- الاثنين يوليو 22, 2013 5:18 am
#63960
منذ أيام لويس الرابع عشر وحتى وقت متقدم من النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت فرنسا مهيمنة في أوروبا، ولكن علامات التوتر كانت بادية عليها بمرور النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد خسرت كندا ولم تستردها، ولو أن البريطانيين بالمقابل أصيبوا بالذل، كما ارتفعت ديون الملكية الفرنسية ارتفاعاً هائلاً، وراح وزراؤها الواحد تلو الآخر يحاولون إيجاد طريقة لتخفيض ديونها ومنحها ترتيبات مالية جديدة ومعقولة.
ولكن محاولاتهم كلها باءت بالفشل لأنهم عجزوا عن جعل الأغنياء يدفعون حصتهم الواجبة من الضرائب، وقد بين هذا أن الملكية الفرنسية المذهلة كانت ضعيفة من الداخل، فهي لم تكن ناجحة في جبي الموارد مثل نظام البرلمان البريطاني مثلاً. وألقي اللوم في هذا الوضع على كاهل النبلاء الفرنسيين.
ثم أعلن الملك أخيراً في عام 1789 أنه يعتزم استدعاء مجلس الطبقات، وهو مؤسسة من القرون الوسطى كانت أقرب ما عرفته فرنسا على البرلمان، وابتهج الناس لهذا الإعلان أيما ابتهاج لأن الأيام كانت عصيبة، ويبدو أن الجميع كانوا يعتقدون حينذاك أن الحكم في فرنسا سوف يكون حكماً أفضل إذا راعى إرادة الأغلبية.
عملية التغيير
لقد روعيت إرادة الأغلبية في النهاية فعلاً، ولكن بعد صراعات سياسية طويلة ومريرة، وعندما التأم مجلس الطبقات في أيار/مايو من عام 1789 راحت المظالم والمطالب تتعالى حول أمور كثيرة عدا عن العدالة في فرض الضرائب، وراحت أعداد متزايدة من الناس تتحول إلى السياسة من أجل إصلاح الأحوال وتقويمها.
وابتدأت عندئذٍ سلسلة متواصلة من التبدلات والتحولات الكبيرة، فأطيح بالدستور التاريخي لفرنسا، وتحولت الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية أولاً ثم إلى جمهورية، وقطع رأسا الملك والملكة، ومات الآلاف من الناس في الحرب الأهلية، وتخلت الدولة عن ديانتها الكاثوليكية الوطنية القديمة، وبيعت أوقاف الكنيسة لصالح الدولة، عدا عن ألف تغيير وتغيير، وكانت تلك هي الثورة الفرنسية.
لقد تجادل الناس كثيراً حول تاريخ بداية الثورة الفرنسية وتاريخ انتهائها، ولكن يمكننا أن نقول أنها ابتدأت في عام 1789 وانتهت في عام 1799 عندما استولى نابليون بونابرت على السلطة من السياسيين وأعاد فرنسا إلى الطريق نحو الملكية، ولم يعرف الناس قط عقداً مثل ذلك العقد.
إن أكثر التغيرات تمت بحلول عام 1791، وكانت السنوات التالية حتى عام 1795 أكثر سنوات الثورة اضطراباً وهياجاً، ثم استقرت الأمور بعد ذلك إلى حد ما، وكانت فرنسا في ذلك الحين قد انقطعت عن جزء كبير من ماضيها، وأعادت بناء دستورها على أساس المساواة أمام القانون، إذ تم إلغاء طبقة النبلاء والتسامح الديني والحكم عن طريق جمعية وطنية مؤلفة من نواب منتخبين يحق لهم التشريع في أي أمر من الأمور بصرف النظر عن الحقوق والتقاليد.
إلا أن أشياء كثيرة من الماضي قد استمرت، ولاريب أن الحياة في الريف لم تتغير كثيراً، بالنظر إلى التقاليد القديمة المتأصلة، فلم تنتشر مثلاً العملة العشرية الجديدة المكونة من الفرنك والسنتيم والتي مازالت مستخدمة حتى اليوم، أسواق الريف إلا بعد عقود عديدة، وحتى بعد خمسين سنة من عام 1789 ظل بعض الفلاحين يحسبون باستخدام العملة القديمة من كورون وسو، وكانوا يستخدمون المقاييس القديمة بدلاً من المقاييس الحديثة من كيلومتر وهكتار.
ولكن الثورة مع هذا قلبت فرنسا رأساً على عقب، إن الكثيرين من الناس لم ينسوا ما حصل ولم يقبلوا به قط، وقد ظلت الثورة طوال القرن التالية محك الآراء السياسية، فإذا كنت مع الثورة فأنت تريد حق الانتخاب لأعداد أكبر من الناس، وتريد جمهورية، وتريد أن ينخفض نفوذ الكنيسة عما كان عليه قبل عام 1789، وأنت تؤمن بحرية التعبير والكلام وبأن الرقابة على الصحافة عمل فاسد.
أما إذا كنت ضد الثورة، فأنت تتطلع إلى حكومة قوية، وتسعى لإعادة نفوذ الكنيسة إلى حياة البلاد، وتعتقد أن الفساد هو السماح بانتشار الأفكار الضارة، وتعتبر الانضباط والنظام أهم من الحرية الفردية.
وهذا هو بصورة تقريبية الفرق بين اليسار واليمين الذي انتشر في سياسات الكثير من الدول الأوروبية الأخرى خلال القرنين التاليين، وقد اخترعت هاتان الكلمتان وبدئ باستخدامهما في عام 1789، عندما بدأ المحافظون يجلسون معاً عن يمين الرئيس في الجمعية الوطنية بينما بدأ الليبراليون (التحرريون) يجلسون معاً عن يساره.
إن انتشار مثل هذا التقسيم إلى يسار ويمين إلى دول أخرى فيما بعد لدليل على التأثير الهائل للثورة خارج فرنسا، ومنذ البداية كان بعض الثوار قد قالوا أن مايبغون فعله في فرنسا عن طريق الإصلاحات يمكن أن يتم بل يجب أن يتم في البلاد الأخرى أيضاً، وراحوا يدعون بقية الناس إلى اتباع السبيل نفسه.
وعندما وجدت فرنسا الجديدة في حالة حرب كما كانت الحال منذ عام 192 حتى آخر العقد، راحوا يصدرون ثورتهم إلى البلاد الأخرى بالقوة والدعاية، وراح القادة العسكريون الفرنسيون ينظمون الثورات ويؤسسون الجمهوريات الجديدة في الأراضي التي كانوا يغزونها.
وكان هذا من أسباب الحروب الكثيرة التي حدثت بعد عام 1792، لقد بدا أن فرنسا عادت على عهد نابوليون بونابرت الذي توج إمبراطوراً في عام 1804 إلى سيرتها الأولى من الفتوحات كما كان الأمر على عهد لويس الرابع عشر، ولكن هذه الفتوحات صارت الآن تحمل معها رياح الثورة.
كانت بريطانيا عدوة فرنسا الدائمة، فهي لم تعقد الصلح معها بين عامي 1763 و 1814 إلا مرة واحدة ولفترة وجيزة، وقد ربحت لعبة المنافسة الاستعمارية القديمة في النهاية بعد أن انكسرت القوة البحرية الفرنسية في عام 1805 في الانتصار البحري الكبير بمعركة الطرف الأغر. أما القتال على البر كان أمراً مختلفاً، صحيح أن البريطانيين كانت لديهم منذ زمن طويل قوات في إسبانيا، إلا أن الأعداد الهائلة التي هزمت فرنسا أخيراً في عام 1799 ثم في عامي 1812 و 1813 إنما أتت من جماهير فلاحي النمسا وبروسيا وخصوصاً روسيا.
كثيراً ما جلبت الجيوش الفرنسية معها التحرر بالرغم من ضراوة الثورة، وكانت الاحتلال الفرنسي يؤدي عادة إلى إلغاء النظام الإقطاعي وتحطيم الحكومات الطاغية المستبدة ويعزز مساواة البشر أماما القانون.
وهكذا كانت الثورة الفرنسية منذ البداية حتى الآن مثلاً عظيماً ومصدراً كبيراً للإلهام، وسوف ينهض الناس طوال القرن التالي في كافة أنحاء العالم ضد طغاة حقيقيين أو وهميين باسم المبادئ المثالية التي يلخصها أحد شعاراتها: حرية ، مساواة، أخوة. وهذا ما جعل الطغاة يخشونها.
وحتى عندما كان الناس لايتطلعون إلى الثورة للحصول على مطالبهم كانوا يستلهمون المبدأ الذي نادى به الثوار بأن للناس حقوقاً بحكم كونهم بشراً، لا لأنهم ورثوها من نظام أو قانون ما أو لأن لديهم تقاليد تاريخية تساندهم، وكان هذا سبباً آخر جعل الثورة الفرنسية حدثاً كبيراً في تاريخ العالم فضلاً عن أهميته في تاريخ فرنسا.
ولادة السياسة الحديثة
بعد عام 1815 سوف تأخذ السياسة في العالم بالتدريج لغتها ومبادئها من أوروبا، ومن أهم التيارات التي سادت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية ازدياد أعداد الناس المشاركين في الحياة العامة، ولو بصورة شكلية جداً. وكانت العلامة الأساسية على هذا التطور في أكثر الدول هي اكتساب أعداد متزايدة من الناس لحقوق سياسية حقيقية وعملية.
عودة الملكية بعد عام 1815
لقد أعادت الهزيمة النهائية لفرنسا في عام 1815 الشيء الكثير من البنية القديمة، وغابت الحياة السياسية الحقيقية عن أوروبا ماعدا البلاد الواقعة إلى الغرب من الراين وفي بعض الدول الألمانية والإيطالية الصغيرة.
فقد حدث بعض التقدم هناك نحو اكتساب حكومات دستورية، أي أن تتم إدارة الشؤون العامة ضمن حدود قوانين دستورية تمنع الاستخدام التعسفي للسلطة، وكثيراً ماكانت هناك أيضاً درجة ما من الحكم التمثيلي، وقد تمت بعض التغيرات بمساعدة الثورة، كما في إسبانيا وأجزاء من إيطاليا وفرنسا مثلاً، بينما تمت في بعضها الآخر بصورة سلمية كما في بريطانيا، حيث كانت توجد بالأصل حكومة دستورية فأصبح لها الآن قاعدة أوسع عن طريق توسيع جمهور الناخبين في عام 1833 ورفع القيود الباقية على بعض الطوائف الدينية، وكنت تجد في هذه الدول جميعاً شعوراً متزايداً بأن على الحكومة أن تسير مع الرأي العام.
أما في ألمانيا وإمبراطورية الهابسبرغ وبعض الدول الإيطالية أيضاً فلم يحدث شيء من هذا ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، منه الرغبة الشخصية لحكام هذه الدول، ومنها سيطرة الحلف المقدس المكون من بروسيا والنمسا وروسيا على هذه المنطقة عام 1815، وثلاثتها تخشى عودة الثورة، لذلك كانت السيطرة على الحريات السياسية فيها أشد بكثير، وكانت الحكومات الدستورية نادرة، وحتى الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والحركة والنشاط السياسي كانت قليلة جداً.
ودستورية بعد الإطاحة
نتائج 1848 -1849
ولكن نتائج هذه الأحداث لم تقتصر على انتصار الرجعية المذكور، يمكننا أن نقول بصورة إجمالية إن مطالب الثورات المختلفة التي حدثت في عام 1848 كانت على ثلاثة أنواع، لقد ثار الفلاحون في أوروبا الشرقية للمطالبة بإلغاء أشغال السخرة والحقوق الإقطاعية التي كانت بيد أصحاب الأراضي، أي أنهم كانوا يسعون للحصول على ماحصل عليه الفرنسيون في عام 1789 وماجلبوه إلى بعض أنحاء ألمانيا عقب الثورة الفرنسية. وقد جلب عام 1848 إلى إمبراطورية الهابسبرغ وألمانيا وجزء كبير من بولندا نهاية الإقطاعية وعبودية الأرض، وكان هذا تقدماً عظيماً، وهكذا لم يعد للعبودية وجود فيما كان الأوروبيون المتعلمون يعتبرونه العالم المتحضر إلا في روسيا والأمريكتين.
أما النوع الثاني من المطالب التي قدمت عام 1848 فكانت بالإجمال مطالب المتحررين والمفكرين وأصحاب المهن العلمية من أبناء الطبقة الوسطى، والراغبين بحكومات أكثر دستورية وتمثيلية وبعدد أكبر من الوظائف في المناصب العامة على حساب الأرستقراطيات القديمة. ولهذا الأمر أسباب معقدة ومختلفة من مكان لآخر، منها أنها عندما ابتدأت الثورة حقاً راحت تهدد أسس المجتمع والأملاك مثل الثورةالاشتراكية التي حدثت في أيام حزيران في باريس، شعر الثوار أنهم قد تجاوزوا الحد، فتحالفوا مع سلطات النظام القديم، أي مع الملوك والأمراء الذين استردوا جرأتهم وراحوا يستخدمون جيوشهم لإعادة تثبيت سلطتهم. إلا أن بعض التحسينات الدستورية استمرت في ألمانيا بعد عام 1848، ولم تعد الأمور إلى القمع الشديد الذي كان على عهد مترنيخ.
من الأسباب الأخرى لفشل الثوريين أنهم كانوا منقسمين حول موضوع آخر، هو المطلب الثالث لعام 1848، لقد سمي ذلك العامربيع الأمم لأن الكثير من الثورات كانت تسعى باسم الشعوب لأن تحكم أنفسها بدلاً من أن يحكمها الآخرون، ويصح هذا الأمر بالأخص على الهنغاريين والإيطاليين الذين كانوا يناضلون لكسر نير حكم النمسا.
والمؤسف أن الكثير من الوطنيين الذين حاربوا من أجل شعوبهم في عام 1848، كانوا حتى اليوم
ولكن محاولاتهم كلها باءت بالفشل لأنهم عجزوا عن جعل الأغنياء يدفعون حصتهم الواجبة من الضرائب، وقد بين هذا أن الملكية الفرنسية المذهلة كانت ضعيفة من الداخل، فهي لم تكن ناجحة في جبي الموارد مثل نظام البرلمان البريطاني مثلاً. وألقي اللوم في هذا الوضع على كاهل النبلاء الفرنسيين.
ثم أعلن الملك أخيراً في عام 1789 أنه يعتزم استدعاء مجلس الطبقات، وهو مؤسسة من القرون الوسطى كانت أقرب ما عرفته فرنسا على البرلمان، وابتهج الناس لهذا الإعلان أيما ابتهاج لأن الأيام كانت عصيبة، ويبدو أن الجميع كانوا يعتقدون حينذاك أن الحكم في فرنسا سوف يكون حكماً أفضل إذا راعى إرادة الأغلبية.
عملية التغيير
لقد روعيت إرادة الأغلبية في النهاية فعلاً، ولكن بعد صراعات سياسية طويلة ومريرة، وعندما التأم مجلس الطبقات في أيار/مايو من عام 1789 راحت المظالم والمطالب تتعالى حول أمور كثيرة عدا عن العدالة في فرض الضرائب، وراحت أعداد متزايدة من الناس تتحول إلى السياسة من أجل إصلاح الأحوال وتقويمها.
وابتدأت عندئذٍ سلسلة متواصلة من التبدلات والتحولات الكبيرة، فأطيح بالدستور التاريخي لفرنسا، وتحولت الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية أولاً ثم إلى جمهورية، وقطع رأسا الملك والملكة، ومات الآلاف من الناس في الحرب الأهلية، وتخلت الدولة عن ديانتها الكاثوليكية الوطنية القديمة، وبيعت أوقاف الكنيسة لصالح الدولة، عدا عن ألف تغيير وتغيير، وكانت تلك هي الثورة الفرنسية.
لقد تجادل الناس كثيراً حول تاريخ بداية الثورة الفرنسية وتاريخ انتهائها، ولكن يمكننا أن نقول أنها ابتدأت في عام 1789 وانتهت في عام 1799 عندما استولى نابليون بونابرت على السلطة من السياسيين وأعاد فرنسا إلى الطريق نحو الملكية، ولم يعرف الناس قط عقداً مثل ذلك العقد.
إن أكثر التغيرات تمت بحلول عام 1791، وكانت السنوات التالية حتى عام 1795 أكثر سنوات الثورة اضطراباً وهياجاً، ثم استقرت الأمور بعد ذلك إلى حد ما، وكانت فرنسا في ذلك الحين قد انقطعت عن جزء كبير من ماضيها، وأعادت بناء دستورها على أساس المساواة أمام القانون، إذ تم إلغاء طبقة النبلاء والتسامح الديني والحكم عن طريق جمعية وطنية مؤلفة من نواب منتخبين يحق لهم التشريع في أي أمر من الأمور بصرف النظر عن الحقوق والتقاليد.
إلا أن أشياء كثيرة من الماضي قد استمرت، ولاريب أن الحياة في الريف لم تتغير كثيراً، بالنظر إلى التقاليد القديمة المتأصلة، فلم تنتشر مثلاً العملة العشرية الجديدة المكونة من الفرنك والسنتيم والتي مازالت مستخدمة حتى اليوم، أسواق الريف إلا بعد عقود عديدة، وحتى بعد خمسين سنة من عام 1789 ظل بعض الفلاحين يحسبون باستخدام العملة القديمة من كورون وسو، وكانوا يستخدمون المقاييس القديمة بدلاً من المقاييس الحديثة من كيلومتر وهكتار.
ولكن الثورة مع هذا قلبت فرنسا رأساً على عقب، إن الكثيرين من الناس لم ينسوا ما حصل ولم يقبلوا به قط، وقد ظلت الثورة طوال القرن التالية محك الآراء السياسية، فإذا كنت مع الثورة فأنت تريد حق الانتخاب لأعداد أكبر من الناس، وتريد جمهورية، وتريد أن ينخفض نفوذ الكنيسة عما كان عليه قبل عام 1789، وأنت تؤمن بحرية التعبير والكلام وبأن الرقابة على الصحافة عمل فاسد.
أما إذا كنت ضد الثورة، فأنت تتطلع إلى حكومة قوية، وتسعى لإعادة نفوذ الكنيسة إلى حياة البلاد، وتعتقد أن الفساد هو السماح بانتشار الأفكار الضارة، وتعتبر الانضباط والنظام أهم من الحرية الفردية.
وهذا هو بصورة تقريبية الفرق بين اليسار واليمين الذي انتشر في سياسات الكثير من الدول الأوروبية الأخرى خلال القرنين التاليين، وقد اخترعت هاتان الكلمتان وبدئ باستخدامهما في عام 1789، عندما بدأ المحافظون يجلسون معاً عن يمين الرئيس في الجمعية الوطنية بينما بدأ الليبراليون (التحرريون) يجلسون معاً عن يساره.
إن انتشار مثل هذا التقسيم إلى يسار ويمين إلى دول أخرى فيما بعد لدليل على التأثير الهائل للثورة خارج فرنسا، ومنذ البداية كان بعض الثوار قد قالوا أن مايبغون فعله في فرنسا عن طريق الإصلاحات يمكن أن يتم بل يجب أن يتم في البلاد الأخرى أيضاً، وراحوا يدعون بقية الناس إلى اتباع السبيل نفسه.
وعندما وجدت فرنسا الجديدة في حالة حرب كما كانت الحال منذ عام 192 حتى آخر العقد، راحوا يصدرون ثورتهم إلى البلاد الأخرى بالقوة والدعاية، وراح القادة العسكريون الفرنسيون ينظمون الثورات ويؤسسون الجمهوريات الجديدة في الأراضي التي كانوا يغزونها.
وكان هذا من أسباب الحروب الكثيرة التي حدثت بعد عام 1792، لقد بدا أن فرنسا عادت على عهد نابوليون بونابرت الذي توج إمبراطوراً في عام 1804 إلى سيرتها الأولى من الفتوحات كما كان الأمر على عهد لويس الرابع عشر، ولكن هذه الفتوحات صارت الآن تحمل معها رياح الثورة.
كانت بريطانيا عدوة فرنسا الدائمة، فهي لم تعقد الصلح معها بين عامي 1763 و 1814 إلا مرة واحدة ولفترة وجيزة، وقد ربحت لعبة المنافسة الاستعمارية القديمة في النهاية بعد أن انكسرت القوة البحرية الفرنسية في عام 1805 في الانتصار البحري الكبير بمعركة الطرف الأغر. أما القتال على البر كان أمراً مختلفاً، صحيح أن البريطانيين كانت لديهم منذ زمن طويل قوات في إسبانيا، إلا أن الأعداد الهائلة التي هزمت فرنسا أخيراً في عام 1799 ثم في عامي 1812 و 1813 إنما أتت من جماهير فلاحي النمسا وبروسيا وخصوصاً روسيا.
كثيراً ما جلبت الجيوش الفرنسية معها التحرر بالرغم من ضراوة الثورة، وكانت الاحتلال الفرنسي يؤدي عادة إلى إلغاء النظام الإقطاعي وتحطيم الحكومات الطاغية المستبدة ويعزز مساواة البشر أماما القانون.
وهكذا كانت الثورة الفرنسية منذ البداية حتى الآن مثلاً عظيماً ومصدراً كبيراً للإلهام، وسوف ينهض الناس طوال القرن التالي في كافة أنحاء العالم ضد طغاة حقيقيين أو وهميين باسم المبادئ المثالية التي يلخصها أحد شعاراتها: حرية ، مساواة، أخوة. وهذا ما جعل الطغاة يخشونها.
وحتى عندما كان الناس لايتطلعون إلى الثورة للحصول على مطالبهم كانوا يستلهمون المبدأ الذي نادى به الثوار بأن للناس حقوقاً بحكم كونهم بشراً، لا لأنهم ورثوها من نظام أو قانون ما أو لأن لديهم تقاليد تاريخية تساندهم، وكان هذا سبباً آخر جعل الثورة الفرنسية حدثاً كبيراً في تاريخ العالم فضلاً عن أهميته في تاريخ فرنسا.
ولادة السياسة الحديثة
بعد عام 1815 سوف تأخذ السياسة في العالم بالتدريج لغتها ومبادئها من أوروبا، ومن أهم التيارات التي سادت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية ازدياد أعداد الناس المشاركين في الحياة العامة، ولو بصورة شكلية جداً. وكانت العلامة الأساسية على هذا التطور في أكثر الدول هي اكتساب أعداد متزايدة من الناس لحقوق سياسية حقيقية وعملية.
عودة الملكية بعد عام 1815
لقد أعادت الهزيمة النهائية لفرنسا في عام 1815 الشيء الكثير من البنية القديمة، وغابت الحياة السياسية الحقيقية عن أوروبا ماعدا البلاد الواقعة إلى الغرب من الراين وفي بعض الدول الألمانية والإيطالية الصغيرة.
فقد حدث بعض التقدم هناك نحو اكتساب حكومات دستورية، أي أن تتم إدارة الشؤون العامة ضمن حدود قوانين دستورية تمنع الاستخدام التعسفي للسلطة، وكثيراً ماكانت هناك أيضاً درجة ما من الحكم التمثيلي، وقد تمت بعض التغيرات بمساعدة الثورة، كما في إسبانيا وأجزاء من إيطاليا وفرنسا مثلاً، بينما تمت في بعضها الآخر بصورة سلمية كما في بريطانيا، حيث كانت توجد بالأصل حكومة دستورية فأصبح لها الآن قاعدة أوسع عن طريق توسيع جمهور الناخبين في عام 1833 ورفع القيود الباقية على بعض الطوائف الدينية، وكنت تجد في هذه الدول جميعاً شعوراً متزايداً بأن على الحكومة أن تسير مع الرأي العام.
أما في ألمانيا وإمبراطورية الهابسبرغ وبعض الدول الإيطالية أيضاً فلم يحدث شيء من هذا ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، منه الرغبة الشخصية لحكام هذه الدول، ومنها سيطرة الحلف المقدس المكون من بروسيا والنمسا وروسيا على هذه المنطقة عام 1815، وثلاثتها تخشى عودة الثورة، لذلك كانت السيطرة على الحريات السياسية فيها أشد بكثير، وكانت الحكومات الدستورية نادرة، وحتى الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والحركة والنشاط السياسي كانت قليلة جداً.
ودستورية بعد الإطاحة
نتائج 1848 -1849
ولكن نتائج هذه الأحداث لم تقتصر على انتصار الرجعية المذكور، يمكننا أن نقول بصورة إجمالية إن مطالب الثورات المختلفة التي حدثت في عام 1848 كانت على ثلاثة أنواع، لقد ثار الفلاحون في أوروبا الشرقية للمطالبة بإلغاء أشغال السخرة والحقوق الإقطاعية التي كانت بيد أصحاب الأراضي، أي أنهم كانوا يسعون للحصول على ماحصل عليه الفرنسيون في عام 1789 وماجلبوه إلى بعض أنحاء ألمانيا عقب الثورة الفرنسية. وقد جلب عام 1848 إلى إمبراطورية الهابسبرغ وألمانيا وجزء كبير من بولندا نهاية الإقطاعية وعبودية الأرض، وكان هذا تقدماً عظيماً، وهكذا لم يعد للعبودية وجود فيما كان الأوروبيون المتعلمون يعتبرونه العالم المتحضر إلا في روسيا والأمريكتين.
أما النوع الثاني من المطالب التي قدمت عام 1848 فكانت بالإجمال مطالب المتحررين والمفكرين وأصحاب المهن العلمية من أبناء الطبقة الوسطى، والراغبين بحكومات أكثر دستورية وتمثيلية وبعدد أكبر من الوظائف في المناصب العامة على حساب الأرستقراطيات القديمة. ولهذا الأمر أسباب معقدة ومختلفة من مكان لآخر، منها أنها عندما ابتدأت الثورة حقاً راحت تهدد أسس المجتمع والأملاك مثل الثورةالاشتراكية التي حدثت في أيام حزيران في باريس، شعر الثوار أنهم قد تجاوزوا الحد، فتحالفوا مع سلطات النظام القديم، أي مع الملوك والأمراء الذين استردوا جرأتهم وراحوا يستخدمون جيوشهم لإعادة تثبيت سلطتهم. إلا أن بعض التحسينات الدستورية استمرت في ألمانيا بعد عام 1848، ولم تعد الأمور إلى القمع الشديد الذي كان على عهد مترنيخ.
من الأسباب الأخرى لفشل الثوريين أنهم كانوا منقسمين حول موضوع آخر، هو المطلب الثالث لعام 1848، لقد سمي ذلك العامربيع الأمم لأن الكثير من الثورات كانت تسعى باسم الشعوب لأن تحكم أنفسها بدلاً من أن يحكمها الآخرون، ويصح هذا الأمر بالأخص على الهنغاريين والإيطاليين الذين كانوا يناضلون لكسر نير حكم النمسا.
والمؤسف أن الكثير من الوطنيين الذين حاربوا من أجل شعوبهم في عام 1848، كانوا حتى اليوم