاه حركة اللواء الأبيض والشارع السوداني وطليعة المثقفين فيه، وقيدت تحرك الوحدات العسكرية المصرية في السودان لإسناد التحرك العسكري المسلح في السودان، ثم قبلت عقب مقتل (السير لي إستاك) بالقاهرة الإنذار المهين كما وصفه المؤرخ الإنجليزي (أرنولد توينبي)، وكان أقصى ما فعله سعد زغلول حينها هو الاستقالة من رئاسة الحكومة، ليقوم غيره بتنفيذ بنود الإنذار وبضمنها تخلي مصر نهائياً عن وجودها في السودان تحت التهديد البريطاني، والتلويح باتفاقية مياه النيل التي تمَّت في عام 1929م، والتي رأى السودانيون أنها كانت مجحفة في حقهم لصالح مصر؛ وهو ما أدى إلى إضافة عامل آخر في إضعاف الثقة بمصر عند السودانيين، وكانت الحصيلة أن بدأ التحول في الوعي السياسي السوداني من المثالية المجردة إلى الواقعية وإلى إثبات الذات والحقوق السودانية المستقلة عن مصر.
ظل الود بين شعبي وادي النيل باقياً مستمراً برغم ما ينتابه أحياناً من منغصات، ورغم ما يحدث بين أنظمة الحكم في البلدين من خلاف وما يعتري علاقتهما من توتر وخصام بسبب تضارب المصالح واختلاف وجهات النظر حول المسائل السياسية، وهو ما يدلل على خصوصية هذه العلاقة بين مصر والسودان، ويؤكد حاجة كلٍّ منهما للآخر، فاستمر جهد كل دولة في إزالة الجفوة والسعي إلى تقنين العلاقة وتأطيرها، غير أن كل الجهود لم تؤتِ ثمارها كما أريد لها.
العلاقات في الفترة بين عامي (1956 - 2007م):
في الفترة من عام 1956 - 2007م تميزت مسيرة علاقات مصر والسودان بالترقب والحذر؛ تنفرج أحياناً وتزداد تعقيداً في فترات أخرى، وكان للمرحلة حيويتها التي فرضتها ظروف التطور السياسي على كلا البلدين.
ففي مصر حسمت القيادة المصرية رؤيتها السياسية في قيام دول على قاعدة تحالف قوى الشعب العاملة، في إطار فلسفي يستند على الفكر أو القومية العربية، وبوفاة جمال عبد الناصر عام 1970م نادت (مصر السادات) بالانفتاح الليبرالي وَفْقَ الرؤية الغربية للتمازج مع رؤية السادات في دولة العلم والإيمان وتقاليد القرية، وبعد اغتيال السادات أعقبه حسني مبارك الذي لخص مساره في أنه ليس محمد أنور السادات وأنه ليس جمال عبد الناصر. أما في السودان فقد خاضت التجربة مسار الدائرة المغلقة على الحكم الليبرالي والانقلابات العسكرية، وعلى مدى الخلاف في مفهوم الدولة ونظام الحكم ومضمون السلطة في البلدين، ظلت خصوصية العلاقة على غموضها وضبابيتها تطرح المهدئ والمسكِّن لأي محاولة توتر أو تعكير صفو العلاقات.
في فترة الحكم العسكري الأول في السودان بقيادة الفريق عبود تم التوصل إلى اتفاق حول مياه النيل وإنشاء السد العالي، بعد أن جاء في بيانه الأول أن حكومته ستسعى لإزالة الجفوة المفتعلة بين الشعبين المصري والسوداني، التي كان يرى أنها من صنع السياسيين؛ حيث سبق أن ظهرت مشـكلة الحدود (منطقـة حلايب) في عهد رئيـس الوزراء عبد الله خليل، تلك التي لم تُثَر مرة أخرى في عهد حكومة عبود.
أثَّرت أحداث ما بعد فترة الرئيس عبود - وهي ما عرف بالديمقراطية الثانية بين عامي 1964 - 1969م - على علاقات مصر والسودان؛ فمصر التي لم تُعِر ثورة أكتوبر السودانية أي اهتمام، وجاء ردُّ فعلها إعلامياً بمعلومات مغلوطة أدت إلى إثارة الشارع السوداني وخروجه محتجاً على الإعلام المصري والإساءة للعلم المصري؛ وهو ما يعد في عالم العلاقات داعماً للمواجهة، ولكن القيادة المصرية اعتبرت ذلك انفعالاً جماهيرياً طبيعياً وتجاوزت الأمر.
اندلعت حرب يونيو عام1967م وأثبت السودان مرة أخرى أن علاقاته مع مصر تبنى على إستراتيجية ذات أهداف واضحة، ووقف إلى جانب مصر، بل أعلن الرئيس إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة أن السودان دولة مواجهة مع إسرائيل، وأن جُلَّ إمكاناته لخدمة المعركة، وعمل في انسجام تام مع زعيم المعارضة السيد محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء وتمكنا من جمع شتات الأمة بعد النكسة، فكانت قمة الخرطوم (قمة جامعة الدول العربية) المشهورة بلاءاتها الثلاث، واستعادت الأمة وحدتها والتقت أهدافها؛ حيث التقى العاهل السعودي الملك فيصل بالزعيم ناصر، وانتهى الخلاف حول اليمن، ووقف نزيف الدم العربي في ذلك الجزء من الوطن، تكفلت الدول العربية بدعم المجهود الحربي في دول المواجهة (مصر، وسوريا، والأردن).
امتدت فترة حكم الرئيس نميري إلى ستة عشر عاماً، وشهدت استقراراً وتطوراً في العلاقات بين مصر والسودان، على الرغم من بعض فترات البرود أو التوتر؛ كما حدث عندما أعاد السودان علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية دون الرجوع إلى مصر؛ وهو مما يعكس عدم إلمام الإخوة في مصر بالمزاج السوداني الاستقلالي، ولكن المياه عادت إلى مجاريها واستمرت العلاقات في وتيرتها الطبيعية، وكان لقوة شخصية الزعيم عبد الناصر وتجرده لخدمة قضايا الأمة أثر بالغ في هذه العلاقة.
خَلَف السادات عبد الناصر في حكم مصر وكان لمزاجه الشخصي في العلاقات مع السودان وإستراتيجية حماية ظهر مصر، أثرهما في علاقته السياسية الخارجية مع السودان، خوفاً من تحول محور (أديس أبابا - عدن) والالتفاف عليه من الخلف بدعم سوفييتي، فكوَّن الحلفَ المضاد مع (السودان - ليبيا) وتأكيداً لتخوفه من حلف عدن فقد وقع انقلاب 19 يوليو 1971م الذي قام به الشيوعيون في السودان، وكان يتوقع بنجاحه تطويق مصر وحكم السادات من الجنوب، وهو ما دعا السادات للتحرك وإعلان حمايته للسودان وحماية النظام الإقليمي ككل وعدم السماح بالتدخل في شؤون السودان الداخلية، ونتيجة لهذه الواقعة وأحداث 1976م التي قادتها المعارضة السودانية بدعم من ليبيا، وقَّع البلدان ميثاق الدفاع المشترك في 15 يوليو 1976م.
باغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981م وتولي الرئيس مبارك الحكم في مصر، بدأت حقبة جديدة من العلاقات المصرية السودانية، واستمرت في بدايتها على النمط السابق بالحفاظ على علاقات ودية تحقق بها مصر إستراتيجية العمق المصري في السودان والأمن المائي، وسعى البَلَدان إلى ترقية منهاج العمل التكاملي (الذي كان في عام 1974م) لتنمية القدرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية للبلدين، في إطار التكامل المشترك، وتُوِّج ذلك بتوقيع ميثاق التكامل في أكتوبر 1982م بهدف تقنين العلاقة وإخضاعها للإشراف الحكومي لكلا الدولتين.
فأنشئت كثيرٌ من المؤسسات والأجهزة السياسية والفنية للإشراف وتحقيق الأهداف والمبادئ التي تضمنها الميثاق، وشملت المجلس الأعلى للتكامل برئاسة رئيسي الدولتين، وبرلمان وادي النيل، والأمانة العام للتكامل، واللجان الفنية المشتركة، وصندوق التكامل واللجان الفرعية الأخرى. واتُّفِق على تنفيذ ثلاثة محاور لتحقيق أهداف الميثاق، هي:
• تنمية المصالح المشتركة بين البلدين في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
• إزالة القيود والحواجز خاصة في مجال التبادل التجاري والسلعي بين البلدين.
• العمل على إزالة الاختلافات والتباينات بين الشعبين لتأكيد الوحدة التاريخية والمصير المشترك.
أثبت الواقع التنفيذي للميثاق كثيراً من الإيجابيات والسلبيات التي كان أهمها الانتقاد الحاد لها في كلٍّ من مصر والسودان؛ بأنها فُرضَت من أعلى وتجاهلت عنصر التفاعل الشعبي معها. ثم شهدت العلاقات فتوراً واضحاً في نهايات عهد الرئيس نميري، وتوقف العمل في قناة جونقلي نتيجة لنشاط التمرد في جنوب السودان، وتدهور الحالة الأمنية، التي لم تفعَّل اتفاقيةُ الدفاع المشترك للحفاظ عليها.
وبقيام الانتفاضة الشعبية في السودان والثورة على حكم النميري، توترت العلاقة بين البلدين في بداية هذا العهد، واتسمت بالمواجهة المعلنة ورفض كلٍّ من البلدين لسياسة الآخر؛ حيث اتهم السودان مصر بالمسؤولية عن دعم حكم النميري، وحماية استمراره وطلبت الحكومة السودانية تسليم الرئيس نميري الذي بقي في مصر بعد قيام الانتفاضة الشعبية، ورفضت مصر ذلك باعتباره لاجئاً سياسياً، وطالبت حكومة السودان في المقابل بإلغاء كل الاتفاقيات والمواثيق مع مصر، وفتح ملف الحدود (قضية حلايب)، ومراجعة اتفاقية مياه النيل.
دعمت مصر ثورة الإنقاذ في عام 1989م في بداية عهدها نتيجة لمعلومات استخبارية مغلوطة رأت أن قادة الثورة هم من الذين يقفون مع الخط الناصري ويدعون إلى علاقات حميمية مع مصر، وقدَّمت مصر أول اعتراف بالنظام الجديد ودعمِه وقدمته للآخرين، وباكتشاف اللَّبس الذي وقعت فيه أجهزة المخابرات المصرية، نكصت مصر عن دعمها؛ بل واجهت النظام بالعداء واستغلت انشغال السودان بالوضع في الجنوب والناحية الأمنية ومواجهة المشاكل الاقتصادية التي ورثتها ثورة الإنقاذ، وقامت باحتلال (مثلث حلايب) تلك القضية المسكوت عنها طوال العهود السابقة منذ عهد عبد الناصر، واعتبر السودان ذلك عداءً سافراً من الحكومة المصرية؛ يصب في الرؤية الأمريكية التي رأت أن تضيِّق على السودان بفرض القيود والحظر والمقاطعة الاقتصادية ،ومحاربته من قِبَل جيرانه؛ تلك الخطة التي رعتها (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية في ذلك الزمان، وجمعت ستاً من دول جوار السودان، ولكنَّ لُطْف المولى - سبحانه وتعالى - صرف معظمَهم عن غزو السودان لمشاكل داخلية في بلدانهم، أو لمواجهات تمت بين تلك البلدان بعضها بعضاً، ما عدا يوغندا التي شاركت في عملية الأمطار الغزيرة بقواتها لغزو جنوب السودان، ولكن السودان بسبب ظروفه الداخلية تعامل بحكمة مع قضية حلايب ولم يلجأ إلى التصعيد العسكري وآثر حل القضية سلمياً عبر المنابر الدولية، وهو ما ترفضه مصر. وظلت قضية الحدود مع مصر من المسائل الشائكة التي تعيق تطوُّر العلاقات بين البلدين، ثم جاءت تداعيات حرب الخليج الثانية وألقت بظلالها على العلاقات المصرية السودانية، نتيجة لاستغلال مصر للحدث والاستفادة من الدعم الأمريكي ومسايرة السياسة الأمريكية وإصرار السودان على الحل العربي المتفق عليه، الذي تم التآمر عليه بليل خلال مؤتمر القمة العربية في القاهرة وظهر السودان كأنه مساند لاحتلال العراق للكويت عام 1990م وهو عكس الحقيقة، فرأت مصر في ذلك خروجاً على بيت الطاعة، ومورست الضغوط الغربية والأمريكية على دول المنطقة للتصعيد مع السودان، وفي عام 1995م وصلت العلاقات إلى مفترق طرق بعد حادثة محاولة اغتيال الرئيس مبارك في (أديس أبابا)؛ حيث تصاعد التوتر وتأزم الموقف، وتأثرت المصالح المشتركة بين البلدين؛ إلا أن حدة التوتر انخفضت واكتفى البلدان بما يمكن أن يدخل في نطاق الحرب الباردة، أو بين الشد والجذب والتعاون والتنسيق في المحافل الدولية أحياناً حتى درجة الاتفاق على الحريات الأربع بين البلدين.
العلاقات وأثرها على أمن حوض النيل:
حوض النيل: هو المنطقة التي يجتازها النيل من منابعه إلى مصبِّه، ويتكون الحوض من مصر والسودان (قبل انفصال جنوبه) إثيوبيا، ويوغندا، وكينيا، وزائير، وتنزانيا، ورواندا وبورندي، وتبلغ مساحة الحوض 2.9 مليون كم2، ويبلغ طول المجرى من المنبع إلى المصب 4.190 ميل أو 6.695 كيلو متر، وهو أطول نهر دولي في العالم.
وللحوض أهمية سياسية، وهو ما جعله موضعاً للصراع الاستعماري عبر الحقب المختلفة؛ فهو يمر من خلال تسع دول، ويربط بين الشعوب العربية في الشمال والإفريقية في الجنوب والشرق، وهو الحزام الواصل بين الثقافة والثقل العربي الإسلامي والثقافة والثقل الإفريقي في الجنوب؛ الأمر الذي جعل الدول الغربية وإسرائيل تسعى لاستغلاله، والتحريض على تهديد الأمن القومي المصري والسوداني (هاتين الدولتين المطلتين على البحر الأحمر)، وتأتي أهميتهما من كونهما منافذ بحرية لبعض دول الحوض الحبيسة، مع اعتبار أهمية مياه النيل واستغلالها ضد مصر والسودان، وظلت مياه النيل مطمعاً أساسياً في المخطط التوسعي الصهيوني في إطار إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات لري صحراء النقب.
باستثناء مصر فإن كل دول الحوض تقع في القرن الإفريقي، وتتميز بعدم الاستقرار السياسي، وهو بؤرة للنزاعات في القارة الإفريقية ومنطقة صراع دائم؛ وهو ما سهَّل التدخل الأجنبي أو الحاجة إليه لغرض الدعم، ثم إن اتفاقية مياه النيل نفسِها هي موضع نزاع دائم بين دول الحوض؛ إذ تُستَغل بالتحريض الأجنبي لاستمرار التوتر في المنطقة بين دول الحوض من جانب، والسودان ومصر من جانب آخر.
الأهمية الاقتصادية لحوض النيل:
يتمتع حوض النيل بكثير من الموارد الاقتصادية التي لم تُستَغل حتى الآن؛ حيث تتوفر فيه المياه لري الأراضي الصالحة للزراعة وترتفع فيه نسبة الخصوبة، ويمكن قيام مشروعات مشتركة في مجالَي الأمن الغذائي والصناعي والطاقة الكهربائية، وهو ما لا يرضي القوى الأجنبية ومصالحها.
لقد استمرت العلاقات بين دول حوض النيل مستقرة نسبياً منذ اتفاقية عام 1959م بين مصر والسودان التي نظَّمت استفادةَ كلٍّ منهما من مياه النيل؛ إلا أن الخلافات تظهر من أطراف أخرى بين دول الحوض؛ خاصة التي لم تمنحها الاتفاقية أي نصيب من المياه، ومصر والسودان صاحبتا النصيب الأكبر، أو نتيجة لسياسات التنمية الزراعية والصناعية التي تنتهجها دول الحوض من حين الآخر؛ وهو ما يقلق مصر كثيراً على نصيبها من المياه.
إن كُلاً من البلدين (مصر والسودان) يمثل عمقاً إستراتيجياً للآخر؛ فوادي النيل (مصر والسودان) هو قلب الوطن العربي، وبوابة إفريقيا إلى قارتي آسيا وأوروبا، وهو امتدادهما الطبيعي إلى قلب القارة الإفريقية وشرقها، وله مقومات وإمكانيات تعكس ضرورة التكامل، باعتباره يمثل الصحوة المثلى لتحقيق المصالح المشتركة، وبذلك يصبح السودان ومصر وحدة تهديد واحدة لأطماع الدول العظمى.
وأمن وادي النيل يحتم قيام أمن مشترك بين مصر والسودان، لحماية مصالحهما في وجه التهديد الغربي والإسرائيلي، في ظل غياب الوعي القومي العربي الذي تمثِّله جامعة الدول العربية، وهو الذي غاب تماماً عن الرؤية الإستراتيجية المصرية خلال مسيرة مشاكل جنوب السودان التي انتهت بالاستفتاء على فصل جنوبه عن شماله، وهو ما يعرضه للاستقطاب الصهيوني وتهديد الأمن المائي لمصر وأمنها القومي كذلك؛ إذ قد تستغل إسرائيل هذا الموقف للحضور بثقل عسكري واقتصادي في جنوب السودان أو الدولة الجديدة، وتنهار كافة الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل لوجود هذه الدولة.
لقد استعرضنا مسيرة العلاقات السودانية المصرية، فتبين أن تقاطُع المصالح بينهما مما يؤدي إلى تذبذب وتوتر علاقاتهما، وأن توتر العلاقات ناتج في الغالب الأعم عن تدخلات من القوى العالمية، أو بُنيَت على مصلحة آنية أو تكتيكية لم تهتم بالبعد الإستراتيجي للعلاقات، أو حتى أحياناً النظرة الشخصية للقيادات على مرِّ الأزمان.
ولكن البعد الإستراتيجي لهذه العلاقات يؤكد امتلاك كِلا البلدين لمقومات وإمكانيات تعكس ضرورة التكامل لتحقيق المصالح المشتركة للأمن القومي لمصر والسودان، ويحقق خلقَ قوة في المنطقة لا يستهان بها؛ وهو ما يغري بقية دول الجوار للانضمام لها أو السير في ركابها أو عدم التعرض لها والإضرار بمصالحها؛ حيث تتوفر مكونات الأسس المشتركة لهذا التكامل، متمثلة في اشتراكهما في خلفية اجتماعية وحضارية من واقع انتمائهما المشترك للحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يقرِّب الأهداف المشتركة ويحقق إدراكاً متقارباً للواقع ومن ثَمَّ السياسات، كما أن ارتباط الأمن القومي لكليهما هو حقيقة ترجع إلى واقع الجغرافية والتاريخ والظروف، وهذا مما يدعو إلى ضرورة التنسيق في كل مجالات القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية.
العلاقات المصرية السودانية بعد (25 يناير):
في ظل الأهداف والمبادئ التي تنادي بها (ثورة 25 يناير) في مصر في مجال السياسة الخارجية لاستعادة دور مصر الريادي في الإقليم، والخروج من سلطان السياسة الأمريكية الصهيونية، التي أضعفت ذلك الدور وأضرت بالعلاقات المصرية العربية والإفريقية عموماً، وبالعلاقات المصرية السودانية على وجه الخصوص؛ وهو ما أثَّر على الأمن القومي المصري والأمن القومي السوداني، بل تأذى السودان كثيراً نتيجة لتلك السياسة في الأعوام السابقة، وستؤثر على مصر أكثر في المستقبل لتجاهلها للنظرة الإستراتيجية والاكتفاء بالحلول المرحلية والآنية، وبارتفاع شعار استعادة السيادة المصرية يُتوَقَّع أن تعود العلاقات المصرية السودانية إلى الوضع الذي يخدم كلا البلدين في كل المجالات؛ بما يحقق الأمن القومي لكليهما، فهناك كثير من الأهداف والمصالح المشتركة التي تفرض حتمية التقارب والالتقاء حولها، وتجاوز صراعات وخلافات الماضي. وتشمل تلك الأهداف ما يلي:
• التعاون المشترك في ما يخص اتفاقيات مياه النيل: وذلك لتأمين حصة البلدين من المياه، في ظل تهديد دول الحوض بإعادة النظر في الاتفاقيات.
• التعاون في المجالات الاقتصادية والزراعية والتعليمية: حيث يُعَدُّ السودان من الأسواق المعتبَرة للمنتجات المصرية، والأراضي الزراعية المتوفرة لديه فيها الحل الناجع لمشاكل الأمن الغذائي المصري المتزايدة، تحت تهديد الانفجار السكاني والسيطرة الأمريكية على مصر باستخدام ورقة الضغط المتمثلة في القمح الأمريكي.
التعاون في المجال الأمني العسكري؛ فالسودان الذي يجاور سبع دول بعد انفصال جنوب السودان، والذي تتقاطع مصالحه معهم ومع السياسة الأمريكية التي تقاتل وتتدخل في الدول بالوكالة، يتوقع استمرار التهديد من كل الاتجاهات، كما أن الوجود الصهيوني في جنوب السودان، وتقاطع المصالح المصرية ودول حوض النيل، قد يضطر مصرَ للمواجهة العسكرية؛ التي تُعَدُّ علاقات السودان ومصر عاملاً حاسماً فيها؛ وقد يحسم اتفاق الدفاع المشترك بينهما الصراع قبل بدئه باعتباره عاملَ ردع فاعل.
إن أهمية هذه الأهداف تفرض على مصر والسودان تجاوز المشاكل، واحتواء الخلافات بينهما، والعمل على تنمية وتطوير علاقاتهما؛ ليس سياسياً فقط ولكن في كل مجالات التعاون: اقتصادياً، وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً... وغيرها. وهذا مما سيثير كثيراً من المشاكل على مصر؛ لتقاطُع ذلك مع المصالح الغربية والصهيونية، واستغلال الوضع الداخلي في ظل حكومة ليبرالية لخلق حالة من عدم الاستقرار في مصر بإثارة الخلافات الحزبية والتباين الديني أو الخلاف الإسلامي المسيحي، أو حتى بالتهديد العسكري في الحدود مع إسرائيل.
إذن تحتاج مصر وقبل كل شيء إلى تحديد إستراتيجية السياسية الخارجية، التي يجب أن تبدأ متدرجة حتى لا تفاجأ بفتح جبهات كثيرة، ومواجهة تحديات أكثر في ظل وضع لم يؤسَّس بأرضية اتفاق داخلي صلبة، وبخطط واقعية لمواجهة تلك التحديات، وقد يحتاج هذا إلى جمع الناس حول أهداف الأمن القومي المصري، واعتبارِ العقد الاجتماعي بين المواطن والسلطة؛ في ما يخص الخدمات الضرورية واعتبارات حقوق الإنسان، وتذكُّرِ أن الشعب الذي ثار على نظام القهر والتسلط واستعادة الحقوق، لن يسكن مستقبلاً على أي نظام ينتهك هذه الحقوق حتى لو جاء عن طريق الانتخاب، على أن يكون هذا الفهم وهذا المنهج منطبقاً على القاعدة أيضاً (أي: عامة الشعب) كما هو مطلوب في قمة الهرم الحكومي وهذا يتطلب كثيراً من الجهد وإفراغ الوسع في تبصير وتوعية المواطنين باعتبارات المصلحة القومية والوطنية، والخطوط الحمراء في مسائل الأمن القومي وعدم المساس بها، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وهي من مقتضيات الدين كما هي من ضروريات الدنيا. وبذلك يمكن حماية البلاد وتحصينها ضد حالة (الصومال) أو التشرذم بقدرات بنيها وعباقرتها ومخلصيها، وبتوحيد الكلمة وجمع الصف، ثم لا بد عند اختيار المسؤولين تفعيل قاعدة (القوي الأمين) وإبعاد الذين تضعف عندهم الأجندة الوطنية، والذين تتقوى بهم العناصر المعادية في تفكيك وتشتيت الوحدة والرأي.
أيضاً لا بد من الاجتهاد في الخروج بنظام ودستور يقلل من الاختلاف والتعارض في الرأي وترعى فيه المعارضة المصلحة الوطنية قبل الحكومة، وأن تكون الغاية هي مصالح وتطلعات الشعب والأمة.
يقول خبراء الاقتصاد بأن الأزمة الاقتصادية في مصر ازدادت بزيادة النفوذ السياسي لطبقة رجال الأعمال ومشاركتهم في الحكومة، ولتنفيذ القرارات الاقتصادية الجائرة في حق البلاد والعباد؛ وهو ما أدى إلى زيادة التضخم والبطالة والديون. وإصلاح الحالة الاقتصادية يتطلب الخروج من هذه الدائرة وإسناد الأمر لأهل الاختصاص.
من المؤكد أن مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لن تعود كمصر ما قبل ذلك، فإن أرادت مصر استعادة موقعها في خريطة الوطن العربي السابقة على الأقل فالسبيل إلى ذلك هو انتهاج سياسة تحقق سيادتها الوطنية أولاً والعمل على خدمة قضايا الأمة؛ بالأخص قضيتها المحورية (فلسطين)؛ فالمتوقع أن تتغير السياسة المصرية الخارجية بالتدرج في ظل معطيات الواقع الداخلي والوضع الإقليمي والدولي واعتبارات الأمن القومي، وليس من الحكمة فتح ملفات (كامب دافيد) والعلاقات مع الولايات المتحدة في عجالة انفعالاً مع شعارات الثورة، بل قد تحتاج إلى فترة لترسيخ النظام وتأسيسه، وكسب تأييد دول المنطقة والأمة الإسلامية ودول عدم الانحياز إن وجدت.
ما جاء في حق مصر في السياسة الخارجية والداخلية يحتاجه السودان في الفترة القادمة أيضاً لخلق وضع مستقر متطور ونامٍ؛ يمكن أن يحقق - بالتعاون مع مصر - وضعاً إقليمياً يخدم مصلحة البلدين، ويتوقع السودان من العهد الجديد في مصر حل مشكلة الحدود الأزلية المسكوت عنها، وإنهاء الاحتلال العسكري لحلايب وإيقاف سياسة التمصير التي انتهجها نظام حسني مبارك، وأن يعتمد الطرفان أسلوب الحوار أو التحكيم لحل المعضلة نهائياً، وقد يكون ذلك في إطار منطقة تكامُل كما هو مقترَح لخدمة البلدين، ولكن في ظل الحق القانوني للسودان في حلايب ومناطق الخلاف الأخرى أيضاً. يحتاج السودان في ظل مقتضيات الأمن القومي، وظروفه الداخلية وبيئته الإقليمية والدولية إلى تطوير علاقاته أمنياً وعسكرياً مع مصر بشكل لا يدعو لإثارة البيئة المحلية والإقليمية والدولية.
وفي ظل التعاون الاقتصادي المشترك يُتوَقع أن يكون السودان وسيلة لتمزيق ورقة الضغط الأمريكية (الأمن الغذائي المصري)؛ فموارد السودان الزراعية بالتعاون الفني مع مصر يمكن أن تكون نتائج المشاريع الاقتصادية والزراعية فيها خاصة ذاتَ فائدة كبيرة لشعبَي وادي النيل.
إن قضية مياه النيل تحتاج لبلورة رؤية سودانية مصرية تخدم مصلحتيهما مع اعتبار مصالح دول الحوض الأخرى، بل الأجدى كسب دول الحوض الأخرى لخدمة هذه الرؤية بدلاً من مقاطعتها، أو فرض الرأي عليها، ولو كان وَفْقَ مجريات القانون الدولي؛ فالمعلوم أن آليات تنفيذ القانون الدولي حالياً تخضع كلها للمصالح الغربية، ولن تخدم مصلحة مصر والسودان وقتها.
إن قضايا السودان الداخلية بعد (نيفاشا) ومآلاتها المتوقعة تحتاج إلى الدعم المصري؛ وخاصة أنها مؤثرة وتتأثر بأهداف السياسة الدولية، مثل قضية (دارفور)، وما سينتج من اتفاق نيفاشا في مناطق: أبيي، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق.
لا شك أن مجالات التعاون بين السودان ومصر كثيرة ولا حصر لها، ونشير فقط لقضايا: التعليم، وتنمية الموارد البشرية، والإعلام إضافة إلى ما ذُكِر.
إذن التكامل بين البلدين يحقق مصالح وأهدافاً تصب في أمن ومصلحة كليهما، وقد يكون ذلك مثلاً حياً لجميع بلدان الإقليم الأخرى، في إطار وحدة تُبْنى على مصالح مشتركة حقيقية، وذات فاعلية وأثر ملموس على شعوب وبلدان الإقليم؛ خلافاً لما هو حادث في مؤسسات قائمة الآن لا أثر لها على أعضاء المنظمة وبلدانها.
وقبل ذلك كله لا بد أن تنظر مصر إلى السودان نظرة النِّد والبلد المجاور ذي المصالح المشتركة، وأن تتخلص من نظرة التعالي التي سادت طول الحقبة الماضية، وعندها ستجد فيه بلداً متعاوناً صديقاً يتداعى عند الحاجة إليه. وبالله التوفيق.
وتتميز العلاقة بين مصر والسودان بالارتباط والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، والتمازج العرقي، ومشترك اللغة العربية والثقافة ومن ثَمَّ المصالح المشتركة.
وفي ظل تنامي العلاقات الدولية مؤخراً تتجه الدول إلى البحث عن المقومات المشتركة التي تنشدها مع غيرها في توثيق التعاون في ما بينها لخدمة مصالحها المشتركة؛ سواء كانت هذه المقومات سياسية، أو حضارية، أو اقتصادية. ومن هذا المنطلق اتجهت كلٌّ من مصر والسودان إلى الارتباط ببعضها برباط علاقات (التكامل) في فترة من الفترات؛ لتحقيق أفضل استخدامٍ للموارد المشتركة في مجالات السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأمن، وصولاً إلى غاية رفاهية شعبَي وادي النيل، وتأمينهما ضد المهددات الداخلية والخارجية.ولكن مؤشر توتر العلاقات بينهما ظل كعادته في الارتفاع، حتى توقف نشاط برنامج (التكامل)، وأُلغيت اتفاقية الدفاع المشترك بينهما. والآن وفي ظل ثورة الخامس والعشرين من يناير التي رفعت شعارات الوطنية ومحاربة الفساد والإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي، قد تجد مصر أنها في طريق العودة إلى موقع الريادة في الوطن العربي والإسلامي، وأن هذا الطريق يمر عبر بوابة السودان الذي ستحتاج لدعمه الأمني باعتباره العمق الإستراتيجي لمصر، ودعمه الاقتصادي لحل مشكلة الأمن الغذائي، ودعمه السياسي في المنظمات الإقليمية والدولية.
مصر:
مصر هي أرض الحضارات والثقافات، وظلت هكذا فاعلة عبر التاريخ تؤثر وتتأثر بالسياسيات الإقليمية والدولية سلباً وإيجاباً بما يفرضه موقعها الجغرافي، ودورها المتميز في الواقع السياسي.
تقع مصر في الركن الشمالي الشرقي لإفريقيا، وتدخل في قارة آسيا بجزء من أراضيها (7% من المساحة)؛ وذلك بين خطي عرض 22.35 - 32 شمالاً وخطي طول 25 - 35 شرقاً، تطل على البحر الأبيض المتوسط بساحل يبلغ طول 909 كم، وشاطئ البحر الأحمر بطول ساحل يصل إلى 1.370 كم، مساحتها 1.001.450 كم مربع، تحدُّها غرباً ليبيا، ومن الجنوب السودان، وشرقاً البحر الأحمر وفلسطين المحتلة، وشمالاً البحر الأبيض المتوسط.
تشير الدراسات إلى أن حجم السكان يفوق الـ 70 مليون نسمة الآن.
تُعَدُّ قناة السويس من أهم الممرات المائية؛ إذ تمرُّ من خلاله تجارة الشرق الأقصى، والخليج العربي وشرق إفريقيا في طريقها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وهي نقطة التقاء للشرق والغرب.
وتتأثر مصر بدول الجوار كثيراً، ولكن تأثُّرها بالسودان أكبر؛ فهو العمق الإستراتيجي لمصر كما ظهر في كل حروبها، وكل الحملات التي غزت السودان كانت تدخل عن طريق مصر. والسودان بحكم الموقع يمثل جواراً إستراتيجياً على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، والسودان يمثل أكبر وعاء لحوض النيل، وهو ثاني دول حوض النيل انتفاعاً بمياهه بعد مصر.
لقد احتلت مصر في القرن الثامن عشر موقعاً إستراتيجياً على خطوط التجارة العالمية، نتيجة للثورة الصناعية في أوروبا؛ جعلتها محطة أساسية للغربيين في طريقهم إلى الهند، وهدفاً لمطامع الإمبراطوريات الأوروبية المتنافسة على آسيا وإفريقيا، بعد أن خسرت مستعمراتها الأمريكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وازدادت أهمية الموقع الجغرافي لمصر بعد إنشاء قناة السويس التي اختصرت طريق الملاحة التجارية، وسهلت استعمار إفريقيا والشرق الأوسط، ولعبت مصر دوراً هاماً في القرن العشرين، عبر مساهمتها في تحرير المناطق المستعمرة في العالم العربي وإفريقيا، ومن ثَمَّ القضاء على الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية، وشكلت سداً منيعاً أمام المشروع الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل الكبرى.
ساهمت مصر في إعداد النخب والقيادات العربية والإسلامية عبر الأزهر الشريف، والجامعات المصرية، وعبر مراكزها التربوية وبعثاتها التعليمية في الوطن العربي، ولعبت دور القطب الجاذب للعالم العربي والإسلامي.
في نهايات القرن العشرين بدأ نجم مصر يخبو بعد توقيع اتفاقية (كامب دافيد) مع إسرائيل، تلك الاتفاقية التي أدت إلى انحسار تأثير مصر على دول المنطقة إلى موقع لا يتناسب مع حجم مصالحها وقيادتها لدول المنطقة لفترة طويلة، وظلت هذه الاتفاقية تحكم السياسة الخارجية المصرية، وتؤثر سلباً على دورها في المنطقة عموماً وعلى السودان خصوصاً. والواقع يقول أيضاً: إن انحسار الدور المصري في السياسة الخارجية للإقليم، لم تعوضه أيٌّ من عواصم الإقليم حتى يومنا هذا منفردة أو مجتمعة.
وتكتسب جمهورية مصر العربية أهمية كبرى في المنطقة؛ لِـمَا لها من دور في البيئة الإقليمية والدولية، ولِـمَا لها من ثقل سياسي واقتصادي وإعلامي واجتماعي وثقافي وأمني وعسكري لا يستهان به، ولِـمَا لها من تأثير في العالَـمين العربي والإسلامي.
وتشير الدراسات المتعلقة بالتركيب العرقي للعالم، أن سكان مصر القديمة وسكان شمال السودان ينتمون للعنصر الحامي، الذي دخل هذه المنطقة منذ أزمنة بعيدة، ويُعتَقَد أنه جاءها من جنوب الجزيرة العربية، وبالنزوح جنوباً ظهرت القبائل النيلية الحاميَّة في جنوب السودان.
ظل الدين عامل ربط بين شمال الوادي وجنوبه؛ حيث وفدت الوثنية المصرية على السودان ثم النصرانية، ودخل الإسلام إفريقيا بعد الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي؛ حيث صارت مركزاً لانتشار الدعوة غرباً وجنوباً، ومنها دخل الإسلام للسودان في عام 651م، وتدفقت بعدها القبائل العربية إلى السودان حاملة معها ثقافتها وحضارتها، التي أصبحت بمرور الوقت ثقافة وحضارة غالبية السكان في السودان.
تطوُّر العلاقات بين الدولتين:
بعد استيلاء محمد علي باشا على مصر وتثبيت دعائم سلطانه فيها، أخذ يعمل جاهداً في توسيع رقعة مُلْكه، وتحقيق تطلعاته شرقاً في الأراضي الحجازية، وغرباً في ليبيا، وجنوباً في السودان الذي يحقق له تجنيد رجاله في جيشه لرد أطماع فرنسا وإنجلترا في حكمه، وأن يدعم اقتصادياً دولته من مناجم الذهب التي اشتهر بها السودان، وله هدف إستراتيجي آخر من فتح السودان وهو تأمين منابع النيل، الذي تعتمد عليه مصر اعتماداً كلياً باعتباره مورد الري الوحيد للأراضي الزراعية، ثم استغلال موارد السودان من غير الذهب، وتسويقها في الأسواق العالمية، وفتح أسواق جديدة لصادرات مصر في السودان. وكان محمد علي يدرك حقيقةً أن السودان يمثل العمق الإستراتيجي لمصر، وضرورة تأمين سواحل البحر الأحمر لضمان حماية وسلامة الملاحة لأساطيله بعد سيطرته على الحجاز، وأخيراً أدرك محمد علي باشا أن السودان يمثل العمق لمصر ويمكن استغلاله كعمق دفاعي إذا هاجمته إحدى الدول الأوروبية، وعلى الرغم من الجهد التركي في إبراز ملامح خريطة السودان الحديث في الفترة من (1863 - 1869م) وإدخال الثقافة العربية والإسلامية، وتفعيل النشاط الاستثماري في مجال التعدين وزراعة القطن وحلجه؛ إلا أن سياسة القهر التركية في معاملة السودانيين أدت إلى تذمرهم، وشكَّلت بداية التمرد عليهم وتفعيل الثورة الوطنية، وقيام الثورة المهدية في السودان حتى تحرير الخرطوم من قبضة الأتراك في 26 يناير 1885م. ثم قررت بريطانيا استعادة السودان، وتم ذلك بعد معركة (كرري) في 2/9/1898م، وهو بداية ما يعرف بالحكم الثنائي، الذي أجج بدوره الغضب السوداني على مصر لتعاونها مع الإنجليز في مواجهة السودان؛ علماً بأن مصر كانت تَحْكُم اسمياً، وكانت السيادة الحقيقة للإنجليز. وعند هبوب رياح النهضة الوطنية المصرية طالب قادتها باستعادة السيادة على السودان لصالح مصر ولم يصححوا الوضع القائم والدعوة لاستقلال السودان، في حين أن المفهوم الذي ارتبط بأذهان الوطنيين السودانيين بعد ثورة 1924م وفي الأعوام 1945 - 1956م كان يطالب بجلاء الاستعمار عن مصر والسودان، وفي هذا يقول الكاتب المصري عمر طوسون: (فالسودان هو أرض السلام الذي ظل مفتوحاً لمصر منذ الأزمان الخالية، ويجب أن يبقى كذلك؛ لأنه لازم لها لزوم الروح للجسد، وإلى هذا الغرض يجب أن تصوَّب جميع مجهودات أولئك الذين في يدهم حظ مصر، وفي قلبهم يضمرون لها النفع والمصلحة).
تكونت (جمعية اللواء الأبيض) في السودان في عام 1924م بقيادة علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين، واعتُمد التنسيق بين العسكريين والمدنيين في مناهضة الحكم الإنجليزي في السودان. وكان توُّجه الجمعية وحدوياً؛ أي الاتحاد مع مصر، ونسق في ذلك مع الحركة الوطنية في مصر ممثلة في الجمعية الوطنية المصرية للدفاع عن السودان، التي رفعت شعار (وحدة وادي النيل)؛ إلا أن مفهوم الشعار كما أشار الأستاذ أبو القاسم حاج حمد في كتابه (السودان المأزق التاريخ وآفاق المستقبل) كان يعني عند السودانيين الحق العربي الإسلامي كإطار يحتوي البلدين ثقافة وتاريخاً ورباطاً قومياً، ولكنه في الجانب المصري كان يعني عندهم حقوق مصر في السودان ومصالح السودان في مصر، وهي كما أشار الكاتب تتفق وروح الـمَلَكية الإقطاعية التي كانت سائدة ردحاً من الزمان في مصر؛ لذا لم يحقق الشـعار تكامـلاً حقيقياً شـعبياً بينهما، ولا إستراتيجية ولا تحركاً موحداً؛ فقد اتصفت مصر بالسلبية تجاه حركة اللواء الأبيض والشارع السوداني وطليعة المثقفين فيه، وقيدت تحرك الوحدات العسكرية المصرية في السودان لإسناد التحرك العسكري المسلح في السودان، ثم قبلت عقب مقتل (السير لي إستاك) بالقاهرة الإنذار المهين كما وصفه المؤرخ الإنجليزي (أرنولد توينبي)، وكان أقصى ما فعله سعد زغلول حينها هو الاستقالة من رئاسة الحكومة، ليقوم غيره بتنفيذ بنود الإنذار وبضمنها تخلي مصر نهائياً عن وجودها في السودان تحت التهديد البريطاني، والتلويح باتفاقية مياه النيل التي تمَّت في عام 1929م، والتي رأى السودانيون أنها كانت مجحفة في حقهم لصالح مصر؛ وهو ما أدى إلى إضافة عامل آخر في إضعاف الثقة بمصر عند السودانيين، وكانت الحصيلة أن بدأ التحول في الوعي السياسي السوداني من المثالية المجردة إلى الواقعية وإلى إثبات الذات والحقوق السودانية المستقلة عن مصر.
ظل الود بين شعبي وادي النيل باقياً مستمراً برغم ما ينتابه أحياناً من منغصات، ورغم ما يحدث بين أنظمة الحكم في البلدين من خلاف وما يعتري علاقتهما من توتر وخصام بسبب تضارب المصالح واختلاف وجهات النظر حول المسائل السياسية، وهو ما يدلل على خصوصية هذه العلاقة بين مصر والسودان، ويؤكد حاجة كلٍّ منهما للآخر، فاستمر جهد كل دولة في إزالة الجفوة والسعي إلى تقنين العلاقة وتأطيرها، غير أن كل الجهود لم تؤتِ ثمارها كما أريد لها.
العلاقات في الفترة بين عامي (1956 - 2007م):
في الفترة من عام 1956 - 2007م تميزت مسيرة علاقات مصر والسودان بالترقب والحذر؛ تنفرج أحياناً وتزداد تعقيداً في فترات أخرى، وكان للمرحلة حيويتها التي فرضتها ظروف التطور السياسي على كلا البلدين.
ففي مصر حسمت القيادة المصرية رؤيتها السياسية في قيام دول على قاعدة تحالف قوى الشعب العاملة، في إطار فلسفي يستند على الفكر أو القومية العربية، وبوفاة جمال عبد الناصر عام 1970م نادت (مصر السادات) بالانفتاح الليبرالي وَفْقَ الرؤية الغربية للتمازج مع رؤية السادات في دولة العلم والإيمان وتقاليد القرية، وبعد اغتيال السادات أعقبه حسني مبارك الذي لخص مساره في أنه ليس محمد أنور السادات وأنه ليس جمال عبد الناصر. أما في السودان فقد خاضت التجربة مسار الدائرة المغلقة على الحكم الليبرالي والانقلابات العسكرية، وعلى مدى الخلاف في مفهوم الدولة ونظام الحكم ومضمون السلطة في البلدين، ظلت خصوصية العلاقة على غموضها وضبابيتها تطرح المهدئ والمسكِّن لأي محاولة توتر أو تعكير صفو العلاقات.
في فترة الحكم العسكري الأول في السودان بقيادة الفريق عبود تم التوصل إلى اتفاق حول مياه النيل وإنشاء السد العالي، بعد أن جاء في بيانه الأول أن حكومته ستسعى لإزالة الجفوة المفتعلة بين الشعبين المصري والسوداني، التي كان يرى أنها من صنع السياسيين؛ حيث سبق أن ظهرت مشـكلة الحدود (منطقـة حلايب) في عهد رئيـس الوزراء عبد الله خليل، تلك التي لم تُثَر مرة أخرى في عهد حكومة عبود.
أثَّرت أحداث ما بعد فترة الرئيس عبود - وهي ما عرف بالديمقراطية الثانية بين عامي 1964 - 1969م - على علاقات مصر والسودان؛ فمصر التي لم تُعِر ثورة أكتوبر السودانية أي اهتمام، وجاء ردُّ فعلها إعلامياً بمعلومات مغلوطة أدت إلى إثارة الشارع السوداني وخروجه محتجاً على الإعلام المصري والإساءة للعلم المصري؛ وهو ما يعد في عالم العلاقات داعماً للمواجهة، ولكن القيادة المصرية اعتبرت ذلك انفعالاً جماهيرياً طبيعياً وتجاوزت الأمر.
اندلعت حرب يونيو عام1967م وأثبت السودان مرة أخرى أن علاقاته مع مصر تبنى على إستراتيجية ذات أهداف واضحة، ووقف إلى جانب مصر، بل أعلن الرئيس إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة أن السودان دولة مواجهة مع إسرائيل، وأن جُلَّ إمكاناته لخدمة المعركة، وعمل في انسجام تام مع زعيم المعارضة السيد محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء وتمكنا من جمع شتات الأمة بعد النكسة، فكانت قمة الخرطوم (قمة جامعة الدول العربية) المشهورة بلاءاتها الثلاث، واستعادت الأمة وحدتها والتقت أهدافها؛ حيث التقى العاهل السعودي الملك فيصل بالزعيم ناصر، وانتهى الخلاف حول اليمن، ووقف نزيف الدم العربي في ذلك الجزء من الوطن، تكفلت الدول العربية بدعم المجهود الحربي في دول المواجهة (مصر، وسوريا، والأردن).
امتدت فترة حكم الرئيس نميري إلى ستة عشر عاماً، وشهدت استقراراً وتطوراً في العلاقات بين مصر والسودان، على الرغم من بعض فترات البرود أو التوتر؛ كما حدث عندما أعاد السودان علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية دون الرجوع إلى مصر؛ وهو مما يعكس عدم إلمام الإخوة في مصر بالمزاج السوداني الاستقلالي، ولكن المياه عادت إلى مجاريها واستمرت العلاقات في وتيرتها الطبيعية، وكان لقوة شخصية الزعيم عبد الناصر وتجرده لخدمة قضايا الأمة أثر بالغ في هذه العلاقة.
خَلَف السادات عبد الناصر في حكم مصر وكان لمزاجه الشخصي في العلاقات مع السودان وإستراتيجية حماية ظهر مصر، أثرهما في علاقته السياسية الخارجية مع السودان، خوفاً من تحول محور (أديس أبابا - عدن) والالتفاف عليه من الخلف بدعم سوفييتي، فكوَّن الحلفَ المضاد مع (السودان - ليبيا) وتأكيداً لتخوفه من حلف عدن فقد وقع انقلاب 19 يوليو 1971م الذي قام به الشيوعيون في السودان، وكان يتوقع بنجاحه تطويق مصر وحكم السادات من الجنوب، وهو ما دعا السادات للتحرك وإعلان حمايته للسودان وحماية النظام الإقليمي ككل وعدم السماح بالتدخل في شؤون السودان الداخلية، ونتيجة لهذه الواقعة وأحداث 1976م التي قادتها المعارضة السودانية بدعم من ليبيا، وقَّع البلدان ميثاق الدفاع المشترك في 15 يوليو 1976م.
باغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981م وتولي الرئيس مبارك الحكم في مصر، بدأت حقبة جديدة من العلاقات المصرية السودانية، واستمرت في بدايتها على النمط السابق بالحفاظ على علاقات ودية تحقق بها مصر إستراتيجية العمق المصري في السودان والأمن المائي، وسعى البَلَدان إلى ترقية منهاج العمل التكاملي (الذي كان في عام 1974م) لتنمية القدرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية للبلدين، في إطار التكامل المشترك، وتُوِّج ذلك بتوقيع ميثاق التكامل في أكتوبر 1982م بهدف تقنين العلاقة وإخضاعها للإشراف الحكومي لكلا الدولتين.
فأنشئت كثيرٌ من المؤسسات والأجهزة السياسية والفنية للإشراف وتحقيق الأهداف والمبادئ التي تضمنها الميثاق، وشملت المجلس الأعلى للتكامل برئاسة رئيسي الدولتين، وبرلمان وادي النيل، والأمانة العام للتكامل، واللجان الفنية المشتركة، وصندوق التكامل واللجان الفرعية الأخرى. واتُّفِق على تنفيذ ثلاثة محاور لتحقيق أهداف الميثاق، هي:
• تنمية المصالح المشتركة بين البلدين في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
• إزالة القيود والحواجز خاصة في مجال التبادل التجاري والسلعي بين البلدين.
• العمل على إزالة الاختلافات والتباينات بين الشعبين لتأكيد الوحدة التاريخية والمصير المشترك.
أثبت الواقع التنفيذي للميثاق كثيراً من الإيجابيات والسلبيات التي كان أهمها الانتقاد الحاد لها في كلٍّ من مصر والسودان؛ بأنها فُرضَت من أعلى وتجاهلت عنصر التفاعل الشعبي معها. ثم شهدت العلاقات فتوراً واضحاً في نهايات عهد الرئيس نميري، وتوقف العمل في قناة جونقلي نتيجة لنشاط التمرد في جنوب السودان، وتدهور الحالة الأمنية، التي لم تفعَّل اتفاقيةُ الدفاع المشترك للحفاظ عليها.
وبقيام الانتفاضة الشعبية في السودان والثورة على حكم النميري، توترت العلاقة بين البلدين في بداية هذا العهد، واتسمت بالمواجهة المعلنة ورفض كلٍّ من البلدين لسياسة الآخر؛ حيث اتهم السودان مصر بالمسؤولية عن دعم حكم النميري، وحماية استمراره وطلبت الحكومة السودانية تسليم الرئيس نميري الذي بقي في مصر بعد قيام الانتفاضة الشعبية، ورفضت مصر ذلك باعتباره لاجئاً سياسياً، وطالبت حكومة السودان في المقابل بإلغاء كل الاتفاقيات والمواثيق مع مصر، وفتح ملف الحدود (قضية حلايب)، ومراجعة اتفاقية مياه النيل.
دعمت مصر ثورة الإنقاذ في عام 1989م في بداية عهدها نتيجة لمعلومات استخبارية مغلوطة رأت أن قادة الثورة هم من الذين يقفون مع الخط الناصري ويدعون إلى علاقات حميمية مع مصر، وقدَّمت مصر أول اعتراف بالنظام الجديد ودعمِه وقدمته للآخرين، وباكتشاف اللَّبس الذي وقعت فيه أجهزة المخابرات المصرية، نكصت مصر عن دعمها؛ بل واجهت النظام بالعداء واستغلت انشغال السودان بالوضع في الجنوب والناحية الأمنية ومواجهة المشاكل الاقتصادية التي ورثتها ثورة الإنقاذ، وقامت باحتلال (مثلث حلايب) تلك القضية المسكوت عنها طوال العهود السابقة منذ عهد عبد الناصر، واعتبر السودان ذلك عداءً سافراً من الحكومة المصرية؛ يصب في الرؤية الأمريكية التي رأت أن تضيِّق على السودان بفرض القيود والحظر والمقاطعة الاقتصادية ،ومحاربته من قِبَل جيرانه؛ تلك الخطة التي رعتها (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية في ذلك الزمان، وجمعت ستاً من دول جوار السودان، ولكنَّ لُطْف المولى - سبحانه وتعالى - صرف معظمَهم عن غزو السودان لمشاكل داخلية في بلدانهم، أو لمواجهات تمت بين تلك البلدان بعضها بعضاً، ما عدا يوغندا التي شاركت في عملية الأمطار الغزيرة بقواتها لغزو جنوب السودان، ولكن السودان بسبب ظروفه الداخلية تعامل بحكمة مع قضية حلايب ولم يلجأ إلى التصعيد العسكري وآثر حل القضية سلمياً عبر المنابر الدولية، وهو ما ترفضه مصر. وظلت قضية الحدود مع مصر من المسائل الشائكة التي تعيق تطوُّر العلاقات بين البلدين، ثم جاءت تداعيات حرب الخليج الثانية وألقت بظلالها على العلاقات المصرية السودانية، نتيجة لاستغلال مصر للحدث والاستفادة من الدعم الأمريكي ومسايرة السياسة الأمريكية وإصرار السودان على الحل العربي المتفق عليه، الذي تم التآمر عليه بليل خلال مؤتمر القمة العربية في القاهرة وظهر السودان كأنه مساند لاحتلال العراق للكويت عام 1990م وهو عكس الحقيقة، فرأت مصر في ذلك خروجاً على بيت الطاعة، ومورست الضغوط الغربية والأمريكية على دول المنطقة للتصعيد مع السودان، وفي عام 1995م وصلت العلاقات إلى مفترق طرق بعد حادثة محاولة اغتيال الرئيس مبارك في (أديس أبابا)؛ حيث تصاعد التوتر وتأزم الموقف، وتأثرت المصالح المشتركة بين البلدين؛ إلا أن حدة التوتر انخفضت واكتفى البلدان بما يمكن أن يدخل في نطاق الحرب الباردة، أو بين الشد والجذب والتعاون والتنسيق في المحافل الدولية أحياناً حتى درجة الاتفاق على الحريات الأربع بين البلدين.
العلاقات وأثرها على أمن حوض النيل:
حوض النيل: هو المنطقة التي يجتازها النيل من منابعه إلى مصبِّه، ويتكون الحوض من مصر والسودان (قبل انفصال جنوبه) إثيوبيا، ويوغندا، وكينيا، وزائير، وتنزانيا، ورواندا وبورندي، وتبلغ مساحة الحوض 2.9 مليون كم2، ويبلغ طول المجرى من المنبع إلى المصب 4.190 ميل أو 6.695 كيلو متر، وهو أطول نهر دولي في العالم.
وللحوض أهمية سياسية، وهو ما جعله موضعاً للصراع الاستعماري عبر الحقب المختلفة؛ فهو يمر من خلال تسع دول، ويربط بين الشعوب العربية في الشمال والإفريقية في الجنوب والشرق، وهو الحزام الواصل بين الثقافة والثقل العربي الإسلامي والثقافة والثقل الإفريقي في الجنوب؛ الأمر الذي جعل الدول الغربية وإسرائيل تسعى لاستغلاله، والتحريض على تهديد الأمن القومي المصري والسوداني (هاتين الدولتين المطلتين على البحر الأحمر)، وتأتي أهميتهما من كونهما منافذ بحرية لبعض دول الحوض الحبيسة، مع اعتبار أهمية مياه النيل واستغلالها ضد مصر والسودان، وظلت مياه النيل مطمعاً أساسياً في المخطط التوسعي الصهيوني في إطار إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات لري صحراء النقب.
باستثناء مصر فإن كل دول الحوض تقع في القرن الإفريقي، وتتميز بعدم الاستقرار السياسي، وهو بؤرة للنزاعات في القارة الإفريقية ومنطقة صراع دائم؛ وهو ما سهَّل التدخل الأجنبي أو الحاجة إليه لغرض الدعم، ثم إن اتفاقية مياه النيل نفسِها هي موضع نزاع دائم بين دول الحوض؛ إذ تُستَغل بالتحريض الأجنبي لاستمرار التوتر في المنطقة بين دول الحوض من جانب، والسودان ومصر من جانب آخر.
الأهمية الاقتصادية لحوض النيل:
يتمتع حوض النيل بكثير من الموارد الاقتصادية التي لم تُستَغل حتى الآن؛ حيث تتوفر فيه المياه لري الأراضي الصالحة للزراعة وترتفع فيه نسبة الخصوبة، ويمكن قيام مشروعات مشتركة في مجالَي الأمن الغذائي والصناعي والطاقة الكهربائية، وهو ما لا يرضي القوى الأجنبية ومصالحها.
لقد استمرت العلاقات بين دول حوض النيل مستقرة نسبياً منذ اتفاقية عام 1959م بين مصر والسودان التي نظَّمت استفادةَ كلٍّ منهما من مياه النيل؛ إلا أن الخلافات تظهر من أطراف أخرى بين دول الحوض؛ خاصة التي لم تمنحها الاتفاقية أي نصيب من المياه، ومصر والسودان صاحبتا النصيب الأكبر، أو نتيجة لسياسات التنمية الزراعية والصناعية التي تنتهجها دول الحوض من حين الآخر؛ وهو ما يقلق مصر كثيراً على نصيبها من المياه.
إن كُلاً من البلدين (مصر والسودان) يمثل عمقاً إستراتيجياً للآخر؛ فوادي النيل (مصر والسودان) هو قلب الوطن العربي، وبوابة إفريقيا إلى قارتي آسيا وأوروبا، وهو امتدادهما الطبيعي إلى قلب القارة الإفريقية وشرقها، وله مقومات وإمكانيات تعكس ضرورة التكامل، باعتباره يمثل الصحوة المثلى لتحقيق المصالح المشتركة، وبذلك يصبح السودان ومصر وحدة تهديد واحدة لأطماع الدول العظمى.
وأمن وادي النيل يحتم قيام أمن مشترك بين مصر والسودان، لحماية مصالحهما في وجه التهديد الغربي والإسرائيلي، في ظل غياب الوعي القومي العربي الذي تمثِّله جامعة الدول العربية، وهو الذي غاب تماماً عن الرؤية الإستراتيجية المصرية خلال مسيرة مشاكل جنوب السودان التي انتهت بالاستفتاء على فصل جنوبه عن شماله، وهو ما يعرضه للاستقطاب الصهيوني وتهديد الأمن المائي لمصر وأمنها القومي كذلك؛ إذ قد تستغل إسرائيل هذا الموقف للحضور بثقل عسكري واقتصادي في جنوب السودان أو الدولة الجديدة، وتنهار كافة الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل لوجود هذه الدولة.
لقد استعرضنا مسيرة العلاقات السودانية المصرية، فتبين أن تقاطُع المصالح بينهما مما يؤدي إلى تذبذب وتوتر علاقاتهما، وأن توتر العلاقات ناتج في الغالب الأعم عن تدخلات من القوى العالمية، أو بُنيَت على مصلحة آنية أو تكتيكية لم تهتم بالبعد الإستراتيجي للعلاقات، أو حتى أحياناً النظرة الشخصية للقيادات على مرِّ الأزمان.
ولكن البعد الإستراتيجي لهذه العلاقات يؤكد امتلاك كِلا البلدين لمقومات وإمكانيات تعكس ضرورة التكامل لتحقيق المصالح المشتركة للأمن القومي لمصر والسودان، ويحقق خلقَ قوة في المنطقة لا يستهان بها؛ وهو ما يغري بقية دول الجوار للانضمام لها أو السير في ركابها أو عدم التعرض لها والإضرار بمصالحها؛ حيث تتوفر مكونات الأسس المشتركة لهذا التكامل، متمثلة في اشتراكهما في خلفية اجتماعية وحضارية من واقع انتمائهما المشترك للحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يقرِّب الأهداف المشتركة ويحقق إدراكاً متقارباً للواقع ومن ثَمَّ السياسات، كما أن ارتباط الأمن القومي لكليهما هو حقيقة ترجع إلى واقع الجغرافية والتاريخ والظروف، وهذا مما يدعو إلى ضرورة التنسيق في كل مجالات القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية.
العلاقات المصرية السودانية بعد (25 يناير):
في ظل الأهداف والمبادئ التي تنادي بها (ثورة 25 يناير) في مصر في مجال السياسة الخارجية لاستعادة دور مصر الريادي في الإقليم، والخروج من سلطان السياسة الأمريكية الصهيونية، التي أضعفت ذلك الدور وأضرت بالعلاقات المصرية العربية والإفريقية عموماً، وبالعلاقات المصرية السودانية على وجه الخصوص؛ وهو ما أثَّر على الأمن القومي المصري والأمن القومي السوداني، بل تأذى السودان كثيراً نتيجة لتلك السياسة في الأعوام السابقة، وستؤثر على مصر أكثر في المستقبل لتجاهلها للنظرة الإستراتيجية والاكتفاء بالحلول المرحلية والآنية، وبارتفاع شعار استعادة السيادة المصرية يُتوَقَّع أن تعود العلاقات المصرية السودانية إلى الوضع الذي يخدم كلا البلدين في كل المجالات؛ بما يحقق الأمن القومي لكليهما، فهناك كثير من الأهداف والمصالح المشتركة التي تفرض حتمية التقارب والالتقاء حولها، وتجاوز صراعات وخلافات الماضي. وتشمل تلك الأهداف ما يلي:
• التعاون المشترك في ما يخص اتفاقيات مياه النيل: وذلك لتأمين حصة البلدين من المياه، في ظل تهديد دول الحوض بإعادة النظر في الاتفاقيات.
• التعاون في المجالات الاقتصادية والزراعية والتعليمية: حيث يُعَدُّ السودان من الأسواق المعتبَرة للمنتجات المصرية، والأراضي الزراعية المتوفرة لديه فيها الحل الناجع لمشاكل الأمن الغذائي المصري المتزايدة، تحت تهديد الانفجار السكاني والسيطرة الأمريكية على مصر باستخدام ورقة الضغط المتمثلة في القمح الأمريكي.
التعاون في المجال الأمني العسكري؛ فالسودان الذي يجاور سبع دول بعد انفصال جنوب السودان، والذي تتقاطع مصالحه معهم ومع السياسة الأمريكية التي تقاتل وتتدخل في الدول بالوكالة، يتوقع استمرار التهديد من كل الاتجاهات، كما أن الوجود الصهيوني في جنوب السودان، وتقاطع المصالح المصرية ودول حوض النيل، قد يضطر مصرَ للمواجهة العسكرية؛ التي تُعَدُّ علاقات السودان ومصر عاملاً حاسماً فيها؛ وقد يحسم اتفاق الدفاع المشترك بينهما الصراع قبل بدئه باعتباره عاملَ ردع فاعل.
إن أهمية هذه الأهداف تفرض على مصر والسودان تجاوز المشاكل، واحتواء الخلافات بينهما، والعمل على تنمية وتطوير علاقاتهما؛ ليس سياسياً فقط ولكن في كل مجالات التعاون: اقتصادياً، وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً... وغيرها. وهذا مما سيثير كثيراً من المشاكل على مصر؛ لتقاطُع ذلك مع المصالح الغربية والصهيونية، واستغلال الوضع الداخلي في ظل حكومة ليبرالية لخلق حالة من عدم الاستقرار في مصر بإثارة الخلافات الحزبية والتباين الديني أو الخلاف الإسلامي المسيحي، أو حتى بالتهديد العسكري في الحدود مع إسرائيل.
إذن تحتاج مصر وقبل كل شيء إلى تحديد إستراتيجية السياسية الخارجية، التي يجب أن تبدأ متدرجة حتى لا تفاجأ بفتح جبهات كثيرة، ومواجهة تحديات أكثر في ظل وضع لم يؤسَّس بأرضية اتفاق داخلي صلبة، وبخطط واقعية لمواجهة تلك التحديات، وقد يحتاج هذا إلى جمع الناس حول أهداف الأمن القومي المصري، واعتبارِ العقد الاجتماعي بين المواطن والسلطة؛ في ما يخص الخدمات الضرورية واعتبارات حقوق الإنسان، وتذكُّرِ أن الشعب الذي ثار على نظام القهر والتسلط واستعادة الحقوق، لن يسكن مستقبلاً على أي نظام ينتهك هذه الحقوق حتى لو جاء عن طريق الانتخاب، على أن يكون هذا الفهم وهذا المنهج منطبقاً على القاعدة أيضاً (أي: عامة الشعب) كما هو مطلوب في قمة الهرم الحكومي وهذا يتطلب كثيراً من الجهد وإفراغ الوسع في تبصير وتوعية المواطنين باعتبارات المصلحة القومية والوطنية، والخطوط الحمراء في مسائل الأمن القومي وعدم المساس بها، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وهي من مقتضيات الدين كما هي من ضروريات الدنيا. وبذلك يمكن حماية البلاد وتحصينها ضد حالة (الصومال) أو التشرذم بقدرات بنيها وعباقرتها ومخلصيها، وبتوحيد الكلمة وجمع الصف، ثم لا بد عند اختيار المسؤولين تفعيل قاعدة (القوي الأمين) وإبعاد الذين تضعف عندهم الأجندة الوطنية، والذين تتقوى بهم العناصر المعادية في تفكيك وتشتيت الوحدة والرأي.
أيضاً لا بد من الاجتهاد في الخروج بنظام ودستور يقلل من الاختلاف والتعارض في الرأي وترعى فيه المعارضة المصلحة الوطنية قبل الحكومة، وأن تكون الغاية هي مصالح وتطلعات الشعب والأمة.
يقول خبراء الاقتصاد بأن الأزمة الاقتصادية في مصر ازدادت بزيادة النفوذ السياسي لطبقة رجال الأعمال ومشاركتهم في الحكومة، ولتنفيذ القرارات الاقتصادية الجائرة في حق البلاد والعباد؛ وهو ما أدى إلى زيادة التضخم والبطالة والديون. وإصلاح الحالة الاقتصادية يتطلب الخروج من هذه الدائرة وإسناد الأمر لأهل الاختصاص.
من المؤكد أن مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لن تعود كمصر ما قبل ذلك، فإن أرادت مصر استعادة موقعها في خريطة الوطن العربي السابقة على الأقل فالسبيل إلى ذلك هو انتهاج سياسة تحقق سيادتها الوطنية أولاً والعمل على خدمة قضايا الأمة؛ بالأخص قضيتها المحورية (فلسطين)؛ فالمتوقع أن تتغير السياسة المصرية الخارجية بالتدرج في ظل معطيات الواقع الداخلي والوضع الإقليمي والدولي واعتبارات الأمن القومي، وليس من الحكمة فتح ملفات (كامب دافيد) والعلاقات مع الولايات المتحدة في عجالة انفعالاً مع شعارات الثورة، بل قد تحتاج إلى فترة لترسيخ النظام وتأسيسه، وكسب تأييد دول المنطقة والأمة الإسلامية ودول عدم الانحياز إن وجدت.
ما جاء في حق مصر في السياسة الخارجية والداخلية يحتاجه السودان في الفترة القادمة أيضاً لخلق وضع مستقر متطور ونامٍ؛ يمكن أن يحقق - بالتعاون مع مصر - وضعاً إقليمياً يخدم مصلحة البلدين، ويتوقع السودان من العهد الجديد في مصر حل مشكلة الحدود الأزلية المسكوت عنها، وإنهاء الاحتلال العسكري لحلايب وإيقاف سياسة التمصير التي انتهجها نظام حسني مبارك، وأن يعتمد الطرفان أسلوب الحوار أو التحكيم لحل المعضلة نهائياً، وقد يكون ذلك في إطار منطقة تكامُل كما هو مقترَح لخدمة البلدين، ولكن في ظل الحق القانوني للسودان في حلايب ومناطق الخلاف الأخرى أيضاً. يحتاج السودان في ظل مقتضيات الأمن القومي، وظروفه الداخلية وبيئته الإقليمية والدولية إلى تطوير علاقاته أمنياً وعسكرياً مع مصر بشكل لا يدعو لإثارة البيئة المحلية والإقليمية والدولية.
وفي ظل التعاون الاقتصادي المشترك يُتوَقع أن يكون السودان وسيلة لتمزيق ورقة الضغط الأمريكية (الأمن الغذائي المصري)؛ فموارد السودان الزراعية بالتعاون الفني مع مصر يمكن أن تكون نتائج المشاريع الاقتصادية والزراعية فيها خاصة ذاتَ فائدة كبيرة لشعبَي وادي النيل.
إن قضية مياه النيل تحتاج لبلورة رؤية سودانية مصرية تخدم مصلحتيهما مع اعتبار مصالح دول الحوض الأخرى، بل الأجدى كسب دول الحوض الأخرى لخدمة هذه الرؤية بدلاً من مقاطعتها، أو فرض الرأي عليها، ولو كان وَفْقَ مجريات القانون الدولي؛ فالمعلوم أن آليات تنفيذ القانون الدولي حالياً تخضع كلها للمصالح الغربية، ولن تخدم مصلحة مصر والسودان وقتها.
إن قضايا السودان الداخلية بعد (نيفاشا) ومآلاتها المتوقعة تحتاج إلى الدعم المصري؛ وخاصة أنها مؤثرة وتتأثر بأهداف السياسة الدولية، مثل قضية (دارفور)، وما سينتج من اتفاق نيفاشا في مناطق: أبيي، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق.
لا شك أن مجالات التعاون بين السودان ومصر كثيرة ولا حصر لها، ونشير فقط لقضايا: التعليم، وتنمية الموارد البشرية، والإعلام إضافة إلى ما ذُكِر.
إذن التكامل بين البلدين يحقق مصالح وأهدافاً تصب في أمن ومصلحة كليهما، وقد يكون ذلك مثلاً حياً لجميع بلدان الإقليم الأخرى، في إطار وحدة تُبْنى على مصالح مشتركة حقيقية، وذات فاعلية وأثر ملموس على شعوب وبلدان الإقليم؛ خلافاً لما هو حادث في مؤسسات قائمة الآن لا أثر لها على أعضاء المنظمة وبلدانها.
وقبل ذلك كله لا بد أن تنظر مصر إلى السودان نظرة النِّد والبلد المجاور ذي المصالح المشتركة، وأن تتخلص من نظرة التعالي التي سادت طول الحقبة الماضية، وعندها ستجد فيه بلداً متعاوناً صديقاً يتداعى عند الحاجة إليه. وبالله التوفيق.