- الأربعاء أكتوبر 30, 2013 5:30 am
#64454
القائد عثمان بن أرطغرل.. مؤسس الدولة العثمانية
إن دراسة تاريخ القادة وزعماء الأمة نتعرف من خلالها على سنن الله وعوامل نهوض الدول وأسباب سقوطها، وإليك سيرة قائد مؤسس آخر لخلافة إسلامية.
في عام 656ه-/1258م غزا المغول بقيادة هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وكانت الأحداث عظيمة، والمصائب جسيمة، وكان الخطب عظيم والحدث جلل، والأمة ضعيفة ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها، فهتك المغول الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخربوا الديار، وفي تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأمة ولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألا وهو بداية الأمة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة، فالعثمانيون كانوا قبائل تركمانية تعيش في كردستان، وتزاول حرفة الرعي، عند بداية القرن 7ه- / 13م.
- الجانب التربوي من مولد عثمان:
مولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، مثَّل بداية الأمة في التمكين، فتاريخ مولده هو أقصى نقطة من الضعف والانحطاط للأمة المسلمة، وبداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين للمرحلة الجديدة في تاريخ الأمة، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة، فقد بدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد، فعلى أهل الحق ألا يستعجلوا موعود الله- عز وجل- لهم بالنصر والتمكين، فلا بد من مراعاة السنن الشرعية والسنن الكونية، ولا بد من الصبر على دين الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد: من الآية 5)، فالله- سبحانه وتعالى- إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرج لا دفعة واحدة، ولا شك أن الله تعالى قادر على أن يُمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها، بل في طرفة عين قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)﴾ (النحل).
- الصفات القيادية في عثمان:
عندما نتأمل في سيرة عثمان الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات: الشجاعة التي خاض بها الحروب بنفسه ضد الجيوش الصليبية، فظهرت منه بسالة وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين، كما وصفه المؤرخون بأنه كان حكيمًا؛ فقد ناصر وتحالف مع السلطان علاء الدين سلطان سلاجقة الروم ضد النصارى، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة، وعدة قلاع حصينة، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين صاحب دولة سلاجقة الروم، ومن صفاته أيضًا صبره في فتوحاته ونشره للدعوة الإسلامية في الإمبراطورية البيزنطية منطلقًا من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران).
وكان للقائد عثمان جاذبية إيمانية فتأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم، وانخرطت الجماعات الإسلامية تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزيا روم) أي غزاة الروم، وجماعة (الإخيان) (أي الإخوان) وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم.
ومن صفاته العدل، فقد ولاَّه والده أرطغرل القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684ه-/1285م، فحكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك؟ فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) )النساء: من الآية 58)، وكان هذا العدل الكريم سببًا في اهتداء الرجل وقومه إلى الإسلام، كما استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر، أو الطغيان، أو البطش في عام 684ه-/1285م.
الوفاء صفة الحاكم المسلم، فكان عثمان من الحكام المسلمين شديدي الاهتمام بالوفاء بالعهود، متمسكًا بقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾ (الإسراء: من الآية 34)، فعندما اشترط أمير قلعة "أولوباد" البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني، ألا يمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم إلى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده.
كان عثمان متجردًا في فتوحاته، فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه.
- ومن صفاته أيضًا:
حبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان، وحبه العميق للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، وكانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقًّا لتأييد الله وعونه.
قالوا عنه:
يقول الدكتور محمد علي الصلابي: "إن عثمان أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة، وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى، من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق، وحقق ما تطلع إليه من أهداف وغاية سامية. لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة إلى الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى، وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معاديًا لأهل الكفران.
وصفه المؤرخ أحمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بقوله: "كان عثمان متدينًا للغاية، وكان يعلم أن نشر الإسلام وتعميمه واجب مقدس، وكان مالكًا لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حبًّا في السلطة وإنما حبًّا في نشر الإسلام".
ويقول أوغلو: "لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيمانًا عميقًا بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعًا بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف".
- الدستور الذي سار عليه القائد عثمان بن أرطغرل:
كانت حياة القائد عثمان، مؤسس الدولة العثمانية، جهادًا ودعوة في سبيل الله، وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة، ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت، وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية، وهي يمكن أن تكون منهجًا لكل حاكم.
- الوصية الأولى: يا بني: إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين، وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً"، إنها دعوة إلى الالتزام بشرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وبحيث يكون حكم الله وأمره مهيمنًا على كل شيء قال تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)) (سورة يوسف). إن عثمان يوصي ابنه كحاكم من بعده لدولة إسلامية أن يتقيد بحكم الله في أعماله؛ لأنه يعلم أن إقامة حكم الله من خلال الحاكم المسلم عهد وميثاق.
- الوصية الثانية: يا بني: أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.
إن من أعظم صور الذكر أن يتذكر العبد فضل الله عليه، فيستشعر أن فضل الله عليه عظيم؛ فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر، وهكذا كانت وصية عثمان لابنه، يحذره فيها من الشيطان ومسالكه ومداخله، ويدعوه إلى الاحتراز من كيده.
- الوصية الثالثة: يا بني: إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين، وأن بالجهاد يعم نور ديننا الآفاق كلها، فتحدث مرضات الله جل جلاله.
إن عثمان الأول كان يرى أن نشر دين الله في الآفاق من وسائله الجهادُ في سبيل الله تعالى، وأن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلاء كلمة الله؛ لتحقيق عبادته وحده لا شريك له، ومن أجل هذه الغاية انطلق عثمان الأول بجنوده وشعبه مجاهدًا في سبيل الله، ولقد عمل العثمانيون بهذه النصيحة والوصية، فعملوا على إزالة كل العوائق التي تمنع الناس من سماع دعوة الله تعالى التي جاءت لتعطي الناس أكمل تصور للوجود والحياة وبأرقى نظام لتطويرها، ولقد جاهدت الدولة العثمانية في سبيل الله تعالى وفتح الله على يديها دولاً وشعوبًا لا زال الإسلام باقيًا فيها حتى الآن؛ مثل: دول البلقان، وعملت على حماية شعوب المسلمين من هجمات النصارى الغاشمة، فكانت سببًا في بقاء الشمال الإفريقي على إسلامه ودينه وعقيدته، وكانت عاملاً مهمًّا في حماية الأراضي المقدسة من البرتغاليين ومن دخل تحت لوائهم من النصارى، إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة.
- الوصية الرابعة: يا بني: لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل.
إن هذه الوصية تبين طبيعة تكوين الدولة العثمانية عن غيرها من الدول، فالغاية التي قامت من أجلها إنما هي الدفاع عن الإسلام ورفع رايته في مشارق آسيا الصغرى، والقضاء على الدولة البيزنطية التي كانت تهدد المسلمين في ديارهم، ومن ثم أطلق على زعيم هذه الدولة الناشئة القائد عثمان لقب "الغازي"، أي المجاهد في سبيل الله، هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم.
- الوصية الخامسة : اعلم يا بني، أن نشر الإسلام، وهداية الناس إليه، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم، أمانة في عنقك سيسألك الله- عز وجل- عنها.
لقد آمن عثمان الأول أن حماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنق الحاكم المسلم، وأن يكون ذلك بإشراف الحاكم المسلم، كما فهم عثمان الأول أن دين الإسلام دين دعوة مستمرة لا تتوقف، وأن من أهداف الدولة الإسلامية دفع عجلة الدعوة ليصل نور الإسلام إلى كل إنسان، رأى أن مسئوليته الأساسية هي القيام بوظيفة الدعوة ونشرها في أرجاء الأرض، وربط السياسة الخارجية بالأسس الدعوية العقدية، قبل بنائها على الأسس المصلحية النفعية، فاهتم بأمر الدعوة إلى الله على المستوى الخارجي بإدخال الناس في دين الإسلام.
- الوصية السادسة: يا بني، إنني أنتقل إلى جوار ربي، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلاً في الرعية، مجاهدًا في سبيل الله؛ لنشر دين الإسلام.
- الوصية السابعة: يا بني، أوصيك بعلماء الأمة، أَدِمْ رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم، فإنهم لا يأمرون إلا بخير، إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.
كان عثمان على صلة متينة بكبار العلماء والفقهاء وكبار الصالحين في عهده، وكثيرًا ما يجلس الساعات الطوال بين أيديهم ويتلقى مواعظهم ويستفيد من علمهم، ويشاورهم في أمور الدولة؛ ولذلك أمر ابنه الأول أورخان أن يجعل من العلماء مجلس شورى له في معضلات الأمور، وأن ينزل على رأي العلماء، وفي هذا الإرشاد امتثال لأمر الله واقتداء برسول الله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)) (سورة آل عمران)، وكأن عثمان رحمه الله يرى أن الشورى ملزمة للحاكم، وهكذا نرى عثمان يسبق كثيرًا من العلماء والمفكرين المعاصرين في ذهابه إلى أن الشورى ملزمة، ويأمر ابنه بالنزول عند رأي العلماء؛ لكونهم لا يأمرون إلا بخير.
إن وصية عثمان لابنه باحترام العلماء أصبحت منهجًا سار عليه حكام الدولة العثمانية، وهذا يدل على التزام العثمانيين بشرع الله تعالى؛ لأن الشريعة أعطت اعتبارًا للعلماء، ولقد ساهمت الشورى في بناء الدولة العثمانية، وكان الحكام العثمانيون يجعلون من الشورى خير سبيل لتحقيق الغاية، حتى إن السلطان محمد الفاتح قام بتشكيل مجلس استشاري لأمور الدولة.
- الوصية الثامنة: يا بني، إياك أن تفعل أمرًا لا يرضي الله عز وجل، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة، فإنهم سيدلونك على الخير.
- الوصية التاسعة: واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا.
- الوصية العاشرة: يا بني، ليس في الدنيا أحد لا يخضع رقبته للموت، وقد اقترب أجلي بأمر الله جل جلاله أسلمك هذه الدولة وأستودعك المولى، عز وجل، اعدل في جميع شئونك.
- وصاياه لأبناء الأمة:
علُّوا الدين الإسلامي الجليل بإدامة الجهاد في سبيل الله، أمسكوا راية الإسلام الشريفة في الأعلى بأكمل جهاد. اخدموا الإسلام دائمًا؛ لأن الله، عز وجل، قد وظف عبدًا ضعيفًا مثلي لفتح البلدان. اذهبوا بكلمة التوحيد إلى أقصى البلدان بجهادكم في سبيل الله، ومن انحرف من سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر.
هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم، فاهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية وبالجيش، وبالمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم، وبالجهاد الذي أوصل فتوحاتهم إلى أقصى مكان وصلت إليه رايته جيش مسلم.
رحم الله عثمان:
ترك عثمان الأول الدولة العثمانية وكانت مساحتها تبلغ 16.000 كيلو متر مربع، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذًا على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهما: أزنيق وبورصة.
إن دراسة تاريخ القادة وزعماء الأمة نتعرف من خلالها على سنن الله وعوامل نهوض الدول وأسباب سقوطها، وإليك سيرة قائد مؤسس آخر لخلافة إسلامية.
في عام 656ه-/1258م غزا المغول بقيادة هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وكانت الأحداث عظيمة، والمصائب جسيمة، وكان الخطب عظيم والحدث جلل، والأمة ضعيفة ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها، فهتك المغول الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخربوا الديار، وفي تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل الأمة ولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وهنا معنى لطيف ألا وهو بداية الأمة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف والانحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة، فالعثمانيون كانوا قبائل تركمانية تعيش في كردستان، وتزاول حرفة الرعي، عند بداية القرن 7ه- / 13م.
- الجانب التربوي من مولد عثمان:
مولد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، مثَّل بداية الأمة في التمكين، فتاريخ مولده هو أقصى نقطة من الضعف والانحطاط للأمة المسلمة، وبداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين للمرحلة الجديدة في تاريخ الأمة، إنها حكمة الله وإرادته ومشيئته النافذة، فقد بدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد، فعلى أهل الحق ألا يستعجلوا موعود الله- عز وجل- لهم بالنصر والتمكين، فلا بد من مراعاة السنن الشرعية والسنن الكونية، ولا بد من الصبر على دين الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد: من الآية 5)، فالله- سبحانه وتعالى- إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرج لا دفعة واحدة، ولا شك أن الله تعالى قادر على أن يُمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها، بل في طرفة عين قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)﴾ (النحل).
- الصفات القيادية في عثمان:
عندما نتأمل في سيرة عثمان الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات: الشجاعة التي خاض بها الحروب بنفسه ضد الجيوش الصليبية، فظهرت منه بسالة وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين، كما وصفه المؤرخون بأنه كان حكيمًا؛ فقد ناصر وتحالف مع السلطان علاء الدين سلطان سلاجقة الروم ضد النصارى، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة، وعدة قلاع حصينة، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين صاحب دولة سلاجقة الروم، ومن صفاته أيضًا صبره في فتوحاته ونشره للدعوة الإسلامية في الإمبراطورية البيزنطية منطلقًا من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران).
وكان للقائد عثمان جاذبية إيمانية فتأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم، وانخرطت الجماعات الإسلامية تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزيا روم) أي غزاة الروم، وجماعة (الإخيان) (أي الإخوان) وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم.
ومن صفاته العدل، فقد ولاَّه والده أرطغرل القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684ه-/1285م، فحكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك؟ فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) )النساء: من الآية 58)، وكان هذا العدل الكريم سببًا في اهتداء الرجل وقومه إلى الإسلام، كما استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر، أو الطغيان، أو البطش في عام 684ه-/1285م.
الوفاء صفة الحاكم المسلم، فكان عثمان من الحكام المسلمين شديدي الاهتمام بالوفاء بالعهود، متمسكًا بقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾ (الإسراء: من الآية 34)، فعندما اشترط أمير قلعة "أولوباد" البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني، ألا يمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم إلى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده.
كان عثمان متجردًا في فتوحاته، فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه.
- ومن صفاته أيضًا:
حبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان، وحبه العميق للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، وكانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقًّا لتأييد الله وعونه.
قالوا عنه:
يقول الدكتور محمد علي الصلابي: "إن عثمان أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة، وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى، من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق، وحقق ما تطلع إليه من أهداف وغاية سامية. لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة إلى الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى، وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معاديًا لأهل الكفران.
وصفه المؤرخ أحمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بقوله: "كان عثمان متدينًا للغاية، وكان يعلم أن نشر الإسلام وتعميمه واجب مقدس، وكان مالكًا لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حبًّا في السلطة وإنما حبًّا في نشر الإسلام".
ويقول أوغلو: "لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيمانًا عميقًا بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعًا بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف".
- الدستور الذي سار عليه القائد عثمان بن أرطغرل:
كانت حياة القائد عثمان، مؤسس الدولة العثمانية، جهادًا ودعوة في سبيل الله، وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة، ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت، وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية، وهي يمكن أن تكون منهجًا لكل حاكم.
- الوصية الأولى: يا بني: إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين، وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً"، إنها دعوة إلى الالتزام بشرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وبحيث يكون حكم الله وأمره مهيمنًا على كل شيء قال تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)) (سورة يوسف). إن عثمان يوصي ابنه كحاكم من بعده لدولة إسلامية أن يتقيد بحكم الله في أعماله؛ لأنه يعلم أن إقامة حكم الله من خلال الحاكم المسلم عهد وميثاق.
- الوصية الثانية: يا بني: أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.
إن من أعظم صور الذكر أن يتذكر العبد فضل الله عليه، فيستشعر أن فضل الله عليه عظيم؛ فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر، وهكذا كانت وصية عثمان لابنه، يحذره فيها من الشيطان ومسالكه ومداخله، ويدعوه إلى الاحتراز من كيده.
- الوصية الثالثة: يا بني: إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين، وأن بالجهاد يعم نور ديننا الآفاق كلها، فتحدث مرضات الله جل جلاله.
إن عثمان الأول كان يرى أن نشر دين الله في الآفاق من وسائله الجهادُ في سبيل الله تعالى، وأن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلاء كلمة الله؛ لتحقيق عبادته وحده لا شريك له، ومن أجل هذه الغاية انطلق عثمان الأول بجنوده وشعبه مجاهدًا في سبيل الله، ولقد عمل العثمانيون بهذه النصيحة والوصية، فعملوا على إزالة كل العوائق التي تمنع الناس من سماع دعوة الله تعالى التي جاءت لتعطي الناس أكمل تصور للوجود والحياة وبأرقى نظام لتطويرها، ولقد جاهدت الدولة العثمانية في سبيل الله تعالى وفتح الله على يديها دولاً وشعوبًا لا زال الإسلام باقيًا فيها حتى الآن؛ مثل: دول البلقان، وعملت على حماية شعوب المسلمين من هجمات النصارى الغاشمة، فكانت سببًا في بقاء الشمال الإفريقي على إسلامه ودينه وعقيدته، وكانت عاملاً مهمًّا في حماية الأراضي المقدسة من البرتغاليين ومن دخل تحت لوائهم من النصارى، إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة.
- الوصية الرابعة: يا بني: لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل.
إن هذه الوصية تبين طبيعة تكوين الدولة العثمانية عن غيرها من الدول، فالغاية التي قامت من أجلها إنما هي الدفاع عن الإسلام ورفع رايته في مشارق آسيا الصغرى، والقضاء على الدولة البيزنطية التي كانت تهدد المسلمين في ديارهم، ومن ثم أطلق على زعيم هذه الدولة الناشئة القائد عثمان لقب "الغازي"، أي المجاهد في سبيل الله، هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم.
- الوصية الخامسة : اعلم يا بني، أن نشر الإسلام، وهداية الناس إليه، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم، أمانة في عنقك سيسألك الله- عز وجل- عنها.
لقد آمن عثمان الأول أن حماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنق الحاكم المسلم، وأن يكون ذلك بإشراف الحاكم المسلم، كما فهم عثمان الأول أن دين الإسلام دين دعوة مستمرة لا تتوقف، وأن من أهداف الدولة الإسلامية دفع عجلة الدعوة ليصل نور الإسلام إلى كل إنسان، رأى أن مسئوليته الأساسية هي القيام بوظيفة الدعوة ونشرها في أرجاء الأرض، وربط السياسة الخارجية بالأسس الدعوية العقدية، قبل بنائها على الأسس المصلحية النفعية، فاهتم بأمر الدعوة إلى الله على المستوى الخارجي بإدخال الناس في دين الإسلام.
- الوصية السادسة: يا بني، إنني أنتقل إلى جوار ربي، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلاً في الرعية، مجاهدًا في سبيل الله؛ لنشر دين الإسلام.
- الوصية السابعة: يا بني، أوصيك بعلماء الأمة، أَدِمْ رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم، فإنهم لا يأمرون إلا بخير، إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.
كان عثمان على صلة متينة بكبار العلماء والفقهاء وكبار الصالحين في عهده، وكثيرًا ما يجلس الساعات الطوال بين أيديهم ويتلقى مواعظهم ويستفيد من علمهم، ويشاورهم في أمور الدولة؛ ولذلك أمر ابنه الأول أورخان أن يجعل من العلماء مجلس شورى له في معضلات الأمور، وأن ينزل على رأي العلماء، وفي هذا الإرشاد امتثال لأمر الله واقتداء برسول الله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)) (سورة آل عمران)، وكأن عثمان رحمه الله يرى أن الشورى ملزمة للحاكم، وهكذا نرى عثمان يسبق كثيرًا من العلماء والمفكرين المعاصرين في ذهابه إلى أن الشورى ملزمة، ويأمر ابنه بالنزول عند رأي العلماء؛ لكونهم لا يأمرون إلا بخير.
إن وصية عثمان لابنه باحترام العلماء أصبحت منهجًا سار عليه حكام الدولة العثمانية، وهذا يدل على التزام العثمانيين بشرع الله تعالى؛ لأن الشريعة أعطت اعتبارًا للعلماء، ولقد ساهمت الشورى في بناء الدولة العثمانية، وكان الحكام العثمانيون يجعلون من الشورى خير سبيل لتحقيق الغاية، حتى إن السلطان محمد الفاتح قام بتشكيل مجلس استشاري لأمور الدولة.
- الوصية الثامنة: يا بني، إياك أن تفعل أمرًا لا يرضي الله عز وجل، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة، فإنهم سيدلونك على الخير.
- الوصية التاسعة: واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا.
- الوصية العاشرة: يا بني، ليس في الدنيا أحد لا يخضع رقبته للموت، وقد اقترب أجلي بأمر الله جل جلاله أسلمك هذه الدولة وأستودعك المولى، عز وجل، اعدل في جميع شئونك.
- وصاياه لأبناء الأمة:
علُّوا الدين الإسلامي الجليل بإدامة الجهاد في سبيل الله، أمسكوا راية الإسلام الشريفة في الأعلى بأكمل جهاد. اخدموا الإسلام دائمًا؛ لأن الله، عز وجل، قد وظف عبدًا ضعيفًا مثلي لفتح البلدان. اذهبوا بكلمة التوحيد إلى أقصى البلدان بجهادكم في سبيل الله، ومن انحرف من سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر.
هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم، فاهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية وبالجيش، وبالمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم، وبالجهاد الذي أوصل فتوحاتهم إلى أقصى مكان وصلت إليه رايته جيش مسلم.
رحم الله عثمان:
ترك عثمان الأول الدولة العثمانية وكانت مساحتها تبلغ 16.000 كيلو متر مربع، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذًا على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهما: أزنيق وبورصة.