منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#67769
أعيش هذه الأيام قارئاً مستمتعاً في طبيعة النظام السياسي في الإسلام، ومدى قدرته على سياسة الدنيا بالدين، والقدرات السياسة الهائلة التي كانت متمثَّلة في العديد من الدول الإسلاميَّة التي حكمت العالم قروناً طويلة ، وكان لها في سياسة الأمم طرائق قدد، وكنت أقارن بين سلبيات وإيجابيات تلك الدول الإسلاميَّة المنصرمة (الأموية، العباسية، الأيوبيَّة، المماليك، السلاجقة، العثمانية) وبان لي أنَّ من أكبر أسباب استقرار الدولة وركائز ثباتها وديمومتها وحيويتها : نظام الشورى، ومشاورة الحكَّام لأهل العلم والخبرة والمعرفة من الأمناء على دين الناس ودنياهم، مع ما اعترى ذلك أحياناً من خلل وقصور وثغرات في مراحل وفترات تاريخية معينة.

ورأيت الأثر الحقيقي لنجاح الدولة وفلاحها وقوتها وازدهارها ظاهرًا بادياً لكل ذي عينين وذلك إن هي أخذت بنظام الشورى بكامليته، وفقهت معنى الشورى وأحكامها وآدابها وفضائلها ومآلاتها، وكان لديها الخبرة التامة في حقيقة الأشخاص الذين يجب مشورتهم.

على هذه المقاييس يمكن نجاح الدولة في كثير من شؤونها الداخلية والخارجيَّة، وإذا نظرنا لأغلب الدول التي تحكم العرب أو المسلمين حديثاً، فسنلحظ أنَّ لها مستشارين وخبراء، ولكنَّ كثيراً من هذه الدول لا تختارهم إلاَّ ممن يجيدون نفاق السلاطين، ويكونون بوقاً لهم فينعقون لهم بما يرضيهم، ولذلك نرى أنَّ كثيراً من رؤاهم قاصرة، وأفكارهم ليست حرَّة، واستراتيجيتهم خائبة خاسرة، وقواهم العقليَّة خائرة؛ لأنَّهم من المعروفين بمنافقة السلاطين، والتسبيح بحمدهم.


كثير من جلساء السلاطين يكونون من أعوانهم على رؤاهم المنحرفة، فحتَّى لو استشارهم السلاطين لم يخرجوا عن رأيهم، أو أشاروا عليهم بما يريده السلاطين، فقد ألغوا عقولهم ووضعوها في عقول سلاطينهم بدلاً عنهم، بحجّة الثقة في رؤية الحكومة أو السلطة، وأنَّ الخطأ ليس جارياً عليهم، وحتَّى لو أخطاؤوا فإنَّهم يوافقونهم في الخطأ بدلاً من أن يوضحوا لهم فساد رؤيتهم، فهم كندماء الباذنجان من منافقي السلطان.

فقد جاء في حكاية رمزيَّة عن سلطان سأل طبَّاخه: ما طبيخك لنا اليوم.. صفه لنا؟
فأجابه : أمرك سيدي !
فقال له: ماذا تقول في الباذنجان؟
قال الطبًَّاخ: لله درك سيدي، إنَّه طعام لذيذ المطعم، مبهج للروح، يزيد من الذكاء... وأكمل مسيرة التدبيج والمديح لفخامة الباذنجان!!
فقال له السلطان: ولكنَّه حار ويسبب العطش، فوقف الطبَّاخ يبين مساوئه، ويقول: إنَّ فلاناً من الأطباء ذمَّه، وقال: إنَّه يسبب التبلد!!!
فقال له السلطان: يا لك من طبَّاخ متفنِّن! كنت سابقاً تقول لي: إنَّه يُسبب الذكاء، وبعد أن ذممت لك الباذنجان قلت لي: إنَّه كيت وكيت، وأنَّه يسبب التبلد...!!!
فأجابه الطبَّاخ: يا سيدي إنَّني خادمك أنت السلطان، ولست خادماً للباذنجان !!

إنَّ السلطان يعرف الرجل الذي يأتيه لنصحه، ويبين له حقيقة ما ينفعه، ويعرف أنّ ذلك هو المستشار المؤتمن؛ لأنَّه يتحدث بمحض إرادته، وليس كذلك المنافق الذي يقول في وجه السلطان شيئاً يوافق رأي السلطان، فإذا خرج بدأ يسب السلطان، ويقول (مشيناها عليه) ويعتبر ذلك فذلكة وحذلقة وحسن كلام، مع العلم أنَّ السلطان يعرف الفرق بين المستشار المنافق والمستشار المؤتمن، وبين من يصدُقُهُ وبين من يُصَدِّقُهُ.


لقد حدثني أحد الأصدقاء أنَّ والده كان مقرباً عند أحد كبار الوزراء في دولة ما، فجاءه شيخ مشهور !! وبدأ يثني عليه وقال في حقه أبيات شعر هي كالدرر من حلاوة ألفاظها، ولكنَّها (كالبعر) من سوء معانيها، فحينما انصرف ذلك الرجل الشاعر التفت الوزير إلى أصحابه، وقال: والله إني لأحتقر هذا الرجل؛ يمدحني لمصلحته، وليس لأنه رأى فيَّ نموذجاً يستدعي المدح، وأتبع كلامه عن ذاك الرجل فقال: ( يا لك من شيخ شاعر نصَّاب)!!!

وقديماً وقف أعرابي معوج الفم أمام أحد الولاة، فألقى عليه قصيدة في الثناء عليه التماساً لمكافأة.
ولكن الوالي لم يعطه شيئاً وسأله: ما بال فمك معوج؟
فرد الشاعر: لعله عقوبة من الله لكثرة الثناء بالباطل على بعض الناس!!!

لو أخذنا هذين النموذجين وقارنَّاهما بما قاله لنا الصحابة الكرام في النهي عن ذلك، لعلمنا الخطأ الصراح، في التعامل مع السلاطين بمثل هذه الطريقة، فرضي الله عن الصحابة الأجلاء الذين بينوا أنَّ الثناء على السلطان أو الحاكم بما ليس فيه، أنَّه من سبيل النفاق والفتنة في الدين.

وأورد البخاري في صحيحه برقم :(7178) عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أنَّ ناساً قالوا لجده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إنَّا ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلَّم إذا خرجنا من عندهم . قال: كنا نعدها نفاقاً !!


يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله معقبا على قول ابن عمر: (وذلك لأنهم حدثوا فكذبوا وخانوا ما نصحوا، فالواجب على من دخل على السلاطين من الأمراء والوزراء والرؤساء والملوك الواجب عليه أن يتكلم بالأمر على حقيقته يبين لهم الواقع سواء كان الناس على استقامة أو على اعوجاج أو على حق أو على باطل، ولا يجوز للإنسان أي إنسان أن يدخل على الأمير أو على الملك أو ما أشبه ذلك ثم يقول: الناس بخير الناس وأحوالهم مستقيمة، الناس اقتصادياتهم جيدة، الناس أمنهم جيد وما أشبه ذلك وهو كاذب. هذا حرام خداع لولاة الأمور وخداع للأمة جمعاء ..... وابن عمر يقول: هذا من النفاق وصدق فهو من النفاق، حدث فكذب وخانوا وما ائتمنوا، فالواجب البيان أما النفاق والمداهنة فهذه لا تجوز) شرح رياض الصالحين 1 / 1915

وأخرج البخاري في التاريخ الكبير عن الصحابي الجليل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قال : إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَخْرُجُ وَمَا مَعَهُ دِينُهُ . قِيلَ : و كيف ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قَالَ : يُرْضِيهِ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فيه.

وأورد التبريزي في كتابه النصيحة للراعي والرعية أنَّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء؛ يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ؛ ويقول له ما ليس فيه!! وانظر: صفة الصفوة (1/614) .

والآن يعدونها سياسة، ودبلوماسيَّة، وحفاظاً على المكتسبات، وتمرير الدعوة بـ(قليل) من المديح للسلطان؛ لكي يرضى السلطان عنهم ويبارك مشاريعهم! ألا ساء ما يحكمون !


• الشورى عصمة لبقاء الدولة :

الشورى لغة: من شاور أي طلب المشورة، وشاورته واستشرته، راجعته لأرى رأيه فيه، وأشار عليّ: أي أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إشارة حسنة، هكذا حكى العلامة ابن منظور في لسان العرب.

ولأهيمتها كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقوم بها، وأرشده الله تبارك وتعالى للاهتمام بها، وخصوصاً بعد هزيمة معركة أحد؛ حيث قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}، ولو أنَّ أحداً كان يمكنه الاستغناء عن الشورى لكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلقد كان يوحى إليه وكان كلامه مصدقاً، ومع ذلك، اهتم بالشورى وعظَّم من شأنها.

يقول ابن تيمية رحمه الله في كتابه السياسة الشرعية( قيل : إنَّ الله أمر بالمشاورة نبيه صلى الله عليه وسلم فغيره أولى بالمشورة).

ولهذا جعل الإسلام حياة المسلمين الرائعة قائمة على الشورى، فقال تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم}، ووصفهم أنَّهم كانوا يستشيروه في كثير من أمورهم كما قال تعالى (إنَّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتَّى يستئذنوه) أي: يستشيروه.


ولقد رأينا كيف تشاور الصحابة رضي الله عنهم في سقيفة بني ساعدة حتى خلصوا للرأي السديد والحكم الرشيد، ومن بعدهم مشاورة أبي بكر للصحابة وخصوصاً عند أزمة ردة بعض العرب، وكذلك كان الصحابي الجليل عمر بن الخطاب يشاور أصحابه ، وحينما أرسل جنوده للفتح الإسلامي لبلاد الفرس كانت قيادات الجيش الإسلامي تتشاور في أمور الحرب والقتال.

ومِما لفت انتباهي تلك القصَّة الرائعة التي وقعت في زمن عمر بن الخطَّاب ، حيث طلب قائد جيش الفرس الالتقاء بالقائد العربي قبل المعركة للتفاوض معه حقناً للدماء، وبعد أن عرض الفارسي مقالته قال العربي: أمهلني حتَّى أستشير القوم، فدهش الفارسي، وقال: ألست أمير الجند؟ قال : بلى، قال الفارسي: إنَّنا لا نؤمر علينا من يُشاور، فقال العربي: ولهذا نهزمكم دائماً، كما أنَّنا لا نؤمر علينا من لا يُشاور!!

لهذا وجدنا سبب نصر المسلمين وهزيمة الكفار والمشركين في المشاورة وعدمها، ومن كان يُشاور أهل الشورى الذين يستحقون المشاورة، فإنَّه ولا بدَّ سيرتفع في نظرهم، فمشاورة الحاكم أو السلطان لمستشاريه الصادقين دليلٌ على تواضعه وعدم استبداده وسبيل نجاحه.


وحينما تركت الأمَّة الإسلامية سبيل الاستشارة، وأوكلت أمرها في الغالب لحكام طغاة ظلمة لا تستشير أمناءها بل لربما تستشير العدو بدلاً من الصديق الصدوق، فلهذا نراها تترنح من مصيبة إلى أخرى، ومن كارثة لأكثر، بسبب فساد أغلب الأنظمة، وبُعدها عن المنهاج الرباني، وعدم استشارة الأمناء على الدين والبلد والأمة، بل لربما قرَّبوا حزبهم الحاكم لكي يكون أغلبيَّته في مجلس الشعب أو البرلمان، ولهذا فيستحيل أن ينطق الحزب الحاكم إلاَّ بما يريده ذلك السلطان، فتتوالى الكوارث على الأمَّة، ويستبد السلطان بالرعيَّة، ولا رقيب عليه، فيفعل ما يشاء، ولهذا تقع الهزيمة به، حينما تفسد البلاد بعدَّة جوانب، ولعلَّ من أواخرها ما شهدناه في سقوط طغاة تونس ومصر، والحبل على الجرار في ليبيا وسورية واليمن وغيرها.

إنَّ من أكبر الكوارث التي تجر على الأمَّة بلاء الاستبداد السياسي والحكم بمنطق القوة بناء على مقولة (إذا كنت تملك المطرقة فكل من تراهم أمامك مسامير)، وهي ثقافة القطيع التي يحاول الكثير من حكام السوء تجييرها على الأمَّة دونما منازعة، فنلحظ حينئذ مدى الهوان والهزيمة التي تلحق بهذه الأمَّة.

فحقيقة الاستبداد : العقم السياسي الذي يستحيل أن يتفاعل مع ولادة الشورى، ولو عاش المستبد قرناً أو قرنين فستحل به الهزيمة حتماً، والتأريخ المعاصر يحدثنا، ولكن بأقلام الطغاة الذين يذكرون لنا سبب انتكاسة الحروب العربية مع الصهيونية المعاصرة في حرب 1967م، فهذا وزير الدفاع الصهيوني موشي ديان يقول في مذكراته: إنه كان يتعجب من أمر الجيوش العربية، فبعض الوحدات كانت تقاتل بشراسة ورجولة حتى آخر رمق وآخر طلقة، وبعض الوحدات في نفس الجيش كانت تستسلم دون طلقة واحدة، ولم يعرف السر في ذلك، إلى أن استسلم أحد القادة العرب ومعه جنوده وجميع أسلحته، فأخذ يسأله: "هل أخذت رأي زملائك الضباط والجنود قبل أن تأمرهم بالاستسلام لنا؟" فقال في كبرياء: إننا لا نستشير من هم دوننا في الرتبة، فقال له: لهذا السبب فنحن نهزمكم دائمًا.


ثم يستطرد القائد الصهيوني فيقول: إن الضابط اليهودي مهما علت مرتبته يأكل مع جنوده، ويعيش بينهم كواحد منهم، ويحضر معهم درس الدين، ثم هو بعد ذلك دائم الاستشارة لهم والتفاهم معهم.

فقارن بين انتصار أولئك الفرس المنهزمين أمام جند المسلمين حينما قالوا: إنَّنا لا نؤمر علينا من يُشاور، ومقولة المجاهد المسلم: ولهذا نهزمكم دائماً، كما أنَّنا لا نؤمّر علينا من لا يُشاور!!

قارن بين ذلك ومقولة القائد العربي لأحد الجيوش العربيَّة المنهزمة حينما قال: إننا لا نستشير من هم دوننا في الرتبة، فيجيبه القائد الصهيوني: لهذا السبب فنحن نهزمكم دائمًا.

فعندما ننعم النظر بين تلك الرؤية ومقابلها ندرك وجه النصر أو الهزيمة، والتاريخ وإن كان لا يعيد نفسه، ولكنَّ أحداثه بين قديم سالف وحاضر معاصر تتشابه أحداثهما بشكل أو بآخر.


• فائدة أميريَّة:

ذكر الصحابي الجليل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ فوائد الشورى تكمن في: استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن عن السقطة، وحذر من الملامة، ونجاة من الندامة، وألفة القلوب، واتباع الأثر.