- الأحد سبتمبر 15, 2013 8:28 pm
#64117
الكونجرس الأمريكي
تتركز السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية في الكونجرس، الذي يتكون من مجلسي الشيوخ والنواب.
ويوجد ثمة ارتباط وثيق بين تاريخ كل من الكونجرس والولايات المتحدة الأمريكية نفسها. فكلاهما كان حلماً فأضحى حقيقة، حتى أصبحا يكونان معاً صرحاً من أكبر صروح الديمقراطية في العالم.
بدأ تاريخ الولايات المتحدة بحفنة من المهاجرين، قدموا من شتى أرجاء الأرض، إلى العالم الجديد، تداعبهم أحلام امتلاك الثروات، والتخلص من الفساد، والبيروقراطية، وانتهاك حقوق الإنسان، التي ألفوها في بلادهم. وقد طمحوا إلى أن يعيشوا في مجتمع جديد، مبني على الأخلاق والقيم، التي اندثرت مع التقدم الصناعي المذهل الذي اجتاح العالم منذ القرن السادس عشر. وبالإدارة الواعية، والموارد غير المحدودة، وعزيمة هؤلاء المهاجرين صارت الولايات المتحدة، بعد ما يقرب من مائتي عام من إنشائها، أكبر دولة في العالم من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، والصناعية، والزراعية، كما صارت قلعة من قلاع العلم، والتكنولوجيا وتوظيف الأموال، وصناعة السينما.
بدأ وصول الأفواج الأولى من الرواد المهاجرين عام 1607، إذ رست سفينة تحمل مائة مهاجر بريطاني، على سواحل خليج الشيسابيك. وهناك أقاموا مستعمرة صغيرة، في منطقة تعرف الآن بمدينة جيمس في ولاية فيرجينيا، شرق الولايات المتحدة الأمريكية.
وطوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تدافعت موجات من المهاجرين الذي قدموا إلى الأرض الجديدة من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأيرلندا، وقليل من دول المشرق. واستقر هؤلاء المهاجرون على طول الساحل الشرقي للولايات المتحدة في 13 مستعمرة، أطلق على كل منها فيما بعد لفظ ولاية (State).
ولم يأل التاج البريطاني جهداً، في الاستحواذ على تلك الأرض الغنية، قبل جيرانه من المستعمرين الأوروبيين، فأرسل حاكماً بريطانياً ومُشرع قوانين، إلى كل مستعمرة. وبذلك أحكمت بريطانيا قبضتها على المستعمرات الثلاث عشرة كلها.
ولم تكن الأرض مفروشة بالورود للمهاجرين الأوائل، فلم يجدوا الرخاء الذي كانوا يحلمون به، بل وجدوا بدلاً من ذلك غابات مملوءة بحيوانات لم يألفوها، ونباتات لم يروها أو يذوقوا طعمها من قبل. إلا أن الإرادة البشرية انتصرت، وحولت تلك الأراضي الغريبة إلى مزارع، تزرع فيها أجود أنواع المحاصيل الموسمية، التي تصدر إلى جميع أنحاء العالم حتى يومنا هذا.
وبعد الاستقرار، بدأ المهاجرون الأوائل في اتخاذ الخطوات نحو تحقيق حلمهم في إقامة مجتمع ديمقراطي. فأنشئ في فيرجينيا أول برلمان مصغر عام 1619 (House of Burgess)، ليبحث اتفاقيات التجارة، وتفاصيل عقود البيع والشراء. وسرعان ما سارت ولاية مريلاند في ركب فيرجينيا، فأعلنت حرية الأديان، وأعلنت كذلك أن أراضيها ترحب بكل إنسان بغض النظر، عن دينه أو مذهبه.
أما سلطة التاج البريطاني، فظلت تزداد يوماً بعد يوم، عن طريق إرسال مزيد من القوات والأسلحة، لضمان عدم وقوع أي تمرد أو عصيان. إلا أن ذلك لم يَرُق المهاجرين، الذين أبغضوا القوانين البريطانية الظالمة، التي، من أجلها، تركوا ديارهم في بريطانيا، ومثيلاتها من الدول الأوربية.
وكانت فرنسا هي الأخرى، طامعة في الاستيلاء على أرض أمريكا الشمالية، فكانت تحشد قواتها وتتعاون مع الهنود الحمر "السكان الأصليين للقارة الأمريكية"، ضد القوات البريطانية. فأدى ذلك، في النهاية، إلى قيام حرب كبرى عام 1754، بين القوات البريطانية من جهة، والقوات الفرنسية يساندها الهنود الحمر من جهة أخرى. وكان النصر في هذه الحرب حليف بريطانيا. فأرغمت فرنسا على توقيع اتفاقية باريس عام 1763، حيث اعترفت بمقتضاها بأحقية بريطانيا، في الأرض المعروفة الآن باسم كندا، وكل الأراضي الموجودة شرق نهر المسيسبي وكذلك المنطقة المعروفة الآن باسم فلوريدا.
إلا أن التكلفة الباهظة للحرب أرهقت الخزانة البريطانية الخاوية أصلاً. فسن البرلمان الإنجليزي عام 1760، بناءً على اقتراح من الملك جورج الثالث، ضرائب باهظة على أهالي الولايات الأمريكية الثلاث عشرة. وهنا جاوز الأمر، بأهالي المستعمرات الأمريكية، حَدّه، فنظموا تجمعات سرية عرفت باسم أبناء الحرية (Sons of Liberty). وفيها اتفقوا على الدفاع عن أراضيهم، ضد مطامع التاج البريطاني، حتى ولو كلفهم الأمر إعلان الحرب على تلك المطامع.
وفي عام 1765، نظم أول اجتماع، ضم ممثلين عن تسعة ولايات عرف باسم "الكونجرس المضاد لقانون ضرائب التمغة" (Stamp Act Congerss). وبدأ البرلمان الإنجليزي يحسب حساب هذه الثورة فتارة يهادنها، وتارة يفرض ضرائب جديدة. وازداد التوتر في العلاقات بين الحكومة البريطانية وأهالي الولايات الأمريكية، إلى أن بلغ أشده عام 1774، حينما أصدر البرلمان البريطاني قانوناً أطلق عليه قانون الأعمال التي لا يمكن التغاضي عنها (Intolerable Acts). وفيه، فرضت ضرائب جديدة باهظة. كما أغلقت ميناء بوسطن رداً على إتلاف بعض الأمريكيين لحمولة من الشاي تحملها سفن شركة بريطانية.
ورداً على هذا القانون، دعا الثوار الأمريكيون، إلى تكوين أول هيئة تشريعية وطنية، أطلقوا عليها الكونجرس القاري (Continental Congress)، الذي اجتمع لأول مرة في 5 سبتمبر 1774 في مدينة فيلادلفيا، وحضره 56 مندوباً، يمثلون 12 مستعمرة. وقد اهتم الكونجرس بطلب معاملة عادلة من بريطانيا أكثر مما اهتم بالاستقلال. واتفق المجتمعون على إنهاء كل العلاقات التجارية مع بريطانيا، حتى تلغي جميع الضرائب الباهظة، والإجراءات الاستثنائية.
واستشاط ملك بريطانيا غضباً من قرارات الكونجرس القاري، وعدها تمرداً يستحق المواجهة العسكرية.
وقامت، على إثر ذلك، معارك ضارية، بين فلاحي ماساشوسيتس والقوات البريطانية في لكسنتجون وكونكورد، نجح فيها الفلاحون في إيقاف تقدم القوات البريطانية المدججة بالسلاح.
وانعقد الكونجرس القاري الثاني، في 10 مايو عام 1775. واتفق المجتمعون على تكوين جيش أمريكي. ثم أتبعوا ذلك بقرار يوم 15 يونيه في نفس العام، بتعيين الجنرال جورج واشنطن[1] (انظر صورة جورج واشنطن)، القائد العسكري لولاية فيرجينيا، قائداً عاماً للجيش الوليد.
ولم يُضِع الملك البريطاني وقتاً، فأعلن الحرب على المتمردين من سكان الولايات الأمريكية، وبدأ يعد العدة لشن هجوم عسكري كبير، لإخماد هذه الثورة والقضاء عليها قضاءً مبرماً.
وهنا تجمع الشعب الأمريكي، بجميع فئاته، حول قائدهم جورج واشنطن الذي تجسدت فيه إرادة الشعب الأمريكي.
وفي 4 يوليه عام 1776، أعلن أعضاء الكونجرس القاري الثاني الاستقلال الكامل عن التاج البريطاني، وتكوين الولايات المتحدة الأمريكية، كما وافق الكونجرس على وثيقة الاستقلال (انظر صورة وثيقة إعلان الاستقلال)، (انظر ملحق إعلان الاستقلال) التي كتبها توماس جيفرسون[2] (Thomas Jefferson) (انظر صورة توماس جيفرسون)، والتي جاء فيها قوله:
"إن جميع البشر قد خلقوا متساويين، وإن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا تنتزع، من بينها حق الحياة والحرية، والسعي في سبيل تحقيق السعادة".
كان إعلان الاستقلال بمثابة البوتقة التي صهرت في داخلها جميع طوائف الأمريكيين، على الرغم من اختلاف أصولهم، ودياناتهم، ومذاهبهم.
إلا أن الجيش الأمريكي لم يكن مدرباً، ولا مستعداً، لخوض قتال مع جيش الإمبراطورية، التي لا تغيب عنها الشمس. فاندلعت حرب عنيفة استمرت عدة سنوات، كلفت الأمريكيين تكاليف باهظة، في الأرواح والأموال. وفي يوم 19 أكتوبر 1781، حقق الأمريكيون نصراً في معركة، كانت هي الفاصلة، وذلك في مدينة يورك، الموجودة على ضفاف نهر يورك بولاية فيرجينيا؛ إذ استسلم الآلاف من الجنود البريطانيين، وانسحب الباقون يجرون أذيال الهزيمة. وعندئذ قررت الحكومة البريطانية أن تبدأ مفاوضات سلام مع الثوار الأمريكيين بقيادة جورج واشنطن. وتوجت تلك المحادثات بتوقيع اتفاقية سلام في 3 سبتمبر عام 1783 . وبذلك انتهت الأعمال العسكرية للثورة الأمريكية.
وخلال هذه الفترة الحرجة، من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كان الكونجرس القاري الثاني بمثابة الحكومة الوطنية حتى عام 1781.
وكان على الكونجرس القاري، في هذه الفترة، أن يواجه مشكلتين؛ الأولى: النقص الحاد في الموارد، مع التزايد المطّرد للاحتياجات المادية، لتغطية تكاليف الحرب. والثانية: هي مشكلة عدم الاتفاق بين الأمريكيين، حول شكل الحكومة بعد الاستقلال. فقد كان صغار المزارعين والمدنيين يفضلون أن تظل السلطة في حوزة المجالس التشريعية للولايات، بدلاً من الحكومة، وذلك حتى يتسنى لهم أكبر قدر ممكن من التأثير في الشئون المحلية. أما التجار الأثرياء وملاك الإقطاعيات، فكانوا يفضلون أن تكون هناك حكومة مركزية قوية، يمكنها أن تحمي متاجرهم وأملاكهم.
وتحتم الأمر أن يكون هناك حل وسط بين هاتين المجموعتين، و كانت النتيجة تشكيل حكومة اتحادية بين الولايات الثلاث عشرة. وقد صدر بذلك وثيقة عرفت بمذكرة الحكومة الاتحادية. وفيها، لخصت المواد التي أنشئ بموجبها ذلك الاتحاد الكونفدرالي.
وقد نصت مواد المذكرة، على إنشاء مجلس تشريعي للحكومة الاتحادية، والذي عرف باسم "الكونجرس الاتحادي"، أو "كونجرس الكونفدرالية".
ونجح الاتحاد الكونفدرالي في التوقيع على معاهدة السلام مع بريطانيا، كما تعهد بدفع ديون الحرب، كما نجح في إقرار مرسوم الشمال الغربي الذي سمح للدولة الوليدة بالتوسع في أراضي القارة الأمريكية الشمالية.
ولما لم يكن للكونجرس سلطة تنفيذية أو هيئة قضائية مستقلة، فلم يكن بإمكانه، أن يفرض ضرائب أو ينظم عمليات التجارة، أو أن يتحكم في عملة قومية، والأكثر من ذلك، كان إقرار مشاريع القوانين يحتاج إلى موافقة أغلبية الثلثين؛ وهو أمر كان من الصعب تحقيقه.
باختصار لم تكن الحكومة، في ظل هذه المواد، سوى رابطة صداقة وطيدة بين الولايات، في الوقت الذي احتفظت فيه كل ولاية بسيادتها الخاصة، وكيانها السياسي المستقل.
وفي عام 1786، انعقد اجتماع للكونجرس بمدينة أنابوليس (Annapolis) بولاية مريلاند حضره مندوبو 13 ولاية، واتفقوا فيه على ضرورة تعديل مواد الاتحاد بين الولايات، والعمل على تكوين حكومة مركزية. وقام الكونجرس المنعقد بتحديد يوم 14 مايو 1787 موعداً لعقد اجتماع في مدينة فيلادلفيا.
وفي اجتماع فيلادلفيا، الذي أطلق عليه اسم المؤتمر الدستوري (انظر صورة مبنى الاستقلال)، انتخب جورج واشنطن رئيساً للمؤتمر. وفي هذا الاجتماع، كذلك، قدم إدموند راندولف، رئيس وفد ولاية فيرجينيا، اقتراحاً يدعو إلى تكوين برلمان ذي مجلسين، يكون تمثيل كل ولاية فيهما على أساس عدد سكانها البيض، ومقدار ما تقدمه هذه الولاية من الموارد المالية للخزانة العامة.
ولكن الولايات الصغيرة اعترضت على هذا الاقتراح، الذي عدته جائراً بالنسبة لها. واقترحت إزاءه أن يكون التمثيل في المجلس التشريعي متساوياً بالنسبة لجميع الولايات، بدون اشتراط مساهمات مالية ودون اعتبارات لعدد السكان. وأدرجت تلك الولايات هذا الاقتراح في مشروع يعارض مشروع فرجينيا، وسمي هذا المشروع بـ"مقترحات نيوجيرسي".
وبعد مداولات عدة داخل المؤتمر، أُقر تكوين الهيئة التشريعية من مجلسين. فأصبح من الممكن تلبية رغبة الولايات الكبيرة عن طريق مجلس النواب الذي يكون التمثيل فيه على أساس عدد السكان، على أن يكون التمثيل في مجلس الشيوخ على أساس المساواة بين الولايات إرضاءً للولايات الصغيرة.
وبعد عديد من المناقشات بين رجال القانون، والساسة، والعسكريين من أبناء الثلاث عشرة ولاية، تم الاتفاق، على أن الضمان الوحيد للحرية هو تقسيم الحكومة إلى سلطات ثلاث: تنفيذية، وتشريعية، وقضائية، والسماح لكل سلطة منها بممارسة قدر من السيطرة على السلطتين الأخريين. مثال ذلك، أنه يمكن للرئيس أن يستخدم حق الاعتراض، على أي مشروع بقانون، يعرض على الكونجرس. وفي الوقت نفسه، يمكن للكونجرس تخطي هذا الاعتراض. مثال آخر، أنه يمكن للمحاكم أن تفسر معنى القانون بتفسير يختلف عن تفسير الهيئتين التنفيذية والتشريعية. وفي النهاية، تم التصديق على هذه المواد، التي كتبت على هيئة وثيقة، أطلق عليها دستور الولايات المتحدة الأمريكية(انظر ملحق دستور الولايات المتحدة الأمريكية) .
ومن المثير للانتباه أن عدد أصوات المعارضة للدستور الجديد لم يكن بسيطاً، وهو ما يكشف عنه(انظر جدول نتائج التصديق على الدستور في مجالس الولايات التشريعية) . إذ اتخذ 26 تعديلاً للدستور الأمريكي، منذ التصديق عليه، وحتى الآن.
لقد كان الموقعون على الدستور رجالاً ذوي أيدٍ بيضاء على الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الحد الذي حدا بالمؤرخين أن يطلقوا عليها "الآباء المؤسسين" (Founding Fathers). ومن بين هؤلاء نجد جورج واشنطن، وجيمس ماديسون، وألكسندر هاميلتون، وبنيامين فرانكلين.
وفي ذلك الوقت، كانت مدينة نيويورك هي العاصمة المؤقتة للولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك عقدت أول دورة نيابية للكونجرس الجديد في مدينة نيويورك والتي طمع أهلها في أن يصدر هذا الكونجرس قراراً بجعل نيويورك العاصمة الدائمة للولايات المتحدة. ومن أجل ذلك، قام عمدة نيويورك بصرف أموال كثيرة في تزيين وترميم قاعة المدينة (City Hall)، الموجودة في الشارع التجاري المشهور "وول ستريت" (Wall Street). واجتمع الكونجرس الأمريكي لأول مرة في 4 مارس 1789. وكان عدد أعضاء مجلس النواب 56 عضوا، وخصصت لهم قاعة فاخرة في الدور الأرضي للمبنى. أما مجلس الشيوخ، فقد تألف من 26 عضواً (اثنان عن كل ولاية)، وخصصت لهم قاعة فاخرة في الدور العلوي. ومنذ ذلك الحين يطلق لفظ القاعة العلوية (Upper Chamber) على مجلس الشيوخ. وكانت فخامة قاعة مجلس الشيوخ، محل الأنظار، فقد افترش أراضيها السجاد الفاخر. وكان سقفها على هيئة قبة عالية، ازدانت من الداخل بصورة كبيرة لشمس ساطعة، يحيط بها 13 نجماً رمزاً لعدد الولايات المشاركة في الاتحاد.
وكان لفخامة هذه القاعة الفضل، في اختيارها، لتكون المكان الذي جرى فيه تنصيب جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ قام واشنطن بحلف اليمين في الشرفة الملحقة بالقاعة، وعلى مرأى من جماهير غفيرة، ثم وجه خطاباً لأعضاء الكونجرس الذين ازدحم بهم المكان.
إلا أن فرحة أهالي نيويورك بهذا الجمع لم تدم طويلاً، فقد قرر الكونجرس، في صيف 1790، إنشاء عاصمة، على ضفاف نهر البوتاماك، ما بين ميريلاند في الشمال وفيرجينيا في الجنوب. وإلى أن يتم بناء العاصمة الجديدة، قرر الكونجرس أن تستقر الحكومة وجميع هيئاتها في مدينة فيلادلفيا، ولفترة مبدئية قدرت بعشر سنوات.
وفي ديسمبر عام 1790، بدأ الكونجرس أولى جلساته في مبنى عرف بقاعة الكونجرس (Congress Hall)، وكان مقر مجلس النواب في الدور الأول من المبنى، في قاعة كبيرة، اتسعت لأعضاء المجلس، بالإضافة إلى أربعمائة مقعد، لمن أرادوا حضور الجلسات من عامة الشعب.
أما قاعة مجلس الشيوخ في الدور العلوي، فكانت آية في الفخامة بما حوته من أثاث، وبما ازدانت به حوائطها وسُقُفها من نقوش وتحف. إلا أن جلسات مجلس الشيوخ كانت تعد من السرية، بحيث لم يسمح للعوام بحضورها. وقد استمر المجلس في الانعقاد، بصورة سرية، حتى عام 1794، حينما أعلن أعضاء المجلس، عن فتح باب حضور الجلسات للعوام. ومن وقتها، وجلسات مجلسي الكونجرس، علنية مفتوحة، لكل من أراد حضورها.
وبحلول عام 1800، استعد أعضاء الكونجرس للرحيل عن فيلادلفيا، إلا أن العاصمة الجديدة لم تكن معدة لاستقبالهم، فهي أرض زراعية مليئة بالطين تكثر بها الحشرات. وبالتالي فقد كانت بحاجة إلى وقت طويل، وأموال طائلة لإعدادها لتكون عاصمةً للحكومة.
وفي الواقع، لم تكن العاصمة الجديدة، التي سميت باسم قائد ثورة الولايات المتحدة وأول رئيس لجمهوريتها، جورج واشنطن، مستعدة لاستقبال الموظفين الحكوميين، بوجه عام، وأعضاء الكونجرس بوجه خاص. فالمبنى الذي كان من المفترض أن يكون متسعاً للكونجرس، بالإضافة إلى عديد من الهيئات الحكومية الأخرى، لم يكن قد فُرِغ منه بعد، إذ تسبب نقص الأموال في إيقاف أعمال البناء لعدة سنوات. وفي النهاية، قرر المهندسون إعطاء أولوية لبناء وتجهيز الأماكن المعدة لانعقاد مجلس الشيوخ، قبل غيرها، حتى تتوفر الأموال اللازمة لإكمال بقية المبني.
وهكذا، حُشِر موظفو الحكومة وأعضاء الكونجرس في الجزء الذي فرغ من إنشائه. وكان أكبر وأفخم القاعات ـ كالعادة ـ من نصيب مجلس الشيوخ، الذي عقد أول اجتماعاته في العاصمة واشنطن يوم 21 نوفمبر عام 1800.
وفي عام 1803، استقطع الكونجرس 50 ألف دولار من الميزانية الحكومية، لاستكمال ذلك الجناح من المبنى، الذي توجد فيه قاعة مجلس النواب. وما إن شرع المهندس المشهور بنيامين لاتروب في أعمال البناء حتى بدأت حوائط قاعات جناح مجلس الشيوخ في التشقق والتداعي، فأوقفت أعمال البناء الجديدة، للمرة الثانية، حتى يتم ترميم مبنى مجلس الشيوخ، وبناء قاعة جديدة له في الدور العلوي من المبنى.
وفي عام 1807، توفرت الأموال اللازمة، وبدأت أعمال الترميم مرة أخرى، واستمرت حتى عام 1810. إلا أن المبنى سيئ الحظ لم يستمتع بوجوده أكثر من أربعة أعوام، ففي عام 1814، اجتاحت القوات البريطانية الولايات المتحدة، وقصفت مبنى الكونجرس محدثة فيه دماراً كبيراً.
وبعد انتهاء الغزو، عاد أعضاء مجلس الكونجرس إلى مبنى مهدم ومتصدع، فاستقطعوا هذه المرة نصف مليون دولار من الميزانية، لترميم المبنى وإكمال الأجزاء، التي لم تنته.
وفي أثناء عمليات الترميم، انتقل الكونجرس إلى فندق بلودجت (Blodgett's Hotel)، الذي كان أكبر مبنى في المدينة بعد القصف البريطاني لجميع مباني مدينة واشنطن. وعلى الرغم من أن المكان اتسع لانعقاد جلسات الكونجرس، فإن أعضاء مجلس الكونجرس كانوا غير قادرين على ممارسة أعمالهم بطريقة طبيعية. وبدأ الحديث عن العودة مرة أخرى إلى مدينة فيلادلفيا، ومبانيها الكبيرة، وقاعات الكونجرس الفاخرة. إلا أن الأثرياء وأصحاب الأعمال التجارية في العاصمة الوليدة تبرعوا بأموال كافية، لبناء مبنى جديد خاص بالكونجرس، حتى يتم الانتهاء من ترميم المبنى القديم المتداعي. واستضاف هذا المبني، الذي عرف باسم الكابيتول الطوبي (Brick Capitol) أربع دورات برلمانية استمرت بين عامي 1815- 1819.
وفي 1819، انتقل الكونجرس إلى المبنى القديم، بعد أن رممت أجزاؤه المتهدمة، واستكمل بناؤه، وبقي فيه حتى عام 1859 (انظر صورة مبنى الكونجرس عام 1841).
وخلال هذه الحقبة الزمنية، ازداد عدد أعضاء الكونجرس نتيجة لانضمام ولايات جديدة، إلى الاتحاد، وزيادة عدد السكان في الولايات الأصلية، كذا زاد اهتمام الجمهور بحضور جلسات الكونجرس، لمناقشة الأمور الهامة، مثل وضع العبيد.
ولهذا السبب، اعتمد الكونجرس ميزانية جديدة، لتوسيع المبنى، وإضافة عدد من الحجرات والردهات والممرات إليه. واستمر العمل 17 عاماً متواصلة أُنْفِقت خلالها أموال باهظة، حتى صار المبنى تحفة فنية رائعة، لا يضاهيه مبنى آخر، في أي مكان في العالم، آنذاك. وفي 4 يناير عام 1859، شغلت مكاتب الكونجرس غرف المبنى الأرستقراطي الجديد، وظلت فيه حتى يومنا هذا.
وقد ضم المبنى الحديث ثلاثة أدوار، ومئات من الغرف وقاعات الاجتماع، كما ضمت قاعات مجلس النواب والشيوخ أماكن تتسع لعدد غفير من الجمهور. كما ضم المبنى استراحة لرئيس الجمهورية، وأخرى لنائب رئيس الجمهورية.
وعقب الحرب الأهلية، انتعشت الصناعات الأمريكية، وزاد الدخل القومي، واستلزم الأمر سن الكثير من القوانين. وزاد عدد الولايات، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعضاء الكونجرس. وأتبع ذلك زيادة عدد الحجرات التي يحتلها النواب والشيوخ ومعاونوهم، وبذلك ضاق المكان بمن فيه، وزادت الحاجة إلى توسيع للمبنى. وقد تكررت عملية التوسيع عدة مرات، حتى صار في حجمه الحالي.
ومبنى الكونجرس، بحجمه الحالي، يعد أكبر مبنى برلماني في العالم، بل يعد من أكبر المباني على وجه الإطلاق (انظر صورة مبنى الكونجرس (منظر علوي)، وصورة مبنى الكونجرس (منظر جانبي) ). فهو مقام على مساحة أربعة أفدنة، أما مساحة غرفه الإجمالية فتبلغ حوالي 17 فدان، بعرض 120 متراً، بطول 250 متراً، وبارتفاع يقترب من 100 متر. ويحتوي المبنى على 540 غرفة، و850 ردهة، وهو مكون من خمس طوابق.
ويزخر المبنى باللوحات الفنية الغالية، والتماثيل الرخامية. ويغلب على المبنى الطِرازان: اليوناني، والروماني.
تتركز السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية في الكونجرس، الذي يتكون من مجلسي الشيوخ والنواب.
ويوجد ثمة ارتباط وثيق بين تاريخ كل من الكونجرس والولايات المتحدة الأمريكية نفسها. فكلاهما كان حلماً فأضحى حقيقة، حتى أصبحا يكونان معاً صرحاً من أكبر صروح الديمقراطية في العالم.
بدأ تاريخ الولايات المتحدة بحفنة من المهاجرين، قدموا من شتى أرجاء الأرض، إلى العالم الجديد، تداعبهم أحلام امتلاك الثروات، والتخلص من الفساد، والبيروقراطية، وانتهاك حقوق الإنسان، التي ألفوها في بلادهم. وقد طمحوا إلى أن يعيشوا في مجتمع جديد، مبني على الأخلاق والقيم، التي اندثرت مع التقدم الصناعي المذهل الذي اجتاح العالم منذ القرن السادس عشر. وبالإدارة الواعية، والموارد غير المحدودة، وعزيمة هؤلاء المهاجرين صارت الولايات المتحدة، بعد ما يقرب من مائتي عام من إنشائها، أكبر دولة في العالم من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، والصناعية، والزراعية، كما صارت قلعة من قلاع العلم، والتكنولوجيا وتوظيف الأموال، وصناعة السينما.
بدأ وصول الأفواج الأولى من الرواد المهاجرين عام 1607، إذ رست سفينة تحمل مائة مهاجر بريطاني، على سواحل خليج الشيسابيك. وهناك أقاموا مستعمرة صغيرة، في منطقة تعرف الآن بمدينة جيمس في ولاية فيرجينيا، شرق الولايات المتحدة الأمريكية.
وطوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تدافعت موجات من المهاجرين الذي قدموا إلى الأرض الجديدة من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأيرلندا، وقليل من دول المشرق. واستقر هؤلاء المهاجرون على طول الساحل الشرقي للولايات المتحدة في 13 مستعمرة، أطلق على كل منها فيما بعد لفظ ولاية (State).
ولم يأل التاج البريطاني جهداً، في الاستحواذ على تلك الأرض الغنية، قبل جيرانه من المستعمرين الأوروبيين، فأرسل حاكماً بريطانياً ومُشرع قوانين، إلى كل مستعمرة. وبذلك أحكمت بريطانيا قبضتها على المستعمرات الثلاث عشرة كلها.
ولم تكن الأرض مفروشة بالورود للمهاجرين الأوائل، فلم يجدوا الرخاء الذي كانوا يحلمون به، بل وجدوا بدلاً من ذلك غابات مملوءة بحيوانات لم يألفوها، ونباتات لم يروها أو يذوقوا طعمها من قبل. إلا أن الإرادة البشرية انتصرت، وحولت تلك الأراضي الغريبة إلى مزارع، تزرع فيها أجود أنواع المحاصيل الموسمية، التي تصدر إلى جميع أنحاء العالم حتى يومنا هذا.
وبعد الاستقرار، بدأ المهاجرون الأوائل في اتخاذ الخطوات نحو تحقيق حلمهم في إقامة مجتمع ديمقراطي. فأنشئ في فيرجينيا أول برلمان مصغر عام 1619 (House of Burgess)، ليبحث اتفاقيات التجارة، وتفاصيل عقود البيع والشراء. وسرعان ما سارت ولاية مريلاند في ركب فيرجينيا، فأعلنت حرية الأديان، وأعلنت كذلك أن أراضيها ترحب بكل إنسان بغض النظر، عن دينه أو مذهبه.
أما سلطة التاج البريطاني، فظلت تزداد يوماً بعد يوم، عن طريق إرسال مزيد من القوات والأسلحة، لضمان عدم وقوع أي تمرد أو عصيان. إلا أن ذلك لم يَرُق المهاجرين، الذين أبغضوا القوانين البريطانية الظالمة، التي، من أجلها، تركوا ديارهم في بريطانيا، ومثيلاتها من الدول الأوربية.
وكانت فرنسا هي الأخرى، طامعة في الاستيلاء على أرض أمريكا الشمالية، فكانت تحشد قواتها وتتعاون مع الهنود الحمر "السكان الأصليين للقارة الأمريكية"، ضد القوات البريطانية. فأدى ذلك، في النهاية، إلى قيام حرب كبرى عام 1754، بين القوات البريطانية من جهة، والقوات الفرنسية يساندها الهنود الحمر من جهة أخرى. وكان النصر في هذه الحرب حليف بريطانيا. فأرغمت فرنسا على توقيع اتفاقية باريس عام 1763، حيث اعترفت بمقتضاها بأحقية بريطانيا، في الأرض المعروفة الآن باسم كندا، وكل الأراضي الموجودة شرق نهر المسيسبي وكذلك المنطقة المعروفة الآن باسم فلوريدا.
إلا أن التكلفة الباهظة للحرب أرهقت الخزانة البريطانية الخاوية أصلاً. فسن البرلمان الإنجليزي عام 1760، بناءً على اقتراح من الملك جورج الثالث، ضرائب باهظة على أهالي الولايات الأمريكية الثلاث عشرة. وهنا جاوز الأمر، بأهالي المستعمرات الأمريكية، حَدّه، فنظموا تجمعات سرية عرفت باسم أبناء الحرية (Sons of Liberty). وفيها اتفقوا على الدفاع عن أراضيهم، ضد مطامع التاج البريطاني، حتى ولو كلفهم الأمر إعلان الحرب على تلك المطامع.
وفي عام 1765، نظم أول اجتماع، ضم ممثلين عن تسعة ولايات عرف باسم "الكونجرس المضاد لقانون ضرائب التمغة" (Stamp Act Congerss). وبدأ البرلمان الإنجليزي يحسب حساب هذه الثورة فتارة يهادنها، وتارة يفرض ضرائب جديدة. وازداد التوتر في العلاقات بين الحكومة البريطانية وأهالي الولايات الأمريكية، إلى أن بلغ أشده عام 1774، حينما أصدر البرلمان البريطاني قانوناً أطلق عليه قانون الأعمال التي لا يمكن التغاضي عنها (Intolerable Acts). وفيه، فرضت ضرائب جديدة باهظة. كما أغلقت ميناء بوسطن رداً على إتلاف بعض الأمريكيين لحمولة من الشاي تحملها سفن شركة بريطانية.
ورداً على هذا القانون، دعا الثوار الأمريكيون، إلى تكوين أول هيئة تشريعية وطنية، أطلقوا عليها الكونجرس القاري (Continental Congress)، الذي اجتمع لأول مرة في 5 سبتمبر 1774 في مدينة فيلادلفيا، وحضره 56 مندوباً، يمثلون 12 مستعمرة. وقد اهتم الكونجرس بطلب معاملة عادلة من بريطانيا أكثر مما اهتم بالاستقلال. واتفق المجتمعون على إنهاء كل العلاقات التجارية مع بريطانيا، حتى تلغي جميع الضرائب الباهظة، والإجراءات الاستثنائية.
واستشاط ملك بريطانيا غضباً من قرارات الكونجرس القاري، وعدها تمرداً يستحق المواجهة العسكرية.
وقامت، على إثر ذلك، معارك ضارية، بين فلاحي ماساشوسيتس والقوات البريطانية في لكسنتجون وكونكورد، نجح فيها الفلاحون في إيقاف تقدم القوات البريطانية المدججة بالسلاح.
وانعقد الكونجرس القاري الثاني، في 10 مايو عام 1775. واتفق المجتمعون على تكوين جيش أمريكي. ثم أتبعوا ذلك بقرار يوم 15 يونيه في نفس العام، بتعيين الجنرال جورج واشنطن[1] (انظر صورة جورج واشنطن)، القائد العسكري لولاية فيرجينيا، قائداً عاماً للجيش الوليد.
ولم يُضِع الملك البريطاني وقتاً، فأعلن الحرب على المتمردين من سكان الولايات الأمريكية، وبدأ يعد العدة لشن هجوم عسكري كبير، لإخماد هذه الثورة والقضاء عليها قضاءً مبرماً.
وهنا تجمع الشعب الأمريكي، بجميع فئاته، حول قائدهم جورج واشنطن الذي تجسدت فيه إرادة الشعب الأمريكي.
وفي 4 يوليه عام 1776، أعلن أعضاء الكونجرس القاري الثاني الاستقلال الكامل عن التاج البريطاني، وتكوين الولايات المتحدة الأمريكية، كما وافق الكونجرس على وثيقة الاستقلال (انظر صورة وثيقة إعلان الاستقلال)، (انظر ملحق إعلان الاستقلال) التي كتبها توماس جيفرسون[2] (Thomas Jefferson) (انظر صورة توماس جيفرسون)، والتي جاء فيها قوله:
"إن جميع البشر قد خلقوا متساويين، وإن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا تنتزع، من بينها حق الحياة والحرية، والسعي في سبيل تحقيق السعادة".
كان إعلان الاستقلال بمثابة البوتقة التي صهرت في داخلها جميع طوائف الأمريكيين، على الرغم من اختلاف أصولهم، ودياناتهم، ومذاهبهم.
إلا أن الجيش الأمريكي لم يكن مدرباً، ولا مستعداً، لخوض قتال مع جيش الإمبراطورية، التي لا تغيب عنها الشمس. فاندلعت حرب عنيفة استمرت عدة سنوات، كلفت الأمريكيين تكاليف باهظة، في الأرواح والأموال. وفي يوم 19 أكتوبر 1781، حقق الأمريكيون نصراً في معركة، كانت هي الفاصلة، وذلك في مدينة يورك، الموجودة على ضفاف نهر يورك بولاية فيرجينيا؛ إذ استسلم الآلاف من الجنود البريطانيين، وانسحب الباقون يجرون أذيال الهزيمة. وعندئذ قررت الحكومة البريطانية أن تبدأ مفاوضات سلام مع الثوار الأمريكيين بقيادة جورج واشنطن. وتوجت تلك المحادثات بتوقيع اتفاقية سلام في 3 سبتمبر عام 1783 . وبذلك انتهت الأعمال العسكرية للثورة الأمريكية.
وخلال هذه الفترة الحرجة، من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كان الكونجرس القاري الثاني بمثابة الحكومة الوطنية حتى عام 1781.
وكان على الكونجرس القاري، في هذه الفترة، أن يواجه مشكلتين؛ الأولى: النقص الحاد في الموارد، مع التزايد المطّرد للاحتياجات المادية، لتغطية تكاليف الحرب. والثانية: هي مشكلة عدم الاتفاق بين الأمريكيين، حول شكل الحكومة بعد الاستقلال. فقد كان صغار المزارعين والمدنيين يفضلون أن تظل السلطة في حوزة المجالس التشريعية للولايات، بدلاً من الحكومة، وذلك حتى يتسنى لهم أكبر قدر ممكن من التأثير في الشئون المحلية. أما التجار الأثرياء وملاك الإقطاعيات، فكانوا يفضلون أن تكون هناك حكومة مركزية قوية، يمكنها أن تحمي متاجرهم وأملاكهم.
وتحتم الأمر أن يكون هناك حل وسط بين هاتين المجموعتين، و كانت النتيجة تشكيل حكومة اتحادية بين الولايات الثلاث عشرة. وقد صدر بذلك وثيقة عرفت بمذكرة الحكومة الاتحادية. وفيها، لخصت المواد التي أنشئ بموجبها ذلك الاتحاد الكونفدرالي.
وقد نصت مواد المذكرة، على إنشاء مجلس تشريعي للحكومة الاتحادية، والذي عرف باسم "الكونجرس الاتحادي"، أو "كونجرس الكونفدرالية".
ونجح الاتحاد الكونفدرالي في التوقيع على معاهدة السلام مع بريطانيا، كما تعهد بدفع ديون الحرب، كما نجح في إقرار مرسوم الشمال الغربي الذي سمح للدولة الوليدة بالتوسع في أراضي القارة الأمريكية الشمالية.
ولما لم يكن للكونجرس سلطة تنفيذية أو هيئة قضائية مستقلة، فلم يكن بإمكانه، أن يفرض ضرائب أو ينظم عمليات التجارة، أو أن يتحكم في عملة قومية، والأكثر من ذلك، كان إقرار مشاريع القوانين يحتاج إلى موافقة أغلبية الثلثين؛ وهو أمر كان من الصعب تحقيقه.
باختصار لم تكن الحكومة، في ظل هذه المواد، سوى رابطة صداقة وطيدة بين الولايات، في الوقت الذي احتفظت فيه كل ولاية بسيادتها الخاصة، وكيانها السياسي المستقل.
وفي عام 1786، انعقد اجتماع للكونجرس بمدينة أنابوليس (Annapolis) بولاية مريلاند حضره مندوبو 13 ولاية، واتفقوا فيه على ضرورة تعديل مواد الاتحاد بين الولايات، والعمل على تكوين حكومة مركزية. وقام الكونجرس المنعقد بتحديد يوم 14 مايو 1787 موعداً لعقد اجتماع في مدينة فيلادلفيا.
وفي اجتماع فيلادلفيا، الذي أطلق عليه اسم المؤتمر الدستوري (انظر صورة مبنى الاستقلال)، انتخب جورج واشنطن رئيساً للمؤتمر. وفي هذا الاجتماع، كذلك، قدم إدموند راندولف، رئيس وفد ولاية فيرجينيا، اقتراحاً يدعو إلى تكوين برلمان ذي مجلسين، يكون تمثيل كل ولاية فيهما على أساس عدد سكانها البيض، ومقدار ما تقدمه هذه الولاية من الموارد المالية للخزانة العامة.
ولكن الولايات الصغيرة اعترضت على هذا الاقتراح، الذي عدته جائراً بالنسبة لها. واقترحت إزاءه أن يكون التمثيل في المجلس التشريعي متساوياً بالنسبة لجميع الولايات، بدون اشتراط مساهمات مالية ودون اعتبارات لعدد السكان. وأدرجت تلك الولايات هذا الاقتراح في مشروع يعارض مشروع فرجينيا، وسمي هذا المشروع بـ"مقترحات نيوجيرسي".
وبعد مداولات عدة داخل المؤتمر، أُقر تكوين الهيئة التشريعية من مجلسين. فأصبح من الممكن تلبية رغبة الولايات الكبيرة عن طريق مجلس النواب الذي يكون التمثيل فيه على أساس عدد السكان، على أن يكون التمثيل في مجلس الشيوخ على أساس المساواة بين الولايات إرضاءً للولايات الصغيرة.
وبعد عديد من المناقشات بين رجال القانون، والساسة، والعسكريين من أبناء الثلاث عشرة ولاية، تم الاتفاق، على أن الضمان الوحيد للحرية هو تقسيم الحكومة إلى سلطات ثلاث: تنفيذية، وتشريعية، وقضائية، والسماح لكل سلطة منها بممارسة قدر من السيطرة على السلطتين الأخريين. مثال ذلك، أنه يمكن للرئيس أن يستخدم حق الاعتراض، على أي مشروع بقانون، يعرض على الكونجرس. وفي الوقت نفسه، يمكن للكونجرس تخطي هذا الاعتراض. مثال آخر، أنه يمكن للمحاكم أن تفسر معنى القانون بتفسير يختلف عن تفسير الهيئتين التنفيذية والتشريعية. وفي النهاية، تم التصديق على هذه المواد، التي كتبت على هيئة وثيقة، أطلق عليها دستور الولايات المتحدة الأمريكية(انظر ملحق دستور الولايات المتحدة الأمريكية) .
ومن المثير للانتباه أن عدد أصوات المعارضة للدستور الجديد لم يكن بسيطاً، وهو ما يكشف عنه(انظر جدول نتائج التصديق على الدستور في مجالس الولايات التشريعية) . إذ اتخذ 26 تعديلاً للدستور الأمريكي، منذ التصديق عليه، وحتى الآن.
لقد كان الموقعون على الدستور رجالاً ذوي أيدٍ بيضاء على الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الحد الذي حدا بالمؤرخين أن يطلقوا عليها "الآباء المؤسسين" (Founding Fathers). ومن بين هؤلاء نجد جورج واشنطن، وجيمس ماديسون، وألكسندر هاميلتون، وبنيامين فرانكلين.
وفي ذلك الوقت، كانت مدينة نيويورك هي العاصمة المؤقتة للولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك عقدت أول دورة نيابية للكونجرس الجديد في مدينة نيويورك والتي طمع أهلها في أن يصدر هذا الكونجرس قراراً بجعل نيويورك العاصمة الدائمة للولايات المتحدة. ومن أجل ذلك، قام عمدة نيويورك بصرف أموال كثيرة في تزيين وترميم قاعة المدينة (City Hall)، الموجودة في الشارع التجاري المشهور "وول ستريت" (Wall Street). واجتمع الكونجرس الأمريكي لأول مرة في 4 مارس 1789. وكان عدد أعضاء مجلس النواب 56 عضوا، وخصصت لهم قاعة فاخرة في الدور الأرضي للمبنى. أما مجلس الشيوخ، فقد تألف من 26 عضواً (اثنان عن كل ولاية)، وخصصت لهم قاعة فاخرة في الدور العلوي. ومنذ ذلك الحين يطلق لفظ القاعة العلوية (Upper Chamber) على مجلس الشيوخ. وكانت فخامة قاعة مجلس الشيوخ، محل الأنظار، فقد افترش أراضيها السجاد الفاخر. وكان سقفها على هيئة قبة عالية، ازدانت من الداخل بصورة كبيرة لشمس ساطعة، يحيط بها 13 نجماً رمزاً لعدد الولايات المشاركة في الاتحاد.
وكان لفخامة هذه القاعة الفضل، في اختيارها، لتكون المكان الذي جرى فيه تنصيب جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ قام واشنطن بحلف اليمين في الشرفة الملحقة بالقاعة، وعلى مرأى من جماهير غفيرة، ثم وجه خطاباً لأعضاء الكونجرس الذين ازدحم بهم المكان.
إلا أن فرحة أهالي نيويورك بهذا الجمع لم تدم طويلاً، فقد قرر الكونجرس، في صيف 1790، إنشاء عاصمة، على ضفاف نهر البوتاماك، ما بين ميريلاند في الشمال وفيرجينيا في الجنوب. وإلى أن يتم بناء العاصمة الجديدة، قرر الكونجرس أن تستقر الحكومة وجميع هيئاتها في مدينة فيلادلفيا، ولفترة مبدئية قدرت بعشر سنوات.
وفي ديسمبر عام 1790، بدأ الكونجرس أولى جلساته في مبنى عرف بقاعة الكونجرس (Congress Hall)، وكان مقر مجلس النواب في الدور الأول من المبنى، في قاعة كبيرة، اتسعت لأعضاء المجلس، بالإضافة إلى أربعمائة مقعد، لمن أرادوا حضور الجلسات من عامة الشعب.
أما قاعة مجلس الشيوخ في الدور العلوي، فكانت آية في الفخامة بما حوته من أثاث، وبما ازدانت به حوائطها وسُقُفها من نقوش وتحف. إلا أن جلسات مجلس الشيوخ كانت تعد من السرية، بحيث لم يسمح للعوام بحضورها. وقد استمر المجلس في الانعقاد، بصورة سرية، حتى عام 1794، حينما أعلن أعضاء المجلس، عن فتح باب حضور الجلسات للعوام. ومن وقتها، وجلسات مجلسي الكونجرس، علنية مفتوحة، لكل من أراد حضورها.
وبحلول عام 1800، استعد أعضاء الكونجرس للرحيل عن فيلادلفيا، إلا أن العاصمة الجديدة لم تكن معدة لاستقبالهم، فهي أرض زراعية مليئة بالطين تكثر بها الحشرات. وبالتالي فقد كانت بحاجة إلى وقت طويل، وأموال طائلة لإعدادها لتكون عاصمةً للحكومة.
وفي الواقع، لم تكن العاصمة الجديدة، التي سميت باسم قائد ثورة الولايات المتحدة وأول رئيس لجمهوريتها، جورج واشنطن، مستعدة لاستقبال الموظفين الحكوميين، بوجه عام، وأعضاء الكونجرس بوجه خاص. فالمبنى الذي كان من المفترض أن يكون متسعاً للكونجرس، بالإضافة إلى عديد من الهيئات الحكومية الأخرى، لم يكن قد فُرِغ منه بعد، إذ تسبب نقص الأموال في إيقاف أعمال البناء لعدة سنوات. وفي النهاية، قرر المهندسون إعطاء أولوية لبناء وتجهيز الأماكن المعدة لانعقاد مجلس الشيوخ، قبل غيرها، حتى تتوفر الأموال اللازمة لإكمال بقية المبني.
وهكذا، حُشِر موظفو الحكومة وأعضاء الكونجرس في الجزء الذي فرغ من إنشائه. وكان أكبر وأفخم القاعات ـ كالعادة ـ من نصيب مجلس الشيوخ، الذي عقد أول اجتماعاته في العاصمة واشنطن يوم 21 نوفمبر عام 1800.
وفي عام 1803، استقطع الكونجرس 50 ألف دولار من الميزانية الحكومية، لاستكمال ذلك الجناح من المبنى، الذي توجد فيه قاعة مجلس النواب. وما إن شرع المهندس المشهور بنيامين لاتروب في أعمال البناء حتى بدأت حوائط قاعات جناح مجلس الشيوخ في التشقق والتداعي، فأوقفت أعمال البناء الجديدة، للمرة الثانية، حتى يتم ترميم مبنى مجلس الشيوخ، وبناء قاعة جديدة له في الدور العلوي من المبنى.
وفي عام 1807، توفرت الأموال اللازمة، وبدأت أعمال الترميم مرة أخرى، واستمرت حتى عام 1810. إلا أن المبنى سيئ الحظ لم يستمتع بوجوده أكثر من أربعة أعوام، ففي عام 1814، اجتاحت القوات البريطانية الولايات المتحدة، وقصفت مبنى الكونجرس محدثة فيه دماراً كبيراً.
وبعد انتهاء الغزو، عاد أعضاء مجلس الكونجرس إلى مبنى مهدم ومتصدع، فاستقطعوا هذه المرة نصف مليون دولار من الميزانية، لترميم المبنى وإكمال الأجزاء، التي لم تنته.
وفي أثناء عمليات الترميم، انتقل الكونجرس إلى فندق بلودجت (Blodgett's Hotel)، الذي كان أكبر مبنى في المدينة بعد القصف البريطاني لجميع مباني مدينة واشنطن. وعلى الرغم من أن المكان اتسع لانعقاد جلسات الكونجرس، فإن أعضاء مجلس الكونجرس كانوا غير قادرين على ممارسة أعمالهم بطريقة طبيعية. وبدأ الحديث عن العودة مرة أخرى إلى مدينة فيلادلفيا، ومبانيها الكبيرة، وقاعات الكونجرس الفاخرة. إلا أن الأثرياء وأصحاب الأعمال التجارية في العاصمة الوليدة تبرعوا بأموال كافية، لبناء مبنى جديد خاص بالكونجرس، حتى يتم الانتهاء من ترميم المبنى القديم المتداعي. واستضاف هذا المبني، الذي عرف باسم الكابيتول الطوبي (Brick Capitol) أربع دورات برلمانية استمرت بين عامي 1815- 1819.
وفي 1819، انتقل الكونجرس إلى المبنى القديم، بعد أن رممت أجزاؤه المتهدمة، واستكمل بناؤه، وبقي فيه حتى عام 1859 (انظر صورة مبنى الكونجرس عام 1841).
وخلال هذه الحقبة الزمنية، ازداد عدد أعضاء الكونجرس نتيجة لانضمام ولايات جديدة، إلى الاتحاد، وزيادة عدد السكان في الولايات الأصلية، كذا زاد اهتمام الجمهور بحضور جلسات الكونجرس، لمناقشة الأمور الهامة، مثل وضع العبيد.
ولهذا السبب، اعتمد الكونجرس ميزانية جديدة، لتوسيع المبنى، وإضافة عدد من الحجرات والردهات والممرات إليه. واستمر العمل 17 عاماً متواصلة أُنْفِقت خلالها أموال باهظة، حتى صار المبنى تحفة فنية رائعة، لا يضاهيه مبنى آخر، في أي مكان في العالم، آنذاك. وفي 4 يناير عام 1859، شغلت مكاتب الكونجرس غرف المبنى الأرستقراطي الجديد، وظلت فيه حتى يومنا هذا.
وقد ضم المبنى الحديث ثلاثة أدوار، ومئات من الغرف وقاعات الاجتماع، كما ضمت قاعات مجلس النواب والشيوخ أماكن تتسع لعدد غفير من الجمهور. كما ضم المبنى استراحة لرئيس الجمهورية، وأخرى لنائب رئيس الجمهورية.
وعقب الحرب الأهلية، انتعشت الصناعات الأمريكية، وزاد الدخل القومي، واستلزم الأمر سن الكثير من القوانين. وزاد عدد الولايات، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعضاء الكونجرس. وأتبع ذلك زيادة عدد الحجرات التي يحتلها النواب والشيوخ ومعاونوهم، وبذلك ضاق المكان بمن فيه، وزادت الحاجة إلى توسيع للمبنى. وقد تكررت عملية التوسيع عدة مرات، حتى صار في حجمه الحالي.
ومبنى الكونجرس، بحجمه الحالي، يعد أكبر مبنى برلماني في العالم، بل يعد من أكبر المباني على وجه الإطلاق (انظر صورة مبنى الكونجرس (منظر علوي)، وصورة مبنى الكونجرس (منظر جانبي) ). فهو مقام على مساحة أربعة أفدنة، أما مساحة غرفه الإجمالية فتبلغ حوالي 17 فدان، بعرض 120 متراً، بطول 250 متراً، وبارتفاع يقترب من 100 متر. ويحتوي المبنى على 540 غرفة، و850 ردهة، وهو مكون من خمس طوابق.
ويزخر المبنى باللوحات الفنية الغالية، والتماثيل الرخامية. ويغلب على المبنى الطِرازان: اليوناني، والروماني.