منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#62668
كاتب: محمود الفطافطة
لا يزال العالم، بساسته ومفكريه ، بشعوبه واقتصاديه، متناقضا في الموقف إزاء ظاهرة كونية اقتحمت نظامه بدون استئذان، وغدت تهيمن على مجمل مكوناته وتفاصيله .فمؤيدوها يرون فيها الأمل الذي يؤسس لمجتمع العدل والتعاون، بينما رافضوها يجدون في أدواتها وأثارها أداة تفكيك لمنظومة قيمهم، ووسيلة نهب لمقدرات بلدانهم .

هذه الظاهرة، هي التي اجترح لها مصطلح، وأصبح يطلق عليها تسميات شتى (كالعولمة) حينا و(الأمركة) تارة و(الكوكبة) أحيانا ،في الوقت الذي تسابق فيه الباحثون لدراسة هذا المفهوم والخوض في جذوره ومكوناته وأثاره ،ليجمع عدد كبير منهم، على أنه يثير من التساؤلات أكثر مما يضع حلولا وأجوبة ، كما ويستنبت مستجدات تثقل العقل في معرفة إدراكها أو تحديد بوصلة مسارها .

وقد تعود جدلية التناقض هذه، إلى عوامل متعددة أهمها، إطلاق تفسيرات حول مضمون وتفاصيل هذا المصطلح عبر استخدام أدوات غير علمية ،أو الانقياد لمعلومات غيبية ، والخلط المتعمد أحيانا بين أشكال مختلفة من العولمة والحكم عليها حكما واحد، في حين يتمثل آخرها، بما تفرضه ثنائية الدين أو الأيدلوجيا على كل من يسعى للخوض في مضمار هذا المفهوم الذي يبدو أنه يواجه تحديات في معرفة جوهره أكثر مما تعتريه عقبات في طريق تنفيذ أهدافه وتجذير مرتكزاته سواء المادية منها أو(القيمية ) .

وبتباين المنابت الأيدلوجية واختلاف الرؤى الفكرية لدارسي العولمة بأبعادها المتشعبة ،فقد انقسمت تحليلاتهم ومواقفهم من أهدافها ونتائج مراميها، فمنهم من يصفها بأداة الامبريالية الساعية إلى تحويل الشعوب ومواردها الى قيمة مادية (سوقية ) تتبرأ من كل النزعات الأخلاقية وتكرس مبادئ الاستغلال والاحتكار وإذابة ثقافات الامم مع امتصاص خيراتها وتحجيم إرادتها المستقلة .ولذا يطلقون عليها (العولمة المتوحشة) التي شعارها " من لم يرض بصوتي رضي بسيفي".

وفي الجهة المعاكسة، نجد من يعتبر العولمة بأنها ذات نزعة عالمية اكثر مما هي دولية او وطنية ، وبأنها رسول دعوة المساواة بين الناس ووحدة الإنسانية ونبذ التعصب العرقي والقومي والديني والأيدلوجي ، إضافة الى ما تمثله من تكامل للثقافة الأممية وحوار الحضارات والتقارب البشري ..الخ. ولذلك توصف من دعاتها بالعولمة الإنسانية التي تحاول تأسيس وعي كوني يزيل اغتراب الإنسان في هذا الكون ويوحد بين البشر استنادا الى عدالة التوزيع وعدل الحكم .

وبتصارع هذين النوعين من العولمة حسب ما يتبين لنا من كتابات عدد من الباحثين ، فان المشهد الكلي لدراسة هذه الظاهرة التي غدت دينا صناعيا ومذهبا احتكاريا لكثير من دول وشركات العالم ، يفرض علينا (لملمة ) خيوطها والتعمق في كنهها والتحقق من أهدافها ونتائجها ،ومع التزامن بإتباع أسلوب علمي وطريقة منهجية تحقق المسلك الموضوعي في أي مسار بحثي.ولا يمكن لنا الوصول الى مبتغانا هنا ،إلا بتحديد موضوع دراستنا اولا والمتمثل بمدى تأثير العولمة على حقوق الإنسان في فلسطين ، ومنطلقين في ذلك من إشكالية أساسية تكمن أصلها في التساؤل عن مدى إمكانية وجود عولمة في فلسطين أولا وما علاقة ذلك بحقوق الإنسان ،أي بكلمات أخرى ،أين تقع من مسألة حقوق الإنسان في فلسطين من العولمة .

وبعد هذه التوطئة الوجيزة عن العولمة ،نود التركيز هنا على جوهر موضوعنا والمتمثل برصد ومعالجة واستشراف هذه الظاهرة في فلسطين ومن ثم الخروج بخلاصة وتوصيات تسعفنا في بلورة أو صياغة خطة عمل بغية تشكيل فريق "مواجهة " للعولمة " التي يعتقد البعض بأنها كالأخطبوط الذي يمتص بأكوابه دماء إرادة الشعوب ووقود تطورها .

ولتوضيح مضامين هذه الظاهرة وتأثيراتها في الحالة الفلسطينية ،يتوجب علينا طرح جملة تساؤلات منها : هل يمكن الحديث عن "فلسطين معولمة " ؟ ، وإذا كانت الإجابة بنعم ،فما هي تجلياتها وآثارها في مجمل بنية المشهد الفلسطيني ؟ ، وكذلك؛ هل الأمر يستوجب تشكيل فريق وطني لمواجهة العولمة وابعادها ؟ وما هي الأفكار والتوصيات التي قد تمثل (المدماك ) الرئيس لتأسيس مثل هذا الفريق "المقاوم " .

وقبل الإجابة على تلك الأسئلة وغيرها ، نود بداية ؛ الإشارة إلى أن فلسطين تعبر عن حالة استثنائية فيما يتعلق بجغرافيتها الممزقة ونظامها السياسي الفاقد لخصائص الاستقلالية والنمو والاستمرارية ،وما يعكسه ذلك من تشظي و/أو تغييب لدينامكية مفاعيل الحياة المختلفة في هذا المشهد.

هذا التشظي أو الفقدان هو الذي أعطى عدد من الباحثين الفلسطينيين شرعية الحديث عن وجود تجليات ومظاهر للعولمة في بلدهم ،وتغللها بشكل واسع وسريع فيه؛ جراء الهشاشة الكيانية التي تمثلها (السلطة القائمة ) ، ومحذرين في الوقت ذاته من خطر العولمة الكبير على "مفهوم الدولة " أو الكيانية في الحالة الفلسطينية ، بسبب ما تحدثه هذه الظاهرة من تجاوز للدولة وأركانها عبر هيمنة راس المال وتحكمه بسياسات الدول وتوجيهه لمنظومة القيم التي تحملها شعوبها .مع العلم ان العولمة لم تعد تكتف باحتلال الوعي فقط ، بل تعدته الى احتلال الأرض من خلال مصادرة إرادة أصحابها والقدرة على تفتيت وتجزئة سيادتها وإقليمها.

ويدلل هؤلاء الباحثون على قولهم بوجود عولمة في (فلسطين ) من خلال ما يوردونه من مشاهد ملموسة ووقائع عينية كالمشاريع التي ينفذها البنك الدولي عبر برامجه ومؤسساته المتعددة ، والمنح المقدمة من صندوق النقد الدولي لمنظمات حكومية ،وما تحمله اتفاقية منظمة التجارة العالمية من تبعات خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني . ويرى البعض ان هذه المؤسسات الثلاث إلي جانب الدول المانحة والممولين الأجانب يمثلون خطرا متعدد الرؤوس والأقنعة على واقع ومستقبل القضية الفلسطينية.

إلى جانب ذلك ؛ فإن العديد من المفكرين الفلسطينيين يرون في الاحتلال الإسرائيلي التجلي الأبرز والأخطر لهذه الظاهرة، فإسرائيل ، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية 1991م ، وما نجم عنها من ترويج لفكرة السوق (الشرق أوسطية ) ونشر حجج مزايا الانفتاح والتطبيع وفوائد السلام وانتهاء عصر الأيدلوجيا وابتداء عصر المصالح،شكلت_ وبمساعدة أمريكا _ قاعدة فرض العولمة وبث مخاطرها في كافة مناحي وتفاصيل البنى المختلفة عربيا وفلسطينيا ،علاوة على ما يجسده هذا الاحتلال من محاولة لسلب إرادة شعب بأكمله وما يفرزه من "عولمة الأمن والاضطهاد" التي غدت سلوكا متبعا لدى عدد من جيوش الدول المؤسسة لاستعمار جديد .

ولجميع هذه المؤثرات "المعولمة" للحالة الفلسطينية وغيرها ، يصبح المطلب بتشكيل فريق وطني لمواجهة هذه الظاهرة والقائمين عليها ،أمرا ملحا وأجراء يتوجب الإسراع والجدية في تنفيذه . فالعولمة كالنار التي تلتهم الهشيم في لحظة شديدة الرياح .

وبما أن التجليات آنفة الذكر، تشكل (عولمة الهيمنة والاحتلال) في فلسطين ،فانه يتحتم على الفلسطينيين ومعهم العرب والمسلمون _ سواء أكانوا جسما رسميا أو شعبيا_أن يدركوا أولا؛ حقيقة خطر العولمة على دولهم وسيادتها ومجتمعاتهم وقيمها ،ومن ثم عليهم التواصل الجاد والتنسيق الفعال لصياغة قواسم مشتركة ووضع أفكار ومقترحات تساعدهم في التخفيف من ريح هذه الظاهرة وشرورها ان لم يكن الأمر متاحا للقضاء عليها بفعل اتساع مساحة ضعفهم وتبعيتهم للأخر .

وتتطلب عملية تأسيس مثل هذا الفريق الوطني بلورة العديد من الأفكار وتحديد المهام الواجب دراستها بشكل علمي وواقعي ، والتي أبرزها : القيام بإعداد دراسة علمية محكمة حول (العولمة في فلسطين : الظاهرة ،الأبعاد ،والنتائج ) ،وذلك للبدء في تشكيل لجان فرعية متخصصة تندرج ضمن الفريق العام ،وتكون مهمتها الاطلاع والمتابعة والتحليل والاستشراف لكل حيثيات هذه الظاهرة ،وصولا إلى وضع توصيات وحلول تساعد في التعامل معها والتي _وللآسف _ لم يتم التطرق إليها بشكل منهجي او استعراضها بالصورة التي تستحق .

ويشترط أن يكون أعضاء هذا الفريق ممثلين عن مختلف المؤسسات والهيئات والأطر الفلسطينية ،سواء أكانت رسمية حكومية أو أهلية او حزبية او نقابية أو شعبية ، وعلى ان يصدروا بيانا واضحا وموحدا ،يبين طبيعة العولمة في فلسطين وما هي القوى التي تحركها وكيفية التعامل معها ؟ ،مع العلم أن هذا الهدف قد لا يتحقق اذا طغت المصالح الخاصة على مصلحة الوطن والقضية من جهة ،وإذا لم يتم التنسيق مع العرب والمسلمين وتقديمهم الدعم المالي والمعنوي للفلسطينيين من جهة أخري .

ويمكن لنا في هذا الإطار ؛القيام بمحاولة وضع خطة عمل مقترحة حول مناهضة ومقاومة العولمة في فلسطين، وقد تكون على الشكل التالي:

• البحث معا لخلق محتوى فكري يبلور إطارا مؤسساتيا ؛تتحدد وظيفته بوضع الخطط والبرامج الإجرائية المتعلقة بدراسة ومعالجة ظاهرة العولمة فلسطينيا ، وصولا الى تكوين رأي او صياغة موقف إزاءها ،حتى تتوضح وتتيسر سبل وطرائق التعامل معها .
• قيام المثقفين الفلسطينيين بالمبادرة الفاعلة والمتواصلة لإيجاد دور لهم قوي ومستقل عن السلطة السياسية ،خاصة اذا لم يلتقوا معها في الرؤى والأهداف الكفيلة بمواجهة العولمة التي أخذت تتسرب إلى بنية وواقع الفلسطينيين بصورة لا تقوى نقاط الدفاع القليلة والضعيفة التي يملكونها في التصدي لها او الانفكاك من خيوطها .
• ايلاء السلطة الوطنية الأهمية القصوى لقضايا مجتمعية عديدة ،كالقضاء او الحد من الفقر والبطالة والاهتمام بحقوق الإنسان والالتزام بمبدأ سيادة القانون والقضاء ،إلى جانب تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية والعمل بالحكم الصالح او الرشيد ضمانة للتخلص من الفساد الذي تفاقم خطره واتسعت مساحته .
• التشبيك والتنسيق مع جهات عربية وأجنبية ،رسمية كانت او شعبية ،وذلك بهدف الوصول الى جبهة ممانعة لمخاطر العولمة ،او تشكيل ما يطلق عليه (عولمة الكفاح والمقاومة )لهذه الظاهرة .
• العمل، وبتدرج على "فك الارتباط " بالاقتصاد الإسرائيلي والتخلص من تبعيته عبر استغلال الموارد المحلية بشكل فعال وتشجيع الاستثمار الوطني وحمايته وسن القوانين الملائمة لتوطينه ،إضافة الى دعم المنتج الفلسطيني و إعطاء الأفضلية لمنتجاته في عملية التسويق .
• تأسيس منظومة أمنية صناعية فلسطينية _عربية وإسلامية ،هدفها منع تسرب البضائع الإسرائيلية الى الأسواق وإحياء لجان المقاطعة وتنشيطها ودعمها .
• توسيع المشاركة الشعبية والحزبية والنقابية وغيرها في القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعمل على نشر مبادئ الديمقراطية وتامين حرية الرأي والتعبير .
• تقوية الوحدة الوطنية وترتيب البيت الفلسطيني ،بهدف تعزيز ساحته وتجميع قواه في مواجهة العولمة ومظاهرها وأضرارها .
• عدم المراهنة طويلا على الدعم الأجنبي ،والتفكير عمليا في إيجاد سبل وموارد ،تحقق وتدريجيا، حالة الاعتماد على الذات ،خاصة فيما يتعلق بالجانب المالي والنية الاقتصادية والإدارية .

وتأسيسا لكل ما سبق؛ نرى أن تشكيل مثل هذا الفريق الوطني ليس مستحيلا إذا تلازمت حسن النوايا وتضافرت الإرادة العملية في القائمين عليه . فالعولمة التي صنعت لنفسها وكلاء ينشرون هيمنتها في معظم دول العالم خاصة النامية منها ، تحتاج إلى (أممية ) مقاومة لها ؛ أعتقد وجوب ان تكون مركزيتها فلسطين لخصوصية الحالة ، كما أن عوامل سيادة الجانب السياسي و تقوية الاقتصاد الوطني ، وتحصين المشهد الاجتماعي ، وتعزيز المبادئ الأخلاقية والعقائدية والثقافية لشعبنا كفيلة في التقليل ـ وبشكل كبير ـ من ملوثات هذه الظاهرة التي غدت كالتيار الذي لا يمكن منعه بقدر ما يمكن تجنب غضبه وعنفوانه .