- الأحد يوليو 21, 2013 11:00 am
#63921
المعرفة والمصلحة.. نقد الهيمنة الثقافية
الهيمنة التي تتجسد من خلال تمثل تلك المعارف على الإنسان، وتعمل على "نمذجته" هي المشكلة الثقافية، وليست في ذات المعارف لأنها في طبيعتها معارف متحولة وينقض بعضها بعضا
العلاقة بين الفكرة والواقع علاقة جدلية أي أن كل فكرة لها تمثلات واقعية، أو أن لها أسبابها الواقعية لتي أنتجتها؛ إذ إنه لا يمكن لفكرة محددة أن تخرج عن إطارها الزماني والمكاني الذي تفاعلت معه أو ولدت فيه أو حتى انتهت معه مهما كانت هذه الأفكار غارقة في المثالية الفكرية أي غارقة في "فكرية الفكر" أو "فلسفية الرؤية"، بل يمكن القول: إنه حتى مع الاستغراق في الدرس الرياضي، وهو الدرس الأكثر مثالية، والأبعد عن أرض الواقع نرى أن لذلك تمثلاته في البيئة المحيطة، ولذلك نتعجب في كثير من الأحيان حينما يتم وصف الرياضيات بخياليتها أو أنه لا فائدة منها. صحيح أن الكثير من المعادلات الرياضية والفيزيائية هي معادلات افتراضية نظرية لم يوجد لها حتى الآن على المستوى العملي أي تطبيق كالانطلاق بسرعة الضوء بالنسبة للنظرية النسبية؛ إذ ما تزال نظرية يصعب تطبيقها عملياً في الفيزياء الحديثة إلا أن نظرية النسبية تبقى لها تطبيقات أخرى لم تصل إلى الحد الأقصى منها كسرعة الضوء؛ بل إن العلماء حاولوا فهم نشوء الكون من خلال هذه النظرية، ولذلك فإن لها واقعيتها التي تتأطر بأطرها النظرية على أقل تقدير، ثم إنها أنتجت فلسفات فكرية جديدة تأخذ مرجعيتها الفكرية من النظرية النسبية، مما يعني صلاحيتها على أرض الواقع.
ينطبق هذا على كل الاشتغالات الفكرية والثقافية والعلمية، إذ إن كل نص كان له مرجعيته الثقافية وإطاره الثقافي الذي وُلد فيه أو تفاعل معه. النص الديني مثلا، وهو النص الأكثر قداسة بالنسبة للمسلمين يأخذ جانباً تاريخياً وواقعياً، ويتفاعل مع معطيات الحياة والتاريخ تفاعلاً يومياً؛ أي أنه لا يتعالى على التاريخ إلا في مصدره الأول "الميتافيزيقي"، وكل عصر أو فكر يصنع ميتافيزيقاه الخاصة حتى في الواقع العلمي الخالص رغم المصدرية التاريخية لكل فكر في لحظات التكوين.
المعرفة هي كل ذلك الخليط من العلوم سواء كانت إنسانية أو تطبيقية أو روحية، وكل من هذه العلوم يعمل في وظيفة محددة، ويحقق غاية يمكن الوصول إليها في حالة تموضع فكري يجري التجاوب معها لخلق حالة من الواقعية على تلك العلوم جميعاً، ولتحقيق مصلحة محددة من خلفها حسب الرؤية التي يريدها أصحابها وحتى مدى السلطة المعرفية لكل واحدة من هذه العلوم أو مدى سلطة أصحابها.
في الفلسفات الحديثة تبرز ثنائية المعرفة والمصلحة من خلال نظرية المعرفة ذاتها وهي النظرية التي تهتم في فحص المعرفة وحقيقتها وتعليلها ووسائل إنتاجها كما تهتم في الشكوك التي تصب سهامها على ادعاءات المعرفة المختلفة بحيث تضعها على محك النقد أو النقض أحيانا. الفيلسوف (هيجل) يرى أنه لا يمكن أن تتحقق معرفة إلا من خلال فحصها وتأملها، أي تأمل المعرفة قبل البدء في الاشتغال المعرفي، كأن تتعلم السباحة قبل أن تخوض عملية السباحة ذاتها، ولذلك فـ"إن استقصاء قدرة المعرفة هو ذاته معرفة..." (كانت: محاضرات في تاريخ الفلسفة. ص 555)
وتختلف نظريات المعرفة من مدرسة إلى أخرى. في موسوعة (ويكيبيديا) الإلكترونية نعثر بسهولة على هذا النص الذي يختصر تلك المدارس فيقول: "مدارس نظرية المعرفة مختلفة، فالتجريبيون يردون المعرفة إلى الحواس، والعقليون يؤكدون أن بعض المبادئ مصدرها العقل لا الخبرة الحسية، وعن طبيعة المعرفة، يقول الواقعيون إن موضوعها مستقل عن الذات العارفة ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلي في طبيعته لأن الذات لا تدرك إلا الأفكار. وكذلك تختلف المذاهب في مدى المعرفة: فمنها ما يقول أن العقل يدرك المعرفة اليقينية، ومنها ما يجعل المعرفة كلها احتمالية، ومنها ما يجعل معرفة العالم مستحيلة".
واضح من خلال هذا النقل المقتضب أن نظرية المعرفة متحولة مع الوقت حسب التطور المعرفي ولذلك، فإن وثوقية المعارف جميعها، هي تحت الفحص دائما. والآن ما علاقة كل هذا بسؤال "المعرفة والمصلحة"؟
إن المعارف (الإنسانية والتطبيقية والروحانية) لها وظائفها كما ذكرت في الفقرة الثالثة من المقال، ووظائفها راجعة إلى مدى تحقيقها فائدتها الثقافية بما تحمل هذه الكلمة من معنى على المنظور الإنساني فالعلوم التطبيقية لها فائدتها على المستوى العلمي الذي بطبيعته مستوى يشتغل في المجال الطبيعي للحياة وللإنسان في حين تشتغل العلوم الإنسانية في المجال الثقافي والاجتماعي وتشتغل العلوم الروحانية على المجالات الدينية وغيرها بالنسبة للبشر وفي كل واحدة من هذه المجالات تمثلات على أرض الواقع، ومن هنا تصبح المعرفة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصلحة، التي هي باختصار تسعى إلى "السعادة الإنسانية". الإشكالية التي تبرز هنا هي في ما مدى تحقيق أي علم من هذه العلوم لتقدم البشرية أو تراجعها؟.
أعتقد أن الهيمنة التي تتجسد من خلال تمثل تلك المعارف على الإنسان، وتعمل على "نمذجته" هي المشكلة الثقافية، وليست في ذات المعارف لأنها في طبيعتها معارف متحولة وينقض بعضها بعضا، وهنا تعمل العقول التجميدية الوثوقية في تكثيف سلطة المعرفة على الواقع حتى تصبح مسلمات لا يمكن تجاوزها.
في الأخير.. إن الهيمنة الثقافية لخطاب علمي هو ما يحدد مدى وثوقية معرفة عن أخرى وليست مدى جدوى المعرفة من عدم جدواها أو مدى قربها من الحقيقة رغم صعوبة الجزم في وجود حقيقة معرفية متكاملة.
-----------------
رقم التحضير : 8
الطالب : محمود علواني
الرقم الجامعي : 429107935
المادة : التنمية السياسية (التخلف السياسي)
الهيمنة التي تتجسد من خلال تمثل تلك المعارف على الإنسان، وتعمل على "نمذجته" هي المشكلة الثقافية، وليست في ذات المعارف لأنها في طبيعتها معارف متحولة وينقض بعضها بعضا
العلاقة بين الفكرة والواقع علاقة جدلية أي أن كل فكرة لها تمثلات واقعية، أو أن لها أسبابها الواقعية لتي أنتجتها؛ إذ إنه لا يمكن لفكرة محددة أن تخرج عن إطارها الزماني والمكاني الذي تفاعلت معه أو ولدت فيه أو حتى انتهت معه مهما كانت هذه الأفكار غارقة في المثالية الفكرية أي غارقة في "فكرية الفكر" أو "فلسفية الرؤية"، بل يمكن القول: إنه حتى مع الاستغراق في الدرس الرياضي، وهو الدرس الأكثر مثالية، والأبعد عن أرض الواقع نرى أن لذلك تمثلاته في البيئة المحيطة، ولذلك نتعجب في كثير من الأحيان حينما يتم وصف الرياضيات بخياليتها أو أنه لا فائدة منها. صحيح أن الكثير من المعادلات الرياضية والفيزيائية هي معادلات افتراضية نظرية لم يوجد لها حتى الآن على المستوى العملي أي تطبيق كالانطلاق بسرعة الضوء بالنسبة للنظرية النسبية؛ إذ ما تزال نظرية يصعب تطبيقها عملياً في الفيزياء الحديثة إلا أن نظرية النسبية تبقى لها تطبيقات أخرى لم تصل إلى الحد الأقصى منها كسرعة الضوء؛ بل إن العلماء حاولوا فهم نشوء الكون من خلال هذه النظرية، ولذلك فإن لها واقعيتها التي تتأطر بأطرها النظرية على أقل تقدير، ثم إنها أنتجت فلسفات فكرية جديدة تأخذ مرجعيتها الفكرية من النظرية النسبية، مما يعني صلاحيتها على أرض الواقع.
ينطبق هذا على كل الاشتغالات الفكرية والثقافية والعلمية، إذ إن كل نص كان له مرجعيته الثقافية وإطاره الثقافي الذي وُلد فيه أو تفاعل معه. النص الديني مثلا، وهو النص الأكثر قداسة بالنسبة للمسلمين يأخذ جانباً تاريخياً وواقعياً، ويتفاعل مع معطيات الحياة والتاريخ تفاعلاً يومياً؛ أي أنه لا يتعالى على التاريخ إلا في مصدره الأول "الميتافيزيقي"، وكل عصر أو فكر يصنع ميتافيزيقاه الخاصة حتى في الواقع العلمي الخالص رغم المصدرية التاريخية لكل فكر في لحظات التكوين.
المعرفة هي كل ذلك الخليط من العلوم سواء كانت إنسانية أو تطبيقية أو روحية، وكل من هذه العلوم يعمل في وظيفة محددة، ويحقق غاية يمكن الوصول إليها في حالة تموضع فكري يجري التجاوب معها لخلق حالة من الواقعية على تلك العلوم جميعاً، ولتحقيق مصلحة محددة من خلفها حسب الرؤية التي يريدها أصحابها وحتى مدى السلطة المعرفية لكل واحدة من هذه العلوم أو مدى سلطة أصحابها.
في الفلسفات الحديثة تبرز ثنائية المعرفة والمصلحة من خلال نظرية المعرفة ذاتها وهي النظرية التي تهتم في فحص المعرفة وحقيقتها وتعليلها ووسائل إنتاجها كما تهتم في الشكوك التي تصب سهامها على ادعاءات المعرفة المختلفة بحيث تضعها على محك النقد أو النقض أحيانا. الفيلسوف (هيجل) يرى أنه لا يمكن أن تتحقق معرفة إلا من خلال فحصها وتأملها، أي تأمل المعرفة قبل البدء في الاشتغال المعرفي، كأن تتعلم السباحة قبل أن تخوض عملية السباحة ذاتها، ولذلك فـ"إن استقصاء قدرة المعرفة هو ذاته معرفة..." (كانت: محاضرات في تاريخ الفلسفة. ص 555)
وتختلف نظريات المعرفة من مدرسة إلى أخرى. في موسوعة (ويكيبيديا) الإلكترونية نعثر بسهولة على هذا النص الذي يختصر تلك المدارس فيقول: "مدارس نظرية المعرفة مختلفة، فالتجريبيون يردون المعرفة إلى الحواس، والعقليون يؤكدون أن بعض المبادئ مصدرها العقل لا الخبرة الحسية، وعن طبيعة المعرفة، يقول الواقعيون إن موضوعها مستقل عن الذات العارفة ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلي في طبيعته لأن الذات لا تدرك إلا الأفكار. وكذلك تختلف المذاهب في مدى المعرفة: فمنها ما يقول أن العقل يدرك المعرفة اليقينية، ومنها ما يجعل المعرفة كلها احتمالية، ومنها ما يجعل معرفة العالم مستحيلة".
واضح من خلال هذا النقل المقتضب أن نظرية المعرفة متحولة مع الوقت حسب التطور المعرفي ولذلك، فإن وثوقية المعارف جميعها، هي تحت الفحص دائما. والآن ما علاقة كل هذا بسؤال "المعرفة والمصلحة"؟
إن المعارف (الإنسانية والتطبيقية والروحانية) لها وظائفها كما ذكرت في الفقرة الثالثة من المقال، ووظائفها راجعة إلى مدى تحقيقها فائدتها الثقافية بما تحمل هذه الكلمة من معنى على المنظور الإنساني فالعلوم التطبيقية لها فائدتها على المستوى العلمي الذي بطبيعته مستوى يشتغل في المجال الطبيعي للحياة وللإنسان في حين تشتغل العلوم الإنسانية في المجال الثقافي والاجتماعي وتشتغل العلوم الروحانية على المجالات الدينية وغيرها بالنسبة للبشر وفي كل واحدة من هذه المجالات تمثلات على أرض الواقع، ومن هنا تصبح المعرفة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصلحة، التي هي باختصار تسعى إلى "السعادة الإنسانية". الإشكالية التي تبرز هنا هي في ما مدى تحقيق أي علم من هذه العلوم لتقدم البشرية أو تراجعها؟.
أعتقد أن الهيمنة التي تتجسد من خلال تمثل تلك المعارف على الإنسان، وتعمل على "نمذجته" هي المشكلة الثقافية، وليست في ذات المعارف لأنها في طبيعتها معارف متحولة وينقض بعضها بعضا، وهنا تعمل العقول التجميدية الوثوقية في تكثيف سلطة المعرفة على الواقع حتى تصبح مسلمات لا يمكن تجاوزها.
في الأخير.. إن الهيمنة الثقافية لخطاب علمي هو ما يحدد مدى وثوقية معرفة عن أخرى وليست مدى جدوى المعرفة من عدم جدواها أو مدى قربها من الحقيقة رغم صعوبة الجزم في وجود حقيقة معرفية متكاملة.
-----------------
رقم التحضير : 8
الطالب : محمود علواني
الرقم الجامعي : 429107935
المادة : التنمية السياسية (التخلف السياسي)