- الجمعة نوفمبر 29, 2013 11:56 am
#66561
لقد ظهر قبل الاستقلال بعامين في المغرب كتاب صغير الحجم بعنوان " ميلاد الرسم الإسلامي بالمغرب". تعرض مؤلفه "سانت - إينيان" في فصل من فصوله إلى بعض الرسامين الشباب المسلمين الذين اكتشفوا انفتاح العالم التشكيلي في وجوهم". فلقد قسمهم إلى نوعين، رسامين درسوا الرسم وآخرين عصاميين، في الصنف الأول، ذكر أسماء عبدالسلام الفاسي وحسن الكلاوي ومريم مزيان وعمر مشماشة وفريد بلكاهية، وفي الصنف الثاني ذكر أسماء محمد بن علال وأحمد بن إدريس اليعقوبي ومولاي أحمد الإدريسي والحمري. وبما أن هذا المؤلف أشاد بالاستعمار الثقافي، فإنه نسب فضل نهضة الرسم المغربي إلى ما قامت به الحماية من أعمال. غير أن تحليلنا الموثق لهذه المرحلة يناقض ما أثبته هذا المؤلف. فعند قراءتنا لكتابه، نخرج منه بانطباع أن المؤلف عوض أن يبحث عن بداية تاريخ الرسم المغربي في فترة الاستقلال، حاول أن يردها إلى فترة الاستعمار، وكان ذلك مفاجأة غير منتظرة على أنه إبان فترة الاستقلال، أنجز رسامون آخرون عبر أبحاثهم أعمالا متنوعة وخصبة، فرضت نفسها على أنها ظاهرة مغاربة، الشيء الذي جعل البورجوازية تتذوقه ومثلها المثقفون والإيديولوجيون أيضا، كل فئة تعكس عليه رغباتها وآمالها وغاياتها. ولدى اكتشاف الغرب لصحوة العالم الثالث، قبلت المعارض الدولية الكبرى عرض بعض النماذج لرسامين منتمين إلى البلدان الحديثة العهد بالاستقلال، (ومنها المغرب) تلك التى رأت في الرسم نوعا من الخطوة، في حين أن الرسامين أنفسهم خم وحدهم الذين تحملوا عبْ هذه المهمة الشاقة في هذه المرحلة التاريخية.
وحين نتحدث عن البداية لا ينبغي نسيان المخاض الطويل الذي تفرضه كل ولادة. فالرسم ليس طفلا، إنه سيرورة حية. هكذا كانت بداية الرسم المعاصر في المغرب عميقة الجذور في حقبة تمتد على مدى طول النصف الأول من القرن العشرين. بداية أساسها في رسم يعزى إلى حقبة الاستقلال، رسم أكد نفسه بعد ذلك باعتباره باعثا على استيقاظ الوعي النظري ابتداء من السنوات الستين. أما اللحظة الحاسمة لهذه السيرورة التاريخية، فقد تحققت حين اعترف للرسم في المغرب بأنه ظاهرة ثقافية تتسع للأحلام وللرؤي وللمواهب، وتجعل الأسلوب والكيفية يختلفان من فنان إلى آخر، غير أن المهم يبدو في أن الرسم مطالب به على أنه تعبير فردي وعلى أنه نوع من اللغة يدخل في نطاق مشروع ثقافة معربية معاصرة. هكذا بدأ حضور محتشم لبعض رسامين مغاربة ابتداء من سنة 1951 في صالونات رسامين أوروبيين في المغرب. وفي سنة 1952، في صالون الشتاء بمراكش، عرض فريد بلكاهية، وعمر مشماشة، والطيب لحلو، وحسن ا لكلاوي، ومولاي أحمد الإدريسي، ومحمد الحمري، ومحمد بن علال. واقيم أيضا بين نهاية السنوات الأربعين وسنة الاستقلال، بعض أوائل المعارض الفردية (الحمرى، ومريم مزيان، (أول رسامة مسلمة في المغرب) وفريد بلكاهية مثلا) ثم إن معارض شخصية دشنت في الخارج، (الجلاوي والإدريسي وأحرضان والبايز واليعقوبي) وبعد الاستقلال أي في السنوات الخمسين، أقيمت في المغرب معارض فردية، من بينها معارض المكي مورسيا والمكي مغارة والجيلالي الغرباوي وكريم بناني ومحمد المليحي ومحمد عطا الله وسعد السفاج وأحمد الشرقاوي. وأقيم على الخصوص عدد من المعارض الجماعية، مما ساهم في إعطاء نظرة أولى عامة عن الرسم المغربي لهذه الحقبة. وبين المعارض التي أقيمت في الخارج يمكن ذكر مساهمة المغرب في بينالي الأسكندرية الثاني سنة 1957،(شارك فيه بالإضافة إلى الرسامين الذين ذكروا، بل من حسداي الموزنينو وبنهاييم ومريس أراما وحسين) وفي معرض الفنانين المغاربة في سان فرانسيسكو ميزيوم أوف ارت سنة 1957، وفي رواق المغرب في المعرض الدولي ببروكسيل سنة 1958، أو في واشنطن D.C ولندن وفيينا إلخ. وأخيرا ففي سنة 1959 شارك المغرب في أول بينالي للشباب في باريس، حيث وقع الاختيار على الغرباوي وكريم بناني وبلكاهية وحسين والمليحي والباز كان باريس لهذه الفترة مركزا للفن المعاصر في أوروبا. على أن هذه المشاركة لم تكن لتمر في خفاء. فمن بين زائري هذا البينالي فينتوري الذي كتب في المجلة إيطالية إكسريسو "بأن الاكتشاف الحقيقي بالنسبة إليه كان في باريس حيث السحر اللامنظر للرسم المغربي ثمارا معترفا بها خارج حدوده، وفي هذه الأثناء فإن مصالح الفنون الجميلة والمتاحف المغربية (التي تولت إدارتها نعيمة الخطيب) نظمت في المغرب عدة معارض جماعية متجولة، أصبح معها الرسم المغربي الوليد ذا وجود شعبي حقيقي. وابتداء من سنة 1960، نشر غاستون ديبل في إطار المركز الثقافي سلسلة كتيبات صغيرة مزينة عبارة عن دراسات عن كل من الغرباوي والإدريسي واليعقوبي وأحرضان والشرقاوي وبن علال وبلكاهية. فهل كل هذا كاف ليدل على أن الرسم حصل في المغرب على جميع احتياجاته ومطامحه؟ لا. ذلك أنه بمناسبة معرض "رسامي مدرسة باريس والرسامين المغاربة" الذي دشن في الرباط سنة 1962، فإن الناقد الفرنسي ميشيل راغون الذي أعجب بتنوع وحيوية شباب الرسامين الأهالي (سماهم أيضا رسامين شبابا مغاربة حقيقيين) فكتب :"الرسامون الشباب المغاربة الحقيقيون هم اليوم أبعد من أن ينالوا نجاحهم ، فهم مدينون بالتعريف بهم إلى كل من غاستون دييل ونعيمممة الخطيب مديرة المتاحف المغربية."(بستان الفنون رقم 114، ص 29) وعندما استعمل راغون صيغة الرسامون الشباب المغاربة الحقيقيون"، كان لفظة حقيقيين تعني قياسا إلى بعض الرسامين الأجانب المقيمين في المغرب، (فبركة لوحات بشكل آلي من أجل تصديرها، جمال ونخيل ورقصة البطن إلخ). هؤلاء الرسامون الذين لم يجرؤ أي غاليري في باريس على عرض أعمالهم، كانوا طيلة أيام الحماية متصدرين ولايزالون. إن أعمالهم بالنسبة إلى بعض بورجوازيي المغرب(..)المنبهرين بالحكاية، هي الرسم المغربي الحقيقي"، وفعلا، فإنه بالرغم من المساعي المحمودة التي قام بها أولئك الذين دعموا الرسم المغربي الوليد،فإن الوضع عراه التباس تجاري وثقافي وأخذ على أنه رسم مغربي حقيقي. ولطمأنة الجميع، فإن المعارض الجماعية الجوالة انتهت بالحصول على مواد مرسومة من كل نوع. وبدون أي عمل يراهن على الكيف، وبدون تحدي أصول تاريخية ثقافية، وبدون تعمق في النظرية وفي الفكر، فإن الخطر تبدى في الوصول إلى الباب المسدود. وازدادت خطورة هذا الالتباس بتأكيد بعض الملاحظين الأجانب ومنهم سانت - إينيان أن الرسامين المغاربة انطلقوا من فراغ ثقافي عوضوه بالمثاقفة. حتى ميشيل راغون روج لهذه الفكرة حين أكد:"إن الرسامين الأهالي يبنغي أن ينطلقوا من صفر، لأن رسمهم التقليدي كان ليس غير سم تزييني، ولذا كانوا عالة على الرسم الأوروبي.(نفس المصدر ص 26) إنا نعرف أنه ماعدا بعض المقلدين وأمثالهم في كل مكان، فإن الرسامين الأوائل المغاربة لم يأخذوا دروسهم في مدارس الرسم التي لم يستطيعوا حتى حدود السنوات الخمسين) الالتحاق بها، ولكنهم أخذوها فيما هو أكثر فائدة، وهو ما يمكن أن نسمييه روح العصر. ومن جانب آخر، فإن إرادة القطيعة والميل إلى التعبير الذاتي عند الرسامين المغاربة، مصدرهما هو القلق الناتج عن توجه نحو الأحلام والخرافات والألوان والعلامات والرموز، تلك التي يزخر بها عالم جواني مرتبط بتاريخهم نفسه، إن حالات اليعقوبي والإدريسي وأحرضان دليل على ذلك، ويمكن سرد أسماء أخرى. إن الرسم الشعبي والثقافة التقليدية لم يكونا فراغت تزيينيا، وحتى الرسم المعاصر ذلك المفرق منه في التجريدية غير عاكس لحركة البحث عن ألصول، وهذا ما تمركزت حوله المعايير الثقافية في السنوات الستين. وفي سنة 1962، أكد راغون تقسيم اتجاهات الرسم المغربي إلى اربعة رئيسية : الاتجاه الذي يستلهم الفولكلور، (يعني بذلك الفنون الشعبية) والاتجاه الغرائبي (السحري) والاتجاه التجريدي والاتجاه الفطري، غير أننا أخذنا برأي سانت - غينيان، فاختصرنا هذه الاتجاهات في اثنين رئيسيين فقط. وبعد أقل من عامين، لم يكن البحث ليعثر على غير هذين الاتجاهين .. والتزاما للدقة، ففي سنة 1964، أشار بيير جوديبير (في كتابه : الرسم المغاربي) على عدد من اتجاهات التجريد المعاصر في أقطار المغرب، ومنها المغرب (الانطباعية والهندسية واللاشكلية والغنائية) توازي هذه تشخيصية حلمية مؤسلبة فطرية أو انطباعية وبعيدا من أي تأثير أكاديمي رسمي أو أي مدرسة أسلوبية، فإن الرسم المغربي انعكست عليه عدد من الاتجاهات والشخصيات والعوالم الرؤيوية . وعبر السنين وقع الانصراف إلى البحث عن منابع تتوخى استرجاع الذاكرة وهي تنحو في نفس الوقت نحو الأزمنة المعاصرة. لقد عبر الشاعر الجزائري م. عبدون عن هذا التصور بعبارة قريبة من عبارة أطلقها م. خيرالدين، وهي :" الذاكرة المستقبلية"(أنفاس 10-8-1968، ص 13). على هذا الحد، فنحن لا نزال في السنوات الستين، أي في عمق فعل جمعوي وفي نقاش مستقل اتخذ موقفا إشكاليا حتى بالنسبة إلى حقبة البداية. وبعد انصرام حقبة الغبطة بصحوة العالم الثالث، كان على الرسامين أن يواجهوا كثيرا من الصعوبات المتعلقة بعرض أعمالهم في جو من احترام المتطلبات المعنية والفنية، من أجل الحصول على تغطية صحفية ملائمة، ومن أجل متابعة أبحاثهم متحررين من أغلال بلاغة فولكلورية حكائية وتماثلية. وأيضا ،أصبح عسيرا عليهم اقتحام المجال الدولي الذي أصبح منذ الآن فصاعدا سوقا لا يروج فيه غير رسم كله غربي. هذا وإن التفكير والنقاش اللذين دارا حول أبحاث هؤلاء الرسامين وفي مدة عشر سنوات، كانت الوضعية الدولية قد تغيرت كثيرا ووجد لهذا التغير صدى في المغرب، مما دفع بعجلة سنوات البداية إلى تطور وتجديد جذريين. لنعد إذن إلى السنوات الخمسين أي إلى المرحلة التي سبقت الاستقلال ثم تلته، أي مرحلة بداية الرسم المعاصر في المغرب، فهي كما يقال مرحلة الربط المعقدة الهجينة. فلقد مرت حقبة الحماية وفتح أما الرسامين عهد جديد. ذلك أن الذين سبق لهم أن أنتجوا أعمالا في سنوات الاستعمار شاركوا في العرض رسامين شبابا ولدوا في عهد الحماية وطرقوا مجالات أخرى. فإن أعمالا تشخيصية أو فطرية عايشت أعمالا تجريدية. وكان هنا رسامون مختلفون لكل سوقه وجمهوره أو رسامون لا جمهور لهم ولا مستهلك لأعمالهم، اتخذوا كممثلين للرسم المغربي الوليد. ولأنه في دوامة الغبطة بالبحث عن الإنقاذ والشرعية حيث يتعذر وجود التصنيف، فإن المعارض ضمت بين رحابتها كل من حمل في يده فرشاة وزعم أنه رسام. وحين يقارن بين الرؤي التجارب تسترجع فقرات من تاريخ تمت معرفته بشكل سيء عبر أعمال معروضة سيئة البناء، يقدم كل ذلك على أنه من الرسم الوطني. ومن الشمال إلى الجنوب كان على الرسامين أنفسهم وعلى الجمهور بصفة أكثر، أن يجدوا فعلا في هذا الرسم وجودهم المتبادل. إن الرسم المعاصر في المغرب بحث عن روحه وعن سبب وجوده وعن وحدته المادية. أما حماسة الرسامين والجمهور فلقد كانت بمثابة تقريظ له، فماذا يعني هذا الرسم؟ إن هذه الخطوات الأولى ضرورية لفتح حوار ومحاولة الإجابة عن هذا السؤال. إن الأجيال الشابة الراهنة لا تقدر صعوبة وضعية الرسم المغربي في حقبة البدايات البعيدة. فغالبا ما ينسون ما أحدثه الاستعمار من تأثير في المهمة التي قام بها من أجل بناء ثقافة تشكيلية وطنية. الصحافة والنقاد وغاليرات العرض والمشترون والجمهور والمجلات الثقافية والعلاقة بين المؤسسات والرسامين ومعرفة الماضي واستعادة الميراث التشكيلي الوطني، كل ذلك بدا كما لو أنه إشكالية يجب أن تحل بأي ثمن كان ولو بفراغ بنيوي كبير، لعل هذه الأجيال عرفت كم كان صعبا ودراميا معنى أن يصبح الإنسان رساما يمتلك الأدوات الضرورية، ويفتح نافذة على العالم، ويقطع الصلة مع زمن مضى. كانت الاستعدادات كثيرة، ولكن حظوظ التكوين الفني البعيد عن مجال العصامية بل حتى حظوظ الدراسة نفسها كانت جد محدودة. على أن الاحتكاك بالرسامين الأجانب الذي سهل إمكانية استعمال أدوات الرسم والتردد على ورشاتهم كان حاسما بالنسبة إلى بعض الرسامين المغاربة(بن علال واليعقوبي والأدريسي مثلا) وإذا عرف شمال المغرب مدرسة تطوان تلك التي كونت رسامين مغاربة في السنوات الأربعين، فإن بقية المغرب كما ذكر سانت - إينيان كانت قد عرفت سنة 1954، ندوات خاصة بالتدريب على التخطيط الفني وعلى الرسم استفاد منها الشبان المسلمون من الجنسين. هذه الندوات أنشأتها مصلحة الشباب والرياضة. وبهذه المناسبة، يجب أن نشير إلى الدور الخاص الذي لعبته جاكلين بروتسكيس، تلك التى نشطت أحد معامل هذه المصلحة في الرباط حيث رعت موهبة كل من الأبيض ميلود والجزولي. ولقد قامت بعض العائلات بتضحيات كبيرة حين أرسلت أبناءها إلى الخارج للتكوين في معاهد الرسم ومن هؤلاء في هذه الحقبة من أصبح علامة بارزة ذات ذات شأن في الرسم المغربي(المليحي والشرقاوي وشبعة وكريم بناني والغرباوي) وكان أيضا أمام هؤلاء الرسامين الشباب إمكانية الاستفادة من بعض المنح للدراسة في بلاد أجنبية مختلفة. مما كان سببا في تنوع التجارب التي حصل عليها هؤلاء الرسامين المغاربة( في أسبانيا وإيطاليا وفي بلدان أوروبا الشرقية وفي فرنسا وفي الولايات المتحدة الخ) تنوع التجارب هذا ساهم في إثراء مجالات الأبحاث الفردية. لكن ن فإذا كان شباب الرسامين المغاربة اليوم يملكون في الغرب علامات مرجعية فإن الرسامين المنتمين إلى مرحلة البداية خاضوا في ميدان مجهول. لذلك، فليس سرا أن نذكر الجمهور بهذه المسائل المتعلقة بمغرب تغير اليوم جذريا، إن كل ما يدعو إلى تحريك الذاكرة لا يكون إلا مفيدا. وأخيرا فيمكن عند مواجهة رسامي هذه الحقبة ألا ندرك اليوم إدراكا حقيقيا فائدة بعض التجارب المتعلقة بالمواد والرموز والعلامات والصور. إن الأعمال الهشة في الزمن وفي القاعدة المادية، تحدثنا عن شئ خارجي في تصورية متخيلة. أما ما يبقى من طور فني على مقاس سيرورة حية، فهو ما أقحم في هذه الرغبة. إن التجارب إن كانت في لحظة ما هادفة إلى التجديد، لمن الممكن أن تفقد جدتها
وحين نتحدث عن البداية لا ينبغي نسيان المخاض الطويل الذي تفرضه كل ولادة. فالرسم ليس طفلا، إنه سيرورة حية. هكذا كانت بداية الرسم المعاصر في المغرب عميقة الجذور في حقبة تمتد على مدى طول النصف الأول من القرن العشرين. بداية أساسها في رسم يعزى إلى حقبة الاستقلال، رسم أكد نفسه بعد ذلك باعتباره باعثا على استيقاظ الوعي النظري ابتداء من السنوات الستين. أما اللحظة الحاسمة لهذه السيرورة التاريخية، فقد تحققت حين اعترف للرسم في المغرب بأنه ظاهرة ثقافية تتسع للأحلام وللرؤي وللمواهب، وتجعل الأسلوب والكيفية يختلفان من فنان إلى آخر، غير أن المهم يبدو في أن الرسم مطالب به على أنه تعبير فردي وعلى أنه نوع من اللغة يدخل في نطاق مشروع ثقافة معربية معاصرة. هكذا بدأ حضور محتشم لبعض رسامين مغاربة ابتداء من سنة 1951 في صالونات رسامين أوروبيين في المغرب. وفي سنة 1952، في صالون الشتاء بمراكش، عرض فريد بلكاهية، وعمر مشماشة، والطيب لحلو، وحسن ا لكلاوي، ومولاي أحمد الإدريسي، ومحمد الحمري، ومحمد بن علال. واقيم أيضا بين نهاية السنوات الأربعين وسنة الاستقلال، بعض أوائل المعارض الفردية (الحمرى، ومريم مزيان، (أول رسامة مسلمة في المغرب) وفريد بلكاهية مثلا) ثم إن معارض شخصية دشنت في الخارج، (الجلاوي والإدريسي وأحرضان والبايز واليعقوبي) وبعد الاستقلال أي في السنوات الخمسين، أقيمت في المغرب معارض فردية، من بينها معارض المكي مورسيا والمكي مغارة والجيلالي الغرباوي وكريم بناني ومحمد المليحي ومحمد عطا الله وسعد السفاج وأحمد الشرقاوي. وأقيم على الخصوص عدد من المعارض الجماعية، مما ساهم في إعطاء نظرة أولى عامة عن الرسم المغربي لهذه الحقبة. وبين المعارض التي أقيمت في الخارج يمكن ذكر مساهمة المغرب في بينالي الأسكندرية الثاني سنة 1957،(شارك فيه بالإضافة إلى الرسامين الذين ذكروا، بل من حسداي الموزنينو وبنهاييم ومريس أراما وحسين) وفي معرض الفنانين المغاربة في سان فرانسيسكو ميزيوم أوف ارت سنة 1957، وفي رواق المغرب في المعرض الدولي ببروكسيل سنة 1958، أو في واشنطن D.C ولندن وفيينا إلخ. وأخيرا ففي سنة 1959 شارك المغرب في أول بينالي للشباب في باريس، حيث وقع الاختيار على الغرباوي وكريم بناني وبلكاهية وحسين والمليحي والباز كان باريس لهذه الفترة مركزا للفن المعاصر في أوروبا. على أن هذه المشاركة لم تكن لتمر في خفاء. فمن بين زائري هذا البينالي فينتوري الذي كتب في المجلة إيطالية إكسريسو "بأن الاكتشاف الحقيقي بالنسبة إليه كان في باريس حيث السحر اللامنظر للرسم المغربي ثمارا معترفا بها خارج حدوده، وفي هذه الأثناء فإن مصالح الفنون الجميلة والمتاحف المغربية (التي تولت إدارتها نعيمة الخطيب) نظمت في المغرب عدة معارض جماعية متجولة، أصبح معها الرسم المغربي الوليد ذا وجود شعبي حقيقي. وابتداء من سنة 1960، نشر غاستون ديبل في إطار المركز الثقافي سلسلة كتيبات صغيرة مزينة عبارة عن دراسات عن كل من الغرباوي والإدريسي واليعقوبي وأحرضان والشرقاوي وبن علال وبلكاهية. فهل كل هذا كاف ليدل على أن الرسم حصل في المغرب على جميع احتياجاته ومطامحه؟ لا. ذلك أنه بمناسبة معرض "رسامي مدرسة باريس والرسامين المغاربة" الذي دشن في الرباط سنة 1962، فإن الناقد الفرنسي ميشيل راغون الذي أعجب بتنوع وحيوية شباب الرسامين الأهالي (سماهم أيضا رسامين شبابا مغاربة حقيقيين) فكتب :"الرسامون الشباب المغاربة الحقيقيون هم اليوم أبعد من أن ينالوا نجاحهم ، فهم مدينون بالتعريف بهم إلى كل من غاستون دييل ونعيمممة الخطيب مديرة المتاحف المغربية."(بستان الفنون رقم 114، ص 29) وعندما استعمل راغون صيغة الرسامون الشباب المغاربة الحقيقيون"، كان لفظة حقيقيين تعني قياسا إلى بعض الرسامين الأجانب المقيمين في المغرب، (فبركة لوحات بشكل آلي من أجل تصديرها، جمال ونخيل ورقصة البطن إلخ). هؤلاء الرسامون الذين لم يجرؤ أي غاليري في باريس على عرض أعمالهم، كانوا طيلة أيام الحماية متصدرين ولايزالون. إن أعمالهم بالنسبة إلى بعض بورجوازيي المغرب(..)المنبهرين بالحكاية، هي الرسم المغربي الحقيقي"، وفعلا، فإنه بالرغم من المساعي المحمودة التي قام بها أولئك الذين دعموا الرسم المغربي الوليد،فإن الوضع عراه التباس تجاري وثقافي وأخذ على أنه رسم مغربي حقيقي. ولطمأنة الجميع، فإن المعارض الجماعية الجوالة انتهت بالحصول على مواد مرسومة من كل نوع. وبدون أي عمل يراهن على الكيف، وبدون تحدي أصول تاريخية ثقافية، وبدون تعمق في النظرية وفي الفكر، فإن الخطر تبدى في الوصول إلى الباب المسدود. وازدادت خطورة هذا الالتباس بتأكيد بعض الملاحظين الأجانب ومنهم سانت - إينيان أن الرسامين المغاربة انطلقوا من فراغ ثقافي عوضوه بالمثاقفة. حتى ميشيل راغون روج لهذه الفكرة حين أكد:"إن الرسامين الأهالي يبنغي أن ينطلقوا من صفر، لأن رسمهم التقليدي كان ليس غير سم تزييني، ولذا كانوا عالة على الرسم الأوروبي.(نفس المصدر ص 26) إنا نعرف أنه ماعدا بعض المقلدين وأمثالهم في كل مكان، فإن الرسامين الأوائل المغاربة لم يأخذوا دروسهم في مدارس الرسم التي لم يستطيعوا حتى حدود السنوات الخمسين) الالتحاق بها، ولكنهم أخذوها فيما هو أكثر فائدة، وهو ما يمكن أن نسمييه روح العصر. ومن جانب آخر، فإن إرادة القطيعة والميل إلى التعبير الذاتي عند الرسامين المغاربة، مصدرهما هو القلق الناتج عن توجه نحو الأحلام والخرافات والألوان والعلامات والرموز، تلك التي يزخر بها عالم جواني مرتبط بتاريخهم نفسه، إن حالات اليعقوبي والإدريسي وأحرضان دليل على ذلك، ويمكن سرد أسماء أخرى. إن الرسم الشعبي والثقافة التقليدية لم يكونا فراغت تزيينيا، وحتى الرسم المعاصر ذلك المفرق منه في التجريدية غير عاكس لحركة البحث عن ألصول، وهذا ما تمركزت حوله المعايير الثقافية في السنوات الستين. وفي سنة 1962، أكد راغون تقسيم اتجاهات الرسم المغربي إلى اربعة رئيسية : الاتجاه الذي يستلهم الفولكلور، (يعني بذلك الفنون الشعبية) والاتجاه الغرائبي (السحري) والاتجاه التجريدي والاتجاه الفطري، غير أننا أخذنا برأي سانت - غينيان، فاختصرنا هذه الاتجاهات في اثنين رئيسيين فقط. وبعد أقل من عامين، لم يكن البحث ليعثر على غير هذين الاتجاهين .. والتزاما للدقة، ففي سنة 1964، أشار بيير جوديبير (في كتابه : الرسم المغاربي) على عدد من اتجاهات التجريد المعاصر في أقطار المغرب، ومنها المغرب (الانطباعية والهندسية واللاشكلية والغنائية) توازي هذه تشخيصية حلمية مؤسلبة فطرية أو انطباعية وبعيدا من أي تأثير أكاديمي رسمي أو أي مدرسة أسلوبية، فإن الرسم المغربي انعكست عليه عدد من الاتجاهات والشخصيات والعوالم الرؤيوية . وعبر السنين وقع الانصراف إلى البحث عن منابع تتوخى استرجاع الذاكرة وهي تنحو في نفس الوقت نحو الأزمنة المعاصرة. لقد عبر الشاعر الجزائري م. عبدون عن هذا التصور بعبارة قريبة من عبارة أطلقها م. خيرالدين، وهي :" الذاكرة المستقبلية"(أنفاس 10-8-1968، ص 13). على هذا الحد، فنحن لا نزال في السنوات الستين، أي في عمق فعل جمعوي وفي نقاش مستقل اتخذ موقفا إشكاليا حتى بالنسبة إلى حقبة البداية. وبعد انصرام حقبة الغبطة بصحوة العالم الثالث، كان على الرسامين أن يواجهوا كثيرا من الصعوبات المتعلقة بعرض أعمالهم في جو من احترام المتطلبات المعنية والفنية، من أجل الحصول على تغطية صحفية ملائمة، ومن أجل متابعة أبحاثهم متحررين من أغلال بلاغة فولكلورية حكائية وتماثلية. وأيضا ،أصبح عسيرا عليهم اقتحام المجال الدولي الذي أصبح منذ الآن فصاعدا سوقا لا يروج فيه غير رسم كله غربي. هذا وإن التفكير والنقاش اللذين دارا حول أبحاث هؤلاء الرسامين وفي مدة عشر سنوات، كانت الوضعية الدولية قد تغيرت كثيرا ووجد لهذا التغير صدى في المغرب، مما دفع بعجلة سنوات البداية إلى تطور وتجديد جذريين. لنعد إذن إلى السنوات الخمسين أي إلى المرحلة التي سبقت الاستقلال ثم تلته، أي مرحلة بداية الرسم المعاصر في المغرب، فهي كما يقال مرحلة الربط المعقدة الهجينة. فلقد مرت حقبة الحماية وفتح أما الرسامين عهد جديد. ذلك أن الذين سبق لهم أن أنتجوا أعمالا في سنوات الاستعمار شاركوا في العرض رسامين شبابا ولدوا في عهد الحماية وطرقوا مجالات أخرى. فإن أعمالا تشخيصية أو فطرية عايشت أعمالا تجريدية. وكان هنا رسامون مختلفون لكل سوقه وجمهوره أو رسامون لا جمهور لهم ولا مستهلك لأعمالهم، اتخذوا كممثلين للرسم المغربي الوليد. ولأنه في دوامة الغبطة بالبحث عن الإنقاذ والشرعية حيث يتعذر وجود التصنيف، فإن المعارض ضمت بين رحابتها كل من حمل في يده فرشاة وزعم أنه رسام. وحين يقارن بين الرؤي التجارب تسترجع فقرات من تاريخ تمت معرفته بشكل سيء عبر أعمال معروضة سيئة البناء، يقدم كل ذلك على أنه من الرسم الوطني. ومن الشمال إلى الجنوب كان على الرسامين أنفسهم وعلى الجمهور بصفة أكثر، أن يجدوا فعلا في هذا الرسم وجودهم المتبادل. إن الرسم المعاصر في المغرب بحث عن روحه وعن سبب وجوده وعن وحدته المادية. أما حماسة الرسامين والجمهور فلقد كانت بمثابة تقريظ له، فماذا يعني هذا الرسم؟ إن هذه الخطوات الأولى ضرورية لفتح حوار ومحاولة الإجابة عن هذا السؤال. إن الأجيال الشابة الراهنة لا تقدر صعوبة وضعية الرسم المغربي في حقبة البدايات البعيدة. فغالبا ما ينسون ما أحدثه الاستعمار من تأثير في المهمة التي قام بها من أجل بناء ثقافة تشكيلية وطنية. الصحافة والنقاد وغاليرات العرض والمشترون والجمهور والمجلات الثقافية والعلاقة بين المؤسسات والرسامين ومعرفة الماضي واستعادة الميراث التشكيلي الوطني، كل ذلك بدا كما لو أنه إشكالية يجب أن تحل بأي ثمن كان ولو بفراغ بنيوي كبير، لعل هذه الأجيال عرفت كم كان صعبا ودراميا معنى أن يصبح الإنسان رساما يمتلك الأدوات الضرورية، ويفتح نافذة على العالم، ويقطع الصلة مع زمن مضى. كانت الاستعدادات كثيرة، ولكن حظوظ التكوين الفني البعيد عن مجال العصامية بل حتى حظوظ الدراسة نفسها كانت جد محدودة. على أن الاحتكاك بالرسامين الأجانب الذي سهل إمكانية استعمال أدوات الرسم والتردد على ورشاتهم كان حاسما بالنسبة إلى بعض الرسامين المغاربة(بن علال واليعقوبي والأدريسي مثلا) وإذا عرف شمال المغرب مدرسة تطوان تلك التي كونت رسامين مغاربة في السنوات الأربعين، فإن بقية المغرب كما ذكر سانت - إينيان كانت قد عرفت سنة 1954، ندوات خاصة بالتدريب على التخطيط الفني وعلى الرسم استفاد منها الشبان المسلمون من الجنسين. هذه الندوات أنشأتها مصلحة الشباب والرياضة. وبهذه المناسبة، يجب أن نشير إلى الدور الخاص الذي لعبته جاكلين بروتسكيس، تلك التى نشطت أحد معامل هذه المصلحة في الرباط حيث رعت موهبة كل من الأبيض ميلود والجزولي. ولقد قامت بعض العائلات بتضحيات كبيرة حين أرسلت أبناءها إلى الخارج للتكوين في معاهد الرسم ومن هؤلاء في هذه الحقبة من أصبح علامة بارزة ذات ذات شأن في الرسم المغربي(المليحي والشرقاوي وشبعة وكريم بناني والغرباوي) وكان أيضا أمام هؤلاء الرسامين الشباب إمكانية الاستفادة من بعض المنح للدراسة في بلاد أجنبية مختلفة. مما كان سببا في تنوع التجارب التي حصل عليها هؤلاء الرسامين المغاربة( في أسبانيا وإيطاليا وفي بلدان أوروبا الشرقية وفي فرنسا وفي الولايات المتحدة الخ) تنوع التجارب هذا ساهم في إثراء مجالات الأبحاث الفردية. لكن ن فإذا كان شباب الرسامين المغاربة اليوم يملكون في الغرب علامات مرجعية فإن الرسامين المنتمين إلى مرحلة البداية خاضوا في ميدان مجهول. لذلك، فليس سرا أن نذكر الجمهور بهذه المسائل المتعلقة بمغرب تغير اليوم جذريا، إن كل ما يدعو إلى تحريك الذاكرة لا يكون إلا مفيدا. وأخيرا فيمكن عند مواجهة رسامي هذه الحقبة ألا ندرك اليوم إدراكا حقيقيا فائدة بعض التجارب المتعلقة بالمواد والرموز والعلامات والصور. إن الأعمال الهشة في الزمن وفي القاعدة المادية، تحدثنا عن شئ خارجي في تصورية متخيلة. أما ما يبقى من طور فني على مقاس سيرورة حية، فهو ما أقحم في هذه الرغبة. إن التجارب إن كانت في لحظة ما هادفة إلى التجديد، لمن الممكن أن تفقد جدتها