منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By ماجد الحضيني704
#67505
الدهاء في السياسة

الدهاء:جودة الرأي التي تمكن السياسي من أن يدير نظامًا، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب لطيف، فغير الداهية ينبذ إلى الباطل على سواء؛ فتكون الحرب بينهما سجالًا، والداهية ينصب له المكيدة، فيقع كما يقع الأسد في الزبية العميقة، ومن لم يكن داهية لا يمشي إلى الغرض إلاَّ على خط مستقيم، فإذا اعترضته عقبة كؤود وقف في حيرة أو رجع على عَقِبه يائسًا، والداهية يسير في خطٍّ منحنٍ أو منكسرٍ ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة بإدراك الغاية المطلوبة.

يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية.
والإفراط فيه الذي يعد عيبًا في صاحب السياسة إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها أو يستوفي النظر إلى آثارها.
فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثيرٌ من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل ونكد الحياة. وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان- مع سلامة ضميره وصفاء سريرته- نافذَ البصيرة في السياسة، بعيدَ النظر في عواقبها.
قال المغيرة بن شعبة: كان عمر أفضل من أن يَخْدَع، وأعْقَل من أن يُخدَع.

السياسة فنون شتى، والبراعة في كلِّ فنٍّ تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدربةِ في مسالكه، فهذا خبير بسياسةِ الحرب، وبصيرتُه في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظاماتِ بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خَرَجْتَ به؛ ليخوض في صلة أمة بأخرى ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكْنَة، وربما جنح إلى السِلم والحربُ أشرف عاقبة، أو أَذَّن بحرب والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة؛ فلا بُدَّ للدهاء في فنٍّ سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إمَّا بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوَّح إليها بقول أبي تمام:
من لم يُقَد فيطير في خيشومه رهجُ الخميس فلن يقود خميسا

أو بتلقيها على طريق النقل، كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة.
ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتمُ تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودَّة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنَّ أحكم بيت قالته العرب:

ولَرُبَّما ابتَسَم الكريمُ من الأذى وفُؤَادُه مِنْ حَرِّه يَتَأَوَّهُ

فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تُسقى منه الأمةُ حريةَ الفكر، والسُّلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة.

تسمح الحكومات الحرة للكتاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم ويجهروا بآرائهم، وتسيرُ معهم على مبدأ أنَّ الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم.
فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلاَّ إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها.
تعدُّ الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاثمائة سنة؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: والله، لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي.

يتلقى الأمراء نقد سياستهم وآرائهم بصدر رحب، وكثير منهم من إذا أنس في الأمة تهيبًا كره أن ينقلب ذلك التهيب رهبةً تجرهم إلى إيثار الخَلق على الحق، ويدعوهم إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب في قوله: أيما رجل عتب علينا في خلق فليؤذِنِّي. أي فليعلمني.

وكان المأمون يقول لأهل ناديه إذا جارَوه في كلام: هلاَّ سألتموني لماذا ؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة.
يطلق الأمراء العادلون للآراء أعنَّتها؛ لتعرض عليهم في أي صبغة شاءت، ويثقون في هذا التسامح بأن أمامها أفكارًا مستقلة، وعقولًا راجحة، فتقبل منها ما كان حقيقة ناصعة، وترد الزائف على عقبه خائبًا.