- الثلاثاء يوليو 16, 2013 1:25 am
#63765
يجمع المغرب المتناقضات والمفارقات، بين الإسلام والغرب، الوحدة والتعدد، الغنى والفقر؛ وتنعكس هذه التناقضات، لا محالة، على عملية فهم المغرب السياسي وفهم موقع الدين في التشكيلة السياسية، والأدوار الحقيقية للأحزاب. وفي ظل هذا التشابك والتعقيد، لا يمكن الاكتفاء بوصف المشهد السياسي العام والنظر إلى القرارات تبعاً لمواقع الفاعلين في صناعة القرار فقط، بل يلتزم تحليلاً معمقاً يتجاوز المشهد الإدراكي لفهم طبيعة التغييرات السياسية في المغرب ومسار التحول الديمقراطي البطيء فيه.
تَخْلقُ السياسة فاعليها ووكلاءها ومَسرحها، بل وجمهورها الخاص على الدوام. ويتعين على المرء، إزاء كل هذه المعطيات أن يذهب إلى ما هو أبعد مما يقدمه أو يمثله المشهد الإدراكي لديناميات السياسة، إذ أنه في بيئة يتشابك فيها البعد الرمزي مع المرحلي، وثقل التاريخ مع إرادات القوة الفاعلة في الحاضر، والعاطفي مع العقلاني، والتقليد مع التحديث. تجاه هذا التداخل الهائل للمستويات، "وحده قارئ حاذق ومتنبه لخصوصية الوسط المغربي يمكنه الوصول إلى ما يقال وما لا يقال في السياسة المغربية"[1].
احتراق الوقائع السياسية، المنفلتة والملتبسة، يستدعي الاهتداء إلى كيفية الإنصات للفاعلين الحقيقيين في السياسية المغربية.. إنها تبدو بسيطة وراكدة على السطح ولكن معطياتها، في العمق، معقدة ومتحركة من حيث صناعاتها وأدواتها.
وعلاوة على "هشاشة" المعرفة السياسية في المغرب أو "التباس" الوسط السياسي المغربي، وأخذاً بعين الاعتبار الرهانات التي يصنع في نطاقها القرار وأشكال الممارسة السياسية، فإنه من المفيد الإشارة إلى أن المغرب السياسي يصعُب إدراك آليات عمله استناداً إلى مقولات العقلانية السياسية فقط. فهو يمتلك بلا شك عقلانيته الداخلية، إلا أنه ولتوفير بعض شروط الفهم يتعين تجاوز الإطار الصوري والقانوني للمسألة السياسية، لأن القراءة القانونية الخالصة غالباً ما تميل إلى الاختزال وتضيع فرص الفهم الحقيقي لطبيعة النظام السياسي، ومن ثم فإن كل مقاربة تلتزم الاعتبارات الصورية المحضة ستحيد عن التقاط الأسس التي تسند هذا النظام.
لقد أكدت كتابات جون واتربوري الأولى عن المغرب[2] أن المجال السياسي المغربي تحكمه بُنيات "إقطاعية" تتحرك داخله أحزاب شبّهها بمؤسسات "الزوايا" التقليدية. وكان يعتبر أن هذه الأحزاب تنشط بطريقة يصعب معها التأثير في هذا المجال، كما أن البُنيات المُتحكِّمة لا سبيل إلى تنشيط مكوناتها في اتجاه التفتح والتطور والتواصل. وقد شارك الباحث نفسه في ندوة دولية نظمتها "مؤسسة عبد الرحيم بو عبيد للعلوم والثقافة" في ربيع سنة 1997، تحت عنوان "تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم"، ولاحظ الجميع كيف اضطر "واتربوري" إلى تغيير كثير من أحكامه حول التطور السياسي في المغرب، فبعدما درس الأنظمة السياسية لمصر وسوريا وبعض دول المشرق العربي، خلص إلى القول إن التجربة السياسية المغربية تفرز عناصر تغيير أكيدة، بطيئة ولا شك، والتفاوض حولها صعب وقاس أحياناً، لكن النظام السياسي، بكل مكوناته، تمكن من التكيف مع ضغوط الزمن والإنصات إلى الاختلافات وإلى مصادر الاعتراض، بل واضطر أغلب الفاعلين في الحقل السياسي إلى تغليب الرؤية السياسية على القناعات الإيديولوجية. ومن المؤكد أن نفس الباحث لو اهتم بما جرى طيلة العقد الأخير وما يشهده المغرب اليوم من حراك لاقتنع أكثر بانخراط الفاعلين الأساسيين في تغليب منطق السياسة على الرغم من كل العوائق والتقاليد المؤسسية الثقيلة، والنقص البين في النخب وفي عملية إعادة إنتاجها.
المغرب بلد المتناقضات، وهو ليس كذلك بسبب موقعه الجغرافي، لأنه يعرف أشكالاً متعددة من المتناقضات، "بين الإسلام والغرب، بين الوحدة الوطنية والتعدد الواقعي، والطبقي الاجتماعي، بين الغنى الفاحش والفقر المدقع". تنعكس هذه المتناقضات، لا محالة، على عملية فهم المغرب السياسي. ويجد الباحث نفسه في مواجهة مظاهر متعددة يعسر عليه أمر الإحاطة بها في وقت واحد، مثل تحليل أجهزة الدولة وماديتها الخصوصية، وأيديولوجيتها وأنماط عملها، وصيغ المشروعية وأزمة الشرعية وموقع الدين في التشكيلة السياسية، والأدوار الحقيقية للأحزاب السياسية والنقابات، وتحركات تنظيمات المجتمع المدني، وغيرها.
لاحظ عدد كبير من الباحثين أن واقع النظام السياسي المغربي المعاصر يتحدد اعتماداً على ثلاثة اعتبارات أساسية، هي: الدين، والتقاليد المغربية، ومتطلبات المرحلة. ومنبثقة عن هذه الاعتبارات الثلاثة، نجد ثلاثة أنماط من التشريع: المصدر التاريخي، العرف، والدستور المكتوب. وكل نمط يقابله حقل "دستوري" محدد. وقد جاء الدستور الجديد لإنجاز عملية تركيب حاذقة لهذه الأنماط[3].وفي مقابل النمط الديني نجد مبدأ "أمير المؤمنين" المؤطر بواسطة التاريخ، أما التقاليد المغربية فيقابلها حقل التحكيم المسنود بالحق العرفي، في حين أن مستلزمات الزمن الحاضر يقابلها حقل الدولة الحديثة المحدد بالدستور.
ويجسد ملك المغرب ثلاث وظائف اجتماعية وسياسية: "فهو شريف" سليل نبي الإسلام، و"خليفة" أي "أمير المؤمنين" مع ما يفترضه ذلك من احتكار للإنتاج الرمزي على صعيد المجال العمومي ومن "استجابة" من طرف المؤمن. وهو علاوة على ذلك، سلطان يرأس مؤسسة "المخزن" ويحكم الناس، ويترك إدارة أمورهم للجهاز البيروقراطي. ويقدَّم الملك، بصفته "الأب الأسمى" الحريص على مصالح وتطلعات أبنائه، والقادر على تأديبهم ومعاقبتهم عند الاقتضاء. وقد كان الملك الحسن الثاني حريصاً في بكل مناسبة، على تأكيد وصايته "الأبوية" على كل المغاربة. ولم يكن يتردد أبداً في الإصرار على المحافظة على هذا الدور.
أما الوظيفة الثالثة فتتمثل في كونه ملكاً، رئيساً لدولة تستند إلى مؤسسات تستمد مرجعيتها من التاريخ السياسي الأوروبي، وهو ما يفترض النظر إلى المغربي باعتباره مواطناً له حقوق وعليه واجبات يقتضيها السلوك المدني في إطار دولة حديثة"[4].
يعتبر بعض المراقبين للشأن السياسي المغربي أن أصالة الملكية المغربية تكمن في ذلك "التفاعل" الذي تأسس على نمطين من المشروعية، الأول تاريخي مرتبط بمفهوم الخلافة، والثاني تعاقدي مستمد من الديمقراطية الليبرالية. وبذلك يستند النظام السياسي المغربي على ركيزتين متكاملتين: التقليد والحداثة. من هذه العلاقة ينتصب التباس هائل وتداخل يصعب القبض على بعض تعبيراته، إذ قد يواجه المرء تصوراً تقليدياً داخل مجال من التدخل الحديث، أو على العكس من ذلك، يعثر على نظرة تحديثية تواجه مجالاً تقليدياً.
ومن بين الخصائص البارزة للنظام السياسي المغربي، كونه يستند إلى ثقافة سياسية جمعية ومتعددة، مع استقراره اللافت، بالقياس إلى الانقلابات العسكرية التي شهدتها غالبية الأنظمة العربية. وتحقق للنظام المغربي استقراره بفضل القدرة التي يمتلكها في إدماج الثقافات السياسية المتعددة، واحتواء عناصر مقاوماتها وخلق شروط التوازن الضروري لضمان استمراريته. ومن خلال تكيفه مع هذه التعددية تمكن النظام السياسي المغربي من إنتاج حقل سياسي تعددي على الرغم من بعض المظاهر الشكلية. واستمر ذلك طيلة العقود الأربعة التي تلت الاستقلال.
أما الأساس الثالث الذي يستند إليه النظام السياسي للدولة المغربية، فيتمثل في الثقافة السياسية الحديثة وما تفرضه من دعوة إلى المشاركة والمراقبة والتوافق. ولقد اكتسبت النخب المغربية بعض هذه الأفكار من خلال التفاعل اللامتكافئ الذي ولّده اللقاء مع الغرب إبان الفترة الاستعمارية، كما استوحت بعض عناصرها من جراء تأثير المشرق على المغرب. من جهة فإن مبادئ الديمقراطية والدستور والحرية أُدخلت إلى قاموس هذه النخب في سياق المواجهة المتعددة الأشكال التي حصلت مع أوروبا بوصفها قوة استعمارية ومرجعاً ثقافياً جديداً.
غير أنه، إذا كانت الثقافة الانقسامية تتمثل المجتمع كوحدة "روحية" فإن ثقافة المشاركة تنظر إليه باعتباره تشكيلة طبقية. ولما كانت ثقافة الإجماع تتصور السلطة كتجسيد للإرادة الشخصية، أو للحكم المشخص، فإن الثقافة السياسية الحديثة تتمثل السلطة باعتبارها تجلياً لسيرورة مؤسسية.
ويرتبط مفهوم المشاركة في الثقافة السياسية بحقل الدولة الحديثة، بكل ما تفترضه من أساس قانوني ومعطيات سياسية ونصوص مكتوبة تستمد مقوماتها من المصالح الجوهرية للمواطنين. ويقرر الدستور المغربي أن كل المغاربة متساوون أمام القانون، وأن معيار الانتماء يتمثل في الجنسية المغربية.
ويلاحظ بعض الباحثين في الحياة السياسية المغربية أن النظام السياسي المغربي يقدَّم على اعتباره نظاماً ملكياً يركز سلطات واسعة في يد الملك، كما أنه نظام يتميز بكونه عمل منذ الاستقلال على السماح بتأسيس أحزاب سياسية يضمن الدستور وجودها وشرعية نشاطها. وتؤكد كل الدساتير التي تعاقبت على الحياة السياسية المغربية منذ سنة 1962 على التعددية الحزبية، وتحث المواطنين على الانخراط في منظمات سياسية ونقابية.
تَخْلقُ السياسة فاعليها ووكلاءها ومَسرحها، بل وجمهورها الخاص على الدوام. ويتعين على المرء، إزاء كل هذه المعطيات أن يذهب إلى ما هو أبعد مما يقدمه أو يمثله المشهد الإدراكي لديناميات السياسة، إذ أنه في بيئة يتشابك فيها البعد الرمزي مع المرحلي، وثقل التاريخ مع إرادات القوة الفاعلة في الحاضر، والعاطفي مع العقلاني، والتقليد مع التحديث. تجاه هذا التداخل الهائل للمستويات، "وحده قارئ حاذق ومتنبه لخصوصية الوسط المغربي يمكنه الوصول إلى ما يقال وما لا يقال في السياسة المغربية"[1].
احتراق الوقائع السياسية، المنفلتة والملتبسة، يستدعي الاهتداء إلى كيفية الإنصات للفاعلين الحقيقيين في السياسية المغربية.. إنها تبدو بسيطة وراكدة على السطح ولكن معطياتها، في العمق، معقدة ومتحركة من حيث صناعاتها وأدواتها.
وعلاوة على "هشاشة" المعرفة السياسية في المغرب أو "التباس" الوسط السياسي المغربي، وأخذاً بعين الاعتبار الرهانات التي يصنع في نطاقها القرار وأشكال الممارسة السياسية، فإنه من المفيد الإشارة إلى أن المغرب السياسي يصعُب إدراك آليات عمله استناداً إلى مقولات العقلانية السياسية فقط. فهو يمتلك بلا شك عقلانيته الداخلية، إلا أنه ولتوفير بعض شروط الفهم يتعين تجاوز الإطار الصوري والقانوني للمسألة السياسية، لأن القراءة القانونية الخالصة غالباً ما تميل إلى الاختزال وتضيع فرص الفهم الحقيقي لطبيعة النظام السياسي، ومن ثم فإن كل مقاربة تلتزم الاعتبارات الصورية المحضة ستحيد عن التقاط الأسس التي تسند هذا النظام.
لقد أكدت كتابات جون واتربوري الأولى عن المغرب[2] أن المجال السياسي المغربي تحكمه بُنيات "إقطاعية" تتحرك داخله أحزاب شبّهها بمؤسسات "الزوايا" التقليدية. وكان يعتبر أن هذه الأحزاب تنشط بطريقة يصعب معها التأثير في هذا المجال، كما أن البُنيات المُتحكِّمة لا سبيل إلى تنشيط مكوناتها في اتجاه التفتح والتطور والتواصل. وقد شارك الباحث نفسه في ندوة دولية نظمتها "مؤسسة عبد الرحيم بو عبيد للعلوم والثقافة" في ربيع سنة 1997، تحت عنوان "تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم"، ولاحظ الجميع كيف اضطر "واتربوري" إلى تغيير كثير من أحكامه حول التطور السياسي في المغرب، فبعدما درس الأنظمة السياسية لمصر وسوريا وبعض دول المشرق العربي، خلص إلى القول إن التجربة السياسية المغربية تفرز عناصر تغيير أكيدة، بطيئة ولا شك، والتفاوض حولها صعب وقاس أحياناً، لكن النظام السياسي، بكل مكوناته، تمكن من التكيف مع ضغوط الزمن والإنصات إلى الاختلافات وإلى مصادر الاعتراض، بل واضطر أغلب الفاعلين في الحقل السياسي إلى تغليب الرؤية السياسية على القناعات الإيديولوجية. ومن المؤكد أن نفس الباحث لو اهتم بما جرى طيلة العقد الأخير وما يشهده المغرب اليوم من حراك لاقتنع أكثر بانخراط الفاعلين الأساسيين في تغليب منطق السياسة على الرغم من كل العوائق والتقاليد المؤسسية الثقيلة، والنقص البين في النخب وفي عملية إعادة إنتاجها.
المغرب بلد المتناقضات، وهو ليس كذلك بسبب موقعه الجغرافي، لأنه يعرف أشكالاً متعددة من المتناقضات، "بين الإسلام والغرب، بين الوحدة الوطنية والتعدد الواقعي، والطبقي الاجتماعي، بين الغنى الفاحش والفقر المدقع". تنعكس هذه المتناقضات، لا محالة، على عملية فهم المغرب السياسي. ويجد الباحث نفسه في مواجهة مظاهر متعددة يعسر عليه أمر الإحاطة بها في وقت واحد، مثل تحليل أجهزة الدولة وماديتها الخصوصية، وأيديولوجيتها وأنماط عملها، وصيغ المشروعية وأزمة الشرعية وموقع الدين في التشكيلة السياسية، والأدوار الحقيقية للأحزاب السياسية والنقابات، وتحركات تنظيمات المجتمع المدني، وغيرها.
لاحظ عدد كبير من الباحثين أن واقع النظام السياسي المغربي المعاصر يتحدد اعتماداً على ثلاثة اعتبارات أساسية، هي: الدين، والتقاليد المغربية، ومتطلبات المرحلة. ومنبثقة عن هذه الاعتبارات الثلاثة، نجد ثلاثة أنماط من التشريع: المصدر التاريخي، العرف، والدستور المكتوب. وكل نمط يقابله حقل "دستوري" محدد. وقد جاء الدستور الجديد لإنجاز عملية تركيب حاذقة لهذه الأنماط[3].وفي مقابل النمط الديني نجد مبدأ "أمير المؤمنين" المؤطر بواسطة التاريخ، أما التقاليد المغربية فيقابلها حقل التحكيم المسنود بالحق العرفي، في حين أن مستلزمات الزمن الحاضر يقابلها حقل الدولة الحديثة المحدد بالدستور.
ويجسد ملك المغرب ثلاث وظائف اجتماعية وسياسية: "فهو شريف" سليل نبي الإسلام، و"خليفة" أي "أمير المؤمنين" مع ما يفترضه ذلك من احتكار للإنتاج الرمزي على صعيد المجال العمومي ومن "استجابة" من طرف المؤمن. وهو علاوة على ذلك، سلطان يرأس مؤسسة "المخزن" ويحكم الناس، ويترك إدارة أمورهم للجهاز البيروقراطي. ويقدَّم الملك، بصفته "الأب الأسمى" الحريص على مصالح وتطلعات أبنائه، والقادر على تأديبهم ومعاقبتهم عند الاقتضاء. وقد كان الملك الحسن الثاني حريصاً في بكل مناسبة، على تأكيد وصايته "الأبوية" على كل المغاربة. ولم يكن يتردد أبداً في الإصرار على المحافظة على هذا الدور.
أما الوظيفة الثالثة فتتمثل في كونه ملكاً، رئيساً لدولة تستند إلى مؤسسات تستمد مرجعيتها من التاريخ السياسي الأوروبي، وهو ما يفترض النظر إلى المغربي باعتباره مواطناً له حقوق وعليه واجبات يقتضيها السلوك المدني في إطار دولة حديثة"[4].
يعتبر بعض المراقبين للشأن السياسي المغربي أن أصالة الملكية المغربية تكمن في ذلك "التفاعل" الذي تأسس على نمطين من المشروعية، الأول تاريخي مرتبط بمفهوم الخلافة، والثاني تعاقدي مستمد من الديمقراطية الليبرالية. وبذلك يستند النظام السياسي المغربي على ركيزتين متكاملتين: التقليد والحداثة. من هذه العلاقة ينتصب التباس هائل وتداخل يصعب القبض على بعض تعبيراته، إذ قد يواجه المرء تصوراً تقليدياً داخل مجال من التدخل الحديث، أو على العكس من ذلك، يعثر على نظرة تحديثية تواجه مجالاً تقليدياً.
ومن بين الخصائص البارزة للنظام السياسي المغربي، كونه يستند إلى ثقافة سياسية جمعية ومتعددة، مع استقراره اللافت، بالقياس إلى الانقلابات العسكرية التي شهدتها غالبية الأنظمة العربية. وتحقق للنظام المغربي استقراره بفضل القدرة التي يمتلكها في إدماج الثقافات السياسية المتعددة، واحتواء عناصر مقاوماتها وخلق شروط التوازن الضروري لضمان استمراريته. ومن خلال تكيفه مع هذه التعددية تمكن النظام السياسي المغربي من إنتاج حقل سياسي تعددي على الرغم من بعض المظاهر الشكلية. واستمر ذلك طيلة العقود الأربعة التي تلت الاستقلال.
أما الأساس الثالث الذي يستند إليه النظام السياسي للدولة المغربية، فيتمثل في الثقافة السياسية الحديثة وما تفرضه من دعوة إلى المشاركة والمراقبة والتوافق. ولقد اكتسبت النخب المغربية بعض هذه الأفكار من خلال التفاعل اللامتكافئ الذي ولّده اللقاء مع الغرب إبان الفترة الاستعمارية، كما استوحت بعض عناصرها من جراء تأثير المشرق على المغرب. من جهة فإن مبادئ الديمقراطية والدستور والحرية أُدخلت إلى قاموس هذه النخب في سياق المواجهة المتعددة الأشكال التي حصلت مع أوروبا بوصفها قوة استعمارية ومرجعاً ثقافياً جديداً.
غير أنه، إذا كانت الثقافة الانقسامية تتمثل المجتمع كوحدة "روحية" فإن ثقافة المشاركة تنظر إليه باعتباره تشكيلة طبقية. ولما كانت ثقافة الإجماع تتصور السلطة كتجسيد للإرادة الشخصية، أو للحكم المشخص، فإن الثقافة السياسية الحديثة تتمثل السلطة باعتبارها تجلياً لسيرورة مؤسسية.
ويرتبط مفهوم المشاركة في الثقافة السياسية بحقل الدولة الحديثة، بكل ما تفترضه من أساس قانوني ومعطيات سياسية ونصوص مكتوبة تستمد مقوماتها من المصالح الجوهرية للمواطنين. ويقرر الدستور المغربي أن كل المغاربة متساوون أمام القانون، وأن معيار الانتماء يتمثل في الجنسية المغربية.
ويلاحظ بعض الباحثين في الحياة السياسية المغربية أن النظام السياسي المغربي يقدَّم على اعتباره نظاماً ملكياً يركز سلطات واسعة في يد الملك، كما أنه نظام يتميز بكونه عمل منذ الاستقلال على السماح بتأسيس أحزاب سياسية يضمن الدستور وجودها وشرعية نشاطها. وتؤكد كل الدساتير التي تعاقبت على الحياة السياسية المغربية منذ سنة 1962 على التعددية الحزبية، وتحث المواطنين على الانخراط في منظمات سياسية ونقابية.