- الثلاثاء ديسمبر 10, 2013 5:44 pm
#69556
من آنٍ لآخر أتلقَّى رسائل من أشخاص يفكرون جديًّا في أن يعملوا كُتَّابًا علميين، بعضهم لا يملك أدنى فكرة عن كيفية البدء، بينما بدأ البعض الآخر بالفعل لكنهم يرغبون في معرفة كيف يحسنون أداءهم. وعادةً ما أردُّ عليهم برسالة بريد إلكتروني سريعة لكي أتمكن من العودة إلى محاولتي الشخصية لاكتشاف كيف يصبح المرء كاتبًا علميًّا؛ ولذا، فكرت أنه من الأفضل للجميع — أي أنا ومن يتصلون بي — أن أكتب ردًّا مفصلًا (وسأنشر كذلك النسخة الأخيرة من هذه التدوينة على موقعي الشخصي).
ودعوني أبدأ بالتنبيه التالي: قد لا أكون الشخص المناسب لإسداء نصائح حول هذا الموضوع؛ فقد اكتشفت مجال العمل هذا بالصدفة دون أي تخطيط في أوائل التسعينيات عندما كانت الصحافة من المجالات شديدة الاختلاف عن غيرها؛ لذا، فإجابة سؤال «كيف أُصبح كاتبًا علميًّا؟» ليست إجابةً للسؤال «كيف أصبحتَ كاتبًا علميًّا؟»
كنت في طفولتي أكتب قصصًا، وأرسم رسومًا كاريكاتورية، وأُحاكي في محاولاتٍ يعوزها التوفيق كتابة رواية «واترشيب داون». وعندما وصلت إلى الجامعة، كنت أكتب في المجالين الروائي وغير الروائي معًا، بينما تخصَّصتُ في اللغة الإنجليزية كي أتعلم من كبار الكُتَّاب، محاولًا في الوقت نفسه تجنب الانغماس في متاهة النظرية الأدبية الهدَّامة. وبعد التخرج، قضيت عامين متنقلًا بين عدة وظائف بينما ظللت أكتب قصصًا قصيرة دون مساعدة من أحد، لكني أدركت تدريجيًّا أني تعوزني الأفكار الضرورية للكتابة.
وفي عام ١٩٨٩، راسلت بعض المجلات للاستعلام عن وظائف لخريجٍ مبتدئ، فتلقيت ردًّا من مجلة تُدعى «ديسكفر» يفيد بأنهم في حاجة إلى مساعد مدقق لغوي. حصلت على الوظيفة، لكني اكتشفت أني لست على درجة الكفاءة المطلوبة في هذه المهنة؛ وهو ما يعني أني كنت مدققًا لغويًّا دون المستوى. ولحسن الحظ، سمح لي رؤسائي من المحررين وقتئذٍ البدء في التحقق من صحة الحقائق الواردة بالتحقيقات، وهي الوظيفة التي يزعم البعض بأنها أفضل طريقة لتعلُّم كيفية الكتابة عن العلم. وأُتيحت لي فرصة كتابة بعض المقالات القصيرة، وأدركت أنها تجربة تختلف عن جميع تجارب الكتابة التي مارستها من قبل؛ فكنت أكتب حول عالم الطبيعة، لكني اكتشفت في الطبيعة غرابة تفوق ما تخيلت. وكان العلماء على استعداد لمساعدتي في فهم اكتشافاتهم. عملتُ في مجلة «ديسكفر» طيلة عشرة أعوام، وقضيت آخر أربعة منها في منصب محرر أول، ثم اتجهت بعد ذلك للعمل المستقل عبر كتابة الكتب والمقالات الخاصة، وغيرها من أنواع الكتابة.
بعبارةٍ أخرى، لم أكن أعلم أثناء دراستي الجامعية أني أريد العمل ككاتب علمي. وبينما درست بعض المقررات العلمية لأني كنت أستمتع بها، لم أحصل على شهادة في مجال العلوم، ولم أسجل لإتمام أي دراسات عليا في الصحافة العلمية؛ فلم يكن لديَّ سوى حسن تمييزٍ ساعدني في إدراك أني قد استغرقت في العمل في مجال يرضيني إلى هذا الحد.
يقدم ما ذكرته آنفًا سببًا يجعل القارئ يشكك في نصيحتي، أما حقيقة أني عملت طوال السنوات الخمس الأولى من حياتي المهنية دون اتصال بشبكة الإنترنت، فهي سبب آخر. ولم يكن لديَّ بريد إلكتروني؛ ففي ذلك الوقت لم يرَ ناشرو المجلات فائدة من توصيل أجهزة الكمبيوتر التي يعملون عليها بأسلاك التليفونات للاتصال بالإنترنت. وهكذا بدأ تدريبي على الكتابة العلمية الذي كان جزءًا من عملي في زمن عتيق؛ حيث كانت المجلات والصحف تسيطر على الكتابة العلمية سيطرة شبه احتكارية، وكانت البدائل الوحيدة هي المجلات الخاصة التي يطبعها أصحابها بأنفسهم على نحوٍ بدائي، والتي كانت تحقق جزءًا ضئيلًا من مبيعات المجلات الكبيرة، لكنها فشلت في جذب المعلِنين الذين يُغدقون أموالًا طائلة على إعلاناتهم.
بالطبع تغيَّر كل هذا؛ فمثلًا، تحولت مجلة «بوينج بوينج» — وهي إحدى المجلات البدائية — إلى موقع إلكتروني ناجح للغاية. واستغرق الكثير من العاملين بمجال الكتابة العلمية وقتًا طويلًا جدًّا لإدراك أن التغيير قادم، وحاول الكثيرون تجاهله ما إن شهدوه. وفي حالتي، اكتشفت العالم الإلكتروني بالصدفة كما عثرت صدفةً على مجال الكتابة العلمية؛ فمع حلول بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بدأت أستمتع بكتابة عدد قليل من المدونات العلمية. وعندما قررت مجلة «ناتشرال هيستوري» التوقف عن نشر مقالاتي، أدركت أن المقال — كنوع أدبي — سيصعب بيعه لمحررين آخرين؛ لذا، أنشأت مدونة لا أكون فيها مضطرًّا لإقناع أحدٍ بمقالاتي.
بدت المدونات في ذلك الوقت كإحدى وسائل التسلية الغريبة، ولم أكن أتوقع — مثل الجميع — أن تصبح في النهاية في قلب الصحافة العلمية. وكذلك لم أدرك أن الصحافة العلمية التقليدية — والصحافة على وجه العموم — كانت تخضع لتغيُّر جذري. وربما يكون التعبير الأفضل لوصف هذه العملية — بناءً على مَن توجه له الحديث — هو الانسلاخ أو الانهيار.
لهذا السبب أشعر من ناحيتي — وأنا أكتب هذه التدوينة عام ٢٠١٣ — بأني سعيد الحظ؛ لأني استطعت في النهاية كسب قوتي بالعمل كاتبًا علميًّا، لكني حذر جدًّا فيما يتعلق بنصح الآخرين بالعمل في هذا المجال. وإذا قررتَ أنك ترغب في أن تصبح كاتبًا علميًّا، فلتتأكد أن انطباعك عن المجال يتسم بالدقة؛ وإذا كانت لديك صورة ضبابية عن الصحافة كما كانت قرابة عام ١٩٩٠، فعليك تحديث تصوراتك.
تمتعت الصحف الأمريكية بازدهار عظيم عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن هذا الازدهار وصل إلى ذروته زهاء عام ١٩٩٠. أما الآن فالصحف توظف عددًا أقل من الأفراد مقارنةً بعام ١٩٥٠؛ فخلال سنوات الازدهار عينت الصحف العديد من الكُتَّاب العلميين لتحرير الأقسام العلمية الأسبوعية، والتي بلغ عددها أثناء قمة ازدهارها — عام ١٩٨٩ — ٩٥ قسمًا في الولايات المتحدة، أما الآن فلا يوجد سوى ١٩. فعندما تحاول الصحف الاستمرار في تحقيق أرباح عبر تخفيض الإنفاق (وهي استراتيجية غير حكيمة بالمرة، لكنها تساعد في تحسين شكل دفاتر الحسابات على المدى القصير)، فغالبًا ما يكون القسم العلمي هو أول الأقسام الملغاة.
ينطبق هذا أيضًا على المجلات، فإذا كان تصورك عن الصحافة العلمية في المجلات يرجع إلى عهد إدارة الرئيس ريجان، فقد حان الوقت لتقييم هذا الموقف؛ إذ شَهدت حقبة الثمانينيات نموًّا مدهشًا للمجلات المخصصة للعلم فحسب، مثل «ديسكفر» و«أومني» و«ساينس دايجيست» وغيرها. وعيَّنت المجلات الكبرى مثل «تايم» و«نيوزويك» أطقم عمل تعمل بدوام كامل للكتابة عن العلم فحسب. بلى، فلتصدَّق عينيك؛ لقد أطلقتُ على مجلة «نيوزويك» لتوِّي وصف المجلة الكبرى. قد تبدو تلك المجلات الآن في حالة انهيار، لكنها امتلكت في يوم من الأيام مبانيَ في مانهاتن تعلوها لافتات تحمل أسماءها. ومثل ما شهدته الصحف من قبل، تشهد المجلات الآن فترة انحدار، وكثيرٌ من المجلات العلمية التي انتشرت في الماضي أُغلقت الآن تمامًا.
مع ذلك تشهد بعض مراكز الكتابة العلمية ازدهارًا، ومن ضمنها ما تُصْدِر المطبوعات التقليدية التي تحاول ابتكار طرق جديدة للبقاء على الساحة، إضافةً إلى المطبوعات الجديدة التي لا تحمل على عاتقها تاريخ الصحافة المؤلم. وعلى الأرجح لن تدعم تلك المنافذ القديمة والجديدة عدد الكُتَّاب العلميين نفسه الذي شهدته حقبة الثمانينيات؛ لسبب بسيط هو أن مقالًا منشورًا في صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» ومقالًا آخر منشورًا في صحيفة «بوسطن جلوب» لم يَعُدْ يفصلهما عن بعضهما الثلاثة آلاف ميل الفاصلة بين المدينتين؛ فمن الممكن الاطلاع على المقالين في علامتَي تبويب متجاورتين على المتصفح نفسه. من ناحية أخرى، سيكون من العبث مد التوجه نحو الصحافة العلمية في خط مستقيم من مرحلة الانحدار السابقة إلى أن يصل إلى نقطة الصفر.
إذا كنت قد اكتسبت رؤية مستبصرة حول الصحافة العلمية، فالسؤال التالي الذي يجب أن تطرحه على نفسك هو: «هل أرغب في العمل بهذا المجال؟» ما إن تشرع في الكتابة العلمية لا تتوقع أن تحظى تلقائيًّا بوظيفة ضمن طاقم العمل، وحزمة تقاعد، وقائمة من الموضوعات المثيرة التي يمكنك الكتابة عنها على مدار الخمسين سنة التالية؛ فإنك بدخولك المجال ستدخل أيضًا في منافسة شرسة سواء على وظيفة لخريج مبتدئ أو على مهام الكتابة الحرة، وقد يكون الراتب زهيدًا حتى في المطبوعات البارزة؛ لذا، عليك أن تتمتع بالقوة اللازمة للتكيُّف مع هذه البيئة. أما تعرضك للرفض فهو ليس كارثة تُنهي الحياة المهنية في عالم الكتابة العلمية، بل هو جزء طبيعي من التجربة.
لو ظللت مصممًا على العمل بهذا المجال فربما تتساءل: «كيف أبدأ الكتابة عن العلم؟» والإجابة هي: بأن تشرع في الكتابة. الأمر يشبه العزف على آلة الترومبون، فإذا ذهبت إلى فرقة لموسيقى الجاز وأخبرتهم أنك — بعد تفكير طويل — تعتقد أن العمل كعازف ترومبون سيمثل تجربة ممتعة، فعلى الأرجح لن يقبلوك على الفور بالفرقة، لكنهم سيرغبون في سماع عزفك. وقد يساعدك مدرس لآلة الترومبون على أن تصبح عازفًا أفضل، وكذلك العزف في الفرق المدرسية. لكن الأهم من هذا كله هو الساعات التي تقضيها دومًا في التدريب بمفردك على العزف.
أوجه هذه النصيحة على وجه الخصوص لطلاب الدراسات العليا في مجال العلوم ممن يعتقدون أن الكتابة عن العلم أكثر إمتاعًا من ممارسته. وأتفق معهم في هذا الرأي لكن هذا لا يعني أن اجتهادهم في الدراسة بعد التخرج قد أعدهم جيدًا للكتابة عن العلم لجمهور غير متخصص؛ حيث إن أسلوب الكتابة المستخدَم لنشر بحث علمي في مجلة «أمريكان جورنال أوف بوتاني» يختلف عن أسلوب الكتابة المستخدَم لنشر تحقيق في مجلة «أتلانتيك»؛ فتعلُّم كيفية الكتابة عن العلم يتطلب جهدًا. ولكي تبدأ العمل عليك أولًا البحث عن موضوعات وكتابة مئات الكلمات كل يوم. ولا تقنط إذا كنت لا تزال تشعر — بعد عدة أشهر — أنك بدأت تمتلك لتوك مفاتيح الكتابة عن الفيزياء لجمهور عريض؛ فالأمر ليس سهلًا.
أحد الأساليب النافعة لتعلُّم كيفية الكتابة هو تحليل أسلوب كبار الكتاب العلميين. فإذا كنت معجبًا بالكاتب جون ماكفي فلتفتِّش في كتابه «تاريخ العالم السالف»، وتأمل الطريقة التي يجمع بها قصصه. وإذا رغبت أن تصبح كاتبًا علميًّا فلتُلقِ نظرة على أفضل الأعمال التي كُتبت في هذا المجال مثل كتب سيدارتا موكيرجي وستيفن بينكر، أو تفقَّد هذه القائمة المليئة بالمصادر التي أعدتها مدونة «ذا لووم» لقرائها عام ٢٠٠٩. لا تنتظر أن يعطيَك أحد مجموعة تعليمات رسمية؛ فليس لهذا وجود.
وبالطبع لكي تعزز مهارتك في الكتابة ستحتاج إلى موضوع تكتب عنه، ولحسن الحظ يحفل عالم العلم بأحداث لا تنتهي، بدءًا من الأبحاث الجديدة وانتهاءً بالقضايا الجدلية المستجدة. ويمكنك التدقيق في البيانات الصحفية أو البحث عبر المجلات أو التحدث فحسب مع الناس لمعرفة المستجدات. لا تشعر بوجود التزام يدفعك إلى الكتابة حول ما يكتب عنه الآخرون، ما لم يكن لديك جديد يقال في تلك المواضيع. فمن السهولة بمكان على معظم الصحفيين تجاهل صلب الموضوع الذي يكتبون عنه؛ لذا، لا تخشَ أن تنحوَ نحوًا مختلفًا.
لا بد لكل كاتب علمي مبتدئ مِن اتخاذ قرار حول المسار الذي سيسلكه. وفي حالتي لقد سلكت المسار المتهور المتعرج الذي وصفته آنفًا، لكني شاهدت آخرين يسلكون مسارات مختلفة إلى حدٍّ كبير قادتْهم إلى حياة مهنية راسخة؛ فبدأ بعضهم بإنشاء مدونات خاصة بهم حيث علَّموا أنفسهم الكتابة أمام جمهور. أما البعض الآخر فسلكوا — بالاعتماد على أنفسهم — طريق الكتابة الحرة، بادئين بالمطبوعات الصغيرة، ثم استغلوها للنشر في كبرى الصحف والمجلات. وقد سجل بعضهم لإتمام الدراسات العليا في الصحافة العلمية، حيث دُرِّبوا على يد كُتَّاب محنكين متمرِّسين، ثم عُيِّنوا كمتدربين لدى بعض الصحف والمجلات البارزة. وبينما انضم بعض العلماء المتدربين إلى برنامج «زمالة وسائل الإعلام» الذي ترعاه الرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم، انحرف آخرون إلى اتجاهات غير متوقعة؛ إذ بدءوا في مجال الكتابة العلمية ثم أصبحوا منتجين إذاعيين على سبيل المثال، أو عملوا في مجال الرسوم المتحركة، أو في مجال تصميم التطبيقات. في تلك الأيام من الضروري أن تكون على استعداد لسَلْك اتجاهٍ لم يكن في وسعك توقعه في البداية.
وإلى جانب البراعة في كتابة المقالات ذاتها، هناك مهارة أخرى هامة لا تحظى عادةً بالتقدير، وهي تعلم كيفية كتابة عرض جيد للحصول على عمل حر؛ إذ يجب عليك جذب المحررين كي يكلفوك بمهمة. ويتطلب ذلك بضعة أمور؛ أولًا: لا بد من أن تفهم بوضوحٍ تام الموضوعَ الذي تريد الكتابة عنه بحيث تستطيع وصفه بإيجاز وبأسلوب مقنع. وعليك كذلك إدراك روح كل مطبوعة تتعامل معها؛ إذ تفخر بعض المجلات بتركيزها الشديد على الموضوعات الأكاديمية، بينما تَعتبر مجلات أخرى نفسها موجِّهة للقراء محبي الاطلاع الذين تعوزهم الخبرة. وتهتم بعض المجلات اهتمامًا أكبر بالأسلوب الروائي الجذاب، بينما تضع مجلات أخرى التفاصيل العلمية فوق أي شيء آخر؛ لذا، عليك إدراك الفرق، ومن ثَمَّ اكتشاف الموضوعات التي لا يستطيع المحررون إيجادها بأنفسهم؛ الموضوعات التي يتوقون لرؤيتها على صفحات مجلاتهم.
في وسعي الاستفاضة في هذا العرض، لكن هناك من أدَّى المهمة نفسها وينبغي لي ألا أكرر مجهوداتهم الرائعة.
إذنْ، هذا هو كل ما ورد بذهني ردًّا على الخطابات التي أتلقاها، مع أنني لست واثقًا من أنني استطعت تغطية كل شيء أو ما إذا كنت قد أغفلت أمرًا هامًّا.
ودعوني أبدأ بالتنبيه التالي: قد لا أكون الشخص المناسب لإسداء نصائح حول هذا الموضوع؛ فقد اكتشفت مجال العمل هذا بالصدفة دون أي تخطيط في أوائل التسعينيات عندما كانت الصحافة من المجالات شديدة الاختلاف عن غيرها؛ لذا، فإجابة سؤال «كيف أُصبح كاتبًا علميًّا؟» ليست إجابةً للسؤال «كيف أصبحتَ كاتبًا علميًّا؟»
كنت في طفولتي أكتب قصصًا، وأرسم رسومًا كاريكاتورية، وأُحاكي في محاولاتٍ يعوزها التوفيق كتابة رواية «واترشيب داون». وعندما وصلت إلى الجامعة، كنت أكتب في المجالين الروائي وغير الروائي معًا، بينما تخصَّصتُ في اللغة الإنجليزية كي أتعلم من كبار الكُتَّاب، محاولًا في الوقت نفسه تجنب الانغماس في متاهة النظرية الأدبية الهدَّامة. وبعد التخرج، قضيت عامين متنقلًا بين عدة وظائف بينما ظللت أكتب قصصًا قصيرة دون مساعدة من أحد، لكني أدركت تدريجيًّا أني تعوزني الأفكار الضرورية للكتابة.
وفي عام ١٩٨٩، راسلت بعض المجلات للاستعلام عن وظائف لخريجٍ مبتدئ، فتلقيت ردًّا من مجلة تُدعى «ديسكفر» يفيد بأنهم في حاجة إلى مساعد مدقق لغوي. حصلت على الوظيفة، لكني اكتشفت أني لست على درجة الكفاءة المطلوبة في هذه المهنة؛ وهو ما يعني أني كنت مدققًا لغويًّا دون المستوى. ولحسن الحظ، سمح لي رؤسائي من المحررين وقتئذٍ البدء في التحقق من صحة الحقائق الواردة بالتحقيقات، وهي الوظيفة التي يزعم البعض بأنها أفضل طريقة لتعلُّم كيفية الكتابة عن العلم. وأُتيحت لي فرصة كتابة بعض المقالات القصيرة، وأدركت أنها تجربة تختلف عن جميع تجارب الكتابة التي مارستها من قبل؛ فكنت أكتب حول عالم الطبيعة، لكني اكتشفت في الطبيعة غرابة تفوق ما تخيلت. وكان العلماء على استعداد لمساعدتي في فهم اكتشافاتهم. عملتُ في مجلة «ديسكفر» طيلة عشرة أعوام، وقضيت آخر أربعة منها في منصب محرر أول، ثم اتجهت بعد ذلك للعمل المستقل عبر كتابة الكتب والمقالات الخاصة، وغيرها من أنواع الكتابة.
بعبارةٍ أخرى، لم أكن أعلم أثناء دراستي الجامعية أني أريد العمل ككاتب علمي. وبينما درست بعض المقررات العلمية لأني كنت أستمتع بها، لم أحصل على شهادة في مجال العلوم، ولم أسجل لإتمام أي دراسات عليا في الصحافة العلمية؛ فلم يكن لديَّ سوى حسن تمييزٍ ساعدني في إدراك أني قد استغرقت في العمل في مجال يرضيني إلى هذا الحد.
يقدم ما ذكرته آنفًا سببًا يجعل القارئ يشكك في نصيحتي، أما حقيقة أني عملت طوال السنوات الخمس الأولى من حياتي المهنية دون اتصال بشبكة الإنترنت، فهي سبب آخر. ولم يكن لديَّ بريد إلكتروني؛ ففي ذلك الوقت لم يرَ ناشرو المجلات فائدة من توصيل أجهزة الكمبيوتر التي يعملون عليها بأسلاك التليفونات للاتصال بالإنترنت. وهكذا بدأ تدريبي على الكتابة العلمية الذي كان جزءًا من عملي في زمن عتيق؛ حيث كانت المجلات والصحف تسيطر على الكتابة العلمية سيطرة شبه احتكارية، وكانت البدائل الوحيدة هي المجلات الخاصة التي يطبعها أصحابها بأنفسهم على نحوٍ بدائي، والتي كانت تحقق جزءًا ضئيلًا من مبيعات المجلات الكبيرة، لكنها فشلت في جذب المعلِنين الذين يُغدقون أموالًا طائلة على إعلاناتهم.
بالطبع تغيَّر كل هذا؛ فمثلًا، تحولت مجلة «بوينج بوينج» — وهي إحدى المجلات البدائية — إلى موقع إلكتروني ناجح للغاية. واستغرق الكثير من العاملين بمجال الكتابة العلمية وقتًا طويلًا جدًّا لإدراك أن التغيير قادم، وحاول الكثيرون تجاهله ما إن شهدوه. وفي حالتي، اكتشفت العالم الإلكتروني بالصدفة كما عثرت صدفةً على مجال الكتابة العلمية؛ فمع حلول بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بدأت أستمتع بكتابة عدد قليل من المدونات العلمية. وعندما قررت مجلة «ناتشرال هيستوري» التوقف عن نشر مقالاتي، أدركت أن المقال — كنوع أدبي — سيصعب بيعه لمحررين آخرين؛ لذا، أنشأت مدونة لا أكون فيها مضطرًّا لإقناع أحدٍ بمقالاتي.
بدت المدونات في ذلك الوقت كإحدى وسائل التسلية الغريبة، ولم أكن أتوقع — مثل الجميع — أن تصبح في النهاية في قلب الصحافة العلمية. وكذلك لم أدرك أن الصحافة العلمية التقليدية — والصحافة على وجه العموم — كانت تخضع لتغيُّر جذري. وربما يكون التعبير الأفضل لوصف هذه العملية — بناءً على مَن توجه له الحديث — هو الانسلاخ أو الانهيار.
لهذا السبب أشعر من ناحيتي — وأنا أكتب هذه التدوينة عام ٢٠١٣ — بأني سعيد الحظ؛ لأني استطعت في النهاية كسب قوتي بالعمل كاتبًا علميًّا، لكني حذر جدًّا فيما يتعلق بنصح الآخرين بالعمل في هذا المجال. وإذا قررتَ أنك ترغب في أن تصبح كاتبًا علميًّا، فلتتأكد أن انطباعك عن المجال يتسم بالدقة؛ وإذا كانت لديك صورة ضبابية عن الصحافة كما كانت قرابة عام ١٩٩٠، فعليك تحديث تصوراتك.
تمتعت الصحف الأمريكية بازدهار عظيم عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن هذا الازدهار وصل إلى ذروته زهاء عام ١٩٩٠. أما الآن فالصحف توظف عددًا أقل من الأفراد مقارنةً بعام ١٩٥٠؛ فخلال سنوات الازدهار عينت الصحف العديد من الكُتَّاب العلميين لتحرير الأقسام العلمية الأسبوعية، والتي بلغ عددها أثناء قمة ازدهارها — عام ١٩٨٩ — ٩٥ قسمًا في الولايات المتحدة، أما الآن فلا يوجد سوى ١٩. فعندما تحاول الصحف الاستمرار في تحقيق أرباح عبر تخفيض الإنفاق (وهي استراتيجية غير حكيمة بالمرة، لكنها تساعد في تحسين شكل دفاتر الحسابات على المدى القصير)، فغالبًا ما يكون القسم العلمي هو أول الأقسام الملغاة.
ينطبق هذا أيضًا على المجلات، فإذا كان تصورك عن الصحافة العلمية في المجلات يرجع إلى عهد إدارة الرئيس ريجان، فقد حان الوقت لتقييم هذا الموقف؛ إذ شَهدت حقبة الثمانينيات نموًّا مدهشًا للمجلات المخصصة للعلم فحسب، مثل «ديسكفر» و«أومني» و«ساينس دايجيست» وغيرها. وعيَّنت المجلات الكبرى مثل «تايم» و«نيوزويك» أطقم عمل تعمل بدوام كامل للكتابة عن العلم فحسب. بلى، فلتصدَّق عينيك؛ لقد أطلقتُ على مجلة «نيوزويك» لتوِّي وصف المجلة الكبرى. قد تبدو تلك المجلات الآن في حالة انهيار، لكنها امتلكت في يوم من الأيام مبانيَ في مانهاتن تعلوها لافتات تحمل أسماءها. ومثل ما شهدته الصحف من قبل، تشهد المجلات الآن فترة انحدار، وكثيرٌ من المجلات العلمية التي انتشرت في الماضي أُغلقت الآن تمامًا.
مع ذلك تشهد بعض مراكز الكتابة العلمية ازدهارًا، ومن ضمنها ما تُصْدِر المطبوعات التقليدية التي تحاول ابتكار طرق جديدة للبقاء على الساحة، إضافةً إلى المطبوعات الجديدة التي لا تحمل على عاتقها تاريخ الصحافة المؤلم. وعلى الأرجح لن تدعم تلك المنافذ القديمة والجديدة عدد الكُتَّاب العلميين نفسه الذي شهدته حقبة الثمانينيات؛ لسبب بسيط هو أن مقالًا منشورًا في صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» ومقالًا آخر منشورًا في صحيفة «بوسطن جلوب» لم يَعُدْ يفصلهما عن بعضهما الثلاثة آلاف ميل الفاصلة بين المدينتين؛ فمن الممكن الاطلاع على المقالين في علامتَي تبويب متجاورتين على المتصفح نفسه. من ناحية أخرى، سيكون من العبث مد التوجه نحو الصحافة العلمية في خط مستقيم من مرحلة الانحدار السابقة إلى أن يصل إلى نقطة الصفر.
إذا كنت قد اكتسبت رؤية مستبصرة حول الصحافة العلمية، فالسؤال التالي الذي يجب أن تطرحه على نفسك هو: «هل أرغب في العمل بهذا المجال؟» ما إن تشرع في الكتابة العلمية لا تتوقع أن تحظى تلقائيًّا بوظيفة ضمن طاقم العمل، وحزمة تقاعد، وقائمة من الموضوعات المثيرة التي يمكنك الكتابة عنها على مدار الخمسين سنة التالية؛ فإنك بدخولك المجال ستدخل أيضًا في منافسة شرسة سواء على وظيفة لخريج مبتدئ أو على مهام الكتابة الحرة، وقد يكون الراتب زهيدًا حتى في المطبوعات البارزة؛ لذا، عليك أن تتمتع بالقوة اللازمة للتكيُّف مع هذه البيئة. أما تعرضك للرفض فهو ليس كارثة تُنهي الحياة المهنية في عالم الكتابة العلمية، بل هو جزء طبيعي من التجربة.
لو ظللت مصممًا على العمل بهذا المجال فربما تتساءل: «كيف أبدأ الكتابة عن العلم؟» والإجابة هي: بأن تشرع في الكتابة. الأمر يشبه العزف على آلة الترومبون، فإذا ذهبت إلى فرقة لموسيقى الجاز وأخبرتهم أنك — بعد تفكير طويل — تعتقد أن العمل كعازف ترومبون سيمثل تجربة ممتعة، فعلى الأرجح لن يقبلوك على الفور بالفرقة، لكنهم سيرغبون في سماع عزفك. وقد يساعدك مدرس لآلة الترومبون على أن تصبح عازفًا أفضل، وكذلك العزف في الفرق المدرسية. لكن الأهم من هذا كله هو الساعات التي تقضيها دومًا في التدريب بمفردك على العزف.
أوجه هذه النصيحة على وجه الخصوص لطلاب الدراسات العليا في مجال العلوم ممن يعتقدون أن الكتابة عن العلم أكثر إمتاعًا من ممارسته. وأتفق معهم في هذا الرأي لكن هذا لا يعني أن اجتهادهم في الدراسة بعد التخرج قد أعدهم جيدًا للكتابة عن العلم لجمهور غير متخصص؛ حيث إن أسلوب الكتابة المستخدَم لنشر بحث علمي في مجلة «أمريكان جورنال أوف بوتاني» يختلف عن أسلوب الكتابة المستخدَم لنشر تحقيق في مجلة «أتلانتيك»؛ فتعلُّم كيفية الكتابة عن العلم يتطلب جهدًا. ولكي تبدأ العمل عليك أولًا البحث عن موضوعات وكتابة مئات الكلمات كل يوم. ولا تقنط إذا كنت لا تزال تشعر — بعد عدة أشهر — أنك بدأت تمتلك لتوك مفاتيح الكتابة عن الفيزياء لجمهور عريض؛ فالأمر ليس سهلًا.
أحد الأساليب النافعة لتعلُّم كيفية الكتابة هو تحليل أسلوب كبار الكتاب العلميين. فإذا كنت معجبًا بالكاتب جون ماكفي فلتفتِّش في كتابه «تاريخ العالم السالف»، وتأمل الطريقة التي يجمع بها قصصه. وإذا رغبت أن تصبح كاتبًا علميًّا فلتُلقِ نظرة على أفضل الأعمال التي كُتبت في هذا المجال مثل كتب سيدارتا موكيرجي وستيفن بينكر، أو تفقَّد هذه القائمة المليئة بالمصادر التي أعدتها مدونة «ذا لووم» لقرائها عام ٢٠٠٩. لا تنتظر أن يعطيَك أحد مجموعة تعليمات رسمية؛ فليس لهذا وجود.
وبالطبع لكي تعزز مهارتك في الكتابة ستحتاج إلى موضوع تكتب عنه، ولحسن الحظ يحفل عالم العلم بأحداث لا تنتهي، بدءًا من الأبحاث الجديدة وانتهاءً بالقضايا الجدلية المستجدة. ويمكنك التدقيق في البيانات الصحفية أو البحث عبر المجلات أو التحدث فحسب مع الناس لمعرفة المستجدات. لا تشعر بوجود التزام يدفعك إلى الكتابة حول ما يكتب عنه الآخرون، ما لم يكن لديك جديد يقال في تلك المواضيع. فمن السهولة بمكان على معظم الصحفيين تجاهل صلب الموضوع الذي يكتبون عنه؛ لذا، لا تخشَ أن تنحوَ نحوًا مختلفًا.
لا بد لكل كاتب علمي مبتدئ مِن اتخاذ قرار حول المسار الذي سيسلكه. وفي حالتي لقد سلكت المسار المتهور المتعرج الذي وصفته آنفًا، لكني شاهدت آخرين يسلكون مسارات مختلفة إلى حدٍّ كبير قادتْهم إلى حياة مهنية راسخة؛ فبدأ بعضهم بإنشاء مدونات خاصة بهم حيث علَّموا أنفسهم الكتابة أمام جمهور. أما البعض الآخر فسلكوا — بالاعتماد على أنفسهم — طريق الكتابة الحرة، بادئين بالمطبوعات الصغيرة، ثم استغلوها للنشر في كبرى الصحف والمجلات. وقد سجل بعضهم لإتمام الدراسات العليا في الصحافة العلمية، حيث دُرِّبوا على يد كُتَّاب محنكين متمرِّسين، ثم عُيِّنوا كمتدربين لدى بعض الصحف والمجلات البارزة. وبينما انضم بعض العلماء المتدربين إلى برنامج «زمالة وسائل الإعلام» الذي ترعاه الرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم، انحرف آخرون إلى اتجاهات غير متوقعة؛ إذ بدءوا في مجال الكتابة العلمية ثم أصبحوا منتجين إذاعيين على سبيل المثال، أو عملوا في مجال الرسوم المتحركة، أو في مجال تصميم التطبيقات. في تلك الأيام من الضروري أن تكون على استعداد لسَلْك اتجاهٍ لم يكن في وسعك توقعه في البداية.
وإلى جانب البراعة في كتابة المقالات ذاتها، هناك مهارة أخرى هامة لا تحظى عادةً بالتقدير، وهي تعلم كيفية كتابة عرض جيد للحصول على عمل حر؛ إذ يجب عليك جذب المحررين كي يكلفوك بمهمة. ويتطلب ذلك بضعة أمور؛ أولًا: لا بد من أن تفهم بوضوحٍ تام الموضوعَ الذي تريد الكتابة عنه بحيث تستطيع وصفه بإيجاز وبأسلوب مقنع. وعليك كذلك إدراك روح كل مطبوعة تتعامل معها؛ إذ تفخر بعض المجلات بتركيزها الشديد على الموضوعات الأكاديمية، بينما تَعتبر مجلات أخرى نفسها موجِّهة للقراء محبي الاطلاع الذين تعوزهم الخبرة. وتهتم بعض المجلات اهتمامًا أكبر بالأسلوب الروائي الجذاب، بينما تضع مجلات أخرى التفاصيل العلمية فوق أي شيء آخر؛ لذا، عليك إدراك الفرق، ومن ثَمَّ اكتشاف الموضوعات التي لا يستطيع المحررون إيجادها بأنفسهم؛ الموضوعات التي يتوقون لرؤيتها على صفحات مجلاتهم.
في وسعي الاستفاضة في هذا العرض، لكن هناك من أدَّى المهمة نفسها وينبغي لي ألا أكرر مجهوداتهم الرائعة.
إذنْ، هذا هو كل ما ورد بذهني ردًّا على الخطابات التي أتلقاها، مع أنني لست واثقًا من أنني استطعت تغطية كل شيء أو ما إذا كنت قد أغفلت أمرًا هامًّا.