- الأحد مايو 05, 2013 2:18 am
#62233
تعريف الأمان:
قال ابن منظور: "استأمن إليه: دخل في أمانه، وقد أمنه وآمنه، والمأمن: موضع الأمن , والأمن: المستجير ليأمن على نفسه"، وقال الجوهري: "الأمان والأمانة بمعنى، وآمنت غيري من الأمن والأمان". فالأمان يعتمد على ركنين أساسيين، هما المؤمن والمستأمن، فالمستأمن: هو من طلب الأمان لنفسه ليدخل بلاد المسلمين مدة معلومة.والمؤمن: هو الذي يعطي الأمان. والأصل في الأمان قوله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).
من له حق إعطاء الأمان؟
الأصل في هذا أنه الإمام أو نائبه، لأنه ينظر إلى ما فيه مصلحة المسلمين، ويجوز أن يكون المؤمن من أفراد الرعية من المسلمين المكلفين ذكوراً كانوا أو إناثاً، والحر والعبد في ذلك سواء، هذا ما عليه جمهور أهل العلم، وخالف أبو حنيفة في أمان العبد، فإنه لا ينعقد عنده إلا أن يكون مأذوناً له في القتال. ولا أمان للمجنون ونحوه. قال صلى الله عليه وسلم: "وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". قال الحافظ ابن حجر: (ذمة المسلمين واحدة: أي أمانهم صحيح، فإذا أمن الكافرَ واحدٌ منهم حرم على غيره التعرض له).
وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: " من هذه "؟، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال: "مرحباً بأم هانئ"، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلمنا انصرف قلت يا رسول: زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرتُــه، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد أجَرْنا من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: "وكان ذلك ضحى".
صيغ انعقاده:
وينعقد عقد الأمان بكل لفظ يُفهَم منه معناه، سواء كان صريحاً أو كناية وسواء كان بالكتابة أو الرسالة أو الإشارة.
وفي فتح الجليل مختصر خليل للشيخ عليش: (ثم الأمان يكون بلفظ أو إشارة مفهمة من شأنها فَهْم العدو الأمان منها، وإن قصد المسلمون بها ضره، كفتحنا المصحف، وحلفنا أنا نقتلهم، فظن -أي الكافر -تأميناً فهو تأمين). وينطبق عقد الأمان في عصرنا الحاضر على:
1. تأشيرة الدخول، والزيارة.
2. على دعوات الآحاد من المسلمين التي توجه إلى أناس من المشركين للزيارة ونحوها.
3. عقود العمل أو استقدام الفنيين ونحوهم من قبل شركات يملكها مسلمون وغير ذلك من كل صورة ينطبق عليها التوصيف الشرعي للأمان.ومتى انعقد الأمان صار للحربي المستأمن حصانة من إلحاق الضرر به سواء من المسلم المؤمَّن أو ما غيره من المسلمين أو حتى الذميين، وتقدم الحديث آنفاً وفيه: "فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله...".
قال ابن قدامة: (الأمان إذا أعطي أهلَ الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم).
وقال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: "وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" المراد بالذمة هنا الأمان. معناه: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمّنه به أحد المسلمين حرُم على غيره التعرُّض له ما دام في أمان المسلم، وللأمان شروط معروفة".
وقال الشيخ العلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه الله تعالى: "قتل الذمِّي والمعاهد والمستأمن حرام، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً))، أورده البخاري هكذا في كتاب الجزية، ((باب إثم مَن قتل معاهداً بغير جُرم))، وأورده في كتاب الديات، في: ((باب إثم من قتل ذمِّيًّا بغير جُرم))، ولفظه: ((مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً))، قال الحافظ في الفتح (12/259): ((كذا ترجم بالذمِّيِّ، وأورد الخبر في المعاهد، وترجم في الجزية بلفظ: (مَن قتل معاهداً)، كما هو ظاهر الخبر، والمراد به مَن له عهدٌ مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان أو أمان من مسلم)). ورواه النسائي (4750) بلفظ: ((مَن قتل قتيلاً من أهل الذِّمَّة لم يجد ريح الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً))، ورواه أيضاً (4749) بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قتل رجلاً من أهل الذِّمَّة لم يجد ريح الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً))، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل معاهداً في غير كُنهه حرَّم الله عليه الجنَّة)) رواه أبو داود (2760)، والنسائي (4747) بإسناد صحيح، وزاد النسائي (4748): ((أن يشمَّ ريحها)). ومعنى ((في غير كُنهه)) أي: في غير وقته الذي يجوز قتله فيه حين لا عهد له، قاله المنذري في الترغيب والترهيب (2/635)، وقال: ((ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه قال: (مَن قتل نفساً معاهدة بغير حقِّها لم يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحَ الجنَّة لتوجد من مسيرة مائة عام)))، قال الألباني: ((صحيح لغيره)). وأمَّا قتل المعاهد خطأ، فقد أوجب الله فيه الدية والكفارة، قال الله عزَّ وجلَّ: ((وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً).
وأقول في الختام: اتَّقوا الله أيُّها الشباب في أنفسكم، لا تكونوا فريسةً للشيطان، يجمع لكم بين خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واتَّقوا الله في المسلمين من الشيوخ والكهول والشباب، واتَّقوا الله في المسلمات من الأمَّهات والبنات والأخوات والعمَّات والخالات، واتَّقوا الله في الشيوخ الرُّكَّع والأطفال الرُّضَّع، واتَّقوا الله في الدماء المعصومة والأموال المحترمة، ((فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ))، ((وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)), ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)), ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)), أفيقوا من سُباتكم وانتبهوا من غفلتكم، ولا تكونوا مطيَّة للشيطان للإفساد في الأرض".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية؟
فأجاب رحمه الله بقوله: "هذا لا يجوز، الاعتداء لا يجوز على أي أحد، سواء كانوا سياحا أو عمالا؛ لأنهم مستأمنون، دخلوا بالأمان، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر. أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب، وتعمه الأدلة الشرعية، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه". [مجموع الفتاوى 89]
وقد ترد عند البعض شبهة مفادها: أن حاكم المسلمين لا يصح عهده للكافرين ولا أمانه لهم إلا إذا كان يحكم بكل الشريعة. فإن ترك الحكم ببعض الشريعة وحكم بغير ما أنزل الله فلا يصح عهده ولا أمانه؛ لأنه كافر فلا تعصم بعهده ولا بأمانة دماء الكافرين.
وهذه الشبهة هي عمدة شبههم التي يدندنون حولها. وهي تدل على جهل واضح بالكتاب والسنة ونصوص الأئمة. وإليك الرد على هذه الشبهة من عشرة أوجه:
(الوجه الأول): أنّ العلماء الثقات في هذا العصر اختلفوا في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله فمنهم من قال بأنه لا يكفر إلا إذا استحل ذلك، كما نص على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- حيث قال: "أما القوانين التي تخالف الشرع فلا يجوز سنها، فإذا سن قانوناً يتضمن أنه لا حد على الزاني أو حد على السارق أو لا حد على شارب الخمر، فهذا قانون باطل، وإذا استحله الوالي كفر لكونه استحل ما يخالف النص والإجماع، وهكذا كل من استحل ما حرم الله من المحرمات المجمع عليها فهو يكفر بذلك"، وقال في رسالة "حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها": [القسم الثاني: من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها، أو ليعين غيره على ذلك، مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك، فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر فسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب "الصلاة" وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة " الرسائل ". واختار بعضهم كفره ولو لم يستحل ذلك. (انظر رسالة الشيخ عبدالرحمن المحمود: الحكم بغير ما أنزل الله)]. وعلى هذا فإننا لو تنزلنا وقلنا بترجيح قول من كفر الحاكم بغير ما أنزل الله من غير استحلال، فإن المسألة تبقى مسألة خلاف بين أهل العلم، كما اختلفوا في تارك الزكاة والصيام والحج. والقاعدة النبوية التي أصلها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تقرر بأن مسائل الخروج وما يترتب عليها من إبطال العهود والمواثيق لا تكون إلا على كفر لا يختلف فيه المسلمون، وهو الذي وصفه بقوله : "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان" أي حجة واضحة بينة لا يختلف فيها عالم. أما أن نلزم الناس بالأحكام المترتبة على كفر الحاكم بناء على ترجيحنا للقول بكفره، فهذا من الضلال المبين. والحكم على الحكام والأئمة في مسائل الكفر والإيمان المختلف فيها يختلف عن الحكم بها على آحاد الرعية.
(الوجه الثاني): أن يقال لا أقل من أن ينزل من حكم بغير ما أنزل الله من الحكام منزلة الخوارج، من حيث اختلاف العلماء في كفرهم، وظاهر الأحاديث يدل على كفر الخوارج، ومع ذلك أمضى العلماء عهود الخوارج وأمانهم وأجازوا دفع الزكاة إليهم إذا غلبوا. قال ابن عمر –رضي الله عنهما-: "تدفع ـ أي الزكاة ـ لمن غلب"، ونص على ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-، بل إن العلماء نصوا صراحة على صحة صلحهم للكفار وعهدهم. فقال سحنون -رحمه الله-: "وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز"، وقال محمد بن الحسن-رحمه الله-: " وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز كأمان أهل العدل "، وهذا في حق الأمان الذي يكون من آحاد الرعية، فكيف بالعهد العام للكفار الذي لا يكون إلا من الحاكم؟! ولا أعلم أحداً من العلماء أبطل صلح الخوارج لأهل الحرب، بل ولا صلح من لم يختلف في كفرهم كالعبيديين وكثير من دول الرافضة المارقة كالسامانيين والبويهيين. ذلك لأن صلح الكافر للكافر جائز.
قال أحد علماء الدعوة النجدية " الدرر 10/338": [يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم بالكتاب والسنة والاعتبار ].
(الوجه الثالث): أننا لو فرضنا كفر الحاكم بغير ما أنزل الله مطلقاً واتفاق العلماء عليه، لم يكن هذا دليلا على بطلان عهده وأمانه للكفار؛ ذلك لأن الكافر يُعصم دمه بالأمان الصريح الصحيح وبالأمان الفاسد ـ الذي هو شبهة أمان ـ وبالهدنة الصحيحة وبالهدنة الفاسدة تغليباً لحقن الدماء، ولئلا يترتب عليه الصد عن سبيل الله، لأن قاعدة الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات. والقاعدة في هذا أن كل ما ظنه الكافر أماناً عصم به دمه ولم يستبح لأجل الشبهة. يدل عليه ما رواه سعيد في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل ـ أي ظناً أنه أراد الأمان ـ فقتله لقتلته". وقال أحمد-رحمه الله-: "إذا أشير إليه ـ أي الكافر ـ بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان "، وقال ابن جزي في القوانين الفقهية: " ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يرده فلا يقتل "، وقال شيخ الإسلام: "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم". وقال أيضاً: " هذا الكلام الذي كلموه صار به مستأمناً، وأدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه". وقال السرخسي: " وذلك لما بين أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي".
ومن شبه الأمان التي تعصم بها دم الكافر: أن يؤمنه كافر بين المسلمين ظنه الكافر المؤمن مسلماً، أو علمه كافراً إلا أنه ظن أن أمانه يصح، وعلى هذا نص الأئمة. فقد روى ابن وهب بإسناده كما في المدونة في "باب أمان المرأة والعبد والصبي" أنّ عمر رضي الله عنه بعث كتاباً إلى سعيد بن عامر وهو يحاصر قيسارية فقال فيه: "وإذا أمنه بعض من تستعينون به على عدوكم أهل الكفر فهو آمن حتى تردوه على مأمنه أو يقيم فيكم، وإن نهيتم أن يؤمن أحد أحداً فجهل أحد منكم أو نسي أو لم يعلم أو عصى فأمن أحداً فليس لكم عليه سبيل من أجل أنكم نهيتموه فردوه إلى مأمنه إلا أن يقيم فيكم، ولا تحملوا إساءتكم على الناس فإنما أنتم جند من جنود الله".
وقال ابن وهب في المدونة: "وقال الليث والأوزاعي في النصراني يغزو مع المسلمين قالا: لا يجوز على المسلمين أمان مشرك ويرد إلى مأمنه"، وقال الشافعي في الأم في باب "الأمان": " وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أم لم يقاتلوا لم نجز أمانهم، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أم لم يقاتل لم نجز أمانه، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز وننبذ إليهم فنقاتلهم". ومن ذلك أيضاً أن يقدموا إلينا في هدنة فاسدة كأن يعقدها غير الإمام، أو على قول هؤلاء أن يعقدها حاكم كافر ظنه الكفار مسلماً، فإنه تعصم دماؤهم بهذه الهدنة الفاسدة للشبهة.
قال الفتوحي رحمه الله في المعونة في كتاب الجهاد: "متى جاء الكفار في هدنة فاسدة بأن يتولى عقدها غير إمام أو نحو ذلك من فساد الهدنة معتقدين الأمان ردوا آمنين إلى مأمنهم"، وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على عصمة دم الكافر بأمان كافر مثله للشبهة مع كون الكافر المؤمن من عامة الناس، فكيف إذا كان الذي أمنهم أو صالحهم هو حاكم المسلمين الذي عاهده الكفار على أنه مسلم فبان كافراً، فلئن تعصم بعهده وأمانة دماء الكافرين ولو بالشبهة من باب أولى؟!
(الوجه الرابع): أن الأمان والعهد إنما عقده الحاكم لمصلحة المسلمين عامة، فرد أمانه وعهده وإبطاله يترتب عليه الضرر على المسلمين.
(الوجه الخامس):أن يقال: إننا لو أبطلنا عهد الحاكم بغير ما أنزل الله، ولم نعصم به دماء الكافرين، فإن هذا يستلزم إبطال كل ماباشره الحاكم أو نائبه مما يشترط في مباشرته الإسلام، كالأنكحة، وولاية جمع المال وتفريقه، والقضاء، وغير ذلك، إذ لا فرق بين عهده للكافرين وبين سائر عهوده وعقوده، وهذا يترتب عليه من الفساد ما يكفي تصوره في بطلانه.
(الوجه السادس): أن القول ببطلان عهد الحاكم بغير ما أنزل الله، للكفار، يستلزم أن يكون الكفار فقهاء محققين لمسألة الحكم بغير ما أنزل الله وأنها كفر، ثم يعملون تحققها في هذا الحاكم بخصوص، لئلا يقدموا على الصلح والأمان فيقدموا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين، ثم تستباح دماؤهم وأموالهم! وهذا بين الفساد والبطلان.
(الوجه السابع): أن إبطال عهد وصلح الحاكم بغير ما أنزل الله للكفار واستباحة دمائهم بذلك يستلزم الصد عن سبيل الله، والتنفير عن الإسلام، لأنهم يظنون أنهم يعاهدون حاكماً مسلماً، وأن دماءهم قد عصمت بالعهد، وكل قتل لهم بعد ذلك يعدونه غدراُ وخيانة، ولا يتصور منهم أن يقلبوا التفصيل الذي يذكره من يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً.
(الوجه الثامن): أن العهود التي يعقدها الحاكم بغير ما أنزل الله مع الكفار قد رضي أهل الحل والعقد بها، وهم وجهاء الناس ومجالس الشورى ونحوها بل وعامة الشعب، فلم يستقل الحاكم بغير ما أنزل الله بهذه العهود والمواثيق. كما أن الذين يباشرون تأمينهم من إعطاء الفيزة وختم الدخول هم آحاد المسلمين وهم راضون بتأمينهم، فكيف تستباح دماؤهم بعد ذلك؟!
(الوجه التاسع): أن إبطال العهود التي يعقدها الحكم بغير ما أنزل الله مع الكفار وكذا أمانه قول باطل ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا نص إمام. وهو قول محدث لا سلف له.
(الوجه العاشر): أن نقول إننا لو قدرنا كون من يحكم المسلمين كافراً بما هو أوضح من مسألة كفره بالحكم بغير ما أنزل الله، كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو عابداً لصنم ونحو ذلك، فإن هذا لا يقتضي أيضا اعتبار عهده وأمانه منتقضاً، واستباحة دماء من أمنهم وعاهدهم، وذلك لأن من يعيش تحت حكومته وولايته من المسلمين يعتبرون مستوطنين، والمستوطن يلزمه من الحقوق ما لا يلزم المستأمن والمعاهد.
يوضحه: أن المسلم الذي يدخل بلاد الكفار بأمان منهم لا يحل له التعرض لهم بنفس ولا مال بالإجماع، مع كون الأمان الذي عصم دماءهم وأموالهم مؤقتاَ، فلأن لا يحل له التعرض لهم ولا لمن في بلادهم وهو مستوطن لها من باب أولى وأحرى، وذلك من أجل عهد المواطنة الذي أصبح مستوطناً به بلادهم، وهذا العهد وإن لم يكن مكتوباً باللفظ إلا أنه معلوم بالمعنى، وهذا لا يستريب فيه من عرف رائحة العلم. ولا تعارض بين هذا وبين ما ورد من جواز الخروج على الحاكم المرتد أو الكافر إذا كان بالمسلمين قوة. ولم يترتب على الخروج مفسدة كبرى كما في الحديث:"إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان"، وذلك أن الخروج على الحاكم حال كفره يعد من باب الجهاد في سبيل الله بعد دعوته وإنذاره، بخلاف قتل المستوطنين والمعاهدين والمستأمنين، فإنه من الفساد والفوضى والغدر والخيانة لا من الجهاد والدعوة ؛ لأنه قتلٌ في حالة أمن ونقض للعهد.
وأخيرا الله عزَّ وجلَّ نسأل أن يُفقِّه المسلمين بدينهم، وأن يحفظهم من مضلاَّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيِّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرابط http://www.majala-koraan.net/index.php/ ... r3iya.html
قال ابن منظور: "استأمن إليه: دخل في أمانه، وقد أمنه وآمنه، والمأمن: موضع الأمن , والأمن: المستجير ليأمن على نفسه"، وقال الجوهري: "الأمان والأمانة بمعنى، وآمنت غيري من الأمن والأمان". فالأمان يعتمد على ركنين أساسيين، هما المؤمن والمستأمن، فالمستأمن: هو من طلب الأمان لنفسه ليدخل بلاد المسلمين مدة معلومة.والمؤمن: هو الذي يعطي الأمان. والأصل في الأمان قوله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).
من له حق إعطاء الأمان؟
الأصل في هذا أنه الإمام أو نائبه، لأنه ينظر إلى ما فيه مصلحة المسلمين، ويجوز أن يكون المؤمن من أفراد الرعية من المسلمين المكلفين ذكوراً كانوا أو إناثاً، والحر والعبد في ذلك سواء، هذا ما عليه جمهور أهل العلم، وخالف أبو حنيفة في أمان العبد، فإنه لا ينعقد عنده إلا أن يكون مأذوناً له في القتال. ولا أمان للمجنون ونحوه. قال صلى الله عليه وسلم: "وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". قال الحافظ ابن حجر: (ذمة المسلمين واحدة: أي أمانهم صحيح، فإذا أمن الكافرَ واحدٌ منهم حرم على غيره التعرض له).
وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: " من هذه "؟، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال: "مرحباً بأم هانئ"، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلمنا انصرف قلت يا رسول: زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرتُــه، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد أجَرْنا من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: "وكان ذلك ضحى".
صيغ انعقاده:
وينعقد عقد الأمان بكل لفظ يُفهَم منه معناه، سواء كان صريحاً أو كناية وسواء كان بالكتابة أو الرسالة أو الإشارة.
وفي فتح الجليل مختصر خليل للشيخ عليش: (ثم الأمان يكون بلفظ أو إشارة مفهمة من شأنها فَهْم العدو الأمان منها، وإن قصد المسلمون بها ضره، كفتحنا المصحف، وحلفنا أنا نقتلهم، فظن -أي الكافر -تأميناً فهو تأمين). وينطبق عقد الأمان في عصرنا الحاضر على:
1. تأشيرة الدخول، والزيارة.
2. على دعوات الآحاد من المسلمين التي توجه إلى أناس من المشركين للزيارة ونحوها.
3. عقود العمل أو استقدام الفنيين ونحوهم من قبل شركات يملكها مسلمون وغير ذلك من كل صورة ينطبق عليها التوصيف الشرعي للأمان.ومتى انعقد الأمان صار للحربي المستأمن حصانة من إلحاق الضرر به سواء من المسلم المؤمَّن أو ما غيره من المسلمين أو حتى الذميين، وتقدم الحديث آنفاً وفيه: "فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله...".
قال ابن قدامة: (الأمان إذا أعطي أهلَ الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم).
وقال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: "وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" المراد بالذمة هنا الأمان. معناه: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمّنه به أحد المسلمين حرُم على غيره التعرُّض له ما دام في أمان المسلم، وللأمان شروط معروفة".
وقال الشيخ العلامة عبد المحسن العباد البدر حفظه الله تعالى: "قتل الذمِّي والمعاهد والمستأمن حرام، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً))، أورده البخاري هكذا في كتاب الجزية، ((باب إثم مَن قتل معاهداً بغير جُرم))، وأورده في كتاب الديات، في: ((باب إثم من قتل ذمِّيًّا بغير جُرم))، ولفظه: ((مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً))، قال الحافظ في الفتح (12/259): ((كذا ترجم بالذمِّيِّ، وأورد الخبر في المعاهد، وترجم في الجزية بلفظ: (مَن قتل معاهداً)، كما هو ظاهر الخبر، والمراد به مَن له عهدٌ مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان أو أمان من مسلم)). ورواه النسائي (4750) بلفظ: ((مَن قتل قتيلاً من أهل الذِّمَّة لم يجد ريح الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً))، ورواه أيضاً (4749) بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قتل رجلاً من أهل الذِّمَّة لم يجد ريح الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً))، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل معاهداً في غير كُنهه حرَّم الله عليه الجنَّة)) رواه أبو داود (2760)، والنسائي (4747) بإسناد صحيح، وزاد النسائي (4748): ((أن يشمَّ ريحها)). ومعنى ((في غير كُنهه)) أي: في غير وقته الذي يجوز قتله فيه حين لا عهد له، قاله المنذري في الترغيب والترهيب (2/635)، وقال: ((ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه قال: (مَن قتل نفساً معاهدة بغير حقِّها لم يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحَ الجنَّة لتوجد من مسيرة مائة عام)))، قال الألباني: ((صحيح لغيره)). وأمَّا قتل المعاهد خطأ، فقد أوجب الله فيه الدية والكفارة، قال الله عزَّ وجلَّ: ((وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً).
وأقول في الختام: اتَّقوا الله أيُّها الشباب في أنفسكم، لا تكونوا فريسةً للشيطان، يجمع لكم بين خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واتَّقوا الله في المسلمين من الشيوخ والكهول والشباب، واتَّقوا الله في المسلمات من الأمَّهات والبنات والأخوات والعمَّات والخالات، واتَّقوا الله في الشيوخ الرُّكَّع والأطفال الرُّضَّع، واتَّقوا الله في الدماء المعصومة والأموال المحترمة، ((فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ))، ((وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)), ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)), ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)), أفيقوا من سُباتكم وانتبهوا من غفلتكم، ولا تكونوا مطيَّة للشيطان للإفساد في الأرض".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية؟
فأجاب رحمه الله بقوله: "هذا لا يجوز، الاعتداء لا يجوز على أي أحد، سواء كانوا سياحا أو عمالا؛ لأنهم مستأمنون، دخلوا بالأمان، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر. أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب، وتعمه الأدلة الشرعية، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه". [مجموع الفتاوى 89]
وقد ترد عند البعض شبهة مفادها: أن حاكم المسلمين لا يصح عهده للكافرين ولا أمانه لهم إلا إذا كان يحكم بكل الشريعة. فإن ترك الحكم ببعض الشريعة وحكم بغير ما أنزل الله فلا يصح عهده ولا أمانه؛ لأنه كافر فلا تعصم بعهده ولا بأمانة دماء الكافرين.
وهذه الشبهة هي عمدة شبههم التي يدندنون حولها. وهي تدل على جهل واضح بالكتاب والسنة ونصوص الأئمة. وإليك الرد على هذه الشبهة من عشرة أوجه:
(الوجه الأول): أنّ العلماء الثقات في هذا العصر اختلفوا في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله فمنهم من قال بأنه لا يكفر إلا إذا استحل ذلك، كما نص على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- حيث قال: "أما القوانين التي تخالف الشرع فلا يجوز سنها، فإذا سن قانوناً يتضمن أنه لا حد على الزاني أو حد على السارق أو لا حد على شارب الخمر، فهذا قانون باطل، وإذا استحله الوالي كفر لكونه استحل ما يخالف النص والإجماع، وهكذا كل من استحل ما حرم الله من المحرمات المجمع عليها فهو يكفر بذلك"، وقال في رسالة "حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها": [القسم الثاني: من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها، أو ليعين غيره على ذلك، مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك، فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر فسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب "الصلاة" وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة " الرسائل ". واختار بعضهم كفره ولو لم يستحل ذلك. (انظر رسالة الشيخ عبدالرحمن المحمود: الحكم بغير ما أنزل الله)]. وعلى هذا فإننا لو تنزلنا وقلنا بترجيح قول من كفر الحاكم بغير ما أنزل الله من غير استحلال، فإن المسألة تبقى مسألة خلاف بين أهل العلم، كما اختلفوا في تارك الزكاة والصيام والحج. والقاعدة النبوية التي أصلها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تقرر بأن مسائل الخروج وما يترتب عليها من إبطال العهود والمواثيق لا تكون إلا على كفر لا يختلف فيه المسلمون، وهو الذي وصفه بقوله : "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان" أي حجة واضحة بينة لا يختلف فيها عالم. أما أن نلزم الناس بالأحكام المترتبة على كفر الحاكم بناء على ترجيحنا للقول بكفره، فهذا من الضلال المبين. والحكم على الحكام والأئمة في مسائل الكفر والإيمان المختلف فيها يختلف عن الحكم بها على آحاد الرعية.
(الوجه الثاني): أن يقال لا أقل من أن ينزل من حكم بغير ما أنزل الله من الحكام منزلة الخوارج، من حيث اختلاف العلماء في كفرهم، وظاهر الأحاديث يدل على كفر الخوارج، ومع ذلك أمضى العلماء عهود الخوارج وأمانهم وأجازوا دفع الزكاة إليهم إذا غلبوا. قال ابن عمر –رضي الله عنهما-: "تدفع ـ أي الزكاة ـ لمن غلب"، ونص على ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-، بل إن العلماء نصوا صراحة على صحة صلحهم للكفار وعهدهم. فقال سحنون -رحمه الله-: "وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز"، وقال محمد بن الحسن-رحمه الله-: " وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز كأمان أهل العدل "، وهذا في حق الأمان الذي يكون من آحاد الرعية، فكيف بالعهد العام للكفار الذي لا يكون إلا من الحاكم؟! ولا أعلم أحداً من العلماء أبطل صلح الخوارج لأهل الحرب، بل ولا صلح من لم يختلف في كفرهم كالعبيديين وكثير من دول الرافضة المارقة كالسامانيين والبويهيين. ذلك لأن صلح الكافر للكافر جائز.
قال أحد علماء الدعوة النجدية " الدرر 10/338": [يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم بالكتاب والسنة والاعتبار ].
(الوجه الثالث): أننا لو فرضنا كفر الحاكم بغير ما أنزل الله مطلقاً واتفاق العلماء عليه، لم يكن هذا دليلا على بطلان عهده وأمانه للكفار؛ ذلك لأن الكافر يُعصم دمه بالأمان الصريح الصحيح وبالأمان الفاسد ـ الذي هو شبهة أمان ـ وبالهدنة الصحيحة وبالهدنة الفاسدة تغليباً لحقن الدماء، ولئلا يترتب عليه الصد عن سبيل الله، لأن قاعدة الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات. والقاعدة في هذا أن كل ما ظنه الكافر أماناً عصم به دمه ولم يستبح لأجل الشبهة. يدل عليه ما رواه سعيد في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل ـ أي ظناً أنه أراد الأمان ـ فقتله لقتلته". وقال أحمد-رحمه الله-: "إذا أشير إليه ـ أي الكافر ـ بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان "، وقال ابن جزي في القوانين الفقهية: " ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يرده فلا يقتل "، وقال شيخ الإسلام: "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم". وقال أيضاً: " هذا الكلام الذي كلموه صار به مستأمناً، وأدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه". وقال السرخسي: " وذلك لما بين أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي".
ومن شبه الأمان التي تعصم بها دم الكافر: أن يؤمنه كافر بين المسلمين ظنه الكافر المؤمن مسلماً، أو علمه كافراً إلا أنه ظن أن أمانه يصح، وعلى هذا نص الأئمة. فقد روى ابن وهب بإسناده كما في المدونة في "باب أمان المرأة والعبد والصبي" أنّ عمر رضي الله عنه بعث كتاباً إلى سعيد بن عامر وهو يحاصر قيسارية فقال فيه: "وإذا أمنه بعض من تستعينون به على عدوكم أهل الكفر فهو آمن حتى تردوه على مأمنه أو يقيم فيكم، وإن نهيتم أن يؤمن أحد أحداً فجهل أحد منكم أو نسي أو لم يعلم أو عصى فأمن أحداً فليس لكم عليه سبيل من أجل أنكم نهيتموه فردوه إلى مأمنه إلا أن يقيم فيكم، ولا تحملوا إساءتكم على الناس فإنما أنتم جند من جنود الله".
وقال ابن وهب في المدونة: "وقال الليث والأوزاعي في النصراني يغزو مع المسلمين قالا: لا يجوز على المسلمين أمان مشرك ويرد إلى مأمنه"، وقال الشافعي في الأم في باب "الأمان": " وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أم لم يقاتلوا لم نجز أمانهم، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أم لم يقاتل لم نجز أمانه، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز وننبذ إليهم فنقاتلهم". ومن ذلك أيضاً أن يقدموا إلينا في هدنة فاسدة كأن يعقدها غير الإمام، أو على قول هؤلاء أن يعقدها حاكم كافر ظنه الكفار مسلماً، فإنه تعصم دماؤهم بهذه الهدنة الفاسدة للشبهة.
قال الفتوحي رحمه الله في المعونة في كتاب الجهاد: "متى جاء الكفار في هدنة فاسدة بأن يتولى عقدها غير إمام أو نحو ذلك من فساد الهدنة معتقدين الأمان ردوا آمنين إلى مأمنهم"، وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على عصمة دم الكافر بأمان كافر مثله للشبهة مع كون الكافر المؤمن من عامة الناس، فكيف إذا كان الذي أمنهم أو صالحهم هو حاكم المسلمين الذي عاهده الكفار على أنه مسلم فبان كافراً، فلئن تعصم بعهده وأمانة دماء الكافرين ولو بالشبهة من باب أولى؟!
(الوجه الرابع): أن الأمان والعهد إنما عقده الحاكم لمصلحة المسلمين عامة، فرد أمانه وعهده وإبطاله يترتب عليه الضرر على المسلمين.
(الوجه الخامس):أن يقال: إننا لو أبطلنا عهد الحاكم بغير ما أنزل الله، ولم نعصم به دماء الكافرين، فإن هذا يستلزم إبطال كل ماباشره الحاكم أو نائبه مما يشترط في مباشرته الإسلام، كالأنكحة، وولاية جمع المال وتفريقه، والقضاء، وغير ذلك، إذ لا فرق بين عهده للكافرين وبين سائر عهوده وعقوده، وهذا يترتب عليه من الفساد ما يكفي تصوره في بطلانه.
(الوجه السادس): أن القول ببطلان عهد الحاكم بغير ما أنزل الله، للكفار، يستلزم أن يكون الكفار فقهاء محققين لمسألة الحكم بغير ما أنزل الله وأنها كفر، ثم يعملون تحققها في هذا الحاكم بخصوص، لئلا يقدموا على الصلح والأمان فيقدموا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين، ثم تستباح دماؤهم وأموالهم! وهذا بين الفساد والبطلان.
(الوجه السابع): أن إبطال عهد وصلح الحاكم بغير ما أنزل الله للكفار واستباحة دمائهم بذلك يستلزم الصد عن سبيل الله، والتنفير عن الإسلام، لأنهم يظنون أنهم يعاهدون حاكماً مسلماً، وأن دماءهم قد عصمت بالعهد، وكل قتل لهم بعد ذلك يعدونه غدراُ وخيانة، ولا يتصور منهم أن يقلبوا التفصيل الذي يذكره من يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً.
(الوجه الثامن): أن العهود التي يعقدها الحاكم بغير ما أنزل الله مع الكفار قد رضي أهل الحل والعقد بها، وهم وجهاء الناس ومجالس الشورى ونحوها بل وعامة الشعب، فلم يستقل الحاكم بغير ما أنزل الله بهذه العهود والمواثيق. كما أن الذين يباشرون تأمينهم من إعطاء الفيزة وختم الدخول هم آحاد المسلمين وهم راضون بتأمينهم، فكيف تستباح دماؤهم بعد ذلك؟!
(الوجه التاسع): أن إبطال العهود التي يعقدها الحكم بغير ما أنزل الله مع الكفار وكذا أمانه قول باطل ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا نص إمام. وهو قول محدث لا سلف له.
(الوجه العاشر): أن نقول إننا لو قدرنا كون من يحكم المسلمين كافراً بما هو أوضح من مسألة كفره بالحكم بغير ما أنزل الله، كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو عابداً لصنم ونحو ذلك، فإن هذا لا يقتضي أيضا اعتبار عهده وأمانه منتقضاً، واستباحة دماء من أمنهم وعاهدهم، وذلك لأن من يعيش تحت حكومته وولايته من المسلمين يعتبرون مستوطنين، والمستوطن يلزمه من الحقوق ما لا يلزم المستأمن والمعاهد.
يوضحه: أن المسلم الذي يدخل بلاد الكفار بأمان منهم لا يحل له التعرض لهم بنفس ولا مال بالإجماع، مع كون الأمان الذي عصم دماءهم وأموالهم مؤقتاَ، فلأن لا يحل له التعرض لهم ولا لمن في بلادهم وهو مستوطن لها من باب أولى وأحرى، وذلك من أجل عهد المواطنة الذي أصبح مستوطناً به بلادهم، وهذا العهد وإن لم يكن مكتوباً باللفظ إلا أنه معلوم بالمعنى، وهذا لا يستريب فيه من عرف رائحة العلم. ولا تعارض بين هذا وبين ما ورد من جواز الخروج على الحاكم المرتد أو الكافر إذا كان بالمسلمين قوة. ولم يترتب على الخروج مفسدة كبرى كما في الحديث:"إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان"، وذلك أن الخروج على الحاكم حال كفره يعد من باب الجهاد في سبيل الله بعد دعوته وإنذاره، بخلاف قتل المستوطنين والمعاهدين والمستأمنين، فإنه من الفساد والفوضى والغدر والخيانة لا من الجهاد والدعوة ؛ لأنه قتلٌ في حالة أمن ونقض للعهد.
وأخيرا الله عزَّ وجلَّ نسأل أن يُفقِّه المسلمين بدينهم، وأن يحفظهم من مضلاَّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيِّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرابط http://www.majala-koraan.net/index.php/ ... r3iya.html