منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#66453
لم يكن توقيع الهدنة في منتصف نوفمبر 1918 علامة على دخول بلاد البلقان في مرحلة من اللسام والإستقرار، ذلك أن اليونان وتركيا لم تتوصلا إلى تسوية خلافاتهما حتى 1922, ورومانيا كانت قد غزت المجر في 1919, وظلت قوات يوجوسلافية تدخل أراضي النمسا أكثر من مرة في عدة مناسبات مختلفة حتى عام 1921. وأكثر من هذا فإن معظم بلاد البقلان واجهت تغييرات أساسية وفورية بعد الحرب إضطرت شعوبها لضبط أحوالهم وأفكارهم مع علاقات سياسية جديدة فرضت نفسها عليهم. وتتلخص هذه التغييرات في تكوين دولة لسلاف الجنوب, وتأسيس رومانيا الكبرى, وطرد اليونانيينت من آسيا الصغرى, والثورة في الإمبراطورية العثمانية, وأخيراً تكوين حكومة ألبانية مستقرة. وسوف يركز هذا الفصل على معالجة تلك القضايا أكثر من مناقشة معاهدات الصلح نفسها ولكن علينا في البداية أن ذنكر الأسس التي تم التوصل على أساسها لمعاهدات الصلح.
من متابعة تاريخ بلاد البلقان خلال القرن التاسع عشر حيث كانت للقوى الكبرى دوراً في التحكم في سياسات تلك البلاد سوف نجد ان تلك القوى نفسها هي التي إنفردت بترتيب معاهدات الصلح دون أن يكون لدول البلقان الصغيرة دوراً مؤثراً إلا قليلاً. ويلاحظ أن القوميات القوية في البلقان خضعت لقيود شديدة وقاسية في تحركاتها حتى لا تحقق طموحاتها القومية, بل لقد دخلت في دائرة التقسيم فيما بينها وكان عليها مواجهة الأحوال في أوروبا آنذاك بشكل واقعي وكثير منها أوجدته سياسات البلاد الصغرى. ومن التغييرات أيضاً أن ثلاثة دول كبرى لم تحضر مؤتمر الصلح وهي المانيا والنمسا وروسيا, فقد تم إستبعاد المانيا بإعتبارها دولة مهزومة وكان موقف فريداً في نوعه في الدلوماسية الأوروبية, وإمبراطورية النمسا والمجر تحللت إلى دولتين على أسس قومية خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب, وأما روسيا التي كانت قد أصبحت تحت حكم البلاشفة إعتبرت عنصراً ثورياً خطيراً وكانت قوى الحلفاء تقوم بعمليات عسكرية على أراضيها ساعة قيام الثورة. وهكذا أصبحت التسويات مسئولية إنجلترا وفرنسا و إيطاليا بشكل أساسي وكذا الولايات المتحدة الأمريكية اليت كانت مشاركاً جديداً وكبيراً في شؤون أوروبا آنذاك.
والحق أن السياسيين الذين وقع على عاتقهم صياغة معاهدات الصلح كانوا مقيدين بإتفاقيات معينة سابقة أهمها غالباً تلك المعاهدات السرية بين أطراف معينة وكانت جميعها تسبب الضيق الشديد للذين كان عليهم التوقيع. كذلك سيطر علىالمناخ كيفية إستعادة التوازن بين القوى الأوروبية الذي أصبح يتأرجح بعد هزيمة دول الوسط ومناخ ثورة البلاشفة في روسيا, فضلاً عن إعتبارات اخرى برزت على المسرح السياسي عند نهاية الحرب يتعين وضعها في الحسبان, ذلك أن أوروبا بعد الحرب كانت في حالة ثورة فروسيا أصبحت تحكمها حكومة شيوعية وأصبحت مركزاً للدعاية الثورية وبعد إستيلاء البلاشفة على الحكم أعلنوا تبرؤهم من المعاهدات السرية التي أبرمها القيصر بل ونشروها في الصحف, وأعلنوا أن ثورتهم تقف إلى جانب "سلام الشعوب", وليست لها "إدعاءات تطالب بها أو تعويضات", كذلك فعلت الأحزاب الإشتاركية الديموقراطية القوية في أوروبا. وكان الرئيس الأكريكي ودورو ويلسون قد ذكر بعض تلك الإعتبارات في مبادئه الأربعة عشر التي أعلنها في الثامن من يناير 1918, وأعلن تأييد بلاده لحق تقرير المصير. وكانت مثل هذه المبادئ المثالية تتناقض بطبيعة الحال تناقضاً حاداً مع بنود المعاهدات السرية التي وضعت مصير شعوب كثيرة للمقايضة والتبادل. وبإختصار كان على الذين يصنعون معاهدات السلام أو يرتبونها أن يقرروا ما إذا كانوا سوف يلتزمون بتحالفات الحرب السرية أو الوقوف إلى جانب المبادئ التي أعلنوها على الناس.
وهكذا وأثناء مفاوضات الصلح أثيرت قاعدتان للتفاوض على أساسهما كل منهما تتناقض مع الأخرى ألا وهما المعاهدات السرية ومبدأ حق تقرير المصير للشعوبو وبطبيعة الحال كانت كل دولة تميل إلى مساندة القاعدة التي تحقق مصالحها. فبينما كانت الدول المنتصرة الصغيرة تفضل الوقوف إلى جانب المعاهدات السرية وإلى جانب السياسات التي من شأنها توسيع أمانيها الإقليمية إلى أقصى درجة ممكنة’ كانت الدولة المهزومة والرئيس الأمريكي أحياناً يدافعون عن مبدأ حق تقرير المصير ومبدأ العدالة. ورغم أن الصرب وهي صغيرة منتصرة إلا أنها تبرأت من معاهدة لندن السرية, أما فرنسا وإنجلترا وهما قوتان عظيمتان غريبتان فكانتا معنيتان بإستعادة توازن القوى وتحقيق ذلك بمختلف الوسائل. لكن فرنسا كانت تبذل جهودها لكي تسفر تسويات الصلح عن بناء جبهة منالقوى المنتصرة في شرق أوروبا تحل محل روسيا الحليف السابق وذلك لتخويف المانيا وكبح جماحها. وتطلعت رومانيا ودولة سلاف الجنوب إلى أن يكون لهما مكانة مهمة في هذا التنسيق الفرنسي الجديد. أما إنجلترا فكانت على النقيض من فرنسا ترغب في إستعادة التوازن من خلال وضع تسويات مناسبة والعودة بأوروبا إلى الأوضاع العادية رغم أن سياستها قامت على أساس عدة مساومات فضلاً عن أن ساسة إنجلترا الذين كانوا على دراية بالتاريخ لم تكن لديهم رغبة في أن يروا فرنسا تظهر وكأنها القوة العظمى المهيمنة في القارة الأوربية.