- الأربعاء نوفمبر 27, 2013 5:43 pm
#66363
بالطبع، لا يكفي مقالٌ واحدٌ للإلمام، ليس بتفاصيل الثورة الفرنسية العظمى، وحسب، بل وبخطوطها العريضة، وذلك نظرًا لاتساع التجربة، وعمقها، على مستوى تبدل علاقات الإنتاج، وما استتبع ذلك من تغير جذري، في البناء الفوقي للمجتمع، خاصة المؤسسات والأفكار، والحدود البرجوازية في عملية التغيير الاجتماعي، ونشأة الطبقة العاملة من رحم هذه الثورة المجيدة، وعلاقة المبادىء التي أرستها الثورة، بفرنسا الاستعمارية، وفرنسا المعاصرة، وغيرها الكثير من القضايا المتعلقة بالثورة الفرنسية. لذا، سوف أحاول، من خلال هذا المقال، إلقاء الضوء على بعض الجوانب الأساسية في الثورة الفرنسية، في المرحلة الأولى، أي بين بداية الأزمة في ثمانينات القرن الثامن عشر، وحتى عام ١٧٨٩ الحاسم، وسنستكمل في الأجزاء القادمة تطور الثورة من ١٧٨٩ وحتى صعود نابليون للسلطة.
جاء عام 1789 بالثورة الفرنسية، كنتيجة حاسمة للصراع الطويل، بين طبقة النبلاء وأغنياء رجال الدين، الذين استمدوا ثرواتهم وسلطاتهم من الثروة العقارية الهائلة، وتوارث الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عن أسلافهم، من جهة، وبين ما كانت تسمى حينذاك بـ"الطبقة الثالثة"، والتي ضمت البرجوازية والفلاحين وصغار الملاك والحرفيين والأجراء والاقنان، من جهة أخرى، هذا الوضع الطبقي الذي ترسخ منذ العصور الوسطي وضع سورًا عاليًا، بين هؤلاء الذين يُصَلون والذين يحاربون،(أغنياء رجال الدين والنبلاء)، وبين أولئك الذين يعملون من أجل إعاشة الآخرين (الطبقة الثالثة باستثناء البرجوازية)، إن مصدر قوة النظام الإقطاعي على المستوى الاقتصادي، بل أيضا على مستوى السيطرة الاجتماعية، هو ملكية الأرض، حيث كان من يملكونها أسيادًا للذين يعملون فيها. ولكن مع حلول القرن الحادي عشر، وبداية نمو التجارة، والإنتاج القائم على التخصص المهني، ظهر شكلاً آخر للثروة، هو رؤوس الأموال التجارية الضخمة، التي أصبحت، مع نهايات القرن الثامن عشر، لاغني عنها لتسيير قطاعات الدولة المختلفة، وهذه الثروة خلقت معها طبقة قوية اقتصاديًا، لكنها لا تملك شيئا من القرار السياسي، الذي ظلت طبقة النبلاء محتفظة به، كجزء من امتيازاتها، كانت هذه الطبقة الجديدة هي الطبقة البرجوازية، التي تشكلت من رجال الصناعة والبنوك وكبار التجار، الذين يطمحون إلى تحرير السوق والتجارة من النظام الإقتصادي القديم، الذي عفا عليه الزمن، وإلى إعفائهم من الضرائب الباهظة والمتنوعة، التي يفرضها عليهم النظام الإقطاعي. وقد كان أن حررت الثورة الفرنسية الجماهير من نير الإقطاع، وفي الوقت ذاته، جعلت من البرجوازية سيدة العالم.
أولا : الطبقات الاجتماعية في فرنسا عشية الثورة:
1- النبلاء
شكلت هذه الطبقة حوالى 1.5 % من سكان فرنسا، عام 1789، وكانت هي الطبقة المسيطرة اجتماعيًا، في ذلك الوقت. فجميع النبلاء كانوا يتمتعون بامتيازات، شرفية واقتصادية وضرائبية، مثل حمل السيف، مقعد خاص في الكنيسة، قطع الرأس في حالة الاعدام بدل الشنق، حق استخدام سخرة الطرق، حق الصيد، احتكار الحصول على الرتب العالية في الجيش، وعلى المناصب الرفيعة في الكنيسة، والوظائف العليا في القضاء، وجباية الإتاوات الإقطاعية من القرويين.
على الرغم من تلك الامتيازات المشتركة بين كل النبلاء، إلا أنه كان هناك تفاوت بين الشرائح المختلفة لهذه الطبقة، جعلت مصالحها متناقضة، في أغلب الأحيان، بل زاد ذلك من ضعفها، وعدم تماسكها، في مواجهة البرجوازية، التي نجحت في استقطاب جزء منها، لصالح مشروعها الثوري، وقد انقسمت هذه الطبقة إلى شرائح متعددة فكان هناك:
أ- نبلاء البلاط: وهم النبلاء الذين يعيشون داخل بلاط الملكي، على الهبات التي يقدمها لهم الملك بسخاء، وعلى الأجور العسكرية، والأموال التي يجنونها، من وراء ممتلكاتهم الضخمة.
ب- نبلاء السيف: وهؤلاء هم كبار رجال الجيش، الذين أصدر الملك قرار في عام 1781 بعدم حمل هذا اللقب، إلا لمن ثبت أنه حمل أربعة درجات من النبل بشكل متتالي.
جـ نبلاء الرداء: وهؤلاء كانوا يتمتعون بالوظائف الإدارية العليا في الدولة، وعلى الأخص الوظائف القضائية، التي كانوا يتوارثونها، أبًا عن جد، وقد كانوا على خلاف ظاهري دائم، مع النظام الملكي الإقطاعي، وخاصة مع شريحة نبلاء البلاط، ولكنهم في الوقت ذاته يعارضون أي إصلاح يمكن أن ينال من الامتيازات التي يتمتعون بها.
د- نبلاء الأقاليم: وهم الذين يعيشون في الأرياف، على الضرائب التي يحصلون عليها من القرووين، والتي كانت تدر أموالاً هزيلة، مما كان يضطرهم إلى التمسك بهذه الضرائب بشكل صارم، وهو ما كان يعزز كراهية القرووين لهم، بقدر كراهيتهم هم أنفسهم لنبلاء البلاط وللبرجوازية، بسبب الثروات التي يكدسونها.
2- رجال الدين )الإكليروس)
وهؤلاء كان عددهم حوالي 120ألف شخص، وكان المصدرين الرئيسيين لقوتهم الإقتصادية؛ العقارات التي تملكها الكنائس والأديرة، والتي كانت تدر دخلاً سنويا، قُدر بحوالى 130 مليون ليرة عام 1789، بالإضافة إلى احتكارهم لأحد أنواع الضرائب الباهظة، المفروضة على كافة الطبقات، بما فيها طبقة النبلاء، والتي كانت تسمى بضريبة العُشر، حيث كانت هذه الضريبة تدر دخلاً يساوي، من 100: 120 مليون ليرة سنويًا.
وكان اللقب الإكليريكى وظيفة، أكثر منه رتبة دينية، وكان الإكليروس ينقسم إلى أغنياء وفقراء، الأغنياء يتولون مناصب الأساقفة ورؤساء الأديرة والكهنة، وكان أغلب هؤلاء ينتمون في الأصل إلى طبقة النبلاء، أما عامة الإكليروس الذين كانوا يسمون بـ"الرعاع الكنسى"، أو"الخوارنة"، فهؤلاء كانوا ينتمون الى الطبقة الثالثة، ويعانون نفس آلامها وهمومها وتطلعاتها.
3- البرجوازية:
البرجوازية هي تلك الطبقة التي تشكلت من كبار التجار، ورجال البنوك، والصناعة الوليدة، والشرائح العليا من المهنيين؛ مثل رجال القانون، واستمرت في تكديس الثروات الهائلة طوال القرن الثامن عشر، على الرغم من أن الصناعة كانت جنينية، تعتمد بالأساس على الورش الحرفية الصغيرة، ذات الآلات البدائية، التي تنتج إنتاجًا صغيرًا، يعمل البرجوازيون على تجميعه من هذه الورش، للتجارة به، وكان النظام الملكي الإقطاعي يعيق تطلعاتها إلى تطوير الصناعة، وحرية المنافسة الاقتصادية. على الرغم من أنها الطبقة الأقوى اقتصاديًا في المجتمع، فإنها في الوقت ذاته، لا تملك القوة السياسية، اللازمة للإطاحة بالنظام الملكي، إلا أنها تتلاقى مع جماهير القرويين والحرفيين والكادحين عمومًا، في تضرر كلٍ منهم من النظام القائم، ورغبتهما المشتركة في الإطاحة به ، فضلا عن أن البرجوازيين كانوا الحماة الحقيقيين للفلاسفة، الذين كانوا ينتقدون السلطة الثيوقراطية الدينية للكنيسة، ولذلك أدخلت البرجوازية ضمن تصنيف الطبقة الثالثة، لأنها هي التي قادت ثورة جميع فئات هذه الطبقة في عام 1789 ضد النظام الإقطاعي.
4- أجراء المدن:
كان نظام الإنتاج في المدن الفرنسية، عشية الثورة، يعتمد في أغلبه على الورش الصغيرة، التي يعمل بها عدد من العمال، ويملكها حرفي، يبيع إنتاجه مع أقرانه للتجار البرجوازيين الكبار، مع الوضع في الاعتبار، وجود بعض المصانع الكبيرة نسبيًا في باريس، بالمقارنة لمجمل النشاط الصناعي، وكان يوم العمل في هذه الورش والمصانع يمتد من الفجر حتى الليل، وكانت الأزمة الرئيسية، التي تعاني منها هذه الطبقة، هي التناقض بين الارتفاع الإسمى للأجور، وتضاؤل القدرة الشرائية للنقود، وعدم قدرة الاقتصاد الفرنسي على المنافسة التجارية بسبب نمط الانتاج التقليدي، الذي يعتمد على أدوات بدائية في الزراعة، ويفرض ضرائب باهظة على البرجوازيين التجار، وهو ما كان يدفع ثمنه هؤلاء الأجراء، وقد انعكس تحميل هؤلاء الأجراء ثمن أزمة النظام الإقطاعي، على مستوى معيشتهم، الذي ازداد بؤسًا بشكل غير مسبوق عشية الثورة، ولذلك استمر الخبز هو المطلب الرئيسى لهذه الطبقة، وفي 28 أبريل 1789، انفجرت أول مظاهرة عمالية في باريس، تعبيرًا عن هذا الوضع، ضد إثنين من أصحاب مصانع الورق، بسبب إطلاقهم لتصريحات شفهية، في أثناء حضورهما لاجتماع في إحدى الجمعيات الإنتخابية، تتضمن أن العمال يعيشون حياة سهلة
ولم يكن الحرفيين، أصحاب الورش الصغيرة أنفسهم، أفضل حالاً من العمال الذين يعملون لديهم، بل أنهم كانوا، بشكلٍ أو بآخر، أُجراء لدى البرجوازية التجارية الكبيرة، وفضلاً عما سبق، كان أغلب الأجراء في المدن من أصل قروي، وهو ما زاد من كراهيتهم لطبقة النبلاء، بسبب امتيازاتهم وغناهم العقاري الفاحش، الذي كان يراه هؤلاء الأجراء عن قرب، في محيط القرية الضيق، قبل انتقالهم إلى المدن.
5- القرويون:
استمرت فرنسا، حتى نهاية النظام الإقطاعي، بلدًا ريفيًا في جوهره، يسيطر الإنتاج الزراعي فيه، على أغلب النشاط الاقتصادي، فضلاً عن أن عدد القرويين في فرنسا عام 1789، بلغ 20 مليون نسمة تقريبًا، من مجموع السكان الذي قدر في ذات العام بـ25 مليون نسمة، وكان العشرون مليون قرويا، يملكون 35% من الأراضى الزراعية، في حين كان النبلاء والكنيسة يملكون 65 % منها، كانت الأغلبية العظمى من القرويين من الأجراء وصغار الملاك، والأقلية من أصحاب الملكيات المتوسطة.
على الرغم من اتحاد القرويون، في كراهيتهم للنظام الاقطاعي، إلا أن التناقض في الملكية بين الملاك والأجراء، وانقسام الأجراء أنفسهم إلى عبيد وأحرار، خلق تنوع في مصالح كل شريحة من شرائح هذه الطبقة على حدة، وكانت المعضلة الرئيسية التي تواجهها طبقة القرويين، هي سياسة الدولة الإقطاعية، تجاه الزراعة والقرويين، حيث كانت أغلب أنواع الضرائب تجبى من هذه الطبقة، وكانت أعبائهم ثقيلة، بقدر ما كان الاقتصاد القروي قديمًا ومتخلفًا، وكان المطلبان الرئيسيان للقرويين، هما: إلغاء الحقوق الإقطاعية المقررة للنبلاء وللكنيسة وللأسياد، ومسألة ملكية الأرض، حيث كان الإتجاه الأغلب في وسط القرويين هو تمكين عديمي الملكية من تملك الأرض، وزيادة حجم الملكية، بالنسبة لصغار الملاك.
ثانيا : الدولة الإقطاعية ومؤسساتها:
كان أكثر ما تتسم به آلية عمل مؤسسات الدولة الإقطاعية، قبيل الثورة، هو انفصالها عن الوضع السياسي– الإجتماعي العام، وسيطرة الفوضى، وعدم التنظيم الإداري على هذه المؤسسات جميعها، والتناقض الصارخ بين الأسلوب القديم في إدارة الدولة، وعلاقتها بالجماهير، وبين النظام الجديد، الذي بدأ يشق لنفسه طريقًا، وسط عفن النظام القديم.
1- الملك :
كانت سلطة الملك سلطة مطلقة، حيث كان يعلن عن نفسه في كل المناسبات الرسمية، بصفته ممثلاً لله، وكان يتم تنصيبه، من قبل رئيس الأساقفة، وسط مجموعة من الطقوس الدينية، قائلا له " كن مباركا، وقم ملكًا في هذه المملكة، لأن الله أعطاك أن تقودها" ، كما كانت سلطة الملك واحدة، لا تتجزأ، ولا تمنح لشخص، أو مؤسسة أخرى غيره، وكل المؤسسات الأخرى، مثل المجالس الإستشارية، والهيئات العليا، والمجالس الإقليمية، ليست سوى مؤسسات إستشارية، كما كان الملك مصدرًا للعدل، فهو الذي يصدر القوانين وليس ملزمًا بالقوانين التي أصدرها أسلافه من الملوك، وله الحق في التدخل في جميع الدعاوى القضائية بلا استثناء، وله أيضا الاعتراض على جميع أحكام القضاء، وإعادة الأفراد للمحاكمة مرة أخرى، بعد إنتهاء محاكماتهم أمام القضاء، وهو مصدر لكل سلطة إدارية في فرنسا، فمن حقه وحده إدارة كل قضايا المملكة، وله تفويض مؤسسات أخرى في ذلك، وهو المنوط بوضع ميزانية الدولة، وتحديد أوجه الإنفاق، لأنه "السيد في توزيع أمواله"، وهو، أخيرًا، مصدر الحرب والسلام، هو القائد الأعلى للجيش، والمسئول عن السياسة الخارجية للبلاد، وقد أسس لهذا الاتجاه، المتناقض تماما مع المتغيرات، التي تحدث على أرض الواقع، "لويس الخامس عشر"، والذي أعلن ذلك في البرلمان في عام 1766، قائلاً " في شخصي وحده تستقر السلطة العليا ،وإليّ وحدي تعود السلطة التشريعية، دون ارتباط ولا مشاركة، وعنّي يصدر النظام العام كله، وحقوق الأمة ومصالحها، هي بالضرورة متحدة مع حقوقى ومصالحى ولا تستريح إلا بين يدى "
2 ـ الكنيسة :
كانت وظيفة الكنيسة الرئيسية قبل الثورة الفرنسية، هي تدعيم ممارسات الحكم المطلق وتثبيت دعائمه، على جثث الجماهير، من خلال تطويعها لكافة النصوص الدينية، لخدمة مصالح الملك والنبلاء ، ولم يكن لها أن تلعب هذا الدور دون أن تواجه تطلعات البرجوازية من خلال هجومها الضاري على الفلاسفة التنويريين، الذين أسسوا لاتجاه فكري، يدافع عن فكرة الحرية الفردية وينتقد نظام الحكم المطلق ، كما أن رجال الدين كما أوضحنا سابقًا كانوا يتمتعون بامتيازات مالية كثيرة " الهبات ، الضرائب ، الملكيات العقارية " وهو ما جعل منهم طبقة تتسق مصالحها مع مصالح الملك والأرستقراطية بوجه عام ، لذا كانت الكنيسة إحدى مستهدفات الثورة الفرنسية ، وبالفعل نجحت الثورة في القضاء على سلطتها .
3- الحكومة :
في أخر شكل للحكم المطلق في فرنسا كانت الحكومة تؤلف من وزارة تحوى حامل أختام الملك وأربعة أمناء سر للدولة ومراقب المالية العام ولم يكن هناك رئيسًا للوزراء ، وكان حامل أختام الملك هو في نفس الوقت رئيس القضاء والمسئول عن التشريع الملكى كما كان غير خاضع للإقالة إلا بسبب فقدانه لرضا الملك عنه ، وأمناء السر الأربعة الأول هو أمين سر الدولة لشئون الحرب والثانى لشئون البحرية ويختص أيضا بشئون المستعمرات والثالث للشئون الخارجية والرابع لشئون بيت الملك ، وكانت الشئون الداخلية للبلاد موزعة على أمناء السر الأربعة وكان مراقب المالية العام وزيرًا للإدارة والزراعة والصناعة والتجارة والجسور والطرق ، كما كان هناك مجموعة من المؤسسات المحلية مثل المجالس الإقليمية ، ولكن أفرغت هذه المؤسسات من مضمونها أمام تركيز السلطات في يد موظفي الحكم الملكى المطلق، هذا فضلا عن أن القرن الثامن عشر في فرنسا شهد سن مجموعة من القوانين التي تسمح ببيع الوظائف وتوارثها .
4 ـ القضاء .
كان الملك هو قاضى المملكة الأكبر وممارسة المحاكم للقضاء تتم بتفويض مباشر منه ، وكان هناك محكمة واحدة في باريس وإثنى عشر محكمة إقليمية ، كما كانت الوظائف القضائية كغيرها من الوظائف قابلة للبيع ، وهو ما كان يتعذر معه على الملك أحيانًا إقالة بعض القضاة ، حيث لا يجوز له إقالة قاضى إشترى هذه الوظيفة بماله دون أن يعيد له هذا المال ، وقد نجم عن ظاهرة بيع الوظائف القضائية ظاهرة أخرى أكثر غرابة وهي ظاهرة الهدايا التي يقدمها المتقاضون للقضاة، من أجل النظر في شكواهم، ولان أجور القضاة كانت لا تتناسب مع الثمن الذي يشترون به هذه الوظيفة، زاد الميل إلى إستبدال الهدايا العينية، بأموال نقدية أصبحت إجبارية مع الوقت، وهو ما أدى إلى أن أصبح اللجوء إلى القضاء، في متناول الأغنياء فقط.
5- نظام الضرائب :
كانت الضرائب حقًا للملك وللنبلاء وللكنيسة، وكان هذا الحق ينزع من النبلاء بمقدار ما كانت سلطة الملك تقوى وتشتد، وكان هناك نوعين من الضرائب؛ النوع الأول هو الضرائب المباشرة، مثل ضريبة الرأس(الضريبة على الدخل)، والتي كانت تُفرض على جميع الأفراد، ويتم تحصيلها بشكل جماعي، عن طريق تحديد نسبة كل مقاطعة سنويًا، وعلى سكان هذه المقاطعة التضامن فيما بينهم، لجمع المبلغ المطلوب.
وفي كل مرة تشتد أزمة النظام الاقتصادية، يلجأ الملك إلى زيادة ضريبة الدخل على الطبقة الثالثة، لمصلحة النبلاء والكنيسة. كما كانت هناك ضريبة العشر، التي تفرض على جميع الأملاك العقارية، أيًا كانت قيمتها، دون تفرقة بين الملكيات الكبيرة، والملكيات الصغيرة.
أما النوع الثاني من الضرائب، فهو الضرائب غير المباشرة، وهذا النوع من الضرائب، كان يفرض على بعض السلع الاستهلاكية، ويعفي منه النبلاء والإكليروس. وأغرب ما كان يميز نظام الضرائب في فرنسا، عشية الثورة، هو أن حق تحصيل الضرائب كان قابلاً للبيع، والتنازل من قبل الملك، بالإضافة إلى اللامساواة في التحصيل، وسوء الجباية وتبذير البلاط، وكثرة الحروب، فضلاً عن أن طريقة تحديد الضرائب، وتحصيلها، فتحت بابًا واسعا أمام الفساد المالي، الذي كان أحد الأسباب المباشرة للثورة.
بدت مؤسسات الدولة، قبيل الثورة، ضعيفة ومهترئة بشدة، والنظام الإداري شديد التعقيد، ومنفصل عن الواقع، وينخره الفساد في شتى جوانبه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بدأت مؤسسات جديدة تظهر، لتتراكم فوق المؤسسات القديمة، وهوما أضعف قدرة النظام القديم على التصدي لهبوب الثورة في 1789.
ثالثا : إنقسام السلطة ومقدمات الثورة :
تراكمت أزمات النظام الاقطاعي، خلال الأعوام التي سبقت الثورة، بسبب عدم كفاءة نظام الحكم، على المستويين الاقتصادي والسياسي، ومقاومة الأرستقراطية بشدة، لكل محاولات إصلاح النظام من الداخل، التي تنتقص من امتيازاتها، وفي نفس الحين، رغبتها الشديدة في إيجاد وسيلة لتحسين وضعها الاجتماعي، الذي تردى بسبب ضعف النظام القديم، وعدم قدرته على الاستجابة لمتطلباتها الاقتصادية والسياسية. أخيرًا، والأهم، عدم قدرة الجماهير على المزيد من دفع ثمن أزمة النظام، الذي استمر في حل أزماته طيلة الوقت، من خلال مزيد من الضرائب، وزيادة عدد ساعات العمل، وتقليص الأجور، وغيرها من الوسائل.
الأزمة الاقتصادية :
في عام 1788، ارتفعت النفقات العامة إلى 629 مليون ليرة، في حين كانت الإيرادات العامة 503 مليون ليرة، فبلغ العجز تقريبًا 126 مليون ليرة، أي 20% من النفقات. ومن الشواهد على التناقض في توزيع النفقات العامة، هو حصول التعليم والمساعدات الاجتماعية، على 12 مليون ليرة، أي أقل من 2% من النفقات، وتخصيص 136 مليون ليرة، لامتيازات الطبقة الأرستقراطية و 46 مليون ليرة، يتقاضها 12000 ضابط بالجيش، في حين يتقاضى الجيش كله أقل من ذلك بكثير، كما اعتمد النظام على القروض المالية الضخمة، لسد العجز بين النفقات والإيرادات، وهو ما أغرقه في ديون هائلة، عجز عن سدادها، وكانت أسباب العجز الاقتصادي متعددة، ولكن كان على رأس هذه الأسباب، تبذير البلاط الملكي، ومنحه المالية والعينية، التي لا تنتهي للنبلاء، وفي عام 1789، بلغت الديون حوالي خمسة مليارات ليرة، في حين كان النقد المتداول لا يزيد عن مليارين ونصف المليار ليرة، كما انخفضت القدرة الشرائية للنقود، وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وبدا من المستحيل زيادة الضرائب أكثر من ذلك، وكان الحل الوحيد لتأجيل الثورة، على الأقل، هو المساواة في تحصيل الضرائب، وإلغاء إعفاء النبلاء منها، وهو ما لاقى معارضة شرسة من النبلاء أنفسهم، وصلت إلى حد تدبير مؤامرات، للإطاحة بكل وزير يجرؤ على طرح مثل هذه الإجراءات، للخروج من الأزمة.
2- الأزمة السياسية :
انعكست الأزمة الاقتصادية بشكل مباشر على النظام السياسي، وقد برز تأثر النظام السياسي بهذه الأزمة على الأخص، في عام 1787، وذلك على الرغم من وجود محاولات للإصلاح الإقتصادي والإداري، عن طريق دفع عجلة الإنتاج، بتحرير تجارة الحبوب، وإزالة الجمارك الداخلية وتوحيد السوق القومية، على مستوى أسعار السلع، وإلغاء عدد من الحقوق على بعض السلع الهامة، التي تعيق تسويقها، مثل حق الماركة على منتجات الحديد، وتوحيد الضرائب على كافة الطبقات، دون إعفاء منها، وإشراك رعايا الملك في إدارة المملكة، وتفعيل دور المجالس الإقليمية.
ولكن الأرستقراطية واجهت هذه المحاولات، بالتشبث أكثر بامتيازاتها، وتحفظت البرجوازية عليها، كنوع من المزايدة على الملك "لويس السادس عشر"، وظل الرأي العام غير مبال بها. ولكن نتيجة لتأزم الوضع اضطر الملك الدفاع عن تلك الإجراءات. وقد عارضت محكمة باريس، التي يمثل جناح منها الأرستقراطية، ويمثل الجناح الآخر البرجوازية، هذه الإجراءات مستخدمة في ذلك سلاح انتقاد الحكم المطلق، فأجبرها الملك على تسجيل هذه الإجراءات بقانون، وبالفعل سجلتها المحكمة، ولكن ألغت التسجيل في اليوم التالي، واعتبرته غير قانوني، وهو ما اعتبره الملك تمردًا ضده، فقام بنفي القائمين عليها من القضاة وأمر بإنشاء "محكمة القاضي الأكبر"، في عام 1788، والتي كان الهدف منها مركزة قطاع القضاة، لتيسير السيطرة عليه، باعتباره من أكثر القطاعات تأثيرًا في جهاز الدولة.
كانت هذه هي الشرارة التي أشعلت المؤسسة السياسية بأكملها، فأضرب القضاة عن العمل، وجذبوا إليهم قطاع هام من نبلاء الرداء، الحائزين، على الوظائف العليا في الدولة، والبرجوازيين، الذين يعانون من عدم قدرة النظام الملكي على إيجاد حلول، لأزمة النظام المهدد بالانهيار، ثم تبعهم نبلاء السيف، ونبلاء الكنيسة، وبدأت المظاهرات تنفجر في كل مكان، واستطاع نبلاء الأقاليم إشعال ثورة القرويين، الذين بدأوا في مهاجمة مقرات وكلاء الملك في الأقاليم، وقد واجه الملك هذه التحركات بالجيش، لكنه لم ينجح في السيطرة عليها، عن طريق القمع.
وكانت أكثر الأحداث اتساعًا في إقليم "الدوفينه "وكانت البرجوازية على رأس الحركة في هذا الإقليم، الذي يتميز بالتقدم الصناعي النسبي، عن غيره من الأقاليم، وفي 8 مايو 1788، أحيل قضاة محكمة غرينوبل إلى التقاعد، وأغلقت المحكمة، لكنهم اجتمعوا في 29 مايو 1788، فأصدر حاكم الإقليم أمرًا بنفيهم، وفي اليوم المحدد لترحيلهم، ثارت جماهير الإقليم، بتحريض من مساعدي القضاة، واحتلوا مداخل ومخارج المدينة، وصعدوا إلى أسطح المنازل، وأخذوا يلقون دوريات الحراسة بالحجارة، مما أجبر حاكم الإقليم على إعادة الجيوش إلى ثكناتها، وفي النهاية، استجاب القضاة لتنفيذ أمر النفي، بناء على مفاوضات مع الملك، ولكن بعد أن سجلوا مقدمة اضطراب ثوري، في عدد من الأقاليم، وخاصة إقليم الدوفينة، الذي شهد بعد أسابيع قليلة من الاضطراب، اجتماع ضم 9 من رجال الكنيسة و 33 نبيلًا و 59 عضوًا من البرجوازية، خاصة من رجال القانون، وتبنى الاجتماع قرار يطالب بعودة القضاة المنفيون إلى وظائفهم، ودعوة مجالس الأقاليم التي تتشكل من النبلاء، ورجال الدين إلى الاجتماع، مع دعوة ممثلين من الطبقة الثالثة إلى المشاركة، على أن يساوى عددهم عدد أعضاء المجلس من رجال الدين والنبلاء مجتمعين، عن طريق الانتخاب الحر وأخيرًا، الدعوة إلى انعقاد المجالس العامة، على مستوى فرنسا. وكان أكثر ما تتسم به هذه المبادرات، أنها كانت تستبعد الأجراء والقرويين، في الوقت الذي ترتمي فيه في أحضان البرجوازية .
رابعا :بداية الثورة الجماهيرية 1789 :
لقد كان عام 1788، ذروة الانحطاط للنظام الملكي، الذي فقد كل مبررات وجوده، وازدادت الهوة الفاصلة بينه وبين المجتمع، وقد زاد من ذلك، ما عُرف بأزمة الحبوب، التي عصفت بالزراعة والتجارة، في ذات العام، وانعكس ذلك على أرباح البرجوازيين، بشكل مدمر وهو ما قلص قدرتهم على احتمال الوضع القائم، فمن ناحية الأزمة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى، تعدد الضرائب المرهقة لهم، والامتيازات غير المبررة للنبلاء ورجال الكنيسة وحاشية الملك، وهو ما انعكس بدوره على الجماهير الشعبية من الأجراء والقرويين، الذين استنفرتهم تلك الأوضاع غير المحتملة، ولكن لخدمة ثورة البرجوازية، على النظام الاقطاعى ومؤسساته.
وقد عزز فرص قيام الثورة أن أصبحت الحدود الطبقية واضحة، بشكل صارم لا لبس فيه، حيث بات واضحًا أن هناك نظامًا اجتماعيًا، يتشبث بمؤسساته وطرقه القديمة في الحكم، في مواجهة البرجوازية، التي تتبنى مشروعًا اجتماعيًا جديدًا، وتتمتع بنضجٍ فكريٍ، خاصةً على المستوى الاقتصادي.
كان هذا التناقض، هو ما دفع النظام الملكي إلى الانزلاق، من تنازل إلى تنازل، منجرفًا في تيار الأحداث، بدلا من السيطرة عليها، وهو ما مهد الطريق أمام الثورة الشعبية، فعدم قدرة الملك على احتواء الأرستقراطية المتمردة ضده، وقمع البرجوازية، التي تريد الإطاحة به، جعله يضع الأزمة السياسية كمهمة ملحة، يجب حلها، فدعا إلى انعقاد المجالس العامة، وإلى تمثيل الطبقة الثالثة في الانتخابات، بعدد ممثلين يساوى ممثلين رجال الدين والنبلاء مجتمعين، وبدأت حرية الصحافة تأخذ مجراها، وتحولت المقاهي إلى مراكز للإضطراب السياسي.
ولكن، حتى ذلك الوقت، كان زمام الحركة في يد تحالف، مكون من البرجوازية والخوارنة(فقراء رجال الدين)، وبعض النبلاء المتأثرين بأفكار البرجوازية، ولم يكن شعب المدن والأرياف العرمرم قد دخل إلى حلبة الصراع بعد، ولكن البرجوازية استغلت فرصة انشغال النظام الملكي، في محاولاته للإصلاح السياسي، وإهماله التدخل في الأزمة الاقتصادية، التي كانت قد تفاقمت، وبدأت في استنفار الجماهير، ضد تدنى مستوى المعيشة، وارتفاع الأسعار، وانخفاض القدرة الشرائية للنقود، وانهيار المحاصيل الزراعية الأساسية، مثل الكروم وازدياد معدلات البطالة.
وقد وجه فقراء المدن والأرياف غضبهم إلى المستفيدين الرئيسيين من الضرائب، التي تُجبى منهم، وإلى أسياد الأرض، وإلى التجار الذين يضاربون بالحبوب، ومع ربيع 1789، بدأت الجماهير تطالب بالمصادرة، ووضع تسعيرة جبرية للسلع الرئيسية، تزامن ذلك مع عقد المؤتمر الوطني في يوليو 1789، ذلك المؤتمر الذي كانت البرجوازية، ومن التف حولها من النبلاء ورجال الدين، يريدون من خلاله كسر قبضة الحكم المطلق، وإعطاء مساحة أوسع للاشتراك مع الملك في الحكم، وكانت هذه التطلعات تلقى استجابة لدى جماهير الأجراء والقرويين.
في 14 يوليو، يوم انعقاد المؤتمر، حاصر الملك المؤتمر بحوالى عشرين ألفا، من رجال الجيش، تحت دعوى مواجهة التمردات، أو اتقاء حدوثها، لكن ما استفز الجماهير أكثر، عزل الملك لـ"نيكر"، وزير الدولة للمالية، والمعروف بتوجهاته المنحازة إلى المؤتمر الوطني، في حدودها التي لا تتجاوز الانقسام الطبقي في المجتمع، وعيّن بدلا منه أحد الوزراء الرجعيين، المعاديين للتغيير بشدة، وهو "البارون دي بروتيل"
كان لعزل "نيكر" وقعًا كارثيًا لدى الجماهير، إذ انتشر الشعور العام بأن كل التنازلات السياسية، التي قدمها الملك، لم تكن إلا محاولة لخداعهم ببعض الفتات، وردًا على ذلك اجتمع أصحاب البنوك من البرجوازية، وقرروا إغلاق البورصة، وأُغلقت المسارح، وبدأت الاجتماعات والمظاهرات، واصطدمت إحدى المظاهرات بقوة من قوات الشرطة، التي سحقتها المظاهرة، واستولى المتظاهرون على مخزن سلاحها. لخوف البرجوازية أن ينقلب هذا التمرد ضدها، شكلت مجموعات، تتكون كل مجموعة من 200 فرد، من القادرين على حمل السلاح، لتأمين السلامة العامة، ليس فقط ضد محاولات الملك وجيشه البطش بها، ولكن أيضا لتأمين الملاك ضد أي تمردات اجتماعية، تهدد ملكياتهم.
لكن هذا التصرف استثار الجماهير أكثر، وفي 14 يوليو بدأت المطالبات بالتسليح العام للشعب وبدأ عمال الحديد يصنعون الحراب، والجماهير تبحث عن الأسلحة في كل مكان، وتوجهت مسيرة جماهيرية إلى أحد مخازن السلاح الكبرى، واستولت على 32000 بندقية، ثم تابعت الجماهير مسيرتها، حتى وصلت سجن الباستيل الشهير، والذي كان يعتبر أحد رموز الحكم المطلق، ذلك السجن الذي مثل اقتحامه تحديًا صعبًا أمام الجماهير، بجدرانه التي يبلغ ارتفاعها 30 مترًا، وبخنادق المياه العميقة والمتسعة المحيطة به، وبحراسه من مشوهي الحروب.
لكن تدخل البرجوازية بإحضارها عدة مدافع، لمساندة الجماهير، أجبر حاكم الباستيل على الاستسلام، فأنزل الجسر المتحرك، وعبرت الحشود الهادرة خنادق المياه من خلال هذا الجسر، واستولت على السجن، وهو ما كان له بالغ الأثر في إعمال الفزع في قلب الملك وحاشيته، مما دفعه لتقديم تنازلات أكثر للبرجوازية، فتنازل لها ضمنيًا عن إدارة العاصمة باريس وأعاد نيكر إلى وزارة المالية واعترف القانون بحكم البرجوازية للعاصمة، وشكلت قوات جديدة تحت قيادة البرجوازية، سميت بالحرس القومي، وأُبعد الجيش عن العاصمة، واستطاعت البرجوازية أن تنتزع من الملك اعترافًا رسميًا بأن وجودها، ومشاركتها في الحكم أمرًا واقعًا، وذلك بإجباره على الحضور يوم 17 يوليو 1789، إلى باريس، وإلقاء خطاب متحشرج من هول الصدمة والعجز، أمام البرجوازية، انتهى فيه إلى أن هذا العصر هو عصر التحالف، بين الشعب والملك، مختتمًا خطابه قائلاً وهو يكاد يبكي: "يستطيع شعبي أن يعتمد دائما على حبي".
بعد هذا الخطاب عملت البرجوازية على تفكيك ما تبقى من أجهزة ومؤسسات الدولة القديمة، واستبدالها بمؤسسات شعبية جديدة، ففي المدن تم تشكيل لجان البلديات، إلى جانب لجان الحرس القومي. انتشرت هذه اللجان بسرعة شديدة، لتوقف نشاط جباية الضرائب، وتستبدل المركزية باللامركزية، حتى تبخرت السلطة الملكية تقريبًا، وترك جميع وكلاء الملك مراكزهم، ومن الأمور الجوهرية، التي رسخت ذلك الوضع الثوري، ودفعته أكثر إلى الأمام، الأزمة الاقتصادية بما استتبعته، من استمرار التمردات الشعبية، احتجاجًا على ارتفاع سعر الخبز، تحديدًا، والخوف من مؤامرات الأرستقراطية ضد الثورة، والشعور العام بالخطر من التدخل العسكري الأجنبي.
هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى انفجار الوضع في المدن والأرياف، فبدأت تتصاعد حوادث اقتحام قصور النبلاء والأسياد، والاستيلاء على صكوك الملكية، وحرق الأوراق الثبوتية الخاصة بالألقاب الحاصلين عليها، وفي القصور التي كان أصحابها يرفضون تسليم أوراقهم، كانت الجماهير تقوم بحرق القصر، وإعدام أصحابه، وانتقلت بلديات المدن والحرس القومي إلى الأرياف. وأعطت البرجوازية الشرعية للتمرد الشعبي، من خلال اجتماع المجلس الوطني، في 4 أغسطس 1789، الذي سدد الضربة القاضية للنظام القديم برمته، من خلال مجموعة من القرارات، تضمنت إلغاء امتيازات الطبقات، وإلغاء ضريبة العشر للاكليروس، وكافة الضرائب الاستعبادية الأخرى، وكان هدف هذه القرارات، ليس فقط القضاء على النظام القديم نهائيا، بل الأهم من ذلك، استيعاب قلق الجماهير، وإعطائها عربونًا لسعادتها قبل أن يتحول تمردها ضد البرجوازية.
لكن رفض الملك هذه القرارات، وتزامن ذلك مع محاولات إعادة تنظيم صفوف الجيش مرة أخرى، وبدا واضحًا أن هناك محاولات جادة للقيام بثورة مضادة، من قبل الملك والأرستقراطية، مما استنفر الجماهير مرة ثانية، ففي 5 أكتوبر 1789، انطلقت جموع من النساء في اتجاه قصر البلدية، بحي سان أنطوان، للمطالبة بالخبز وكان عددهن من ستة إلى سبعة آلاف امرأة، وعندما لم يجدن استجابة لمطلبهن، توجهن إلى مدينة فرساي، مقر إقامة الملك، مطلقين صيحاتهم المدوية والمخيفة: "إلى فرساي ...إلى فرساي"، تقابلت هذه المسيرة مع مسيرة أخرى، تكونت من حوالي عشرين ألف رجل. وصلت هذه الجموع إلى قصر الملك يوم 6 أكتوبر 1789 ، اقتحمت الجماهير القصر واشتبكت مع الحرس الملكي، إلى أن جاءت قوات الحرس القومي البرجوازية، وفضت الاشتباك، وأجبرت الملك على الظهور، هو والملكة وولى العهد، من شرفة القصر والهتاف باسم الشعب، حرصًا على حياتهم، ثم تم تحديد إقامة الملك.
في ذروة الأحداث نهاية عام 1789 شكلت البرجوازية الجمعية التأسيسية الدستورية ، وكان الهدف من هذه الجمعية إعادة بناء وتجديد مؤسسات الدولة لصالحها ، وحماية مكتسباتها في مواجهة خطرين رئيسيين الخطر الأول كان أن الأرستقراطية لم تكن قد استسلمت بشكل نهائي والخطر الثاني كان في استمرار التمرد الجماهيري ضد ارتفاع الأسعار واستعجالا للنتائج المباشرة للثورة ، هذا فضلا عن رغبة البرجوازية في وضع حدود لهذه الثورة التي لا تريد أن تنتهي عن طريق إشراك النبلاء في الحكم ولكن بشروط البرجوازية وبما يحقق مصالحها.
بدأت اجتماعات الجمعية تنتظم، وتُجرى مناقشات يومية، بحضور الجمهور وبدأت تتحدد الاتجاهات السياسية الرئيسية داخل الجمعية التأسيسية، حتى تبلورت إلى ما سمي حينذاك، باليمين واليسار، تعبيرًا، عن الموقف من الثورة فاليمينيين هم الأرستقراطيين والملكيين، وكانوا مع الإبقاء على الامتيازات الملكية، ومع وضع حد للثورة الجماهيرية وسموا باليمينيين، لأنهم كانوا يجلسون على يمين الجمعية التأسيسية، أثناء انعقاد اجتماعاتها ، واليساريين انقسموا إلى قسمين: يساريون معتدلون، ويساريون ثوريون، وكان يمثل اليسار المعتدل الدستوريون والليبراليون، وهم ممثلو البرجوازية، الذين يريدون السيطرة على مقاليد الأمور، والتوفيق بين مصالح الجماهير الثائرة، ومصالح النبلاء ومصالحهم البرجوازية، وكانت هذه المجموعات تجلس على يسار الجمعية التأسيسية، أثناء انعقاد اجتماعاتها، وعلى يسارهم كان يجلس "اليعاقبة"، هذا التيار الذي كان يدافع عن مصالح الجماهير، ويطالب بالتصويت العام، على كل قرارات الجمعية التأسيسية، وكان أبرز رموز هذا التيار هو الثوري الفرنسي الشهير "روبسبير".
على الرغم من وجود هذه التيارات، التي كانت تنازع البرجوازية، حول الاتجاه الذي تسير فيه الثورة إلا أن الجمعية التأسيسية استمرت في إعادة بناء فرنسا، وفقًا للمبادئ التي تم الاستقرار عليها، في عام 1789، من خلال ما سمي بـ " إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، الصادر في 26 يونيو 1789، الذي ألغى القنانة "عبودية الأرض" بمادته الأولى، التي نصت على أن "الناس يولدون، ويبقون، أحرارًا ومتساوين في الحقوق"، كما حدد هذا الإعلان حقوق الإنسان الأساسية، في المادة الثانية، التي نصت على أن:"هذه الحقوق هي الحرية و الملكية والسلامة ومقاومة الاستبداد، كما حددت الحريات الأساسية، في المواد التاسعة والعاشرة، من الإعلان، وهى الحرية الفردية، والحرية الشخصية، وحرية الكلام، وحرية الكتابة والطباعة والنشر، وقد خصصت المادة 11، من الإعلان للتأكيد على أن الحريات الأساسية تتضمن حرية التملك، وتحقيق الأرباح، وأن هذه الحرية على وجه التحديد، مصونة من جانب المجتمع، ويعتبر المساس بها، اعتداء على حرية الآخرين
ولكن، لم تكن هذه نهاية المطاف للثورة الفرنسية، فقد بدأت النظم الملكية الأخرى في أوروبا في التآمر والتخطيط، لعودة النظام القديم، وظلت فلول الأرستقراطية تخطط، وتنظم للثورة المضادة، ومن جانب آخر، ظلت الجماهير تُصَعّد من مطالبها ومن تحركاتها، ضاغطة على القيادات البرجوازية. وقد شهدت الأعوام الخمس التالية لزلزال ١٧٨٩، أحداثًا وتطورات غيرت من مسار التاريخ الأوروبي، بل والعالمي
جاء عام 1789 بالثورة الفرنسية، كنتيجة حاسمة للصراع الطويل، بين طبقة النبلاء وأغنياء رجال الدين، الذين استمدوا ثرواتهم وسلطاتهم من الثروة العقارية الهائلة، وتوارث الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عن أسلافهم، من جهة، وبين ما كانت تسمى حينذاك بـ"الطبقة الثالثة"، والتي ضمت البرجوازية والفلاحين وصغار الملاك والحرفيين والأجراء والاقنان، من جهة أخرى، هذا الوضع الطبقي الذي ترسخ منذ العصور الوسطي وضع سورًا عاليًا، بين هؤلاء الذين يُصَلون والذين يحاربون،(أغنياء رجال الدين والنبلاء)، وبين أولئك الذين يعملون من أجل إعاشة الآخرين (الطبقة الثالثة باستثناء البرجوازية)، إن مصدر قوة النظام الإقطاعي على المستوى الاقتصادي، بل أيضا على مستوى السيطرة الاجتماعية، هو ملكية الأرض، حيث كان من يملكونها أسيادًا للذين يعملون فيها. ولكن مع حلول القرن الحادي عشر، وبداية نمو التجارة، والإنتاج القائم على التخصص المهني، ظهر شكلاً آخر للثروة، هو رؤوس الأموال التجارية الضخمة، التي أصبحت، مع نهايات القرن الثامن عشر، لاغني عنها لتسيير قطاعات الدولة المختلفة، وهذه الثروة خلقت معها طبقة قوية اقتصاديًا، لكنها لا تملك شيئا من القرار السياسي، الذي ظلت طبقة النبلاء محتفظة به، كجزء من امتيازاتها، كانت هذه الطبقة الجديدة هي الطبقة البرجوازية، التي تشكلت من رجال الصناعة والبنوك وكبار التجار، الذين يطمحون إلى تحرير السوق والتجارة من النظام الإقتصادي القديم، الذي عفا عليه الزمن، وإلى إعفائهم من الضرائب الباهظة والمتنوعة، التي يفرضها عليهم النظام الإقطاعي. وقد كان أن حررت الثورة الفرنسية الجماهير من نير الإقطاع، وفي الوقت ذاته، جعلت من البرجوازية سيدة العالم.
أولا : الطبقات الاجتماعية في فرنسا عشية الثورة:
1- النبلاء
شكلت هذه الطبقة حوالى 1.5 % من سكان فرنسا، عام 1789، وكانت هي الطبقة المسيطرة اجتماعيًا، في ذلك الوقت. فجميع النبلاء كانوا يتمتعون بامتيازات، شرفية واقتصادية وضرائبية، مثل حمل السيف، مقعد خاص في الكنيسة، قطع الرأس في حالة الاعدام بدل الشنق، حق استخدام سخرة الطرق، حق الصيد، احتكار الحصول على الرتب العالية في الجيش، وعلى المناصب الرفيعة في الكنيسة، والوظائف العليا في القضاء، وجباية الإتاوات الإقطاعية من القرويين.
على الرغم من تلك الامتيازات المشتركة بين كل النبلاء، إلا أنه كان هناك تفاوت بين الشرائح المختلفة لهذه الطبقة، جعلت مصالحها متناقضة، في أغلب الأحيان، بل زاد ذلك من ضعفها، وعدم تماسكها، في مواجهة البرجوازية، التي نجحت في استقطاب جزء منها، لصالح مشروعها الثوري، وقد انقسمت هذه الطبقة إلى شرائح متعددة فكان هناك:
أ- نبلاء البلاط: وهم النبلاء الذين يعيشون داخل بلاط الملكي، على الهبات التي يقدمها لهم الملك بسخاء، وعلى الأجور العسكرية، والأموال التي يجنونها، من وراء ممتلكاتهم الضخمة.
ب- نبلاء السيف: وهؤلاء هم كبار رجال الجيش، الذين أصدر الملك قرار في عام 1781 بعدم حمل هذا اللقب، إلا لمن ثبت أنه حمل أربعة درجات من النبل بشكل متتالي.
جـ نبلاء الرداء: وهؤلاء كانوا يتمتعون بالوظائف الإدارية العليا في الدولة، وعلى الأخص الوظائف القضائية، التي كانوا يتوارثونها، أبًا عن جد، وقد كانوا على خلاف ظاهري دائم، مع النظام الملكي الإقطاعي، وخاصة مع شريحة نبلاء البلاط، ولكنهم في الوقت ذاته يعارضون أي إصلاح يمكن أن ينال من الامتيازات التي يتمتعون بها.
د- نبلاء الأقاليم: وهم الذين يعيشون في الأرياف، على الضرائب التي يحصلون عليها من القرووين، والتي كانت تدر أموالاً هزيلة، مما كان يضطرهم إلى التمسك بهذه الضرائب بشكل صارم، وهو ما كان يعزز كراهية القرووين لهم، بقدر كراهيتهم هم أنفسهم لنبلاء البلاط وللبرجوازية، بسبب الثروات التي يكدسونها.
2- رجال الدين )الإكليروس)
وهؤلاء كان عددهم حوالي 120ألف شخص، وكان المصدرين الرئيسيين لقوتهم الإقتصادية؛ العقارات التي تملكها الكنائس والأديرة، والتي كانت تدر دخلاً سنويا، قُدر بحوالى 130 مليون ليرة عام 1789، بالإضافة إلى احتكارهم لأحد أنواع الضرائب الباهظة، المفروضة على كافة الطبقات، بما فيها طبقة النبلاء، والتي كانت تسمى بضريبة العُشر، حيث كانت هذه الضريبة تدر دخلاً يساوي، من 100: 120 مليون ليرة سنويًا.
وكان اللقب الإكليريكى وظيفة، أكثر منه رتبة دينية، وكان الإكليروس ينقسم إلى أغنياء وفقراء، الأغنياء يتولون مناصب الأساقفة ورؤساء الأديرة والكهنة، وكان أغلب هؤلاء ينتمون في الأصل إلى طبقة النبلاء، أما عامة الإكليروس الذين كانوا يسمون بـ"الرعاع الكنسى"، أو"الخوارنة"، فهؤلاء كانوا ينتمون الى الطبقة الثالثة، ويعانون نفس آلامها وهمومها وتطلعاتها.
3- البرجوازية:
البرجوازية هي تلك الطبقة التي تشكلت من كبار التجار، ورجال البنوك، والصناعة الوليدة، والشرائح العليا من المهنيين؛ مثل رجال القانون، واستمرت في تكديس الثروات الهائلة طوال القرن الثامن عشر، على الرغم من أن الصناعة كانت جنينية، تعتمد بالأساس على الورش الحرفية الصغيرة، ذات الآلات البدائية، التي تنتج إنتاجًا صغيرًا، يعمل البرجوازيون على تجميعه من هذه الورش، للتجارة به، وكان النظام الملكي الإقطاعي يعيق تطلعاتها إلى تطوير الصناعة، وحرية المنافسة الاقتصادية. على الرغم من أنها الطبقة الأقوى اقتصاديًا في المجتمع، فإنها في الوقت ذاته، لا تملك القوة السياسية، اللازمة للإطاحة بالنظام الملكي، إلا أنها تتلاقى مع جماهير القرويين والحرفيين والكادحين عمومًا، في تضرر كلٍ منهم من النظام القائم، ورغبتهما المشتركة في الإطاحة به ، فضلا عن أن البرجوازيين كانوا الحماة الحقيقيين للفلاسفة، الذين كانوا ينتقدون السلطة الثيوقراطية الدينية للكنيسة، ولذلك أدخلت البرجوازية ضمن تصنيف الطبقة الثالثة، لأنها هي التي قادت ثورة جميع فئات هذه الطبقة في عام 1789 ضد النظام الإقطاعي.
4- أجراء المدن:
كان نظام الإنتاج في المدن الفرنسية، عشية الثورة، يعتمد في أغلبه على الورش الصغيرة، التي يعمل بها عدد من العمال، ويملكها حرفي، يبيع إنتاجه مع أقرانه للتجار البرجوازيين الكبار، مع الوضع في الاعتبار، وجود بعض المصانع الكبيرة نسبيًا في باريس، بالمقارنة لمجمل النشاط الصناعي، وكان يوم العمل في هذه الورش والمصانع يمتد من الفجر حتى الليل، وكانت الأزمة الرئيسية، التي تعاني منها هذه الطبقة، هي التناقض بين الارتفاع الإسمى للأجور، وتضاؤل القدرة الشرائية للنقود، وعدم قدرة الاقتصاد الفرنسي على المنافسة التجارية بسبب نمط الانتاج التقليدي، الذي يعتمد على أدوات بدائية في الزراعة، ويفرض ضرائب باهظة على البرجوازيين التجار، وهو ما كان يدفع ثمنه هؤلاء الأجراء، وقد انعكس تحميل هؤلاء الأجراء ثمن أزمة النظام الإقطاعي، على مستوى معيشتهم، الذي ازداد بؤسًا بشكل غير مسبوق عشية الثورة، ولذلك استمر الخبز هو المطلب الرئيسى لهذه الطبقة، وفي 28 أبريل 1789، انفجرت أول مظاهرة عمالية في باريس، تعبيرًا عن هذا الوضع، ضد إثنين من أصحاب مصانع الورق، بسبب إطلاقهم لتصريحات شفهية، في أثناء حضورهما لاجتماع في إحدى الجمعيات الإنتخابية، تتضمن أن العمال يعيشون حياة سهلة
ولم يكن الحرفيين، أصحاب الورش الصغيرة أنفسهم، أفضل حالاً من العمال الذين يعملون لديهم، بل أنهم كانوا، بشكلٍ أو بآخر، أُجراء لدى البرجوازية التجارية الكبيرة، وفضلاً عما سبق، كان أغلب الأجراء في المدن من أصل قروي، وهو ما زاد من كراهيتهم لطبقة النبلاء، بسبب امتيازاتهم وغناهم العقاري الفاحش، الذي كان يراه هؤلاء الأجراء عن قرب، في محيط القرية الضيق، قبل انتقالهم إلى المدن.
5- القرويون:
استمرت فرنسا، حتى نهاية النظام الإقطاعي، بلدًا ريفيًا في جوهره، يسيطر الإنتاج الزراعي فيه، على أغلب النشاط الاقتصادي، فضلاً عن أن عدد القرويين في فرنسا عام 1789، بلغ 20 مليون نسمة تقريبًا، من مجموع السكان الذي قدر في ذات العام بـ25 مليون نسمة، وكان العشرون مليون قرويا، يملكون 35% من الأراضى الزراعية، في حين كان النبلاء والكنيسة يملكون 65 % منها، كانت الأغلبية العظمى من القرويين من الأجراء وصغار الملاك، والأقلية من أصحاب الملكيات المتوسطة.
على الرغم من اتحاد القرويون، في كراهيتهم للنظام الاقطاعي، إلا أن التناقض في الملكية بين الملاك والأجراء، وانقسام الأجراء أنفسهم إلى عبيد وأحرار، خلق تنوع في مصالح كل شريحة من شرائح هذه الطبقة على حدة، وكانت المعضلة الرئيسية التي تواجهها طبقة القرويين، هي سياسة الدولة الإقطاعية، تجاه الزراعة والقرويين، حيث كانت أغلب أنواع الضرائب تجبى من هذه الطبقة، وكانت أعبائهم ثقيلة، بقدر ما كان الاقتصاد القروي قديمًا ومتخلفًا، وكان المطلبان الرئيسيان للقرويين، هما: إلغاء الحقوق الإقطاعية المقررة للنبلاء وللكنيسة وللأسياد، ومسألة ملكية الأرض، حيث كان الإتجاه الأغلب في وسط القرويين هو تمكين عديمي الملكية من تملك الأرض، وزيادة حجم الملكية، بالنسبة لصغار الملاك.
ثانيا : الدولة الإقطاعية ومؤسساتها:
كان أكثر ما تتسم به آلية عمل مؤسسات الدولة الإقطاعية، قبيل الثورة، هو انفصالها عن الوضع السياسي– الإجتماعي العام، وسيطرة الفوضى، وعدم التنظيم الإداري على هذه المؤسسات جميعها، والتناقض الصارخ بين الأسلوب القديم في إدارة الدولة، وعلاقتها بالجماهير، وبين النظام الجديد، الذي بدأ يشق لنفسه طريقًا، وسط عفن النظام القديم.
1- الملك :
كانت سلطة الملك سلطة مطلقة، حيث كان يعلن عن نفسه في كل المناسبات الرسمية، بصفته ممثلاً لله، وكان يتم تنصيبه، من قبل رئيس الأساقفة، وسط مجموعة من الطقوس الدينية، قائلا له " كن مباركا، وقم ملكًا في هذه المملكة، لأن الله أعطاك أن تقودها" ، كما كانت سلطة الملك واحدة، لا تتجزأ، ولا تمنح لشخص، أو مؤسسة أخرى غيره، وكل المؤسسات الأخرى، مثل المجالس الإستشارية، والهيئات العليا، والمجالس الإقليمية، ليست سوى مؤسسات إستشارية، كما كان الملك مصدرًا للعدل، فهو الذي يصدر القوانين وليس ملزمًا بالقوانين التي أصدرها أسلافه من الملوك، وله الحق في التدخل في جميع الدعاوى القضائية بلا استثناء، وله أيضا الاعتراض على جميع أحكام القضاء، وإعادة الأفراد للمحاكمة مرة أخرى، بعد إنتهاء محاكماتهم أمام القضاء، وهو مصدر لكل سلطة إدارية في فرنسا، فمن حقه وحده إدارة كل قضايا المملكة، وله تفويض مؤسسات أخرى في ذلك، وهو المنوط بوضع ميزانية الدولة، وتحديد أوجه الإنفاق، لأنه "السيد في توزيع أمواله"، وهو، أخيرًا، مصدر الحرب والسلام، هو القائد الأعلى للجيش، والمسئول عن السياسة الخارجية للبلاد، وقد أسس لهذا الاتجاه، المتناقض تماما مع المتغيرات، التي تحدث على أرض الواقع، "لويس الخامس عشر"، والذي أعلن ذلك في البرلمان في عام 1766، قائلاً " في شخصي وحده تستقر السلطة العليا ،وإليّ وحدي تعود السلطة التشريعية، دون ارتباط ولا مشاركة، وعنّي يصدر النظام العام كله، وحقوق الأمة ومصالحها، هي بالضرورة متحدة مع حقوقى ومصالحى ولا تستريح إلا بين يدى "
2 ـ الكنيسة :
كانت وظيفة الكنيسة الرئيسية قبل الثورة الفرنسية، هي تدعيم ممارسات الحكم المطلق وتثبيت دعائمه، على جثث الجماهير، من خلال تطويعها لكافة النصوص الدينية، لخدمة مصالح الملك والنبلاء ، ولم يكن لها أن تلعب هذا الدور دون أن تواجه تطلعات البرجوازية من خلال هجومها الضاري على الفلاسفة التنويريين، الذين أسسوا لاتجاه فكري، يدافع عن فكرة الحرية الفردية وينتقد نظام الحكم المطلق ، كما أن رجال الدين كما أوضحنا سابقًا كانوا يتمتعون بامتيازات مالية كثيرة " الهبات ، الضرائب ، الملكيات العقارية " وهو ما جعل منهم طبقة تتسق مصالحها مع مصالح الملك والأرستقراطية بوجه عام ، لذا كانت الكنيسة إحدى مستهدفات الثورة الفرنسية ، وبالفعل نجحت الثورة في القضاء على سلطتها .
3- الحكومة :
في أخر شكل للحكم المطلق في فرنسا كانت الحكومة تؤلف من وزارة تحوى حامل أختام الملك وأربعة أمناء سر للدولة ومراقب المالية العام ولم يكن هناك رئيسًا للوزراء ، وكان حامل أختام الملك هو في نفس الوقت رئيس القضاء والمسئول عن التشريع الملكى كما كان غير خاضع للإقالة إلا بسبب فقدانه لرضا الملك عنه ، وأمناء السر الأربعة الأول هو أمين سر الدولة لشئون الحرب والثانى لشئون البحرية ويختص أيضا بشئون المستعمرات والثالث للشئون الخارجية والرابع لشئون بيت الملك ، وكانت الشئون الداخلية للبلاد موزعة على أمناء السر الأربعة وكان مراقب المالية العام وزيرًا للإدارة والزراعة والصناعة والتجارة والجسور والطرق ، كما كان هناك مجموعة من المؤسسات المحلية مثل المجالس الإقليمية ، ولكن أفرغت هذه المؤسسات من مضمونها أمام تركيز السلطات في يد موظفي الحكم الملكى المطلق، هذا فضلا عن أن القرن الثامن عشر في فرنسا شهد سن مجموعة من القوانين التي تسمح ببيع الوظائف وتوارثها .
4 ـ القضاء .
كان الملك هو قاضى المملكة الأكبر وممارسة المحاكم للقضاء تتم بتفويض مباشر منه ، وكان هناك محكمة واحدة في باريس وإثنى عشر محكمة إقليمية ، كما كانت الوظائف القضائية كغيرها من الوظائف قابلة للبيع ، وهو ما كان يتعذر معه على الملك أحيانًا إقالة بعض القضاة ، حيث لا يجوز له إقالة قاضى إشترى هذه الوظيفة بماله دون أن يعيد له هذا المال ، وقد نجم عن ظاهرة بيع الوظائف القضائية ظاهرة أخرى أكثر غرابة وهي ظاهرة الهدايا التي يقدمها المتقاضون للقضاة، من أجل النظر في شكواهم، ولان أجور القضاة كانت لا تتناسب مع الثمن الذي يشترون به هذه الوظيفة، زاد الميل إلى إستبدال الهدايا العينية، بأموال نقدية أصبحت إجبارية مع الوقت، وهو ما أدى إلى أن أصبح اللجوء إلى القضاء، في متناول الأغنياء فقط.
5- نظام الضرائب :
كانت الضرائب حقًا للملك وللنبلاء وللكنيسة، وكان هذا الحق ينزع من النبلاء بمقدار ما كانت سلطة الملك تقوى وتشتد، وكان هناك نوعين من الضرائب؛ النوع الأول هو الضرائب المباشرة، مثل ضريبة الرأس(الضريبة على الدخل)، والتي كانت تُفرض على جميع الأفراد، ويتم تحصيلها بشكل جماعي، عن طريق تحديد نسبة كل مقاطعة سنويًا، وعلى سكان هذه المقاطعة التضامن فيما بينهم، لجمع المبلغ المطلوب.
وفي كل مرة تشتد أزمة النظام الاقتصادية، يلجأ الملك إلى زيادة ضريبة الدخل على الطبقة الثالثة، لمصلحة النبلاء والكنيسة. كما كانت هناك ضريبة العشر، التي تفرض على جميع الأملاك العقارية، أيًا كانت قيمتها، دون تفرقة بين الملكيات الكبيرة، والملكيات الصغيرة.
أما النوع الثاني من الضرائب، فهو الضرائب غير المباشرة، وهذا النوع من الضرائب، كان يفرض على بعض السلع الاستهلاكية، ويعفي منه النبلاء والإكليروس. وأغرب ما كان يميز نظام الضرائب في فرنسا، عشية الثورة، هو أن حق تحصيل الضرائب كان قابلاً للبيع، والتنازل من قبل الملك، بالإضافة إلى اللامساواة في التحصيل، وسوء الجباية وتبذير البلاط، وكثرة الحروب، فضلاً عن أن طريقة تحديد الضرائب، وتحصيلها، فتحت بابًا واسعا أمام الفساد المالي، الذي كان أحد الأسباب المباشرة للثورة.
بدت مؤسسات الدولة، قبيل الثورة، ضعيفة ومهترئة بشدة، والنظام الإداري شديد التعقيد، ومنفصل عن الواقع، وينخره الفساد في شتى جوانبه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بدأت مؤسسات جديدة تظهر، لتتراكم فوق المؤسسات القديمة، وهوما أضعف قدرة النظام القديم على التصدي لهبوب الثورة في 1789.
ثالثا : إنقسام السلطة ومقدمات الثورة :
تراكمت أزمات النظام الاقطاعي، خلال الأعوام التي سبقت الثورة، بسبب عدم كفاءة نظام الحكم، على المستويين الاقتصادي والسياسي، ومقاومة الأرستقراطية بشدة، لكل محاولات إصلاح النظام من الداخل، التي تنتقص من امتيازاتها، وفي نفس الحين، رغبتها الشديدة في إيجاد وسيلة لتحسين وضعها الاجتماعي، الذي تردى بسبب ضعف النظام القديم، وعدم قدرته على الاستجابة لمتطلباتها الاقتصادية والسياسية. أخيرًا، والأهم، عدم قدرة الجماهير على المزيد من دفع ثمن أزمة النظام، الذي استمر في حل أزماته طيلة الوقت، من خلال مزيد من الضرائب، وزيادة عدد ساعات العمل، وتقليص الأجور، وغيرها من الوسائل.
الأزمة الاقتصادية :
في عام 1788، ارتفعت النفقات العامة إلى 629 مليون ليرة، في حين كانت الإيرادات العامة 503 مليون ليرة، فبلغ العجز تقريبًا 126 مليون ليرة، أي 20% من النفقات. ومن الشواهد على التناقض في توزيع النفقات العامة، هو حصول التعليم والمساعدات الاجتماعية، على 12 مليون ليرة، أي أقل من 2% من النفقات، وتخصيص 136 مليون ليرة، لامتيازات الطبقة الأرستقراطية و 46 مليون ليرة، يتقاضها 12000 ضابط بالجيش، في حين يتقاضى الجيش كله أقل من ذلك بكثير، كما اعتمد النظام على القروض المالية الضخمة، لسد العجز بين النفقات والإيرادات، وهو ما أغرقه في ديون هائلة، عجز عن سدادها، وكانت أسباب العجز الاقتصادي متعددة، ولكن كان على رأس هذه الأسباب، تبذير البلاط الملكي، ومنحه المالية والعينية، التي لا تنتهي للنبلاء، وفي عام 1789، بلغت الديون حوالي خمسة مليارات ليرة، في حين كان النقد المتداول لا يزيد عن مليارين ونصف المليار ليرة، كما انخفضت القدرة الشرائية للنقود، وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وبدا من المستحيل زيادة الضرائب أكثر من ذلك، وكان الحل الوحيد لتأجيل الثورة، على الأقل، هو المساواة في تحصيل الضرائب، وإلغاء إعفاء النبلاء منها، وهو ما لاقى معارضة شرسة من النبلاء أنفسهم، وصلت إلى حد تدبير مؤامرات، للإطاحة بكل وزير يجرؤ على طرح مثل هذه الإجراءات، للخروج من الأزمة.
2- الأزمة السياسية :
انعكست الأزمة الاقتصادية بشكل مباشر على النظام السياسي، وقد برز تأثر النظام السياسي بهذه الأزمة على الأخص، في عام 1787، وذلك على الرغم من وجود محاولات للإصلاح الإقتصادي والإداري، عن طريق دفع عجلة الإنتاج، بتحرير تجارة الحبوب، وإزالة الجمارك الداخلية وتوحيد السوق القومية، على مستوى أسعار السلع، وإلغاء عدد من الحقوق على بعض السلع الهامة، التي تعيق تسويقها، مثل حق الماركة على منتجات الحديد، وتوحيد الضرائب على كافة الطبقات، دون إعفاء منها، وإشراك رعايا الملك في إدارة المملكة، وتفعيل دور المجالس الإقليمية.
ولكن الأرستقراطية واجهت هذه المحاولات، بالتشبث أكثر بامتيازاتها، وتحفظت البرجوازية عليها، كنوع من المزايدة على الملك "لويس السادس عشر"، وظل الرأي العام غير مبال بها. ولكن نتيجة لتأزم الوضع اضطر الملك الدفاع عن تلك الإجراءات. وقد عارضت محكمة باريس، التي يمثل جناح منها الأرستقراطية، ويمثل الجناح الآخر البرجوازية، هذه الإجراءات مستخدمة في ذلك سلاح انتقاد الحكم المطلق، فأجبرها الملك على تسجيل هذه الإجراءات بقانون، وبالفعل سجلتها المحكمة، ولكن ألغت التسجيل في اليوم التالي، واعتبرته غير قانوني، وهو ما اعتبره الملك تمردًا ضده، فقام بنفي القائمين عليها من القضاة وأمر بإنشاء "محكمة القاضي الأكبر"، في عام 1788، والتي كان الهدف منها مركزة قطاع القضاة، لتيسير السيطرة عليه، باعتباره من أكثر القطاعات تأثيرًا في جهاز الدولة.
كانت هذه هي الشرارة التي أشعلت المؤسسة السياسية بأكملها، فأضرب القضاة عن العمل، وجذبوا إليهم قطاع هام من نبلاء الرداء، الحائزين، على الوظائف العليا في الدولة، والبرجوازيين، الذين يعانون من عدم قدرة النظام الملكي على إيجاد حلول، لأزمة النظام المهدد بالانهيار، ثم تبعهم نبلاء السيف، ونبلاء الكنيسة، وبدأت المظاهرات تنفجر في كل مكان، واستطاع نبلاء الأقاليم إشعال ثورة القرويين، الذين بدأوا في مهاجمة مقرات وكلاء الملك في الأقاليم، وقد واجه الملك هذه التحركات بالجيش، لكنه لم ينجح في السيطرة عليها، عن طريق القمع.
وكانت أكثر الأحداث اتساعًا في إقليم "الدوفينه "وكانت البرجوازية على رأس الحركة في هذا الإقليم، الذي يتميز بالتقدم الصناعي النسبي، عن غيره من الأقاليم، وفي 8 مايو 1788، أحيل قضاة محكمة غرينوبل إلى التقاعد، وأغلقت المحكمة، لكنهم اجتمعوا في 29 مايو 1788، فأصدر حاكم الإقليم أمرًا بنفيهم، وفي اليوم المحدد لترحيلهم، ثارت جماهير الإقليم، بتحريض من مساعدي القضاة، واحتلوا مداخل ومخارج المدينة، وصعدوا إلى أسطح المنازل، وأخذوا يلقون دوريات الحراسة بالحجارة، مما أجبر حاكم الإقليم على إعادة الجيوش إلى ثكناتها، وفي النهاية، استجاب القضاة لتنفيذ أمر النفي، بناء على مفاوضات مع الملك، ولكن بعد أن سجلوا مقدمة اضطراب ثوري، في عدد من الأقاليم، وخاصة إقليم الدوفينة، الذي شهد بعد أسابيع قليلة من الاضطراب، اجتماع ضم 9 من رجال الكنيسة و 33 نبيلًا و 59 عضوًا من البرجوازية، خاصة من رجال القانون، وتبنى الاجتماع قرار يطالب بعودة القضاة المنفيون إلى وظائفهم، ودعوة مجالس الأقاليم التي تتشكل من النبلاء، ورجال الدين إلى الاجتماع، مع دعوة ممثلين من الطبقة الثالثة إلى المشاركة، على أن يساوى عددهم عدد أعضاء المجلس من رجال الدين والنبلاء مجتمعين، عن طريق الانتخاب الحر وأخيرًا، الدعوة إلى انعقاد المجالس العامة، على مستوى فرنسا. وكان أكثر ما تتسم به هذه المبادرات، أنها كانت تستبعد الأجراء والقرويين، في الوقت الذي ترتمي فيه في أحضان البرجوازية .
رابعا :بداية الثورة الجماهيرية 1789 :
لقد كان عام 1788، ذروة الانحطاط للنظام الملكي، الذي فقد كل مبررات وجوده، وازدادت الهوة الفاصلة بينه وبين المجتمع، وقد زاد من ذلك، ما عُرف بأزمة الحبوب، التي عصفت بالزراعة والتجارة، في ذات العام، وانعكس ذلك على أرباح البرجوازيين، بشكل مدمر وهو ما قلص قدرتهم على احتمال الوضع القائم، فمن ناحية الأزمة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى، تعدد الضرائب المرهقة لهم، والامتيازات غير المبررة للنبلاء ورجال الكنيسة وحاشية الملك، وهو ما انعكس بدوره على الجماهير الشعبية من الأجراء والقرويين، الذين استنفرتهم تلك الأوضاع غير المحتملة، ولكن لخدمة ثورة البرجوازية، على النظام الاقطاعى ومؤسساته.
وقد عزز فرص قيام الثورة أن أصبحت الحدود الطبقية واضحة، بشكل صارم لا لبس فيه، حيث بات واضحًا أن هناك نظامًا اجتماعيًا، يتشبث بمؤسساته وطرقه القديمة في الحكم، في مواجهة البرجوازية، التي تتبنى مشروعًا اجتماعيًا جديدًا، وتتمتع بنضجٍ فكريٍ، خاصةً على المستوى الاقتصادي.
كان هذا التناقض، هو ما دفع النظام الملكي إلى الانزلاق، من تنازل إلى تنازل، منجرفًا في تيار الأحداث، بدلا من السيطرة عليها، وهو ما مهد الطريق أمام الثورة الشعبية، فعدم قدرة الملك على احتواء الأرستقراطية المتمردة ضده، وقمع البرجوازية، التي تريد الإطاحة به، جعله يضع الأزمة السياسية كمهمة ملحة، يجب حلها، فدعا إلى انعقاد المجالس العامة، وإلى تمثيل الطبقة الثالثة في الانتخابات، بعدد ممثلين يساوى ممثلين رجال الدين والنبلاء مجتمعين، وبدأت حرية الصحافة تأخذ مجراها، وتحولت المقاهي إلى مراكز للإضطراب السياسي.
ولكن، حتى ذلك الوقت، كان زمام الحركة في يد تحالف، مكون من البرجوازية والخوارنة(فقراء رجال الدين)، وبعض النبلاء المتأثرين بأفكار البرجوازية، ولم يكن شعب المدن والأرياف العرمرم قد دخل إلى حلبة الصراع بعد، ولكن البرجوازية استغلت فرصة انشغال النظام الملكي، في محاولاته للإصلاح السياسي، وإهماله التدخل في الأزمة الاقتصادية، التي كانت قد تفاقمت، وبدأت في استنفار الجماهير، ضد تدنى مستوى المعيشة، وارتفاع الأسعار، وانخفاض القدرة الشرائية للنقود، وانهيار المحاصيل الزراعية الأساسية، مثل الكروم وازدياد معدلات البطالة.
وقد وجه فقراء المدن والأرياف غضبهم إلى المستفيدين الرئيسيين من الضرائب، التي تُجبى منهم، وإلى أسياد الأرض، وإلى التجار الذين يضاربون بالحبوب، ومع ربيع 1789، بدأت الجماهير تطالب بالمصادرة، ووضع تسعيرة جبرية للسلع الرئيسية، تزامن ذلك مع عقد المؤتمر الوطني في يوليو 1789، ذلك المؤتمر الذي كانت البرجوازية، ومن التف حولها من النبلاء ورجال الدين، يريدون من خلاله كسر قبضة الحكم المطلق، وإعطاء مساحة أوسع للاشتراك مع الملك في الحكم، وكانت هذه التطلعات تلقى استجابة لدى جماهير الأجراء والقرويين.
في 14 يوليو، يوم انعقاد المؤتمر، حاصر الملك المؤتمر بحوالى عشرين ألفا، من رجال الجيش، تحت دعوى مواجهة التمردات، أو اتقاء حدوثها، لكن ما استفز الجماهير أكثر، عزل الملك لـ"نيكر"، وزير الدولة للمالية، والمعروف بتوجهاته المنحازة إلى المؤتمر الوطني، في حدودها التي لا تتجاوز الانقسام الطبقي في المجتمع، وعيّن بدلا منه أحد الوزراء الرجعيين، المعاديين للتغيير بشدة، وهو "البارون دي بروتيل"
كان لعزل "نيكر" وقعًا كارثيًا لدى الجماهير، إذ انتشر الشعور العام بأن كل التنازلات السياسية، التي قدمها الملك، لم تكن إلا محاولة لخداعهم ببعض الفتات، وردًا على ذلك اجتمع أصحاب البنوك من البرجوازية، وقرروا إغلاق البورصة، وأُغلقت المسارح، وبدأت الاجتماعات والمظاهرات، واصطدمت إحدى المظاهرات بقوة من قوات الشرطة، التي سحقتها المظاهرة، واستولى المتظاهرون على مخزن سلاحها. لخوف البرجوازية أن ينقلب هذا التمرد ضدها، شكلت مجموعات، تتكون كل مجموعة من 200 فرد، من القادرين على حمل السلاح، لتأمين السلامة العامة، ليس فقط ضد محاولات الملك وجيشه البطش بها، ولكن أيضا لتأمين الملاك ضد أي تمردات اجتماعية، تهدد ملكياتهم.
لكن هذا التصرف استثار الجماهير أكثر، وفي 14 يوليو بدأت المطالبات بالتسليح العام للشعب وبدأ عمال الحديد يصنعون الحراب، والجماهير تبحث عن الأسلحة في كل مكان، وتوجهت مسيرة جماهيرية إلى أحد مخازن السلاح الكبرى، واستولت على 32000 بندقية، ثم تابعت الجماهير مسيرتها، حتى وصلت سجن الباستيل الشهير، والذي كان يعتبر أحد رموز الحكم المطلق، ذلك السجن الذي مثل اقتحامه تحديًا صعبًا أمام الجماهير، بجدرانه التي يبلغ ارتفاعها 30 مترًا، وبخنادق المياه العميقة والمتسعة المحيطة به، وبحراسه من مشوهي الحروب.
لكن تدخل البرجوازية بإحضارها عدة مدافع، لمساندة الجماهير، أجبر حاكم الباستيل على الاستسلام، فأنزل الجسر المتحرك، وعبرت الحشود الهادرة خنادق المياه من خلال هذا الجسر، واستولت على السجن، وهو ما كان له بالغ الأثر في إعمال الفزع في قلب الملك وحاشيته، مما دفعه لتقديم تنازلات أكثر للبرجوازية، فتنازل لها ضمنيًا عن إدارة العاصمة باريس وأعاد نيكر إلى وزارة المالية واعترف القانون بحكم البرجوازية للعاصمة، وشكلت قوات جديدة تحت قيادة البرجوازية، سميت بالحرس القومي، وأُبعد الجيش عن العاصمة، واستطاعت البرجوازية أن تنتزع من الملك اعترافًا رسميًا بأن وجودها، ومشاركتها في الحكم أمرًا واقعًا، وذلك بإجباره على الحضور يوم 17 يوليو 1789، إلى باريس، وإلقاء خطاب متحشرج من هول الصدمة والعجز، أمام البرجوازية، انتهى فيه إلى أن هذا العصر هو عصر التحالف، بين الشعب والملك، مختتمًا خطابه قائلاً وهو يكاد يبكي: "يستطيع شعبي أن يعتمد دائما على حبي".
بعد هذا الخطاب عملت البرجوازية على تفكيك ما تبقى من أجهزة ومؤسسات الدولة القديمة، واستبدالها بمؤسسات شعبية جديدة، ففي المدن تم تشكيل لجان البلديات، إلى جانب لجان الحرس القومي. انتشرت هذه اللجان بسرعة شديدة، لتوقف نشاط جباية الضرائب، وتستبدل المركزية باللامركزية، حتى تبخرت السلطة الملكية تقريبًا، وترك جميع وكلاء الملك مراكزهم، ومن الأمور الجوهرية، التي رسخت ذلك الوضع الثوري، ودفعته أكثر إلى الأمام، الأزمة الاقتصادية بما استتبعته، من استمرار التمردات الشعبية، احتجاجًا على ارتفاع سعر الخبز، تحديدًا، والخوف من مؤامرات الأرستقراطية ضد الثورة، والشعور العام بالخطر من التدخل العسكري الأجنبي.
هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى انفجار الوضع في المدن والأرياف، فبدأت تتصاعد حوادث اقتحام قصور النبلاء والأسياد، والاستيلاء على صكوك الملكية، وحرق الأوراق الثبوتية الخاصة بالألقاب الحاصلين عليها، وفي القصور التي كان أصحابها يرفضون تسليم أوراقهم، كانت الجماهير تقوم بحرق القصر، وإعدام أصحابه، وانتقلت بلديات المدن والحرس القومي إلى الأرياف. وأعطت البرجوازية الشرعية للتمرد الشعبي، من خلال اجتماع المجلس الوطني، في 4 أغسطس 1789، الذي سدد الضربة القاضية للنظام القديم برمته، من خلال مجموعة من القرارات، تضمنت إلغاء امتيازات الطبقات، وإلغاء ضريبة العشر للاكليروس، وكافة الضرائب الاستعبادية الأخرى، وكان هدف هذه القرارات، ليس فقط القضاء على النظام القديم نهائيا، بل الأهم من ذلك، استيعاب قلق الجماهير، وإعطائها عربونًا لسعادتها قبل أن يتحول تمردها ضد البرجوازية.
لكن رفض الملك هذه القرارات، وتزامن ذلك مع محاولات إعادة تنظيم صفوف الجيش مرة أخرى، وبدا واضحًا أن هناك محاولات جادة للقيام بثورة مضادة، من قبل الملك والأرستقراطية، مما استنفر الجماهير مرة ثانية، ففي 5 أكتوبر 1789، انطلقت جموع من النساء في اتجاه قصر البلدية، بحي سان أنطوان، للمطالبة بالخبز وكان عددهن من ستة إلى سبعة آلاف امرأة، وعندما لم يجدن استجابة لمطلبهن، توجهن إلى مدينة فرساي، مقر إقامة الملك، مطلقين صيحاتهم المدوية والمخيفة: "إلى فرساي ...إلى فرساي"، تقابلت هذه المسيرة مع مسيرة أخرى، تكونت من حوالي عشرين ألف رجل. وصلت هذه الجموع إلى قصر الملك يوم 6 أكتوبر 1789 ، اقتحمت الجماهير القصر واشتبكت مع الحرس الملكي، إلى أن جاءت قوات الحرس القومي البرجوازية، وفضت الاشتباك، وأجبرت الملك على الظهور، هو والملكة وولى العهد، من شرفة القصر والهتاف باسم الشعب، حرصًا على حياتهم، ثم تم تحديد إقامة الملك.
في ذروة الأحداث نهاية عام 1789 شكلت البرجوازية الجمعية التأسيسية الدستورية ، وكان الهدف من هذه الجمعية إعادة بناء وتجديد مؤسسات الدولة لصالحها ، وحماية مكتسباتها في مواجهة خطرين رئيسيين الخطر الأول كان أن الأرستقراطية لم تكن قد استسلمت بشكل نهائي والخطر الثاني كان في استمرار التمرد الجماهيري ضد ارتفاع الأسعار واستعجالا للنتائج المباشرة للثورة ، هذا فضلا عن رغبة البرجوازية في وضع حدود لهذه الثورة التي لا تريد أن تنتهي عن طريق إشراك النبلاء في الحكم ولكن بشروط البرجوازية وبما يحقق مصالحها.
بدأت اجتماعات الجمعية تنتظم، وتُجرى مناقشات يومية، بحضور الجمهور وبدأت تتحدد الاتجاهات السياسية الرئيسية داخل الجمعية التأسيسية، حتى تبلورت إلى ما سمي حينذاك، باليمين واليسار، تعبيرًا، عن الموقف من الثورة فاليمينيين هم الأرستقراطيين والملكيين، وكانوا مع الإبقاء على الامتيازات الملكية، ومع وضع حد للثورة الجماهيرية وسموا باليمينيين، لأنهم كانوا يجلسون على يمين الجمعية التأسيسية، أثناء انعقاد اجتماعاتها ، واليساريين انقسموا إلى قسمين: يساريون معتدلون، ويساريون ثوريون، وكان يمثل اليسار المعتدل الدستوريون والليبراليون، وهم ممثلو البرجوازية، الذين يريدون السيطرة على مقاليد الأمور، والتوفيق بين مصالح الجماهير الثائرة، ومصالح النبلاء ومصالحهم البرجوازية، وكانت هذه المجموعات تجلس على يسار الجمعية التأسيسية، أثناء انعقاد اجتماعاتها، وعلى يسارهم كان يجلس "اليعاقبة"، هذا التيار الذي كان يدافع عن مصالح الجماهير، ويطالب بالتصويت العام، على كل قرارات الجمعية التأسيسية، وكان أبرز رموز هذا التيار هو الثوري الفرنسي الشهير "روبسبير".
على الرغم من وجود هذه التيارات، التي كانت تنازع البرجوازية، حول الاتجاه الذي تسير فيه الثورة إلا أن الجمعية التأسيسية استمرت في إعادة بناء فرنسا، وفقًا للمبادئ التي تم الاستقرار عليها، في عام 1789، من خلال ما سمي بـ " إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، الصادر في 26 يونيو 1789، الذي ألغى القنانة "عبودية الأرض" بمادته الأولى، التي نصت على أن "الناس يولدون، ويبقون، أحرارًا ومتساوين في الحقوق"، كما حدد هذا الإعلان حقوق الإنسان الأساسية، في المادة الثانية، التي نصت على أن:"هذه الحقوق هي الحرية و الملكية والسلامة ومقاومة الاستبداد، كما حددت الحريات الأساسية، في المواد التاسعة والعاشرة، من الإعلان، وهى الحرية الفردية، والحرية الشخصية، وحرية الكلام، وحرية الكتابة والطباعة والنشر، وقد خصصت المادة 11، من الإعلان للتأكيد على أن الحريات الأساسية تتضمن حرية التملك، وتحقيق الأرباح، وأن هذه الحرية على وجه التحديد، مصونة من جانب المجتمع، ويعتبر المساس بها، اعتداء على حرية الآخرين
ولكن، لم تكن هذه نهاية المطاف للثورة الفرنسية، فقد بدأت النظم الملكية الأخرى في أوروبا في التآمر والتخطيط، لعودة النظام القديم، وظلت فلول الأرستقراطية تخطط، وتنظم للثورة المضادة، ومن جانب آخر، ظلت الجماهير تُصَعّد من مطالبها ومن تحركاتها، ضاغطة على القيادات البرجوازية. وقد شهدت الأعوام الخمس التالية لزلزال ١٧٨٩، أحداثًا وتطورات غيرت من مسار التاريخ الأوروبي، بل والعالمي