- الأربعاء ديسمبر 04, 2013 10:21 pm
#67862
يعرف مؤرخ الدبلوماسية الشهير هارولد نيكلسون Harold Niclson الدبلوماسية القديمة بأنها دبلوماسية المدرسة الفرنسية والتى صاغها ومارسها الكاردينال ريشيليو Richelieu وهى الدبلوماسية التى تبنتها البلدان الأوروبية خلال القرون الثلاثة التى سبقت التحول الكبير الذى حدث عام 1919 وينظر نيكلسون إلى هذه الدبلوماسية كأفضل الأساليب لإدارة العلاقات بين دول متمدينة فقد كانت فى رأيه دبلوماسية كيسة ووقورة وتتصف بالاستمرارية والتدرج معا، وتعطى أهمية للمعرفة والخبرة وتأخذ فى الاعتبار حقائق القوة القائمة وجعلت من الثقة وحسن النية والوضوح والدقة صفات جوهرية لأى مفاوضات سليمة، أما الأخطاء والحماقات والجرائم التى تراكمت خلال هذه القرون الثلاثة وأضعفت الثقة فى الدبلوماسية القديمة فإنها فى رأى نيكلسون إذا فحصت بدقة فسنجد أنها تعود إلى السياسات الخارجية الشريرة وليس لأساليب إدارتها وتنفيذها وعلى هذا فالدبلوماسية القديمة هى التى تولاها الدبلوماسيون المحترفون Professional Diplomats لفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، غير أنه لسوء الحظ فإن نصائح هؤلاء الحكماء لم يلتفت إليها فى مؤتمرات فيينا وبرلين ولم تستثمر خدماتهم فى الوقت الذى تولت فيه زمام الأمور ضروب من النفوذ والتأثير بعيدة عن الدبلوماسية فقد كانت الصفة اللصيقة بالدبلوماسية القديمة والمميزة هى السرية وخاصة فى المفاوضات، الأمر الذى يختلف تماما عن دبلوماسية المؤتمرات العامة Public Conference والتى أصبحت ملازمة للدبلوماسية منذ عام 1919 وفى الدبلوماسية القديمة كان السفراء هم الذين يتولون ويباشرون عملية التفاوض حول عقد معاهدة مع الحكومة المعتمدين لديها وعلى هذا كان السفير يعرف الساسة الذين سيتفاوض معهم معرفة مباشرة ويعرف نقاط قوتهم وضعفهم وإمكان الاعتماد عليهم أو العكس، وكان على علم كامل بالمصالح المحلية وبالخبرات والطموحات والشعاب التى كان عليه أن يبحر فيها، وكانت مقابلاته المتكررة مع وزير الخارجية لا تثير الاهتمام لدى الرأى العام باعتبارها عملا روتينيا ولذلك كانت مناقشاتهم تظل خاصة وعقلانية وودية ونتيجة لسريتها لم يكن هناك خطر من ظهور توقعات عامة حولها خلال مراحل تقدمها، ذلك أن كل مفاوضات تتكون من مراحل ونتائج فإذا أصبحت المراحل موضع نقاش عام قبل أن يثمر الوصول إلى نتيجة فإن المفاوضات غالبا ما تنتكس فالمفاوضة هى أساسا موضع للتنازل والتنازل المتبادل فإذا ما تسرب التنازل المقدم من جانب أمام الرأى العام الذى لا يعرف عن التنازل المقابل والمتوقع، فإن تشويشا كبيرا يمكن أن يحدث وقد ينهى المفاوضات يضاف إلى ذلك ما عبر عنه واحد من أفضل الدبلوماسيين المحترفين لهذا القرن Tules Combon أن السفير فى الدبلوماسية القديمة كان يتفاوض وهو متحرر من ضغط الوقت وتبدو إنجازات الدبلوماسية القديمة فيما حققته مفاوضات فرنسا وروسيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا تحت رئاسة السير إدوارد جراى، حيث استطاعوا أن يصلوا إلى تسوية لأزمة البلقان عام 1913 وقد كان سفراؤهم فى المفاوضات يعكسون خلافات قومية خطرة وحادة إلا أنهم كانوا يمتلكون الثقة كاملة واستقامة وأمانة وتعقلا وحذرا ورشدا وكان لديهم مستوى مشترك للسلوك المهنى وكانوا قبل كل شىء يرغبون فى منع أى اشتعال للموقف وكان الهدف العام للدبلوماسية القديمة هو الاستقرار الأوروبى وليس المساواة العالمية وقد تحقق هذا الهدف من خلال الاتفاق الأوروبى عام 1815 الذى حقق لأوروبا مائة عام تقريبا من السلام وكان أبطال هذا الإنجاز هم رجال الدولة ودبلوماسيين مثل بسمارك ومترينخ وكاسترو غير أننا يجب أن نلاحظ أن هذه المائة عام من السلام والتى ستثير شجن وحنين الدبلوماسيين والساسة فى الأجيال التالية قد قامت فى ظروف استثنائية، ونتيجة لسياسة توازن القوى Balance of Power ووجود شبكة من المصالح المتبادلة فى التجارة، كما كان عدد الفاعلين فى المسرح الدولى قلة، وقدم لهم صغر القارة الأوروبية فرصة التفاعل السريع حيث زادت الألفة بين رجال الدولة والسفراء والتى تجاوزت الحدود القومية ومع بلاطهم الملكى الذى كان نشطا بشكل خاص فى الدبلوماسية كون رجال الدولة والدبلوماسيون مجتمعا أرستقراطيا تجاوز القوميات وكان هذا هو عصرهم الذهبى، وخلق التقدم الاقتصادى مع استمرار السلام سحرا يوتوبيا جعل كاتبا كبيرا مثل فيكتور هوجو يكتب عن "موت الحرب" غير أنه مع مطلع القرن العشرين بدا أن النظام الدولى سوف يتميز بالاضطراب العنيف لا بالتناسق والاستقرار، فقد أزاحت الحرب الأولى أربع إمبراطوريات كبرى من القوى السبع التى كانت على المسرح الدولى وكان على الدبلوماسية التقليدية فى جوهرها أن تهيئ نفسها وتتكيف مع عصر ثورى جديد وكان التجديد الحاسم فى هذا العصر هو إنهاء الاحتكار الأوروبى نتيجة لدخول الولايات المتحدة فى المجموعة الصغيرة للأعضاء الكبار فى المجتمع الدبلوماسى ورغم أن هذا التطور قد بدأ بالاتجاه الانعزالى الذى ساد الولايات المتحدة، وحيث كان هذا الاتجاه يود لو لم يكن للعالم الجديد سياسة خارجية على الإطلاق ابتعادا عن مشاكل أوروبا وصراعاتها وحروبها، وحيث أعلن جون آدمز أن عمل أمريكا مع أوروبا هو التجارة وليس السياسة أو الحرب، وأنه حتى عام 1906 كان للولايات المتحدة ست سفارات فى الخارج والباقى مفوضيات، ورغم كل ذلك، إلا أن الاتجاه الانعزالى لم يصمد أمام التطورات التى أرغمت الولايات المتحدة أن تندمج فيها وتصبح هى ودبلوماسيتها من العوامل المؤثرة فى توجيه الحياة والدبلوماسية الدولية أن لم تكن هى العامل الحاسم فيها وقد توافق مع هذا التطور بدء تعرض الدبلوماسية القديمة أو التقليدية وأساليبها لهجوم مستمر منذ الحرب العالمية الأولى واستمر هذا الهجوم الذى صحبته تطورات جذرية فى البيئة الدولية حتى كادت الدبلوماسية القديمة أن تنبذ منذ نهاية الحرب الثانية ويلخص هانز مورجانثو الحجج التى استند عليها الهجوم على الدبلوماسية القديمة فى: ـ 1 ـ أنها مسئولة عن الكوارث السياسية التى حاقت بالبشرية خلال الحقب التى سيطرت فيها أساليبها، والمنطق يقول أن الأساليب التى ثبت عدم صحتها يجب أن تستبدل ـ 2 ـ أن الدبلوماسية التقليدية إنما تتعارض مع مبادئ الديمقراطية لذلك كان على الدبلوماسية أن تكون مفتوحة ومعرضة للفحص فى كل عملياتها ـ 3 ـ أن الدبلوماسية التقليدية بشكلياتها غير ذات جدوى ومضيعة للوقت ومتعارضة بمساومتها مع المبادئ الأخلاقية أما العوامل الحاسمة التى أدت إلى تراجع الدبلوماسية القديمة ونشوء الدبلوماسية الجديدة فكانت نتيجة لثلاثة تطورات رئيسية: التغيير الذى لحق بتكوين الأسرة الدولية، طبيعة الاهتمامات الدولية ومن ثم أهداف العملية الدبلوماسية، ثم ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فبالنسبة للعامل الأول فقد كان عدد الدول التى تمارس العملية الدبلوماسية عند بداية نظام الدولة الحديثة عند منتصف القرن السابع عشر اثنتى عشرة دولة أوروبية ومنذ هذا الوقت تضاعف هذا العدد عدة مرات ففى نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 حدث تحول أساسى حيث حصلت الولايات المتحدة وخمس عشرة دولة لاتينية على الاستقلال، الأمر الذى ضاعف من عدد الدول المكونة للمجتمع الدولى واتسعت الساحة الدولية حيث شملت نصف الكرة الغربى ثم حدث نمو مفاجئ وإن كان بطيئا فى منتصف القرن 19 حين انضمت إلى المجتمع الدولى الصين واليابان وعدد من دول أمريكا الوسطى وليبيريا ونما هذا التوسع بشكل أكبر بعد الحرب العالمية الأولى وخاصة فى البلقان وجنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط حيث بلغ عدد الدول ما يقرب من 65 دولة غير أن المجتمع الدولى شهد أكبر توسع له نتيجة لموجة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية حيث انضم 75 عضوا جديدا خاصة من العالم العربى وأفريقيا وآسيا والباسيفيكى وحيث وصل عدد الدول التى تتمتع بعضوية الأمم المتحدة 185 دولة وبطبيعة الحال نتج عن هذا التوسع فى المجتمع الدولى توسع كبير فى الصلات والعلاقات الدبلوماسية والمفاوضات والأجهزة الدبلوماسية أما العامل الثانى فى نشوء الدبلوماسية الحديثة فقد تمثل فى التغيير النوعى الذى نجم عن تقلص الحدود بين الدول والثورة الصناعية وتزايد الاعتماد على التجارة وتنوعها والاكتشافات العلمية والتداخل المتزايد بين الدول فى الشئون الثقافية والمالية والاجتماعية وتعامل الحكومات مع نطاق واسع من القضايا والمشكلات فإذا كانت اهتمامات الدول ومن ثم جهازها الدبلوماسى تنحصر فى القرن 19 فى عدد محدود من القضايا مثل قضايا السلام والحرب والإستراتيجية وحماية المواطنين فى الأراضى الأجنبية وحقوق الملاحة والتجارة وتسليم المجرمين، وحيث كان ماعدا ذلك من قبيل الاهتمامات الأدنى Low Politics والتى أن أثارت الاهتمام فهى تترك للمستويات الوظيفية الأقل، أما اليوم فقد اتسع نطاق اهتمامات الدولة بشكل اصبح يشمل ـ إضافة إلى الاهتمامات التقليدية ـ قضايا مثل الطعام والطاقة والمياه والبيئة والسكان والهجرة ومقاومة الإرهاب والسكان والانتشار النووى والأمراض والعامل الثالث يتمثل فى ثورة الاتصالات والمعلومات التى جاءت لكى تحدث تغييرا نوعيا فى ظهور الدبلوماسية الحديثة فالثورة التكنولوجية فى مجال النقل والاتصالات أصبحت تسمح بإجراء اتصالات طويلة ومشاورات بالبرقيات والفاكس والخط الساخن الذى يربط بين الرؤساء خاصة، وأصبح من الممكن عقد مؤتمرات وحوارات عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية والأقمار الصناعية ومكن هذا المتفاوضين وهم على مائدة المفاوضات من الاتصال بعواصم بلادهم والحصول على التوجيهات من صناع القرار فى عواصمهم كما كان لثورة المعلومات وسرعة نقلها عبر الشبكات والقنوات التليفزيونية تأثير حاسم على عمل الدبلوماسى وكمية ما هو متاح له من أخبار ومعلومات وتقييمات وجعله فى مركز الأحداث العالمية وهو فى مكتبه وجعله هذا فى سباق مع الزمن لكى يلاحق هذه الأحداث ولا يتخلف عنها أما السبب الآخر لظهور الدبلوماسية الحديثة فهو بروز تصور أكثر ديمقراطية للعلاقات الدولية، فقد كانت إدارة العلاقات الدولية خلال عصر الدبلوماسية القديمة والتقليدية توكل إلى صفوة من الرجال المختارين التى تتفاوض وتقرر سياسات بلادها وعلاقاتها، الأمر الذى تغير فى ظل نظم الحكم الديمقراطية، حيث أصبح الرأى العام ذا تأثير بالغ على صانع السياسة ومنفذها من خلال وسائل الإعلام والأحزاب والاجتماعات الشعبية والبرلمانات والمظاهرات وصناديق الاقتراع وهكذا أصبحت الدبلوماسية ذات طابع ديمقراطى Democratized Diplomacy وبحيث أصبحت تسمى أحيانا بالدبلوماسية الشعبية People Diplomacy بما يعنى نفوذ وتأثير الأجهزة الشعبية والتمثيلية على العلاقات الخارجية وإدارتها إذا كانت هذه هى العوامل الرئيسية فى التحول الذى حدث فى الدبلوماسية الحديثة ونقلها من طبيعتها ومنهجها ومضمونها التقليدى الكلاسيكى إلى الدبلوماسية الجديدة ذات المضمون ـ وإن ظل محتفظا بعناصر من مضمون الدبلوماسية القديمة ـ إلا أنه ازداد اتساعا وتنوعا فى موضوعاتها وغاياتها كما اختلفت كذلك فى مناهجها وأدواتها إذا كان الأمر كذلك فما هى أهم الخصائص التى أصبحت تميز الدبلوماسية الحديثة والمعاصرة لقد أظهرت العوامل التى كانت وراء هذا التحول عددا من الخصائص الدبلوماسية الحديثة، فقد أصبحت تعمل فى بيئة دولية أكثر اتساعا وتعددا وتنوعا من التى كانت تعمل فيها الدبلوماسية القديمة وأصبحت أدواتها أكثر سرعة وحركة بشكل يفوق بمراحل أدوات وحركة الدبلوماسية القديمة واتسع نطاق القضايا والموضوعات التى تعالجها وينشغل بها الدبلوماسى وتشكل جدول أعماله اليومى كما أصبحت تعمل فى ضوء العلانية ومتابعة وسائل الإعلام وكذلك تحت تأثير المؤسسات الديمقراطية ويقظة الرأى العام بالإضافة إلى هذه الخصائص المرتبطة بعوامل التغير التى طرأت على الدبلوماسية، ثمة خصائص أصبحت من المعالم الرئيسية للدبلوماسية المعاصرة من أهم هذه المعالم وأولها أن الدبلوماسية اليوم أصبح يطلق عليها ما يمكن تسميته الدبلوماسية الشاملة أو الكاملة Total Democracy فلم يعد الدبلوماسى قانعا بممارساته التقليدية من حفلات ومآدب عشاء وغذاء واستقبالات أو بكتابة التقارير والتحليلات والتنبؤات، إنما أصبح الدبلوماسى اليوم هو الذى يدير وينسق نطاقا عريضا من النشاطات والاهتمامات العريضة للبلد المعتمد فيه وبحيث يمكن القول أن الدبلوماسى الحديث يجب أن يتوقع معالجة كل مظاهر الحياة البشرية إذ أن كل مظهر للوجود البشرى أصبح اليوم تقريبا له بعض الأبعاد الدولية، الأمر الذى جعل من الدبلوماسية التى كانت يوما ما عملا بسيطا عملية معقدة ليس فقط نتيجة للعدد المتزايد من المشكلات والقضايا المعقدة والمتشابكة التى تواجه الدول والمجتمع الدولى وإنما أيضا نتيجة للعدد المتزايد من الدول أما المعلم الثانى الذى أصبح يميز الدبلوماسية المعاصرة وأصبحت معه تسمى الدبلوماسية الترابطية Associative Diplomacy فقد نجم عن النمو المستمر فى تكوين المجموعات الإقليمية والدولية Groupings وهو الاتجاه الذى تشكل به هذه المجموعات علاقات سياسية واقتصادية أوثق مع دول أخرى تربطها بها روابط استراتيجية وسياسية واقتصادية وتجارية ويبدو هذا الاتجاه واضحا فى توسيع وتعميق مجموعات كانت قائمة مثل السوق الأوروبية المشتركة EEC والتى توسعت لتصبح الاتحاد الأوروبى EU وأصبحت تضم اليوم 51 عضوا، ولم تتسع فى العضوية فقط وإنما كذلك فى طبيعة الروابط بينها بحيث أصبحت تتجه وفقا لمعاهدة ماستريخت فى ديسمبر عام 1991 إلى الوحدة النقدية والسياسية والاقتصادية وعلى المستوى الآسيوى نجد رابطة دول جنوب شرقى آسيا: الآسيان ـ ASIAN، ومنتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا باسيفيك APEC ثم تجمع NAFTA الذى يضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك بالإضافة إلى تجمعات فرعية Sub ـ groupings فى النطاق العربى: مجموعة الدول الخليجية التى تجمعها مجلس التعاون الخليجى ـ GCC، ومجموعة الدول المغاربية التى يجمعها اتحاد المغرب العربى، وفى النطاق الأفريقى: مجموعة دول غرب أفريقيا ECAWAS ومجموعة الجنوب الأفريقى SADAC ، وفى الإطار اللاتينى مجموعة الميكروسول Microsole وهى المجموعات الفرعية التى تعمل بجوار المنظمات الإقليمية الأوسع مثل منظمة الوحدة الأفريقية، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الأمريكية وعلى مدى الحقبتين الماضيتين ثمة نمو ملحوظ فى تطور الدبلوماسية المعاصرة حول قضايا اجتماعية واقتصادية وفنية أو ما أصبح يعرف بالقضايا العالمية Global Issues، وهى القضايا التى أصبحت عمليا تشكل جدول أعمال الاهتمامات الملحة للمجتمع الدولى وتفرض طبيعتها المتشابكة وآثارها الممتدة التى تتعدى حدود الدول بل والقارات، ويصبح من الصعب على دولة واحدة مهما كانت إمكانياتها أن تواجهها منفردة، ولهذا تتطلب جهدا وتنسيقا جماعيا، ومثل هذه القضايا هى التى انعقدت حولها ـ تأكيدا للصفة الدولية لها تحت رعاية الأمم المتحدة ـ مؤتمرات دولية مثل البيئة، والسكان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحقوق الإنسان والمرأة، إلى جانب قضايا عريضة أخرى تنتظر وتتطلب جهدا دوليا جماعيا مثل: الإرهاب الدولى، والجريمة، والهجرة والأمراض والتلوث والانتشار النووى الخ وقد فرضت هذه المهام الجديدة على الأجهزة الدبلوماسية أن تعيد تنظيم هياكلها وأولوياتها بحيث أصبحت الإدارات والأقسام التى تعالج هذه القضايا لها الأولوية على غيرها من الإدارات التقليدية التى تعالج القضايا السياسية، وانسحب هذا على الأفراد الذين يتولون هذه المهام، وأصبح هناك تنافس بين أعضاء الأجهزة الدبلوماسية على العمل والتخصص فى هذه الأنشطة الجديدة والتى أصبحت تتطلب ثقافة وتكوينا جديدا، وأصبح ترتيب حضور هذه المؤتمرات وكذلك احتمال تنظيمها موضوعيا وإداريا وفنيا من أهم ما يشغل وزارات الخارجية والتى تتولى مسئولية هذه المؤتمرات الدولية التى تعقد فى بلادها حتى تلك التى تعالج قضايا بعيدة عن القضايا السياسية التقليدية سواء من حيث المشاركة الدولية فيها أو من الناحية التنظيمية، وإعداد الكوادر الفنية اللازمة: السكرتارية، الترجمة ومصاحبة الوفود الزائرة الخ غير أنه مع الأهمية التى أصبحت للدبلوماسية المتعددة Multilateral ـ Diplomacy فى مثل هذه القضايا العالمية وتأثيرها المتزايد على فرص استقرار السلام والأمن الدوليين، إلا أن الدبلوماسية المتعددة أصبحت تمارس الآن بشكل متزايد فى مجال هام آخر وهو العمل على تحقيق حلول للصراعات Conflict Resolution خاصة بعد أن تعقدت مثل هذه الصراعات وتعمقت بدخول عوامل عرقية ودينية، وبعد أن بات من الصعب على دولة واحدة، حتى وإن كانت قوة كبرى، أن تحقق بمفردها حلولا لمثل هذه الصراعات غير أن الخبرة قد أظهرت أن فعالية الدبلوماسية المتعددة فى تحقيق حلول لهذه الصراعات يرد عليها قيود عديدة، كما سوف تظل عاجزة طالما أصرت أطراف النزاع على إدارته بالوسائل العسكرية، ولا تبدأ الدبلوماسية المتعددة فى ممارسة دور فعال إلا بعد أن تستنفد أطراف الصراع جهودها العسكرية وتصل المواجهة العسكرية بينهم إلى مرحلة الجمود Deadlock كما أظهرت خبرات الصراعات فى الشرق الأوسط فى كمبوديا وأنجولا وأخيرا فى البلقان ولعل أهم ما أصبح يميز البيئة الدبلوماسية الجديدة هو تأثرها بوسائل الإعلام والعلانية التى تفرضها عليها ويسجل مؤرخو الدبلوماسية بدء تصدع نظام الدبلوماسية القديمة بتراجع طابع التكتم والسرية والخصوصية التى كانت تتميز بها العملية الدبلوماسية وخاصة فى أهم جوانبها وهى المفاوضات وثمة أمثلة حديثة تظهر تأثير وسائل الإعلام على الاتصالات الدبلوماسية وخاصة خلال الأحداث الدقيقة، وقد بدا هذا واضحا خلال أزمة الرهائن الأمريكيين فى إيران، وحيث كانت الاتصالات حولها والجانب الأمريكى يقبع تحت ضغط إثارة وسائل الإعلام ومتابعتها للأزمة لحظة بلحظة، كما بدا ذلك أيضا خلال أزمة الخليج والتى كانت فيها وسائل الإعلام طرفا أساسيا ومؤثرا فى اتجاه الأزمة وتناولها وخلال عملية التفاوض وجلساتها يعمل المتفاوضون وفى أذهانهم ماذا سيقولونه لأجهزة الإعلام ومراسليها الذين يتربصون بهم ويلاحقونهم بعد انتهاء كل جلسة ويعلم كل جانب أنه وهو يخاطب أجهزة الإعلام عن مجرى المفاوضات وما حققته من نجاح أو فشل إنما يخاطب الرأى العام فى بلاده بكل اتجاهاته ومواقفه من موضوع المفاوضات ولعل إدراك تأثير ذلك على عملية التفاوض وإمكانات نجاحها هو الذى يدفع إلى ترتيب إجراء المفاوضات، خاصة حول القضايا المعقدة والشائكة، فى معزل تام عن عيون أجهزة الإعلام وهو ما رأيناه فى مفاوضات كامب ديفيد حول قضية الشرق الأوسط، وكذلك حول جو العزلة والسرية المطلقة التى أحاطت بالتفاوض بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق إعلان المبادئ واختيارهم بلدا فى أقصى الشمال وهى النرويج لعقد هذه المفاوضات، كما تم ترتيب نفس أجواء العزلة للمفاوضات التى عقدت فى ولاية دايتون بولاية أوهايو الأمريكية بين الأطراف المتنازعة حول البوسنة والهرسك على أية حال، إذا كان النظام الدبلوماسى يعيش الآن عصر الدبلوماسية الحديثة بمكوناتها وخصائصها التى أسلفناها، إلا أن علينا أن ندرك أنه من المنظور النظرى والعلمى فإن الدبلوماسية كأى مؤسسة بشرية هى عملية ديناميكية تتعرض لتغييرات الزمن وما يأتى به من قوى ومؤثرات جديدة، لذلك نجد أن كل عصر يمر بتجديد جوهرى فى أساليبه وصيغة الدبلوماسية، الأمر الذى يتوقع معه بعض مؤرخى الدبلوماسية أن صيغة اليوم من الدبلوماسية التى نصفها بأنها جديدة يمكن أن تختلف عن تلك التى سنجدها فى المستقبل وهو الاتجاه الذى بدأ فعلا حيث شرعت وزارات خارجية، خاصة الدول الكبرى، فى التخطيط لإعادة بناء هياكلها ونظمها وأساليب العمل فيها وإعادة تدريب وإعداد دبلوماسييها لكى تواجه متطلبات القرن الجديد بأوضاعه وأدواته وعلاقاته المتغيرة