- الثلاثاء مايو 07, 2013 8:16 am
#63170
نظرية الحقّ الطبيعي
كتبه ياسين بن علي
تقوم نظرية الحقوق الطبيعية للإنسان، كالحرية والمساواة، على أساس أن هذه الحقوق فطرية في الإنسان وموروثة، لا يجوز له التفريط فيها ولا التنازل عنها، كما لا يجوز لأي سلطة أن تغتصبها منه أو تنتزعها.
ولقد تبنى جمع من الفلاسفة مفهوم الحق الطبيعي للإنسان، وأكدوا عليه في صراعهم من أجل النهضة الغربية. وتعتبر مساهمات (جون لوك) و(فولتير) و(مونتسيكيو) بارزة في مجال تمهيد الطريق أمام الاعتراف بحقوق الإنسان الطبيعية التي عرفت فيما بعد باسم "حقوق الإنسان"، فقد قال الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704): "إن الحرية والمساواة الطبيعية منظمة بواسطة العقل الفطري، ومتضمنة في قانون الطبيعة نفسه الذي يمنع أي فرد من إلحاق الضرر بالآخرين"(1).
ولقد كان أثر فكرة الحقوق الطبيعية للإنسان كبيرا حتى إنّ الثورات الغربية قامت عليها واستلهمت قواعدها وأفكارها منها. فقد ورد في "مقدمة وثيقة إعلان استقلال الولايات المتحدة 1776م: (إن من الحقائق البديهية أن جميع الناس خلقوا متساوين، وقد وهبهم الله حقوقا معينة لا تنتزع منهم، ومن هذه الحقوق حقهم في الحياة والحرية والسعي لبلوغ السعادة، وكلما سارت أية حكومة من الحكومات هادمة لهذه الغايات، فمن حق الشعب أن يغيرها أو يلزمها، وأن ينشئ حكومة جديدة، ترسي أسس تلك المبادئ، وأن تنظم سلطاتها على الشكل الذي يبدو للشعب أنه أوفى من سواه لضمان أمنه وسعادته).
وفي السادس والعشرين من آب 1789م نشرت الجمعية التأسيسية المنبثقة أبان الثورة الفرنسية (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الذي جاء نتاجا لتلك الثورة التي اقترنت كلمتا الحرية والمساواة بها، كما عززت عام 1793م كلمات الدستور، القانون، حقوق الإنسان، المواطن، وغيرها من الكلمات التي أسهمت في التمسك بالثورة والدفاع عنها.
... ومما جاء في مقدمة الإعلان: (إن ممثلي شعب فرنسا مشكلين في هيئة جمعية وطنية قد رأوا أن الجهل والإهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات.. وقد قرروا أن يطرحوا في الإعلان هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها)"(2).
ولما كان الإنسان، بناء على هذه النظرة الغربية إليه، مفطورا على طبيعة معينة تتمثّل في جملة من الأمور أطلق عليها اسم الحقوق كالحرية، والمساواة، والكرامة وغير ذلك، فقد وجب المحافظة عليها وتدعيمها. وكقاعدة فكرية وسلوكية تضمن الحفاظ على هذه الحقوق وما تفرع عنها، نشأت نظرية التسامح. لذلك، فنظرية التسامح التي تفيد قبول الآخر على ما هو عليه تنسجم في التصور الغربي مع النظرة إلى الإنسان المبنية على حقوقه الطبيعية عامة، وعلى حق الحرية خاصة. فللإنسان أن يدين بما يشاء، وأن يفكر كما يشاء، وأن يعبر عما يشاء، وأن يميل إلى ما يشاء، وعلى الآخر أن يقبل هذا ويحترمه. ومن حق الإنسان الطبيعي أن يختار كيفية إشباعه الجنسي، فإن شاء مع رجل أو مع امرأة، ومن حقه أيضا المساواة وعدم التفرقة والعنصرية، وعلى الآخر أن يقبل هذا ويحترمه.
وتعبير "الحق الطبيعي" الذي بنيت عليه رؤية الغرب إلى الإنسان وما ترتب عليها من إلزامات أخلاقية، وسياسية، ومجتمعية، وحقوقية وغير ذلك، هو في واقعه تعبير حقوقي تشريعي عن رؤية فكرية فلسفية للإنسان تقوم على فكرة القانون الطبيعي. لذا، فإن الحق الطبيعي هو تشريع للقانون الطبيعي.
"فقد ذهب معظم المفكرين والفلاسفة إلى اعتبار القانون الطبيعي مصدرا أساسيا للحقوق الثابتة للأفراد، ووصفه بعضهم بأنه جزء من القانون الإلهي، ولكن القانوني الهولندي هوغو [الكبير De Groot والمشهور بـ] غروسيوس Grotius (1583-1645م) قام بعملية فصل بين القانون الطبيعي والقانون الإلهي، وجعل الأول مصدرا أساسيا للقوانين الدنيوية، التي ارتأى أنها تقوم على المنطق والعقلانية، وانتهى (غروسيوس) إلى أن كل ما يتفق مع طبيعة الأمور فهو شرعي عادل، وكل ما يخالفها غير شرعي وغير عادل. وعرف القانون الطبيعي بأنه: (مجموعة القواعد القانونية الآمرة التي يفرضها المنطق السليم، والتي تجد أساسها في الأخلاق أو الضرورات الأخلاقية)"(3). وعليه فإنّ القانون الطبيعي هو القانون الأخلاقي الذي يستمده الإنسان من طبيعة الأشياء في ذاتها ومن متطلباتها، وهو تعبير عن المعنى الأخلاقي الأصيل الذي يمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل.
بناء على هذه الرؤية قال مفكرو الغرب بالحقّ الطبيعي كتشريع يرسخ القانون الطبيعي ويثبته، ويجعل منه قيمة تحقّق وتطلب. ثمّ قالوا بالحق الوضعي ( Droit positif ) باعتباره جملة من القواعد المنظمة للعلاقة بين الأفراد فيما بينهم، وللعلاقة بين الأفراد ومؤسسات المجتمع ككل، أو باعتباره تحديدا لما هو الحق ولما هو الواجب بالنسبة للجماعة، وهذا من باب التشريع المجتمعي للقانون الطبيعي.
وأما الخطأ في هذه الرؤية فيعود إلى أمور ثلاثة هي:
أولا: إنّ منطلق هذه النظرة هو الطبيعة الخيرة للإنسان(4) المتمثلة في ضميره الحي الذي يمكنه من الاختيار بين الخير والشر. فالضمير بتعبير جان جاك روسو Rousseau هو "...الحكم الذي لا يفشل أبدا في تحديد الخير والشر، والذي يجعل من الإنسان شبيها بالرب..."(5)، وبتعبير برجسون Bergson هو "القدرة على الاختيار التي يتمتع بها الكائن الحي..."(6). والحقيقة، أنّ الإنسان بطبيعته ليس خيّرا ولا شريرا، إنما فيه قابلية لأن يكون كذلك. ذلك، أنّ طبيعة الإنسان هي غرائزه وحاجاته العضوية: فالغرائز هي: غريزة حبّ البقاء التي من مظاهرها الخوف، وحب التملك، وحب السيطرة، وغير ذلك مما يخدم بقاء الإنسان، وغريزة النوع التي من مظاهرها الميل الجنسي، والأمومة، والأبوة، وإغاثة الملهوف وغير ذلك مما يخدم بقاء النوع الإنساني، وغريزة التدين التي من مظاهرها الشعور بالنقص والعجز والاحتياج، والتقديس الذي هو منتهى الاحترام القلبي لشيء ما وغير ذلك مما يدفع الإنسان للبحث عن كنه وجوده وحلّ عقدته الكبرى المتمثلة في الأسئلة المصيرية من أين وإلى أين ولماذا. وأما الحاجات العضوية، كالأكل والشرب والنوم وغير ذلك مما يرتبط بجسم الإنسان، فهي شأنها شأن الغرائز المذكورة دوافع للسلوك الإنساني المتمثّل في سعيه لإشباعها، إلاّ أنها تختلف عن الغرائز من حيث حتمية الإشباع. فإن لم تشبع هلك الإنسان، وذلك بخلاف الغرائز التي يؤدي عدم إشباعها إلى القلق والاضطراب لا إلى الهلاك. فعدم الأكل يؤدي إلى الهلاك، وأما عدم ممارسة الجنس فيؤدي إلى القلق وليس إلى الهلاك.
هذه هي طبيعة الإنسان، والملاحظ أنها حيادية لا توصف بالخير والشر في ذاتها إنما من عوامل خارجة عنها. فالميل الجنسي مثلا لا يوصف بأنه خير أو شرّ إلا إذا اقترن بكيفية إشباع ومحله. من ذلك اللواط، ممارسة الرجل الجنس مع رجل يعتبر عند الغرب خيرا مسموحا به، وأما البيدوفيليا Pedophilia أي ممارسة الجنس مع الأطفال فتعتبر شرا غير مسموح بها، مع أن الميل الجنسي هو نفسه لم يتغير، وإنما الذي تغير محل الإشباع والنظرة إليه. ومن ذلك أيضا ممارسة الرجل الجنس مع فتاة بلغت السن القانونية يعتبر عند الغرب خيرا مسموحا به، وأما ممارسته مع تلك الفتاة ولما تبلغ السن القانونية بعد، ولو بيوم واحد، يعتبر جرما في حق قاصر وشرا غير مسموح به وإن كان عبر زواج، مع أن الميل الجنسي هو نفسه، ومحلّ الإشباع هو نفسه ولكن الذي اختلف النظرة إليه المبنية على نظام معين حدد كيفية الإشباع.
وعليه، فإن الطبيعة الإنسانية لا توصف بالخير والشر في ذاتها، إنما من عوامل خارجة عنها هي النظام الذي اختاره الإنسان ليحدد له كيفية الإشباع ومحله.
ثانيا: إنّ الأساس الذي اعتمده الغرب في الحكم على الأشياء والأفعال بأنها خير أو شرّ، وبأنها حسنة أو قبيحة، هو العقل. والعقل في واقعه لا يصلح أساسا لهذا، وذلك لما يلي:
أ . الخير والشرّ
لقد وصف الإنسان ما يحبّه وما ينفعه من الأفعال والأشياء بأنّه خير، ووصف ما يكرهه وما يضرّه بأنّه شرّ. وبتعبير لوك "فإننا نسمي كلّ ما يوجد فينا اللذة خيرا، وعلى خلاف ذلك نسمي كلّ ما يوجد فينا الألم شرا"(7). وبناء على هذا الوصف أقدم الإنسان على أفعال وأحجم عن أخرى، فأقبل على ما يراه خيرا وأحجم عما يراه شرّا.
وقد ظنّ العقل الغربي أنّه قادر على إدراك الخير والشر بمفرده، فأطلق العنان لنفسه ليحكم على أمور بأنّها خير، وعلى أخرى بأنّها شر. والحقيقة، أنّ العقل غير قادر على تعيين الخير والشر؛ لأنّ وصف الأشياء والأفعال بأنّها خير أو شرّ ناجم عن أثرها على الإنسان، وهو ما لا يستطيع العقل إدراكه والإحاطة به.
فالأشياء، كالسكين والنار وغير ذلك، هي في واقعها حيادية لا توصف بالخير والشر في ذاتها إنما من حيث أثرها على الإنسان الذي يرتبط بكيفية استخدامها أي بفعل الإنسان. فالسكين الذي من خاصيته القطع، قد يستعمله الإنسان في قطع لحم يأكله، وقد يستعمله في قطع عنق إنسان يقتله. والميل الجنسي الغريزي في الإنسان قد يشبعه بطريقة مشروعة وقد يشبعه بطريقة غير مشروعة.
وأما الأفعال، فإن الإنسان يصفها بالخير والشرّ تبعا لمحبته وكراهيته أو نفعه وضرره. فوصف الإنسان للأفعال الواقعة منه أو عليه دون إرادة منه، ليس وصفا لها في حقيقتها إنما هو وصف لها من حيث نتائجها على الإنسان نفسه. ولما كان وصف الأفعال من حيث نتيجتها وأثرها على الإنسان، كان من الخطأ ترك تعيينها للإنسان نفسه؛ لأنّه قاصر عن إدراك النتائج، وعرضة للتفاوت والتباين فيها. ولنضرب مثلا لذلك الشخص الذي نام وتأخر عن موعد سفره بطائرة كانت ستقلّه لعقد صفقة تجارية رابحة، فكره ما حصل وعدّه شرّا له، ولكنه عندما علم أنّ تلك الطائرة قد سقطت بعد إقلاعها وتحطمت، وقتل جميع من كان عليها، حمد الله على تأخره وعدّه خيرا. وكذلك الأفعال التي تقع بإرادة من الإنسان، فإنه يصفها أيضا بالخير والشرّ. غير أنّ وصف الإنسان لهذه الأفعال غير آت من ذاتها إنما من الفكر عنها، مما يجعل وصفها متباينا متفاوتا. فقتل النفس البشرية لا يسمى خيرا أو شرّا، وإنما يسمى قتلا فقط. وكونه خيرا أو شرا إنما جاء من وصف خارج عن الفعل ذاته؛ ولذلك كان قتل الأمريكي المحتل في العراق خيرا عند العراقي وشرّا عند الأمريكي، وقتل العراقي المقاوم شرّا عنده وخيرا عند الأمريكي، مع أنهما عمل واحد لا تمييز فيه. وبما أنّ الفعل الواحد يختلف وصفه بالخير والشرّ من إنسان إلى آخر، فإنّ هذا يدلّ على قصور الإنسان وعجزه عن إدراك حقيقة الخير والشرّ في الأفعال التي يقوم بها.
ب . الحسن والقبح
الحكم بالحسن والقبح على الأشياء والأفعال يتعلق بواقعها، وبملاءمتها أو منافرتها لطبع الإنسان، وبمدحها أو ذمها.
فمن حيث الحكم على واقع الأشياء والأفعال، فإنّ العقل يقرر ذلك؛ لأنّ حسن العلم وقبح الجهل، أو حسن الصحة وقبح المرض، مدرك بالعقل، فبمستطاع العقل إذن الحكم عليه. وحكم العقل من هذه الجهة، هو في واقعه إخبار بحقائق الأشياء والأفعال الواقعة تحت حسه وإدراكه. لذا، فهو يستقلّ بالحكم من هذه الجهة.
والحكم على الأشياء والأفعال، من حيث ملاءمتها لطبع الإنسان أو منافرتها له، يقرره العقل أيضا، لأنّ حسن الحلو وقبح المر، أو حسن إنقاذ المشرف على الغرق وقبح الإعراض عنه، مدرك بالعقل، فبمستطاع العقل إذن تقريره. وحكم العقل من هذه الجهة، هو في واقعه إخبار عن حقيقة الميول الفطرية في الإنسان التي تحدد ما يلائمها أو ينافرها.
وأما الحكم على الأشياء والأفعال من حيث المدح والذم فلا يقرره الإنسان، لأنّ حكمه يبنى على العقل أو الشعور، وهما غير صالحين. فالعقل يدرك ما يقع عليه الحس، ولا يدرك ما لا يحس ولا يتأتى له أن يحكم عليه. والمدح والذم من الأمور التي لا يقع عليها الحس، لذا فلا يجب أن يقررها العقل، بل من الخطأ أن يقررها العقل. وأما الشعور، وهو الميل الفطري نحو أمور أو النفرة منها، فلا يصحّ جعله مقياس الحكم بالحسن والقبح؛ لأنّ الميول البشرية متفاوتة ومتناقضة، تخضع لهوى الفرد ورغباته.
وقد أخطأ العقل الغربي حينما أعطى لنفسه صلاحية الحكم على الأفعال والأشياء بأنها تمدح أو تذم قياسا على حكمه عليها من حيث واقعها، ومن حيث ملاءمتها للطبع أو منافرتها له. ذلك، أنّ البشر غالبا لا تختلف في الحكم على واقع الأشياء والأفعال، لأنّ تقرير الحسن والقبح فيها مدرك حسا، ولكن الاختلاف في مدحها وذمّها. فالنظافة من حيث واقعها حسنة، والقذارة قبيحة، والإخبار بهذا الواقع غير مدحها فتطلب أو ذمّها فتترك. فإذا كان الغرب يمدح النظافة اليوم ويطلبها، فقد كانت مذمومة عنده في عصوره الوسطى وغير مطلوبة، حتّى إنّ من رهبان الغرب من كان يتباهى ويفتخر بأنّ الماء لم يمسس قدمه إلاّ عندما يضطر لعبور نهر. فهذا المدح والذم المختلف من زمن إلى آخر لذات الواقع يدلّ على أنّ الإخبار بواقع الشيء غير مدحه وذمّه، ومنه يدلّ على خطأ ترك المدح والذم لعقل الإنسان العرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة. وأمّا خطأ قياس المدح والذمّ على ما يلائم طبع الإنسان أو ينافره، فبيّن في أمرين: أولهما، هو أنّ الإنسان بطبعه ينفر من قتل النفس البشرية مثلا ويستقبحه، غير أنّ نفرته هذه من فعل القتل لم تؤثّر في مدحه حين قتل عدو مغتصب وفي ذمّه حين الإعراض عنه، مما يدلّ على أنّ الحكم على الشيء أو الفعل بأنّه يلائم الطبع أو ينافره، غير الحكم بالمدح والذمّ، فمن الخطأ أن يقاس عليه. ثانيهما، هو التناقض فيما يلائم الطبع أو ينافره. فاللواط والسحاق مما يلائم طبع الإنسان في تصوّر العقل الغربي، لذلك يمدح فاعله في الغرب ولا يذمّ، لكنّه لا يلائم طبع الإنسان من وجهة نظر المسلم فيذمّ فاعله عنده ولا يمدح. لذا، فلا يصحّ قياس المدح والذم على الحكم بملاءمة الطبع أو منافرته، لأنّه متفاوت بين البشر، متأثر بالذوق والبيئة والثقافة السائدة.
وعليه، فإنّ قياسات الإنسان للخير والشر، وللحسن والقبح، متفاوتة ومتناقضة لصدورها عن عقل قاصر، وشعور متفاوت غير ثابت. لذا، فلا يصحّ أن يترك قياس الخير والشر والحسن والقبح للإنسان، لأنّه يجعلها مختلفة من عصر إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، وهو ما يخالف واقع المبادئ من كونها عالمية يسري وصفها للفعل على جميع بني الإنسان في كلّ العصور. لذلك، كان لا بدّ من قوة وراء العقل تبيّن للإنسان الخير والشر، والحسن والقبح، وتحدّد له تبعا لذلك ما يجلب من مصالح وما يدرأ من مفاسد، وهذه القوة هي خالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى.
ثالثا: إنّ فكرة الحق الطبيعي الغربية – كما مرّ معنا - مبنية بدورها على فكرة القانون الطبيعي. وقد عرف هوبز Hobbes الحق الطبيعي بقوله: " الحق الطبيعي الذي يسميه الكتاب عامة بـ( Jus naturale ) [ باللاتينية] هو الحرية التي عند كل شخص في استعمال سلطته كما يشاء من أجل المحافظة على طبيعته الذاتية"(8). وعرفه كانط Kant بقوله: "...هو فقط ما يعتبره عقل كلّ إنسان قبليا (a priori)"(9). والمراد بهذا – كما مر معنا ذكره إجمالا – أنّ الإنسان يولد بطبيعة معينة، وطبيعته هذه التي ولد عليها أو وجد بها هي قانون سيره وسلوكه، مما يعني أنها هي في ذاتها قواعد ثابتة له أي حقّ.
والخطأ في هذه النظرة أن الغرب أقرّ طبيعة الإنسان على ما هي عليه، وترك للفرد الحرية في إشباعها بالكيفية التي يراها. مما يعني أن الغرب في حقيقة الأمر لم ينظم للإنسان غرائزه وحاجاته وأبقاه على طبعه الحيواني، لأنه في نظره لا يختلف عنه في الجوهر وإنما في النوع. وبتعبير جون واتسون "فإنه لا يوجد حد فاصل بين الإنسان والبهيمة"(10).
والحقيقة، أنّ الإنسان يحتاج إلى نظام دقيق ينظم غرائزه وحاجاته العضوية، ويرتقي به من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة والحضارة، ويسمو به من مجرد الاستجابة للدفع الغريزي إلى التنظيم المحكم الذي يشبع غرائزه وحاجاته العضوية إشباعا يتجلى فيه التناسق والانسجام بين متطلباتها المتباينة.
فالإنسان فيه غريزة النوع التي تنشأ فيه الميل الجنسي، وفيه غريزة حب البقاء التي تنشأ فيه الميل للتملك وحبّ السيادة، وفيه غريزة التدين التي تنشأ فيه التقديس للأشياء والأشخاص، وفيه غير ذلك مما يدفعه للسلوك وفق ميل معيّن. فإذا تركت له الحرية في إشباع غرائزه وحاجاته العضوية فإنه يخضع حتما لميله الفردي الأناني مما ينتج حتما المفاضلة بينها، فيقدم واحدة على الأخرى، ويشبع واحدة ويهمل الأخرى، أو يبالغ في إشباع واحدة ويقصر في الأخرى.
لذلك، فإن الذين غلبوا حبّ التملك على أي شيء آخر لا يعنيهم أن يموت الناس جوعا في حين يمتلكون هم ثروات الأرض كلها، والذين غلبوا الميل الجنسي على كلّ شيء لا يعنيهم عفة فتاة وسترها، والذين كبتوا غريزة التدين فيهم لا يعنيهم تدين الآخرين، والذين غلبوا حب السيادة لا تعنيهم حرية الآخرين. وبعبارة أخرى فإن حرية الآخر لا تعني هؤلاء، ولا تمثّل لهم أي قيمة؛ لأنّهم ينظرون إلى الآخر بمقياس تحكمي يثبت لهم ذاتيتهم وينفي الآخرين.
صحيح أن الغرب قيد الحق الطبيعي أو الحرية بما لا يضر الآخر مما يوفر الاحترام له، ولكن المشكلة التي لا ينكرها مفكرو الغرب هي: ما مدى تأثير هذا المقياس في السلوك؟
إنّ الحديث في الغرب عن إشكالية النزعة الفردية الطاغية على حق الجماعة، وعن الأزمة الأخلاقية والقيمية الموجودة في المجتمع، وعن تفكك الروابط المجتمعية بين أفراد المجتمع، دليل على ضعف تأثير هذه القاعدة على الأفراد. وهو ما دفع بعض القانونيين، كهانز كيلسن Hans Kelsen، إلى إنكار فكرة الحق ذاتها واعتبارها فكرة ميتافيزيقية لا تمت للواقع بصلة. فالفرد بطبيعته يقدم حقه على حقّ غيره، ويجعل من هواه مقياس ما يستحسن ويستقبح، خصوصا وهو ينطلق من نظرة كونية معينة تصوّر له ذاتيته فيما هو عليه من ميول ورغبات وشهوات، وتحدد له الغاية من وجوده في حرية إشباع غرائزه وحاجاته العضوية بالكيف الذي يراه هو ويشتهيه.
كتبه ياسين بن علي
تقوم نظرية الحقوق الطبيعية للإنسان، كالحرية والمساواة، على أساس أن هذه الحقوق فطرية في الإنسان وموروثة، لا يجوز له التفريط فيها ولا التنازل عنها، كما لا يجوز لأي سلطة أن تغتصبها منه أو تنتزعها.
ولقد تبنى جمع من الفلاسفة مفهوم الحق الطبيعي للإنسان، وأكدوا عليه في صراعهم من أجل النهضة الغربية. وتعتبر مساهمات (جون لوك) و(فولتير) و(مونتسيكيو) بارزة في مجال تمهيد الطريق أمام الاعتراف بحقوق الإنسان الطبيعية التي عرفت فيما بعد باسم "حقوق الإنسان"، فقد قال الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704): "إن الحرية والمساواة الطبيعية منظمة بواسطة العقل الفطري، ومتضمنة في قانون الطبيعة نفسه الذي يمنع أي فرد من إلحاق الضرر بالآخرين"(1).
ولقد كان أثر فكرة الحقوق الطبيعية للإنسان كبيرا حتى إنّ الثورات الغربية قامت عليها واستلهمت قواعدها وأفكارها منها. فقد ورد في "مقدمة وثيقة إعلان استقلال الولايات المتحدة 1776م: (إن من الحقائق البديهية أن جميع الناس خلقوا متساوين، وقد وهبهم الله حقوقا معينة لا تنتزع منهم، ومن هذه الحقوق حقهم في الحياة والحرية والسعي لبلوغ السعادة، وكلما سارت أية حكومة من الحكومات هادمة لهذه الغايات، فمن حق الشعب أن يغيرها أو يلزمها، وأن ينشئ حكومة جديدة، ترسي أسس تلك المبادئ، وأن تنظم سلطاتها على الشكل الذي يبدو للشعب أنه أوفى من سواه لضمان أمنه وسعادته).
وفي السادس والعشرين من آب 1789م نشرت الجمعية التأسيسية المنبثقة أبان الثورة الفرنسية (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الذي جاء نتاجا لتلك الثورة التي اقترنت كلمتا الحرية والمساواة بها، كما عززت عام 1793م كلمات الدستور، القانون، حقوق الإنسان، المواطن، وغيرها من الكلمات التي أسهمت في التمسك بالثورة والدفاع عنها.
... ومما جاء في مقدمة الإعلان: (إن ممثلي شعب فرنسا مشكلين في هيئة جمعية وطنية قد رأوا أن الجهل والإهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات.. وقد قرروا أن يطرحوا في الإعلان هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها)"(2).
ولما كان الإنسان، بناء على هذه النظرة الغربية إليه، مفطورا على طبيعة معينة تتمثّل في جملة من الأمور أطلق عليها اسم الحقوق كالحرية، والمساواة، والكرامة وغير ذلك، فقد وجب المحافظة عليها وتدعيمها. وكقاعدة فكرية وسلوكية تضمن الحفاظ على هذه الحقوق وما تفرع عنها، نشأت نظرية التسامح. لذلك، فنظرية التسامح التي تفيد قبول الآخر على ما هو عليه تنسجم في التصور الغربي مع النظرة إلى الإنسان المبنية على حقوقه الطبيعية عامة، وعلى حق الحرية خاصة. فللإنسان أن يدين بما يشاء، وأن يفكر كما يشاء، وأن يعبر عما يشاء، وأن يميل إلى ما يشاء، وعلى الآخر أن يقبل هذا ويحترمه. ومن حق الإنسان الطبيعي أن يختار كيفية إشباعه الجنسي، فإن شاء مع رجل أو مع امرأة، ومن حقه أيضا المساواة وعدم التفرقة والعنصرية، وعلى الآخر أن يقبل هذا ويحترمه.
وتعبير "الحق الطبيعي" الذي بنيت عليه رؤية الغرب إلى الإنسان وما ترتب عليها من إلزامات أخلاقية، وسياسية، ومجتمعية، وحقوقية وغير ذلك، هو في واقعه تعبير حقوقي تشريعي عن رؤية فكرية فلسفية للإنسان تقوم على فكرة القانون الطبيعي. لذا، فإن الحق الطبيعي هو تشريع للقانون الطبيعي.
"فقد ذهب معظم المفكرين والفلاسفة إلى اعتبار القانون الطبيعي مصدرا أساسيا للحقوق الثابتة للأفراد، ووصفه بعضهم بأنه جزء من القانون الإلهي، ولكن القانوني الهولندي هوغو [الكبير De Groot والمشهور بـ] غروسيوس Grotius (1583-1645م) قام بعملية فصل بين القانون الطبيعي والقانون الإلهي، وجعل الأول مصدرا أساسيا للقوانين الدنيوية، التي ارتأى أنها تقوم على المنطق والعقلانية، وانتهى (غروسيوس) إلى أن كل ما يتفق مع طبيعة الأمور فهو شرعي عادل، وكل ما يخالفها غير شرعي وغير عادل. وعرف القانون الطبيعي بأنه: (مجموعة القواعد القانونية الآمرة التي يفرضها المنطق السليم، والتي تجد أساسها في الأخلاق أو الضرورات الأخلاقية)"(3). وعليه فإنّ القانون الطبيعي هو القانون الأخلاقي الذي يستمده الإنسان من طبيعة الأشياء في ذاتها ومن متطلباتها، وهو تعبير عن المعنى الأخلاقي الأصيل الذي يمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل.
بناء على هذه الرؤية قال مفكرو الغرب بالحقّ الطبيعي كتشريع يرسخ القانون الطبيعي ويثبته، ويجعل منه قيمة تحقّق وتطلب. ثمّ قالوا بالحق الوضعي ( Droit positif ) باعتباره جملة من القواعد المنظمة للعلاقة بين الأفراد فيما بينهم، وللعلاقة بين الأفراد ومؤسسات المجتمع ككل، أو باعتباره تحديدا لما هو الحق ولما هو الواجب بالنسبة للجماعة، وهذا من باب التشريع المجتمعي للقانون الطبيعي.
وأما الخطأ في هذه الرؤية فيعود إلى أمور ثلاثة هي:
أولا: إنّ منطلق هذه النظرة هو الطبيعة الخيرة للإنسان(4) المتمثلة في ضميره الحي الذي يمكنه من الاختيار بين الخير والشر. فالضمير بتعبير جان جاك روسو Rousseau هو "...الحكم الذي لا يفشل أبدا في تحديد الخير والشر، والذي يجعل من الإنسان شبيها بالرب..."(5)، وبتعبير برجسون Bergson هو "القدرة على الاختيار التي يتمتع بها الكائن الحي..."(6). والحقيقة، أنّ الإنسان بطبيعته ليس خيّرا ولا شريرا، إنما فيه قابلية لأن يكون كذلك. ذلك، أنّ طبيعة الإنسان هي غرائزه وحاجاته العضوية: فالغرائز هي: غريزة حبّ البقاء التي من مظاهرها الخوف، وحب التملك، وحب السيطرة، وغير ذلك مما يخدم بقاء الإنسان، وغريزة النوع التي من مظاهرها الميل الجنسي، والأمومة، والأبوة، وإغاثة الملهوف وغير ذلك مما يخدم بقاء النوع الإنساني، وغريزة التدين التي من مظاهرها الشعور بالنقص والعجز والاحتياج، والتقديس الذي هو منتهى الاحترام القلبي لشيء ما وغير ذلك مما يدفع الإنسان للبحث عن كنه وجوده وحلّ عقدته الكبرى المتمثلة في الأسئلة المصيرية من أين وإلى أين ولماذا. وأما الحاجات العضوية، كالأكل والشرب والنوم وغير ذلك مما يرتبط بجسم الإنسان، فهي شأنها شأن الغرائز المذكورة دوافع للسلوك الإنساني المتمثّل في سعيه لإشباعها، إلاّ أنها تختلف عن الغرائز من حيث حتمية الإشباع. فإن لم تشبع هلك الإنسان، وذلك بخلاف الغرائز التي يؤدي عدم إشباعها إلى القلق والاضطراب لا إلى الهلاك. فعدم الأكل يؤدي إلى الهلاك، وأما عدم ممارسة الجنس فيؤدي إلى القلق وليس إلى الهلاك.
هذه هي طبيعة الإنسان، والملاحظ أنها حيادية لا توصف بالخير والشر في ذاتها إنما من عوامل خارجة عنها. فالميل الجنسي مثلا لا يوصف بأنه خير أو شرّ إلا إذا اقترن بكيفية إشباع ومحله. من ذلك اللواط، ممارسة الرجل الجنس مع رجل يعتبر عند الغرب خيرا مسموحا به، وأما البيدوفيليا Pedophilia أي ممارسة الجنس مع الأطفال فتعتبر شرا غير مسموح بها، مع أن الميل الجنسي هو نفسه لم يتغير، وإنما الذي تغير محل الإشباع والنظرة إليه. ومن ذلك أيضا ممارسة الرجل الجنس مع فتاة بلغت السن القانونية يعتبر عند الغرب خيرا مسموحا به، وأما ممارسته مع تلك الفتاة ولما تبلغ السن القانونية بعد، ولو بيوم واحد، يعتبر جرما في حق قاصر وشرا غير مسموح به وإن كان عبر زواج، مع أن الميل الجنسي هو نفسه، ومحلّ الإشباع هو نفسه ولكن الذي اختلف النظرة إليه المبنية على نظام معين حدد كيفية الإشباع.
وعليه، فإن الطبيعة الإنسانية لا توصف بالخير والشر في ذاتها، إنما من عوامل خارجة عنها هي النظام الذي اختاره الإنسان ليحدد له كيفية الإشباع ومحله.
ثانيا: إنّ الأساس الذي اعتمده الغرب في الحكم على الأشياء والأفعال بأنها خير أو شرّ، وبأنها حسنة أو قبيحة، هو العقل. والعقل في واقعه لا يصلح أساسا لهذا، وذلك لما يلي:
أ . الخير والشرّ
لقد وصف الإنسان ما يحبّه وما ينفعه من الأفعال والأشياء بأنّه خير، ووصف ما يكرهه وما يضرّه بأنّه شرّ. وبتعبير لوك "فإننا نسمي كلّ ما يوجد فينا اللذة خيرا، وعلى خلاف ذلك نسمي كلّ ما يوجد فينا الألم شرا"(7). وبناء على هذا الوصف أقدم الإنسان على أفعال وأحجم عن أخرى، فأقبل على ما يراه خيرا وأحجم عما يراه شرّا.
وقد ظنّ العقل الغربي أنّه قادر على إدراك الخير والشر بمفرده، فأطلق العنان لنفسه ليحكم على أمور بأنّها خير، وعلى أخرى بأنّها شر. والحقيقة، أنّ العقل غير قادر على تعيين الخير والشر؛ لأنّ وصف الأشياء والأفعال بأنّها خير أو شرّ ناجم عن أثرها على الإنسان، وهو ما لا يستطيع العقل إدراكه والإحاطة به.
فالأشياء، كالسكين والنار وغير ذلك، هي في واقعها حيادية لا توصف بالخير والشر في ذاتها إنما من حيث أثرها على الإنسان الذي يرتبط بكيفية استخدامها أي بفعل الإنسان. فالسكين الذي من خاصيته القطع، قد يستعمله الإنسان في قطع لحم يأكله، وقد يستعمله في قطع عنق إنسان يقتله. والميل الجنسي الغريزي في الإنسان قد يشبعه بطريقة مشروعة وقد يشبعه بطريقة غير مشروعة.
وأما الأفعال، فإن الإنسان يصفها بالخير والشرّ تبعا لمحبته وكراهيته أو نفعه وضرره. فوصف الإنسان للأفعال الواقعة منه أو عليه دون إرادة منه، ليس وصفا لها في حقيقتها إنما هو وصف لها من حيث نتائجها على الإنسان نفسه. ولما كان وصف الأفعال من حيث نتيجتها وأثرها على الإنسان، كان من الخطأ ترك تعيينها للإنسان نفسه؛ لأنّه قاصر عن إدراك النتائج، وعرضة للتفاوت والتباين فيها. ولنضرب مثلا لذلك الشخص الذي نام وتأخر عن موعد سفره بطائرة كانت ستقلّه لعقد صفقة تجارية رابحة، فكره ما حصل وعدّه شرّا له، ولكنه عندما علم أنّ تلك الطائرة قد سقطت بعد إقلاعها وتحطمت، وقتل جميع من كان عليها، حمد الله على تأخره وعدّه خيرا. وكذلك الأفعال التي تقع بإرادة من الإنسان، فإنه يصفها أيضا بالخير والشرّ. غير أنّ وصف الإنسان لهذه الأفعال غير آت من ذاتها إنما من الفكر عنها، مما يجعل وصفها متباينا متفاوتا. فقتل النفس البشرية لا يسمى خيرا أو شرّا، وإنما يسمى قتلا فقط. وكونه خيرا أو شرا إنما جاء من وصف خارج عن الفعل ذاته؛ ولذلك كان قتل الأمريكي المحتل في العراق خيرا عند العراقي وشرّا عند الأمريكي، وقتل العراقي المقاوم شرّا عنده وخيرا عند الأمريكي، مع أنهما عمل واحد لا تمييز فيه. وبما أنّ الفعل الواحد يختلف وصفه بالخير والشرّ من إنسان إلى آخر، فإنّ هذا يدلّ على قصور الإنسان وعجزه عن إدراك حقيقة الخير والشرّ في الأفعال التي يقوم بها.
ب . الحسن والقبح
الحكم بالحسن والقبح على الأشياء والأفعال يتعلق بواقعها، وبملاءمتها أو منافرتها لطبع الإنسان، وبمدحها أو ذمها.
فمن حيث الحكم على واقع الأشياء والأفعال، فإنّ العقل يقرر ذلك؛ لأنّ حسن العلم وقبح الجهل، أو حسن الصحة وقبح المرض، مدرك بالعقل، فبمستطاع العقل إذن الحكم عليه. وحكم العقل من هذه الجهة، هو في واقعه إخبار بحقائق الأشياء والأفعال الواقعة تحت حسه وإدراكه. لذا، فهو يستقلّ بالحكم من هذه الجهة.
والحكم على الأشياء والأفعال، من حيث ملاءمتها لطبع الإنسان أو منافرتها له، يقرره العقل أيضا، لأنّ حسن الحلو وقبح المر، أو حسن إنقاذ المشرف على الغرق وقبح الإعراض عنه، مدرك بالعقل، فبمستطاع العقل إذن تقريره. وحكم العقل من هذه الجهة، هو في واقعه إخبار عن حقيقة الميول الفطرية في الإنسان التي تحدد ما يلائمها أو ينافرها.
وأما الحكم على الأشياء والأفعال من حيث المدح والذم فلا يقرره الإنسان، لأنّ حكمه يبنى على العقل أو الشعور، وهما غير صالحين. فالعقل يدرك ما يقع عليه الحس، ولا يدرك ما لا يحس ولا يتأتى له أن يحكم عليه. والمدح والذم من الأمور التي لا يقع عليها الحس، لذا فلا يجب أن يقررها العقل، بل من الخطأ أن يقررها العقل. وأما الشعور، وهو الميل الفطري نحو أمور أو النفرة منها، فلا يصحّ جعله مقياس الحكم بالحسن والقبح؛ لأنّ الميول البشرية متفاوتة ومتناقضة، تخضع لهوى الفرد ورغباته.
وقد أخطأ العقل الغربي حينما أعطى لنفسه صلاحية الحكم على الأفعال والأشياء بأنها تمدح أو تذم قياسا على حكمه عليها من حيث واقعها، ومن حيث ملاءمتها للطبع أو منافرتها له. ذلك، أنّ البشر غالبا لا تختلف في الحكم على واقع الأشياء والأفعال، لأنّ تقرير الحسن والقبح فيها مدرك حسا، ولكن الاختلاف في مدحها وذمّها. فالنظافة من حيث واقعها حسنة، والقذارة قبيحة، والإخبار بهذا الواقع غير مدحها فتطلب أو ذمّها فتترك. فإذا كان الغرب يمدح النظافة اليوم ويطلبها، فقد كانت مذمومة عنده في عصوره الوسطى وغير مطلوبة، حتّى إنّ من رهبان الغرب من كان يتباهى ويفتخر بأنّ الماء لم يمسس قدمه إلاّ عندما يضطر لعبور نهر. فهذا المدح والذم المختلف من زمن إلى آخر لذات الواقع يدلّ على أنّ الإخبار بواقع الشيء غير مدحه وذمّه، ومنه يدلّ على خطأ ترك المدح والذم لعقل الإنسان العرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة. وأمّا خطأ قياس المدح والذمّ على ما يلائم طبع الإنسان أو ينافره، فبيّن في أمرين: أولهما، هو أنّ الإنسان بطبعه ينفر من قتل النفس البشرية مثلا ويستقبحه، غير أنّ نفرته هذه من فعل القتل لم تؤثّر في مدحه حين قتل عدو مغتصب وفي ذمّه حين الإعراض عنه، مما يدلّ على أنّ الحكم على الشيء أو الفعل بأنّه يلائم الطبع أو ينافره، غير الحكم بالمدح والذمّ، فمن الخطأ أن يقاس عليه. ثانيهما، هو التناقض فيما يلائم الطبع أو ينافره. فاللواط والسحاق مما يلائم طبع الإنسان في تصوّر العقل الغربي، لذلك يمدح فاعله في الغرب ولا يذمّ، لكنّه لا يلائم طبع الإنسان من وجهة نظر المسلم فيذمّ فاعله عنده ولا يمدح. لذا، فلا يصحّ قياس المدح والذم على الحكم بملاءمة الطبع أو منافرته، لأنّه متفاوت بين البشر، متأثر بالذوق والبيئة والثقافة السائدة.
وعليه، فإنّ قياسات الإنسان للخير والشر، وللحسن والقبح، متفاوتة ومتناقضة لصدورها عن عقل قاصر، وشعور متفاوت غير ثابت. لذا، فلا يصحّ أن يترك قياس الخير والشر والحسن والقبح للإنسان، لأنّه يجعلها مختلفة من عصر إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، وهو ما يخالف واقع المبادئ من كونها عالمية يسري وصفها للفعل على جميع بني الإنسان في كلّ العصور. لذلك، كان لا بدّ من قوة وراء العقل تبيّن للإنسان الخير والشر، والحسن والقبح، وتحدّد له تبعا لذلك ما يجلب من مصالح وما يدرأ من مفاسد، وهذه القوة هي خالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى.
ثالثا: إنّ فكرة الحق الطبيعي الغربية – كما مرّ معنا - مبنية بدورها على فكرة القانون الطبيعي. وقد عرف هوبز Hobbes الحق الطبيعي بقوله: " الحق الطبيعي الذي يسميه الكتاب عامة بـ( Jus naturale ) [ باللاتينية] هو الحرية التي عند كل شخص في استعمال سلطته كما يشاء من أجل المحافظة على طبيعته الذاتية"(8). وعرفه كانط Kant بقوله: "...هو فقط ما يعتبره عقل كلّ إنسان قبليا (a priori)"(9). والمراد بهذا – كما مر معنا ذكره إجمالا – أنّ الإنسان يولد بطبيعة معينة، وطبيعته هذه التي ولد عليها أو وجد بها هي قانون سيره وسلوكه، مما يعني أنها هي في ذاتها قواعد ثابتة له أي حقّ.
والخطأ في هذه النظرة أن الغرب أقرّ طبيعة الإنسان على ما هي عليه، وترك للفرد الحرية في إشباعها بالكيفية التي يراها. مما يعني أن الغرب في حقيقة الأمر لم ينظم للإنسان غرائزه وحاجاته وأبقاه على طبعه الحيواني، لأنه في نظره لا يختلف عنه في الجوهر وإنما في النوع. وبتعبير جون واتسون "فإنه لا يوجد حد فاصل بين الإنسان والبهيمة"(10).
والحقيقة، أنّ الإنسان يحتاج إلى نظام دقيق ينظم غرائزه وحاجاته العضوية، ويرتقي به من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة والحضارة، ويسمو به من مجرد الاستجابة للدفع الغريزي إلى التنظيم المحكم الذي يشبع غرائزه وحاجاته العضوية إشباعا يتجلى فيه التناسق والانسجام بين متطلباتها المتباينة.
فالإنسان فيه غريزة النوع التي تنشأ فيه الميل الجنسي، وفيه غريزة حب البقاء التي تنشأ فيه الميل للتملك وحبّ السيادة، وفيه غريزة التدين التي تنشأ فيه التقديس للأشياء والأشخاص، وفيه غير ذلك مما يدفعه للسلوك وفق ميل معيّن. فإذا تركت له الحرية في إشباع غرائزه وحاجاته العضوية فإنه يخضع حتما لميله الفردي الأناني مما ينتج حتما المفاضلة بينها، فيقدم واحدة على الأخرى، ويشبع واحدة ويهمل الأخرى، أو يبالغ في إشباع واحدة ويقصر في الأخرى.
لذلك، فإن الذين غلبوا حبّ التملك على أي شيء آخر لا يعنيهم أن يموت الناس جوعا في حين يمتلكون هم ثروات الأرض كلها، والذين غلبوا الميل الجنسي على كلّ شيء لا يعنيهم عفة فتاة وسترها، والذين كبتوا غريزة التدين فيهم لا يعنيهم تدين الآخرين، والذين غلبوا حب السيادة لا تعنيهم حرية الآخرين. وبعبارة أخرى فإن حرية الآخر لا تعني هؤلاء، ولا تمثّل لهم أي قيمة؛ لأنّهم ينظرون إلى الآخر بمقياس تحكمي يثبت لهم ذاتيتهم وينفي الآخرين.
صحيح أن الغرب قيد الحق الطبيعي أو الحرية بما لا يضر الآخر مما يوفر الاحترام له، ولكن المشكلة التي لا ينكرها مفكرو الغرب هي: ما مدى تأثير هذا المقياس في السلوك؟
إنّ الحديث في الغرب عن إشكالية النزعة الفردية الطاغية على حق الجماعة، وعن الأزمة الأخلاقية والقيمية الموجودة في المجتمع، وعن تفكك الروابط المجتمعية بين أفراد المجتمع، دليل على ضعف تأثير هذه القاعدة على الأفراد. وهو ما دفع بعض القانونيين، كهانز كيلسن Hans Kelsen، إلى إنكار فكرة الحق ذاتها واعتبارها فكرة ميتافيزيقية لا تمت للواقع بصلة. فالفرد بطبيعته يقدم حقه على حقّ غيره، ويجعل من هواه مقياس ما يستحسن ويستقبح، خصوصا وهو ينطلق من نظرة كونية معينة تصوّر له ذاتيته فيما هو عليه من ميول ورغبات وشهوات، وتحدد له الغاية من وجوده في حرية إشباع غرائزه وحاجاته العضوية بالكيف الذي يراه هو ويشتهيه.