- الأربعاء ديسمبر 04, 2013 9:36 pm
#67837
مـــا هـــى الــــقــــوة ؟
لا توجد خلافات ذات أهمية حول تحديد المقصود بمصطلح القوة (Power)، فمعظم التعريفات تقرر باختصار شديد، أن القوة هى القدرة على التأثير فى سلوك الآخرين ، أو القدرة على التحكم فى سلوك الآخرين ، لكن لأن مثل هذه التعريفات لا تؤكد سوى أن محور مفهوم القوة هو التأثير ، فإن بعض محللى العلاقات الدولية قد قدموا تعريفات تحاول أن تحدد بشكل أكثر وضوحا ماهية القوة ، كالإشارة الى أنها علاقة بين دولتين ، تسمح (أى العلاقة) بقيام حكومة إحداهما بحمل حكومة الدولة الأخرى على أن تتبع سلوكاً معينا ، لم تقم تلك الحكومة (الثانية) باختياره بمحض إرادتها ، كأن تجعلها تقدم على القيام بأعمال لا ترغب فى القيام بها، أو تمنعها من القيام بأفعال ترغب فى القيام بها . وبصورة رمزية ، فإن القوة هى قدرة (أ) على دفع (ب) لأن يفعل (س) ، أو لا يفعل (ص) .
وتتمثل إحدى مشكلات هذا التعريف فى أن من الصعب ـ فى معظم الحالات ـ أن يتم التأكد من احتمالات قيام الطرف الثانى بالفعل (س) أو عدم قيامه بالفعل (ص) ، إذا لم تكن تأثيرات قوة الطرف الأول قائمة ، فلا يمكن التأكد من أن كل قائد سيارة لا يتجاوز السرعة المقررة ـ حسب قانون المرور ـ على الطرق السريعة ، يفعل ذلك خشية التعرض لسحب رخصة القيادة والغرامة المالية ، وبالمثل تشير بعض الدراسات الى أن اليابان لم تستسلم للولايات المتحدة فى نهاية الحرب العالمية الثانية لأنها ضربت بالقنابل الذرية ، فربما عجل هذا بحدوث ذلك فقط ، إذ أنها كانت أنهكت ، وكانت حكوماتها قد بدأت تبحث عن طريقة للاستسلام . لذا ظهر تعريف شهير يقرر أن القوة = قدرة (أ) على دفع (ب) للقيام بالعمل (س) ـ احتمال قيام (ب) بالعمل (س) بغض النظر عما فعله (أ) .
على أية حال ، فإن جوهر أى تعريف للقوة هو أنها علاقة سلوكية ين طرفين يقوم أحدهما بالتأثير فى سلوك الطرف الآخر ، فى الإتجاهات التى تحقق أهدافه ، أو بما يتفق مع رغباته ، فى وقت معين أو عبر فترة زمنية ممتدة ، أو فى مجال ما أو عدة مجالات ، استنادا على توافر قدرات تتيح له (للطرف الأول) القيام بذلك . وفى هذا السياق يمكن ـ استناداً على الشكل التالى ـ رصد عدة عناصر لمفهوم القوة:
1 - أن القوة وسيلة لتحقيق غاية ، وليست غاية فى حد ذاتها ، فالدول تستخدم قوتها لتحقيق أهداف محددة فى النهاية ، فمن الصعب تصور أن الدول يمكن أن تستخدم قوتها ببساطة لمجرد استعراض القوة ، فعندما تقوم الحكومات بتنظيم استعراضات عسكرية لقواتها وأسلحتها فى ميادين العواصم ، يكون الهدف هو اكتساب أو تأكيد مكانة سياسية دولية / إقليمية معينة ، أو رفع الحالة المعنوية للشعوب ، إن لم يكن تدعيم الردع ، أو إرسال رسائل فى اتجاه أو آخر ، وعندما تنشر البنوك موازناتها المالية السنوية فى الصحف ، أو تتبرع لمشروعات خيرية ، أو تنفق على العلاقات العامة ، فإنها تستهدف كسب ثقة العملاء بتأكيد قوة مركزها المالى .
المشكلة أن هناك بعض الأسس لفكرة أن القوة قد تكون هدف فى حد ذاتها ، فقد أكدت الكتابات الأولى للمدرسة الواقعية (مثل كتابات توماس هوبز وهانز جى مورجانثو) على أن القوة فى حد ذاتها قد تمثل قيمة مرغوب فيها ، فكما أن رجال الأعمال يستثمرون أموالهم بهدف نهائى هو الحصول على مزيد من الربح المالى ، وكما أن أى ممارس للسياسة يعمل على تدعيم قوته أو الحفاظ عليها ، فإن الدول يجب أن تسعى إلى زيادة قوتها وتدعيم تأثيرها، وإلا فإن مركزها سوف يتدهور مع الوقت ، إلا أن القضية هنا هى أن علاقة الوسائل بالأهداف تتسم بالتعقيد والديناميكية ، فالغايات تدعم الوسائل المتاحة لتحقيق أهداف أوسع وأبعد مدى .
2 - أن القوة علاقة بين طرفين ، وليست فعل ساكن ، أو ممارسة فى فراغ ، فأعمال التأثير تتضمن بالضرورة وجود علاقة بين طرفين (الدولة أ والدولة ب على سبيل المثال) تتفاعل فى إطارها وسائل وأساليب التأثير على الإرادات والسلوكيات ، عبر فترة من الزمن تشكل فى التحليل النهائى حوار / صدام إرادات يتحدد بناء على ملامحه نمط العلاقة القائمة بين الطرفين . وقد تتخذ هذه العلاقة شكل الإتصال الصريح الذى تستخدم أدوات وأساليب القوة فيه بوضوح ، كما قد تتخذ أشكالا إيحائية أو خافتة تتحرك عبرها رسائل مختلفة ، إلا أن المهم هنا هو ما يلى :
- أن التأثير لا يسير فى إتجاه واحد طوال الوقت ، فقد تكون الدولة (أ) هى الطرف الفاعل Actor ، وقد تكون الدولة (ب) هى الهدف Target ، أو العكس ، فمهما بلغت قوة أحد الطرفين ، فإنه معرض لردود أفعال ، ومهما بلغ ضعف الطرف الآخر ، تكون لديه قدرة على القيام ببعض الأفعال المؤثرة ، كما هو واضح من تطورات مرحلة ما بعد 11 سبتمبر عام 2001.
ـ أن علاقات القوة قد لا تكون ثنائية فى كثير من الحالات ، فمعظم أنماط التفاعلات الدولية فى العصر الحديث متعددة الأطراف ، على نحو يفرز أنماط تأثير شديدة التعقيد ، وحتى فى إطار بعض أشكال علاقات القوة التى يكون من الواضح أنها ثنائية ، ربما يكون ثمة طرف ثالث يتدخل بشكل مؤثر ، كالولايات المتحدة على المسار الفلسطينى ـ الإسرائيلى فى إطار الصراع/التسوية بين العرب وإسرائيل .
3 - أن القوة نسبية ، وليست قيمة مطلقة ، فمن غير الممكن وصف طرف ما بأنه قوى أو ضعيف إلا فى إطار مقارنته بطرف أو أطراف أخرى ، فتلك المقارنة هى التى تحدد موقعه فى هيكل القوة على المستوى الإقليمى أو الدولى، فالهند قد تكون قوية عسكريا بالنسبة لباكستان ، لكن الصين قد تكون أقوى منها، والأخيرة أقل قوة بالنسبة للولايات المتحدة، فالفكرة العامة هى أن الدولة تكون قوية بمدى قدرتها على التأثير فى سلوك الآخرين بأكثر مما يؤثر به الآخرون فى سلوكها ، أى عندما تكون (أ) قادرة على دفع (ب) إلى القيام بعمل معين ، أو منعها من القيام دون أن تستطيع (ب) دفع (أ) يفعل / لا يفعل شيئا مشابها لما اضطرت إلى القيام أو عدم القيام به، بما يطرحه ذلك كله من افتراضات بالنسبة لكم ونوع أدوات القوة المملوكة لكل منهما .
ولا تخل مسألة نسبية القوة من تعقيدات أيضا ، بفعل تطورات هامة شهدها العصر الحديث ، كعدم توازن عناصر القوة المملوكة للدول، فاليابان قوية اقتصاديا مقارنة بروسيا الاتحادية ، إلا أنها لا تقارن بها عسكريا ، كما أن مسألة امتلاك الأسلحة النووية قد أدت الى انقلابات غامضة فى مفاهيم القوة، يضاف إلى ذلك تحولات عناصر القوة تدريجيا نحو القدرات المعرفية والتكنولوجية التى يصعب قياسها بعيداً عن تطبيقاتها، أو إدراك ما تتضمنه سياسيا ، وكذلك وجود انقسامات عالمية حادة ، استنادا على معايير قياسية ، أصبحت تتيح وصف مجموعات من الدول بأنها متقدمة وأخرى متخلفة ، دون حاجة لإجراء مقارنات مركبة، لكن تظل أهمية نسبية القوة فى أنها تحدد ماهو متاح للتحقيق من جانب كل دولة إزاء الدول الأخرى .
4 - أن نماذج التأثير تتسم بالتعقيد الشديد ، فالقوة عملية Process ، تتضمن أكثر من مجرد قدرة الدولة (أ) على التأثير على سلوك الدولة (ب) فى حالة معينة ، إذ أن عملية التأثير لا تتوقف عند رد فعل الدولة (ب) على الفعل الموجه إليها من الدولة الأولى ، خاصة وأن رد الفعل للدولة (ب) المشار إليه قد يكون الإذعان ، بما يتطلب من الدولة (أ) فعل تعاونى ما ، لتدعيم الاتجاه الذى اتخذته (ب) ، أو قد يكون عدم الرضوخ بما يضطر (أ) إلى رد فعل مضاد ، فعادة ما تكون هناك سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التالية التى يختلط فيها الفعل برد الفعل ، بحيث يصبح كل طرف فاعل وهدف فى نفس الوقت :
إن النموذج الواضح لذلك هو إنتفاضة الأقصى التى انفجرت عام 2000 ، فقد قام إرييل شارون بدخول المسجد الأقصى ، فرد الفلسطينيون على ذلك باحتجاج عنيف ، لترد القوات الإسرائيلية بعنف عدوانى ، مما أدى الى تصاعد العنف الفلسطينى ، أعقبته عمليات إنتقام إسرائيلية ، فردود أفعال فلسطينية ، لتستمر العملية فى طريقها ، مكتسبة عناصر قوة ذاتية بدا أحيانا أنها متحكمة فى سلوك الطرفين .
وعادة ما تطرح كل حالة نموذجا خاصا بها ، كما حدث عام 1956 بين مصر وكل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل ، بدءا من سحب عرض تمويل السد العالى ، مرورا بتأميم قناة السويس ، إلى العدوان الثلاثى ، والمقاومة المصرية ، وكذلك ما شهدته المنطقة عام 1967 ، بداية بأزمة مايو التى شهدت أفعال رئيسية (إغلاق مضيق العقبة ، طلب سحب قوات الطوارئ) حتى انفجار الحرب ، لكن المهم أنه فى معظم الأحوال، لا تتوقف عملية التأثير عند حدود الأفعال وردود الأفعال ، وإنما تتسع لتشمل الأفعال التالية وردود الأفعال المضادة) .
5 - أن لكل عملية تأثير محددات خاصة تتفاعل الأفعال وردود الأفعال المتصلة بها فى إطار مجال أو نطاق معين ، وفق قواعد لعبة معينة تحكم كل عملية، وهو عنصر شديد الأهمية فى فهم معنى القوة سيتم تناوله تفصيلا فى الفصول التالية، فالفيل (المهاجم) يمكنه أن يحطم أى عائق يقف أمامه ، لكنه لا يستطيع التخلص من حشرة تقف على ظهره ، أو حسب تشبيه شائع لا يمكنه إدخال خيط فى ثقب إبرة، بل إن شخصا قوى بدنيا (كأن يكون بطل كمال أجسام على سبيل المثال) يمكنه أن يلقى هزيمة ساحقة فى مباراة ملاكمة أو كاراتيه ضد أشخاص أقل قوة، ناهيك عن مباراة شطرنج أو تنس طاولة ، كما أن القوة المطلوبة لمحاصرة مدينة معينة، أو قصفها ، خلال حرب ، لا تتيح للطرف القائم بالحصار أو القصف نفس درجة (أو كمية) القوة المطلوبة لكسب ولاء سكان تلك المدينة ، ولا يمكن تحويلها ببساطة الى نوعية القوة اللازمة للقيام بالمهمة الأخيرة ، والتطبيقات العملية استراتيجيا لكل ذلك شديدة التنوع .
إن وصف دولة ما ـ فى سياق تلك النقطة ـ بأنها قوية ، لا يعنى أنها قادرة على التأثير فى سلوك الآخرين فى كل المجالات ، وبشأن كل القضايا ، أى أنها قادرة على هزيمتهم عسكريا ومنحهم ماليا والسيطرة عليهم ثقافيا وإختراقهم سياسيا ، فكوريا الشمالية يمكنها أن تؤثر فى سلوك كوريا الجنوبية بتهديدها عسكريا ، لكن ليس لديها ما تؤثر به اقتصاديا أو ثقافيا ، كما أن حيازة دولة ما لعنصر قوة محدد لا يعنى أنها قادرة على استخدامه للتأثير على كل أنماط السلوك المحيطة بها ، بما فى ذلك سلوكيات ترتبط بالهدف الواسع من امتلاك هذا العنصر ذاته ، فامتلاك اسرائيل سلاحا نوويا يكسبها حصانة إزاء تهديدات الدول العربية لوجودها ، لكنه لا يمكنها من ردع الاستخدامات منخفضة الشدة للقوة المسلحة أو العنف المسلح ضدها ، بما فى ذلك الحروب المحدودة كما حدث فى أكتوبر 1973 . ولا تستطيع دولة ـ بما فى ذلك الولايات المتحدة المسيطرة فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة ـ أن تخوض عمليات ممارسة تأثير فى كل اتجاه ، على كل المستويات ، فى وقت واحد ، دون أن تخاطر بالتورط فى المشكلات ، أو فقدان الهيبة أو المصداقية ، ثم تدهور القوة .
لكن تظل النقطة الأساسية المرتبطة بمفهوم القوة ـ والتى ستكون محور تركيز الفصلين التاليين ـ هى أن تأثير أى دولة فى توجهات أو سلوك الدول الأخرى ، لا يحقق أية نتائج ذات أهمية (إلا إذا كان الآخرون بلهاء) سوى بالاستناد على إمكانيات مادية أو معنوية مختلفة، تتم تعبئة عناصر معينة منها ، كأدوات للتأثير، سواء بالإقناع أو الإغراء أو التهديد أو المعاقبة ، فى مواجهة الأطراف المستهدف التأثير فيها . فمحاولة التأثير أو تصور إمكانية التأثير ، دون إمتلاك قدرات مناسبة، لن تفرز سوى ظواهر صوتية ، أو حسب التعبير العامى جعجعة ، على غرار صيحة المخمورين فى الأفلام السينمائية القديمة أنا جدع، أو قد تؤدى الى تورط الدول فى مشكلات .
وهناك تشبيه شائع يطرح فى كتابات كثيرة بهذا الشأن ، حول رجل غير مسلح يقوم باقتحام بنك ، ويطلب من أحد العاملين إعطائه كل النقود التى بحوزته ، غير أن الموظف يلاحظ أنه غير مسلح ، ولا يشكل أى تهديد ، فيرفض الخضوع لأمره ، وتفشل العملية ، ولا يجد الرجل أمامه سوى الإنسحاب (الهروب) بسرعة قبل أن يجد نفسه فى ورطة . لكن نفس الرجل يعود مرة أخرى ـ بعد فترة ـ إلى تكرار عمليته باقتحام البنك ، حاملا مسدسا هذه المرة ، ولا يجد الموظف أمامه ، بعد تردد ، خياراً آخر سوى تسليمه النقود فقد استخدم اللص قدرات معينة (السلاح) أدت إلى إجبار الموظف على تغيير سلوكه .
ولقد وصلت أهمية توافر الإمكانيات كعنصر من عناصر مفهوم القوة الى حد تبلور تيار بين محللى القوة يطرح تعريفا آخر للقوة لا يستند على كونها عملية تأثير فى الإرادات ، وإنما رمز لامتلاك القدرات ، فمن يمتلك عناصر قوة (موارد ـ قدرات) معينة يصبح قويا ، ومن لا يمتلكها لا يعد كذلك ، على نمط ماهو متصور فى الذهن العام بشأن القوة ، خاصة وأن الإمكانيات يمكن رؤيتها أو لمسها أو قياسها ، بخلاف التأثيرات التى تصعب الإحاطة بأبعادها المختلفة ، ورغم أن التعريفات القائمة على إمتلاك القدرات لم تصبح تعريفات سائدة ، لأنها لا تقدم تفسيرات كافية لظاهر القوة ، كما أنها تطرح إشكاليات أعقد بكثير مما تطرحه التعريفات المتداولة بشأن فكرة التأثير ، إلا أن أى تعريف للقوة لا يتجاوز أبدا مسألة أن أحد عناصرها الأساسية القليلة ـ التى تضاف إلى الأفعال وردود الأفعال ـ هو امتلاك القدرات التى تجعل محاولة التأثير ممكنة أو فعالة .
لا توجد خلافات ذات أهمية حول تحديد المقصود بمصطلح القوة (Power)، فمعظم التعريفات تقرر باختصار شديد، أن القوة هى القدرة على التأثير فى سلوك الآخرين ، أو القدرة على التحكم فى سلوك الآخرين ، لكن لأن مثل هذه التعريفات لا تؤكد سوى أن محور مفهوم القوة هو التأثير ، فإن بعض محللى العلاقات الدولية قد قدموا تعريفات تحاول أن تحدد بشكل أكثر وضوحا ماهية القوة ، كالإشارة الى أنها علاقة بين دولتين ، تسمح (أى العلاقة) بقيام حكومة إحداهما بحمل حكومة الدولة الأخرى على أن تتبع سلوكاً معينا ، لم تقم تلك الحكومة (الثانية) باختياره بمحض إرادتها ، كأن تجعلها تقدم على القيام بأعمال لا ترغب فى القيام بها، أو تمنعها من القيام بأفعال ترغب فى القيام بها . وبصورة رمزية ، فإن القوة هى قدرة (أ) على دفع (ب) لأن يفعل (س) ، أو لا يفعل (ص) .
وتتمثل إحدى مشكلات هذا التعريف فى أن من الصعب ـ فى معظم الحالات ـ أن يتم التأكد من احتمالات قيام الطرف الثانى بالفعل (س) أو عدم قيامه بالفعل (ص) ، إذا لم تكن تأثيرات قوة الطرف الأول قائمة ، فلا يمكن التأكد من أن كل قائد سيارة لا يتجاوز السرعة المقررة ـ حسب قانون المرور ـ على الطرق السريعة ، يفعل ذلك خشية التعرض لسحب رخصة القيادة والغرامة المالية ، وبالمثل تشير بعض الدراسات الى أن اليابان لم تستسلم للولايات المتحدة فى نهاية الحرب العالمية الثانية لأنها ضربت بالقنابل الذرية ، فربما عجل هذا بحدوث ذلك فقط ، إذ أنها كانت أنهكت ، وكانت حكوماتها قد بدأت تبحث عن طريقة للاستسلام . لذا ظهر تعريف شهير يقرر أن القوة = قدرة (أ) على دفع (ب) للقيام بالعمل (س) ـ احتمال قيام (ب) بالعمل (س) بغض النظر عما فعله (أ) .
على أية حال ، فإن جوهر أى تعريف للقوة هو أنها علاقة سلوكية ين طرفين يقوم أحدهما بالتأثير فى سلوك الطرف الآخر ، فى الإتجاهات التى تحقق أهدافه ، أو بما يتفق مع رغباته ، فى وقت معين أو عبر فترة زمنية ممتدة ، أو فى مجال ما أو عدة مجالات ، استنادا على توافر قدرات تتيح له (للطرف الأول) القيام بذلك . وفى هذا السياق يمكن ـ استناداً على الشكل التالى ـ رصد عدة عناصر لمفهوم القوة:
1 - أن القوة وسيلة لتحقيق غاية ، وليست غاية فى حد ذاتها ، فالدول تستخدم قوتها لتحقيق أهداف محددة فى النهاية ، فمن الصعب تصور أن الدول يمكن أن تستخدم قوتها ببساطة لمجرد استعراض القوة ، فعندما تقوم الحكومات بتنظيم استعراضات عسكرية لقواتها وأسلحتها فى ميادين العواصم ، يكون الهدف هو اكتساب أو تأكيد مكانة سياسية دولية / إقليمية معينة ، أو رفع الحالة المعنوية للشعوب ، إن لم يكن تدعيم الردع ، أو إرسال رسائل فى اتجاه أو آخر ، وعندما تنشر البنوك موازناتها المالية السنوية فى الصحف ، أو تتبرع لمشروعات خيرية ، أو تنفق على العلاقات العامة ، فإنها تستهدف كسب ثقة العملاء بتأكيد قوة مركزها المالى .
المشكلة أن هناك بعض الأسس لفكرة أن القوة قد تكون هدف فى حد ذاتها ، فقد أكدت الكتابات الأولى للمدرسة الواقعية (مثل كتابات توماس هوبز وهانز جى مورجانثو) على أن القوة فى حد ذاتها قد تمثل قيمة مرغوب فيها ، فكما أن رجال الأعمال يستثمرون أموالهم بهدف نهائى هو الحصول على مزيد من الربح المالى ، وكما أن أى ممارس للسياسة يعمل على تدعيم قوته أو الحفاظ عليها ، فإن الدول يجب أن تسعى إلى زيادة قوتها وتدعيم تأثيرها، وإلا فإن مركزها سوف يتدهور مع الوقت ، إلا أن القضية هنا هى أن علاقة الوسائل بالأهداف تتسم بالتعقيد والديناميكية ، فالغايات تدعم الوسائل المتاحة لتحقيق أهداف أوسع وأبعد مدى .
2 - أن القوة علاقة بين طرفين ، وليست فعل ساكن ، أو ممارسة فى فراغ ، فأعمال التأثير تتضمن بالضرورة وجود علاقة بين طرفين (الدولة أ والدولة ب على سبيل المثال) تتفاعل فى إطارها وسائل وأساليب التأثير على الإرادات والسلوكيات ، عبر فترة من الزمن تشكل فى التحليل النهائى حوار / صدام إرادات يتحدد بناء على ملامحه نمط العلاقة القائمة بين الطرفين . وقد تتخذ هذه العلاقة شكل الإتصال الصريح الذى تستخدم أدوات وأساليب القوة فيه بوضوح ، كما قد تتخذ أشكالا إيحائية أو خافتة تتحرك عبرها رسائل مختلفة ، إلا أن المهم هنا هو ما يلى :
- أن التأثير لا يسير فى إتجاه واحد طوال الوقت ، فقد تكون الدولة (أ) هى الطرف الفاعل Actor ، وقد تكون الدولة (ب) هى الهدف Target ، أو العكس ، فمهما بلغت قوة أحد الطرفين ، فإنه معرض لردود أفعال ، ومهما بلغ ضعف الطرف الآخر ، تكون لديه قدرة على القيام ببعض الأفعال المؤثرة ، كما هو واضح من تطورات مرحلة ما بعد 11 سبتمبر عام 2001.
ـ أن علاقات القوة قد لا تكون ثنائية فى كثير من الحالات ، فمعظم أنماط التفاعلات الدولية فى العصر الحديث متعددة الأطراف ، على نحو يفرز أنماط تأثير شديدة التعقيد ، وحتى فى إطار بعض أشكال علاقات القوة التى يكون من الواضح أنها ثنائية ، ربما يكون ثمة طرف ثالث يتدخل بشكل مؤثر ، كالولايات المتحدة على المسار الفلسطينى ـ الإسرائيلى فى إطار الصراع/التسوية بين العرب وإسرائيل .
3 - أن القوة نسبية ، وليست قيمة مطلقة ، فمن غير الممكن وصف طرف ما بأنه قوى أو ضعيف إلا فى إطار مقارنته بطرف أو أطراف أخرى ، فتلك المقارنة هى التى تحدد موقعه فى هيكل القوة على المستوى الإقليمى أو الدولى، فالهند قد تكون قوية عسكريا بالنسبة لباكستان ، لكن الصين قد تكون أقوى منها، والأخيرة أقل قوة بالنسبة للولايات المتحدة، فالفكرة العامة هى أن الدولة تكون قوية بمدى قدرتها على التأثير فى سلوك الآخرين بأكثر مما يؤثر به الآخرون فى سلوكها ، أى عندما تكون (أ) قادرة على دفع (ب) إلى القيام بعمل معين ، أو منعها من القيام دون أن تستطيع (ب) دفع (أ) يفعل / لا يفعل شيئا مشابها لما اضطرت إلى القيام أو عدم القيام به، بما يطرحه ذلك كله من افتراضات بالنسبة لكم ونوع أدوات القوة المملوكة لكل منهما .
ولا تخل مسألة نسبية القوة من تعقيدات أيضا ، بفعل تطورات هامة شهدها العصر الحديث ، كعدم توازن عناصر القوة المملوكة للدول، فاليابان قوية اقتصاديا مقارنة بروسيا الاتحادية ، إلا أنها لا تقارن بها عسكريا ، كما أن مسألة امتلاك الأسلحة النووية قد أدت الى انقلابات غامضة فى مفاهيم القوة، يضاف إلى ذلك تحولات عناصر القوة تدريجيا نحو القدرات المعرفية والتكنولوجية التى يصعب قياسها بعيداً عن تطبيقاتها، أو إدراك ما تتضمنه سياسيا ، وكذلك وجود انقسامات عالمية حادة ، استنادا على معايير قياسية ، أصبحت تتيح وصف مجموعات من الدول بأنها متقدمة وأخرى متخلفة ، دون حاجة لإجراء مقارنات مركبة، لكن تظل أهمية نسبية القوة فى أنها تحدد ماهو متاح للتحقيق من جانب كل دولة إزاء الدول الأخرى .
4 - أن نماذج التأثير تتسم بالتعقيد الشديد ، فالقوة عملية Process ، تتضمن أكثر من مجرد قدرة الدولة (أ) على التأثير على سلوك الدولة (ب) فى حالة معينة ، إذ أن عملية التأثير لا تتوقف عند رد فعل الدولة (ب) على الفعل الموجه إليها من الدولة الأولى ، خاصة وأن رد الفعل للدولة (ب) المشار إليه قد يكون الإذعان ، بما يتطلب من الدولة (أ) فعل تعاونى ما ، لتدعيم الاتجاه الذى اتخذته (ب) ، أو قد يكون عدم الرضوخ بما يضطر (أ) إلى رد فعل مضاد ، فعادة ما تكون هناك سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التالية التى يختلط فيها الفعل برد الفعل ، بحيث يصبح كل طرف فاعل وهدف فى نفس الوقت :
إن النموذج الواضح لذلك هو إنتفاضة الأقصى التى انفجرت عام 2000 ، فقد قام إرييل شارون بدخول المسجد الأقصى ، فرد الفلسطينيون على ذلك باحتجاج عنيف ، لترد القوات الإسرائيلية بعنف عدوانى ، مما أدى الى تصاعد العنف الفلسطينى ، أعقبته عمليات إنتقام إسرائيلية ، فردود أفعال فلسطينية ، لتستمر العملية فى طريقها ، مكتسبة عناصر قوة ذاتية بدا أحيانا أنها متحكمة فى سلوك الطرفين .
وعادة ما تطرح كل حالة نموذجا خاصا بها ، كما حدث عام 1956 بين مصر وكل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل ، بدءا من سحب عرض تمويل السد العالى ، مرورا بتأميم قناة السويس ، إلى العدوان الثلاثى ، والمقاومة المصرية ، وكذلك ما شهدته المنطقة عام 1967 ، بداية بأزمة مايو التى شهدت أفعال رئيسية (إغلاق مضيق العقبة ، طلب سحب قوات الطوارئ) حتى انفجار الحرب ، لكن المهم أنه فى معظم الأحوال، لا تتوقف عملية التأثير عند حدود الأفعال وردود الأفعال ، وإنما تتسع لتشمل الأفعال التالية وردود الأفعال المضادة) .
5 - أن لكل عملية تأثير محددات خاصة تتفاعل الأفعال وردود الأفعال المتصلة بها فى إطار مجال أو نطاق معين ، وفق قواعد لعبة معينة تحكم كل عملية، وهو عنصر شديد الأهمية فى فهم معنى القوة سيتم تناوله تفصيلا فى الفصول التالية، فالفيل (المهاجم) يمكنه أن يحطم أى عائق يقف أمامه ، لكنه لا يستطيع التخلص من حشرة تقف على ظهره ، أو حسب تشبيه شائع لا يمكنه إدخال خيط فى ثقب إبرة، بل إن شخصا قوى بدنيا (كأن يكون بطل كمال أجسام على سبيل المثال) يمكنه أن يلقى هزيمة ساحقة فى مباراة ملاكمة أو كاراتيه ضد أشخاص أقل قوة، ناهيك عن مباراة شطرنج أو تنس طاولة ، كما أن القوة المطلوبة لمحاصرة مدينة معينة، أو قصفها ، خلال حرب ، لا تتيح للطرف القائم بالحصار أو القصف نفس درجة (أو كمية) القوة المطلوبة لكسب ولاء سكان تلك المدينة ، ولا يمكن تحويلها ببساطة الى نوعية القوة اللازمة للقيام بالمهمة الأخيرة ، والتطبيقات العملية استراتيجيا لكل ذلك شديدة التنوع .
إن وصف دولة ما ـ فى سياق تلك النقطة ـ بأنها قوية ، لا يعنى أنها قادرة على التأثير فى سلوك الآخرين فى كل المجالات ، وبشأن كل القضايا ، أى أنها قادرة على هزيمتهم عسكريا ومنحهم ماليا والسيطرة عليهم ثقافيا وإختراقهم سياسيا ، فكوريا الشمالية يمكنها أن تؤثر فى سلوك كوريا الجنوبية بتهديدها عسكريا ، لكن ليس لديها ما تؤثر به اقتصاديا أو ثقافيا ، كما أن حيازة دولة ما لعنصر قوة محدد لا يعنى أنها قادرة على استخدامه للتأثير على كل أنماط السلوك المحيطة بها ، بما فى ذلك سلوكيات ترتبط بالهدف الواسع من امتلاك هذا العنصر ذاته ، فامتلاك اسرائيل سلاحا نوويا يكسبها حصانة إزاء تهديدات الدول العربية لوجودها ، لكنه لا يمكنها من ردع الاستخدامات منخفضة الشدة للقوة المسلحة أو العنف المسلح ضدها ، بما فى ذلك الحروب المحدودة كما حدث فى أكتوبر 1973 . ولا تستطيع دولة ـ بما فى ذلك الولايات المتحدة المسيطرة فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة ـ أن تخوض عمليات ممارسة تأثير فى كل اتجاه ، على كل المستويات ، فى وقت واحد ، دون أن تخاطر بالتورط فى المشكلات ، أو فقدان الهيبة أو المصداقية ، ثم تدهور القوة .
لكن تظل النقطة الأساسية المرتبطة بمفهوم القوة ـ والتى ستكون محور تركيز الفصلين التاليين ـ هى أن تأثير أى دولة فى توجهات أو سلوك الدول الأخرى ، لا يحقق أية نتائج ذات أهمية (إلا إذا كان الآخرون بلهاء) سوى بالاستناد على إمكانيات مادية أو معنوية مختلفة، تتم تعبئة عناصر معينة منها ، كأدوات للتأثير، سواء بالإقناع أو الإغراء أو التهديد أو المعاقبة ، فى مواجهة الأطراف المستهدف التأثير فيها . فمحاولة التأثير أو تصور إمكانية التأثير ، دون إمتلاك قدرات مناسبة، لن تفرز سوى ظواهر صوتية ، أو حسب التعبير العامى جعجعة ، على غرار صيحة المخمورين فى الأفلام السينمائية القديمة أنا جدع، أو قد تؤدى الى تورط الدول فى مشكلات .
وهناك تشبيه شائع يطرح فى كتابات كثيرة بهذا الشأن ، حول رجل غير مسلح يقوم باقتحام بنك ، ويطلب من أحد العاملين إعطائه كل النقود التى بحوزته ، غير أن الموظف يلاحظ أنه غير مسلح ، ولا يشكل أى تهديد ، فيرفض الخضوع لأمره ، وتفشل العملية ، ولا يجد الرجل أمامه سوى الإنسحاب (الهروب) بسرعة قبل أن يجد نفسه فى ورطة . لكن نفس الرجل يعود مرة أخرى ـ بعد فترة ـ إلى تكرار عمليته باقتحام البنك ، حاملا مسدسا هذه المرة ، ولا يجد الموظف أمامه ، بعد تردد ، خياراً آخر سوى تسليمه النقود فقد استخدم اللص قدرات معينة (السلاح) أدت إلى إجبار الموظف على تغيير سلوكه .
ولقد وصلت أهمية توافر الإمكانيات كعنصر من عناصر مفهوم القوة الى حد تبلور تيار بين محللى القوة يطرح تعريفا آخر للقوة لا يستند على كونها عملية تأثير فى الإرادات ، وإنما رمز لامتلاك القدرات ، فمن يمتلك عناصر قوة (موارد ـ قدرات) معينة يصبح قويا ، ومن لا يمتلكها لا يعد كذلك ، على نمط ماهو متصور فى الذهن العام بشأن القوة ، خاصة وأن الإمكانيات يمكن رؤيتها أو لمسها أو قياسها ، بخلاف التأثيرات التى تصعب الإحاطة بأبعادها المختلفة ، ورغم أن التعريفات القائمة على إمتلاك القدرات لم تصبح تعريفات سائدة ، لأنها لا تقدم تفسيرات كافية لظاهر القوة ، كما أنها تطرح إشكاليات أعقد بكثير مما تطرحه التعريفات المتداولة بشأن فكرة التأثير ، إلا أن أى تعريف للقوة لا يتجاوز أبدا مسألة أن أحد عناصرها الأساسية القليلة ـ التى تضاف إلى الأفعال وردود الأفعال ـ هو امتلاك القدرات التى تجعل محاولة التأثير ممكنة أو فعالة .