منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#63464
فتحت "المبادرة الخليجية" أمام اليمن مساراً وخريطة طريق جديدين للخروج من الأزمة السياسية التي يعانيها، ويتلخص هدف هذه المبادرة في تحقيق الانتقال السلمي للسلطة. وكانت نقطة البداية إقناع الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح بالتنحي عن السلطة بعد حصوله على الحصانة من المتابعة القضائية. ثم جاءت خطوة اختيار نائبه عبدربه منصور هادي رئيساً انتقالياً لليمن في 21 مايو 2012، لتعزز التفاؤل بنجاح عملية انتقال السلطة وتحقيق الاستقرار المنشود لليمن. لكن، وبرغم هذه الانفراجة الأولية، فإن تنفيذ بقية بنود المبادرة الخليجية ظل متعثراً لغياب الحد الأدنى من التوافق الوطني، مقارنة بحالة متقدمة للغاية من الوحدة الوطنية في الفترة التي أعقبت الأشهر الأولى للانتفاضة الشعبية.

ولتهدئة الأوضاع وتوفير مناخ موات داخلياً لعقد مؤتمر الحوار الوطني، الذي يعوّل عليه لاستكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية، قام الرئيس اليمني هادي باتخاذ عدة قرارات لإعادة هيكلة القوات المسلحة اليمنية، شملت نزع صلاحيات وتقليص نفوذ عدد من القيادات العسكرية والأمنية المحسوبة على النظام السابق، من بينهم نجل الرئيس السابق، ونجل شقيقه، وهو الأمر الذي رحب به البعض، في حين رآه آخرون غير كاف لأنه أزال فقط رأس النظام السابق، في حين بقي جسمه الذي مازال له نفوذه وتدخلاته.

وفي الواقع فقد شهدت الأزمة اليمنية في المرحلة السابقة على إجراء الحوار العديد من التعقيدات السياسية والأمنية التي ألقت بثقلها على هذا الحوار. ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة أبعاد رئيسية لهذه الأزمة شكلت، ولا تزال تشكل، تهديداً لكيان الدولة نفسه؛ أولها: أزمة جنوب اليمن التي تمتد جذورها إلى الإعلان الذي صدر في مايو 1990، والخاص بإقامة وحدة اندماجية فورية بين ما كان يعرف بـ"شطري" اليمن. وفي تقدير العديد من أبناء الجنوب، فإن هذه الوحدة ابتعدت -في التنفيذ- عن مفهوم الوحدة الاندماجية المنشودة أو المخطط لها وروحها. وقد وصفها أحد ممثلي فصائل "الحراك الجنوبي السلمي" بالاحتلال من قبل الشمال للجنوب. وقد أوجد هذا الشعور لدى نسبة من أبناء الجنوب حالة من الاحتقان السياسي والتذمر من جراء ما يصفونه بحالة "الإقصاء والتهميش" لأبناء الجنوب من قبل السلطة المركزية في صنعاء، وهو ما أدى في مرحلة لاحقة إلى قيام حرب صيف 1994 بين شركاء الوحدة، وما تلاها من مواقف للنظام اليمني السابق، أسهمت في تنامي "الضغائن النائمة".

وخلال السنوات الأخيرة، ولاسيما تلك التي أعقبت الانتفاضة الشعبية، تصاعدت حدة الأزمة والمواجهات بين بعض أبناء الجنوب وقوات الشمال في مختلف المحافظات الجنوبية، ووصل الأمر إلى حد المطالبة بالانفصال، وأصبحت مشكلة الجنوب أكثر عمقاً من كونها مسألة تقسيم للسلطة والموارد، إذ وصلت إلى حالة خطرة يمكن أن يؤدي استمرارها دون حل إلى تفجير الواقع اليمني بأكمله، وتهديد الجغرافيا السياسية للدولة.

البعد الآخر أو الإشكالية الأخرى تتعلق بالتمرد الحوثي في محافظة صعدة، فعلى مدار العقود الماضية لم يتوقف القتال بين الحين والآخر، الذي تخوضه القوات اليمنية ضد المتمردين الحوثيين، وهو صراع ذو بعد مذهبي وقبلي. وقد نشأت بين التمرد الحوثي والحراك الجنوبي علاقة تأثير متبادل. فكلاهما ينتمي لمشروع ذي طبيعة تفتيتية لليمن، وكلاهما أسهم في إيجاد حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد، أوجدت بدورها مناخاً مناسباً لنشاط "القاعدة" في أكثر من موقع، الأمر الذي زاد من التهديدات التي يواجها اليمن.

كل هذه المشكلات وتداعياتها في دولة تعاني أصلاً من توترات اجتماعية وسياسية واقتصادية وتبحث عن نظام سياسي جديد يخفف من معاناة الشعب اليمني المعيشية، الناجمة عن تبديد موارد الدولة المحدودة بطبيعتها في النزاعات الداخلية. دفعت شباب اليمن لمواصلة الاحتجاجات بحثاً عن غد أفضل سئموا من طول انتظاره.

ومن هنا جاءت أهمية "المبادرة الخليجية" كعامل خارجي مؤثر يسعى إلى تحقيق التوافق بين مختلف الأطراف المحلية، لإبعاد اليمن عن محاذير الانزلاق إلى عدة حروب أهلية وشيكة، وهو الأمر الذي كان، ولا يزال، يثير قلقاً أمنياً مبرراً من جانب دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي كثفت جهودها بالتنسيق مع الأمم المتحدة، لإيجاد مخرج للأزمة المتشابكة والمعقدة في هذا البلد، فطرحت مبادرتها لحفر مسار سياسي تحاوري للتعامل مع مشكلات اليمن، وتوقيع اتفاق انتقال السلطة في نوفمبر 2011، والذي مهد الطريق أمام عقد مؤتمر الحوار الوطني الذي يمثل خطوة أساسية على طريق استكمال المرحلة الانتقالية، التي من المفترض أن تنتهي بإجراء الاستفتاء على الدستور الجديد، وإجراء انتخابات رئاسية في العام القادم (2014)، تضع حداً لهذه المرحلة، وترسم ملامح مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي والدستوري، والمحور الأساسي الذي يستند إليه تشييد هيكل هذا البناء هو مبدأ الحوار.

ولكي يكون الحوار مثمراً، وحتى لا يتحول مؤتمر الحوار الذي انطلق بالفعل مؤخراً إلى مجرد منتدى (forum)، لابد من توافر نقاط عدة، من بينها: أن يتسم بالندية وبالتمثيل شبه المتكافئ، الذي يقلل من سيطرة أي طرف على الباقين، وأن يقبل الجميع بتقديم تنازلات متبادلة للتوصل إلى توافق سياسي حول حلول وسطية للقضايا المطروحة.

وعلى الرغم من التحديات التي واجهها مؤتمر الحوار، وفي مقدمتها رفض بعض القوى الانفصالية في الجنوب المشاركة فيه برغم الجهود التي بذلتها الحكومة، عبر موفد الأمم المتحدة جمال بن عمر، لاستقطاب بعض قيادات الجنوب المقيمين في الداخل الخارج وحثهم على المشاركة في أعماله، فإن هناك ما يعزز التفاؤل بإمكانية نجاح المؤتمر وخروجه بنتائج إيجابية، لعل من أبرزها الدعم الإقليمي والدولي لهذا المؤتمر ورغبة معظم القوى الإقليمية والدولية في إنجاحه، والتمثيل الواسع للقوى السياسية المختلفة فيه، حيث يشارك في جلساته 565 عضواً ينتمون إلى الأحزاب والشباب والأقليات ورجال الدين والمرأة ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى بعض قوى "الحراك الجنوبي" وغيرها.

الأمر الآخر المهم هنا هو تأكيد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي أنه سيواصل حشد التأييد السياسي لإنجاح المؤتمر ووعد بتوفير كل مقومات نجاحه بالاستماع لكافة الآراء حول مشكلات اليمن دون وضع أي خطوط حمراء، وملوحاً في ذات الوقت بأسلوب القسر بتهديده لكل من يعرقل هذا الحوار سواء من الداخل أو في الخارج، بأنه سيطلب محاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية وفقاً للقرارات الأممية. كما حذر الرئيس اليمني في خطابه الافتتاحي للمؤتمر من أن الحلول ستفرض من الخارج في حالة فشل المؤتمر في مهمته الوطنية.

ويرى بعض المحللين أن إحدى مشكلات اليمن الأساسية هي ضعف الاقتصاد اليمني والتدهور المستمر في الخدمات الأساسية بالبلاد نتيجة استمرار أزماتها السياسية والأمنية وتفاقمها. وقد تعهد المجتمع الدولي في العام الماضي بتقديم قرابة 8 مليارات دولار لدعم جهود إعادة الإعمار والتحول الديمقراطي، ستسهم دول مجلس التعاون الخليجي بالجزء الأكبر فيها. ولاشك في أن دعم البعد الاقتصادي والاجتماعي سيعزز فرص الحل السياسي التفاوضي خلال مؤتمر الحوار، وهذا الدعم سيساعد بدوره اليمن على اللحاق بالعصر وعدم تحوله إلى تهديد لذاته أو لجيرانه.

وإذا كان من السابق لآوانه الحكم على نتائج هذا المؤتمر فإنه يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات محتملة له، الأول: نجاح المؤتمر في تحقيق الأهداف المنشودة منه، ويفترض ذلك مشاركة جميع القوى السياسية وتوصلها إلى أرضية مشتركة وحلول وسط للقضايا المطروحة. وهو سيناريوها يبدو مسرفاً في تفاؤله.

والسيناريو الثاني: فشل المؤتمر، ويستند ذلك إلى صعوبة التوصل إلى تفاهمات نهائية حول القضايا المطروحة، ولاسيما مسألة الجنوب، إضافة إلى انقسام قوى المعارضة بين مؤيد ومعارض للحوار، وعدم رضا البعض الأخر عن مستوى تمثيله في المؤتمر.

أما السيناريو الثالث، المرجح من وجهة نظري، فهو النجاح الجزئي، فقد يصل المؤتمر إلى حلول لبعض القضايا ويتعثر بالنسبة لأخرى. وهنا من المفضل تثبيت التوصيات الإيجابية، وقبول فكرة تدخل أطراف فاعلة داخلية بل وخارجية للمساعدة في تقريب المسافات السياسية بخلق أرضية مشتركة بين مختلف الفرقاء لحل باقي المشكلات.

والمأمول فيه أن يسفر مؤتمر الحوار الوطني عن إحداث انفراجة والوصول إلى تسوية حقيقية لأزمات اليمن، وألا يكون مجرد استراحة محارب، وأن يشكل نقطة تحول إيجابية وإنجازاً لثورة توقفت في منتصف الطريق، عبر استكمال تنفيذ بنود المبادرة الخليجية، وصولاً إلى بناء نظام يمني جديد قائم على قواسم وتفاهمات مشتركة تتطلبها المصالح العليا للشعب اليمني وتفتح أمامه آفاق مستقبل واعد. لقد أوضحت دروس الماضي وتجاربه في العديد من البلدان، أن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من نفق الأزمات الراهنة.