الشرعية الدولية ومعتقل غوانتانامو ـــ(2)
مرسل: الجمعة فبراير 25, 2011 12:36 am
أثار تقرير لجنة حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عما يحدث في معتقل جوانتانامو حفيظة الرأي العام العالمي ومنهم فقهاء القانون الدولي، حيث تساءل العالم عن رأي القانون الدولي فيما حدث ويحدث من تجاوزات اهتز لها ومنها العالم.
فبادرت بعرض التقرير وما حدث على قواعد وإحكام الشرعية الدولية لكي نضع أمام الرأي العام العالمي والباحثين موقف الشرعية الدولية مما سلف، فكان هذا البحث الذي تناولت فيه أولاً: الشرعية الدولية من حيث الماهية وهي عبارة عن إسقاط أحكام وقواعد ومبادئ القانون الدولي على النظام الدولي والواقع الدولي والمصادر الشرعية الدولية والتي تكاد تنحصر فيما ورد في نص المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وهي مصادر القانون الدولي ذاتها، وطبقنا كل ما سلف على الواقع الدولي الراهن حتى نبين الطبيعة القانونية لهذا النظام.
وثانياً الشرعية الدولية والحرب ضد أفغانستان والذي تناولنا بالدراسة فيه عدم صحة إسناد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتنظيم القاعدة واستندنا في ذلك إلى العديد من الوقائع والأدلة المحققة والموثوق بها ومصادر معتمدة لا يدخل ولا يتسرب إليها الشك، وتبين من الدراسة أن أحداث (11/9) بالولايات المتحدة كانت داخلية الفاعل والمفعول به، فعلها من فعلها لتمرير المشروع الأمريكي للقرن القادم حتى إن البعض أطلق عليها (بيرل هاربير الجديدة) ثم القينا الضوء على الأسباب الحقيقية للحرب ضد أفغانستان السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وتناولنا بالدراسة القانونية القرارين الصادرين عن الأمم المتحدة بشأن الأحداث وهما القرار (1368) والقرار (1373) وبينا المثالب القانونية التي أصابتهما، وموقف وحكم الشرعية الدولية من الحرب ضد أفغانستان، وما ترتب عليها من تصرفات ونتائج وانتهينا إلى عدم شرعية ومشروعية الحرب ضد أفغانستان، وبيّنا أنها تمت خارج إطار الشرعية الدولية وخالفت وانتهكت العديد من مبادئ وأحكام القانون الدولي، ثم كان الفرع الثاني الذي يمثل ركيزة أساسية في هذا البحث لذلك فقد استأثر بعنوان البحث (الشرعية الدولية ومعتقل جوانتانامو، الذي وضحنا فيه موقف القانون الدولي الإنساني من المعتقل والمعتقلين وحقوق وواجبات الأسرى، كما وردت في اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 وانتهينا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحترم، ولم تضع أمامها القانون الدولي عامة في هذه الحرب وما تلاها من تصرفات غير شرعية.
أولاً: الشرعية الدولية
إن مصطلح الشرعية الدولية من أكثر المصطلحات انتشاراً على الساحة الدولية مما أثار حولـه الغموض، رغم أنه مصطلح علمي ثابت ومحدد المعنى في العلوم السياسية والقانون الدولي، وقد يختلف العلماء والمتخصصون حول بعض التفاصيل لتحديده، ولكنهم يتفقون في عناصره الرئيسية ومن ثم يصبح لازماً تحديد مفهومه وماهيته.
وللشرعية الدولية مصادر متعددة تبدأ بالقانون الدولي بفروعه المختلفة وقواعد وأحكام ومبادئ مروراً بقانون المنظمات الدولية وتشمل أيضاً مجموعة المعاهدات والاتفاقيات والعهود الدولية التي أقرها أشخاص القانون الدولي وآلياته ونستطيع حصرها فيما ورد بالمادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ولحسن الدراسة والعرض أن نبين مدى العلاقة بين الشرعية الدولية والنظام الدولي الجديد وما تأثير تلك على ذلك.
1 ـ ماهية الشرعية الدولية
أحيط مصطلح الشرعية الدولية بالغموض والتزييف، وبات من أكثر المصطلحات على الصعيد الدولي ترديداً، فالكل بات يتحدث عن الشرعية الدولية، ويزعم السياسيون كافة في كل رجا من أرجاء المعمورة أن أقوالهم وأفعالهم مطابقة للشرعية الدولية وفي نطاقها، وتستظل بظلها(1).
وبالرغم من أن تعبير (الشرعية الدولية) مصطلح علمي محدد المعنى في العلوم السياسية وعلم القانون الدولي. ولكن يختلف الفقهاء حول بعض التفاصيل في تحديده، ولكنهم يتفقون في عناصره الرئيسية التي تجعل هذه الكلمة قابلة للاستخدام كمصطلح علمي وليس كمصطلح سياسي، يفسره كل سياسي طبقاً لمصالحه وهواه. حتى إن البعض وصف مصطلح الشرعية الدولية بأنه أحد أخبث أقنعة النظام الدولي الجديد وأكثرها فتنة للألباب(2).
ولكي يبقى السؤال ما هي الشرعية؟ وهل هي مجرد قرارات صادرة عن مجلس الأمن؟ أو هي مجمل البنية التشريعية والقانونية التي تقوم عليها الأمم المتحدة؟ ثم ما هي المرجعية التي يمكن الاستناد إليها لمعرفة مدى اتفاق تصرف دولي ما مع الشرعية الدولية؟
بداية يجب التفريق بين مفهوم الشرعية (Legitimacy) الذي يدور حول الأسس التي يتقبل فيها أفراد المجتمع النظام السياسي ويخضعون له طواعية، ومفهوم المشروعية
(Legality) بمعنى خضوع نشاط السلطات ونشاط الأشخاص للقانون، وبالتالي فقد تكون السلطة مشروعة، أي مطابقة لأحكام القوانين، ولكنها غير شرعية برفض الجماعة لها. بسبب عدم تلاؤمها مع قيمهم وتوقعاتهم. فالشرعية فكرة أو معتقد تتعلق بأساس السلطة وكيفية ممارساتها، بالتالي فهي مفهوم مصدره الدين أو الكاريزما أو التقاليد، بينما المشروعية مصدرها القانون(3).
كما أن هناك فرقاً بين القانونية (Legality) والشرعية (Legitimacy) فالقانونية هي صدور القرارات وفق القانون، وأما الشرعية ألا تمثل هذه القرارات تجاوزا من جانب السلطة لاختصاصاتها طبقاً للقوانين أي استخدام السلطات القانونية لتحقيق أهداف لا ينص عليها القانون(4).
إن مفهوم الشرعية الدولية ثابت عند الفقهاء في القانون الدولي، والعلاقات الدولية والعلوم السياسية، ومعروف لدى القوى الدولية. فقد عرفها بعضهم في كلمات قليلة أنها (أحكام القانون الدولي المعاصر التي يمثلها ميثاق الأمم المتحدة والنظام الذي يحكم العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية.
وهي تلك المبادئ التي نص عليها الميثاق من عدم استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها في العلاقات بين الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، والمساواة في السيادة بينها، وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحرية، وواجب الدول في تنفيذ التزاماتها وفقاً للميثاق بحسن نية، وفي تسوية نزاعاتها بالطرق السلمية، وكل هذه المبادئ تضمنها تفصيلاً إعلان المبادئ الخاصة بالعلاقات الودية، والتعاون بين الدول وفقاً للقانون الدولي والمطابقة لميثاق الأمم المتحدة، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أكتوبر 1970.
وهي تلك المنظومة التي شكلتها الأمم المتحدة على مدى ما يزيد على نصف قرن لتبني عليها النظام الدولي المعاصر، والتي من أهم لبناتها تصفية الاستعمار وتفعيل حق تقرير مصير الشعوب واستقلالها، الأمر الذي كرسه الإعلان رقم (1514) الصادر عن الجمعية العامة في 14 ديسمبر 1960.
كما أن الشرعية الدولية تشمل مجموعة المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، سواء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 أم العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، واتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز العنصري عام 1965، والإعلان الخاص بإزالة التمييز ضد المرأة عام 1967، واتفاقية تحريم وعقاب جريمة إبادة البشر عام 1948، واتفاقية تحريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة اللاإنسانية أو المهينة عام 1984، وغيرها من الاتفاقات والإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الطفل واللاجئين والعمال.
وهي التي تشمل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، الأولى الخاصة بتحسين حالة الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان والثانية الخاصة بتحسين حال الجرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار، والثالثة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب، والرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.كما تشمل البروتوكولين الإضافيين إلى هذه الاتفاقات عام 1997، الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة ـ ومنها حرب التحرير ضد التسلط الاستعماري، والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية والثاني المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
ومنها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998، والذي يعرف بنظام روما، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمحاكمة مرتكبي جريمة إبادة البشر والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان. وتشمل كذلك الاتفاقات الدولية التي تحظر استخدام أنواع معينة من الأسلحة، ومنها اتفاقية عام 1981 والبروتوكولات الأربعة الخاصة بالأسلحة الانشطارية والحارقة، والمخادعة وأسلحة الليزر، واتفاقية الألغام عام 1997، والاتفاقات الخاصة بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وغيرها.
الشرعية الدولية إذن بناء متكامل، حاولت البشرية به أن تقيم العلاقات بين الدول على أسس سليمة لتحقيق السلام والتعاون فيما بينها بعد أن اكتوت بنار حربين عالميتين خلال جيل واحد. وهذا البناء المتكامل يقوم على أسس من مبادئ القانون الدولي، منها ما يمليه العرف ومنها ما تتضمه الاتفاقات الدولية، فالشرعية الدولية ليست مجرد شعار بل إنها مجموعة مبادئ ثابتة)(5).
وعرفها آخر بأنها (سيادة منطق العدل والحق بين أعضاء الجماعة الدولية وليست مرادفاً لشريعة القوة والغطرسة)(6) وقال عنها آخر إنها (تجسيد وترجمة لإرادة المجتمع الدولي)، ولذلك ليس لطرف أو لدولة أن تحدد هذه الشرعية. وهي المرجعية والإطار العام الذي بموجبه يتم الحكم على كافة أفعال وتصرفات أشخاص وآليات المجتمع الدولي،وبناء عليه أن ما يقوم به طرف قوي أو طرف ضعيف، متفق أو مخالف مع الشرعية الدولية ينبغي تقويمه وفقاً لقواعد وأسس هذه المرجعية الدولية. ومعنى ذلك أن الشرعية الدولية وإن تجاوزتها سلوكيات القوة للدول القوية، فلا يعني ذلك إلغاء الشرعية الدولية، أو تبديل مفهومها أو إضفاء الشرعية على تصرف يتناقض مع مبادئ وأسس الشرعية الدولية.
عموماً فالشرعية الدولية صفة لا تزول عن تصرف من التصرفات الدولية عن طريق معاهدة ما، أو وضع جديد يوصف بأنه يتناقض مع الشرعية الدولية، أي مع الأسس المقررة في القانون الدولي العام، ولا يغير من ذلك الاضطرار إلى التعامل مع التطبيقات الباطلة القائمة على أرض الواقع، وهذا معناه رغم التعامل مع وضع قائم ما غير شرعي، فإن ذلك لا يعني الاعتراف بمشروعيته.
فمصطلح الشرعية الدولية لا يتبدل مقصوده بكثرة استخدامه في غير موضعه فقد وضع ليسري على مر الدهور وكر العصور وأوضاع متشابهة ومتعددة ومختلفة، وأحداث وتطورات جارية، دون أن يفقد معناه ومغزاه، ولا تضيع معالمه وحدوده. فالشرعية الدولية لا يمكن تفصيلها كما تفصل الملابس لتناسب لقطة زمنية معينة أو عصر معين(7).
فلا يمكن لدولة ما أو مجموعة من الدول، أن تكون مرجعاً للشرعية الدولية مفهوماً وحدوداً، فالشرعية الدولية هي المرجعية للحكم على تصرفات سائر أشخاص وآليات النظام الدولي على مر الدهور وكر العصور، وهي بناء متكامل ثابت الحدود والأركان والمعالم.
رغم ذلك ذهب بعضهم إلى الخلط بين مصالح الدول الكبرى والشرعية الدولية، فهم يسوغون تصرفات الدول الكبرى على اعتبار أنها الشرعية الدولية، كما يفعل بعضهم الآخر في منطقتنا العربية من تسويغ تصرفات الولايات المتحدة الأمريكية، بزعم أنها القطب الأوحد وتقف وحدها على قمة النظام العالمي الجديد، حيث تملك من المقومات ما يجعلها مرجعاً للشرعية الدولية وأساساً لها، وهم (المارينز العرب).
فنحن العرب ننظر إلى الشرعية الدولية على أنها شيء عالي مقدس، لا يصدر عنها إلا الخير فقط، أو أنها كائن مثالي قائم بذاته، منفصل عن النظام الدولي وعلاقاته، يمسك بميزان العدالة والحق ويحكم بينهما بين أشخاصه وآلياته. وننسى أو نتناسى أن الشرعية الدولية (هي الوجه المعبر في كل لحظة دولية عن تقاطع مصالح الدول الكبرى المتصارعة في العالم وعلى العالم) وليست ولا يمكن أن تكون ذلك الكائن المثالي الذي نتصوره ونعلق عليه آمالنا، ونعتمد عليه في حل كافة أزماتنا الدولية الصغيرة والكبيرة(8).
لو لم يكن ذلك صحيحاً، لما كانت تتبدل المفاهيم لهذه الشرعية، كلما تبدلت موازين القوى، بين عصر وآخر، ولما ظهرت ازدواجية المعايير وتعددها، والكيل بأكثر من مكيال، ولما كانت بعض القرارات العادلة ولو بحدود ضيقة ترمى في سلة المهملات، أو في مزبلة التاريخ، أما القرارات الظالمة فتأخذ طريقها للتنفيذ لكونها تلبى مصالح الدول الكبرى وحلفاؤهم.
تلك حال المجتمع الدولي منذ أمد بعيد، ولا نغالي في القول إذا قلنا إن ذلك حال المجتمع الدولي على مر الدهور وكر العصور، مما أوجد حالة تناقض وفصام بين القانون الدولي قواعد وأحكام ومبادئ وبين النظام الدولي السائد في عصر من العصور، أي إن البون واسع بين القانون الدولي وبين الواقع الدولي.
والحقيقة يجب أن نفصل تماماً بين مفهوم القانون الدولي كشرعية لتنظيم العلاقات الدولية على أسس ومبادئ ثابتة، أي بين الشرعية الدولية، وقرار أو قرارات يصدرها مجلس الأمن أو حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن استعمال كلمة (شرعية) بما لها من حرمة وقدسية لا يمكن حصرها في قرار أو بضعة قرارات صادرة عن مجلس الأمن التي تسيطر عليه الدول الخمس الكبرى سيطرة كاملة أو حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن القرارات الصادرة عن الجمعية العامة تعبر عن مصالح الدول السياسية والقانون الدولي يحمي حقوق وليست مصالح، لأن المصالح تخضع للسياسة.
فبادرت بعرض التقرير وما حدث على قواعد وإحكام الشرعية الدولية لكي نضع أمام الرأي العام العالمي والباحثين موقف الشرعية الدولية مما سلف، فكان هذا البحث الذي تناولت فيه أولاً: الشرعية الدولية من حيث الماهية وهي عبارة عن إسقاط أحكام وقواعد ومبادئ القانون الدولي على النظام الدولي والواقع الدولي والمصادر الشرعية الدولية والتي تكاد تنحصر فيما ورد في نص المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وهي مصادر القانون الدولي ذاتها، وطبقنا كل ما سلف على الواقع الدولي الراهن حتى نبين الطبيعة القانونية لهذا النظام.
وثانياً الشرعية الدولية والحرب ضد أفغانستان والذي تناولنا بالدراسة فيه عدم صحة إسناد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتنظيم القاعدة واستندنا في ذلك إلى العديد من الوقائع والأدلة المحققة والموثوق بها ومصادر معتمدة لا يدخل ولا يتسرب إليها الشك، وتبين من الدراسة أن أحداث (11/9) بالولايات المتحدة كانت داخلية الفاعل والمفعول به، فعلها من فعلها لتمرير المشروع الأمريكي للقرن القادم حتى إن البعض أطلق عليها (بيرل هاربير الجديدة) ثم القينا الضوء على الأسباب الحقيقية للحرب ضد أفغانستان السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وتناولنا بالدراسة القانونية القرارين الصادرين عن الأمم المتحدة بشأن الأحداث وهما القرار (1368) والقرار (1373) وبينا المثالب القانونية التي أصابتهما، وموقف وحكم الشرعية الدولية من الحرب ضد أفغانستان، وما ترتب عليها من تصرفات ونتائج وانتهينا إلى عدم شرعية ومشروعية الحرب ضد أفغانستان، وبيّنا أنها تمت خارج إطار الشرعية الدولية وخالفت وانتهكت العديد من مبادئ وأحكام القانون الدولي، ثم كان الفرع الثاني الذي يمثل ركيزة أساسية في هذا البحث لذلك فقد استأثر بعنوان البحث (الشرعية الدولية ومعتقل جوانتانامو، الذي وضحنا فيه موقف القانون الدولي الإنساني من المعتقل والمعتقلين وحقوق وواجبات الأسرى، كما وردت في اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 وانتهينا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحترم، ولم تضع أمامها القانون الدولي عامة في هذه الحرب وما تلاها من تصرفات غير شرعية.
أولاً: الشرعية الدولية
إن مصطلح الشرعية الدولية من أكثر المصطلحات انتشاراً على الساحة الدولية مما أثار حولـه الغموض، رغم أنه مصطلح علمي ثابت ومحدد المعنى في العلوم السياسية والقانون الدولي، وقد يختلف العلماء والمتخصصون حول بعض التفاصيل لتحديده، ولكنهم يتفقون في عناصره الرئيسية ومن ثم يصبح لازماً تحديد مفهومه وماهيته.
وللشرعية الدولية مصادر متعددة تبدأ بالقانون الدولي بفروعه المختلفة وقواعد وأحكام ومبادئ مروراً بقانون المنظمات الدولية وتشمل أيضاً مجموعة المعاهدات والاتفاقيات والعهود الدولية التي أقرها أشخاص القانون الدولي وآلياته ونستطيع حصرها فيما ورد بالمادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ولحسن الدراسة والعرض أن نبين مدى العلاقة بين الشرعية الدولية والنظام الدولي الجديد وما تأثير تلك على ذلك.
1 ـ ماهية الشرعية الدولية
أحيط مصطلح الشرعية الدولية بالغموض والتزييف، وبات من أكثر المصطلحات على الصعيد الدولي ترديداً، فالكل بات يتحدث عن الشرعية الدولية، ويزعم السياسيون كافة في كل رجا من أرجاء المعمورة أن أقوالهم وأفعالهم مطابقة للشرعية الدولية وفي نطاقها، وتستظل بظلها(1).
وبالرغم من أن تعبير (الشرعية الدولية) مصطلح علمي محدد المعنى في العلوم السياسية وعلم القانون الدولي. ولكن يختلف الفقهاء حول بعض التفاصيل في تحديده، ولكنهم يتفقون في عناصره الرئيسية التي تجعل هذه الكلمة قابلة للاستخدام كمصطلح علمي وليس كمصطلح سياسي، يفسره كل سياسي طبقاً لمصالحه وهواه. حتى إن البعض وصف مصطلح الشرعية الدولية بأنه أحد أخبث أقنعة النظام الدولي الجديد وأكثرها فتنة للألباب(2).
ولكي يبقى السؤال ما هي الشرعية؟ وهل هي مجرد قرارات صادرة عن مجلس الأمن؟ أو هي مجمل البنية التشريعية والقانونية التي تقوم عليها الأمم المتحدة؟ ثم ما هي المرجعية التي يمكن الاستناد إليها لمعرفة مدى اتفاق تصرف دولي ما مع الشرعية الدولية؟
بداية يجب التفريق بين مفهوم الشرعية (Legitimacy) الذي يدور حول الأسس التي يتقبل فيها أفراد المجتمع النظام السياسي ويخضعون له طواعية، ومفهوم المشروعية
(Legality) بمعنى خضوع نشاط السلطات ونشاط الأشخاص للقانون، وبالتالي فقد تكون السلطة مشروعة، أي مطابقة لأحكام القوانين، ولكنها غير شرعية برفض الجماعة لها. بسبب عدم تلاؤمها مع قيمهم وتوقعاتهم. فالشرعية فكرة أو معتقد تتعلق بأساس السلطة وكيفية ممارساتها، بالتالي فهي مفهوم مصدره الدين أو الكاريزما أو التقاليد، بينما المشروعية مصدرها القانون(3).
كما أن هناك فرقاً بين القانونية (Legality) والشرعية (Legitimacy) فالقانونية هي صدور القرارات وفق القانون، وأما الشرعية ألا تمثل هذه القرارات تجاوزا من جانب السلطة لاختصاصاتها طبقاً للقوانين أي استخدام السلطات القانونية لتحقيق أهداف لا ينص عليها القانون(4).
إن مفهوم الشرعية الدولية ثابت عند الفقهاء في القانون الدولي، والعلاقات الدولية والعلوم السياسية، ومعروف لدى القوى الدولية. فقد عرفها بعضهم في كلمات قليلة أنها (أحكام القانون الدولي المعاصر التي يمثلها ميثاق الأمم المتحدة والنظام الذي يحكم العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية.
وهي تلك المبادئ التي نص عليها الميثاق من عدم استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها في العلاقات بين الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، والمساواة في السيادة بينها، وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحرية، وواجب الدول في تنفيذ التزاماتها وفقاً للميثاق بحسن نية، وفي تسوية نزاعاتها بالطرق السلمية، وكل هذه المبادئ تضمنها تفصيلاً إعلان المبادئ الخاصة بالعلاقات الودية، والتعاون بين الدول وفقاً للقانون الدولي والمطابقة لميثاق الأمم المتحدة، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أكتوبر 1970.
وهي تلك المنظومة التي شكلتها الأمم المتحدة على مدى ما يزيد على نصف قرن لتبني عليها النظام الدولي المعاصر، والتي من أهم لبناتها تصفية الاستعمار وتفعيل حق تقرير مصير الشعوب واستقلالها، الأمر الذي كرسه الإعلان رقم (1514) الصادر عن الجمعية العامة في 14 ديسمبر 1960.
كما أن الشرعية الدولية تشمل مجموعة المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، سواء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 أم العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، واتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز العنصري عام 1965، والإعلان الخاص بإزالة التمييز ضد المرأة عام 1967، واتفاقية تحريم وعقاب جريمة إبادة البشر عام 1948، واتفاقية تحريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة اللاإنسانية أو المهينة عام 1984، وغيرها من الاتفاقات والإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الطفل واللاجئين والعمال.
وهي التي تشمل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، الأولى الخاصة بتحسين حالة الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان والثانية الخاصة بتحسين حال الجرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار، والثالثة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب، والرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.كما تشمل البروتوكولين الإضافيين إلى هذه الاتفاقات عام 1997، الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة ـ ومنها حرب التحرير ضد التسلط الاستعماري، والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية والثاني المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
ومنها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998، والذي يعرف بنظام روما، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمحاكمة مرتكبي جريمة إبادة البشر والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان. وتشمل كذلك الاتفاقات الدولية التي تحظر استخدام أنواع معينة من الأسلحة، ومنها اتفاقية عام 1981 والبروتوكولات الأربعة الخاصة بالأسلحة الانشطارية والحارقة، والمخادعة وأسلحة الليزر، واتفاقية الألغام عام 1997، والاتفاقات الخاصة بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وغيرها.
الشرعية الدولية إذن بناء متكامل، حاولت البشرية به أن تقيم العلاقات بين الدول على أسس سليمة لتحقيق السلام والتعاون فيما بينها بعد أن اكتوت بنار حربين عالميتين خلال جيل واحد. وهذا البناء المتكامل يقوم على أسس من مبادئ القانون الدولي، منها ما يمليه العرف ومنها ما تتضمه الاتفاقات الدولية، فالشرعية الدولية ليست مجرد شعار بل إنها مجموعة مبادئ ثابتة)(5).
وعرفها آخر بأنها (سيادة منطق العدل والحق بين أعضاء الجماعة الدولية وليست مرادفاً لشريعة القوة والغطرسة)(6) وقال عنها آخر إنها (تجسيد وترجمة لإرادة المجتمع الدولي)، ولذلك ليس لطرف أو لدولة أن تحدد هذه الشرعية. وهي المرجعية والإطار العام الذي بموجبه يتم الحكم على كافة أفعال وتصرفات أشخاص وآليات المجتمع الدولي،وبناء عليه أن ما يقوم به طرف قوي أو طرف ضعيف، متفق أو مخالف مع الشرعية الدولية ينبغي تقويمه وفقاً لقواعد وأسس هذه المرجعية الدولية. ومعنى ذلك أن الشرعية الدولية وإن تجاوزتها سلوكيات القوة للدول القوية، فلا يعني ذلك إلغاء الشرعية الدولية، أو تبديل مفهومها أو إضفاء الشرعية على تصرف يتناقض مع مبادئ وأسس الشرعية الدولية.
عموماً فالشرعية الدولية صفة لا تزول عن تصرف من التصرفات الدولية عن طريق معاهدة ما، أو وضع جديد يوصف بأنه يتناقض مع الشرعية الدولية، أي مع الأسس المقررة في القانون الدولي العام، ولا يغير من ذلك الاضطرار إلى التعامل مع التطبيقات الباطلة القائمة على أرض الواقع، وهذا معناه رغم التعامل مع وضع قائم ما غير شرعي، فإن ذلك لا يعني الاعتراف بمشروعيته.
فمصطلح الشرعية الدولية لا يتبدل مقصوده بكثرة استخدامه في غير موضعه فقد وضع ليسري على مر الدهور وكر العصور وأوضاع متشابهة ومتعددة ومختلفة، وأحداث وتطورات جارية، دون أن يفقد معناه ومغزاه، ولا تضيع معالمه وحدوده. فالشرعية الدولية لا يمكن تفصيلها كما تفصل الملابس لتناسب لقطة زمنية معينة أو عصر معين(7).
فلا يمكن لدولة ما أو مجموعة من الدول، أن تكون مرجعاً للشرعية الدولية مفهوماً وحدوداً، فالشرعية الدولية هي المرجعية للحكم على تصرفات سائر أشخاص وآليات النظام الدولي على مر الدهور وكر العصور، وهي بناء متكامل ثابت الحدود والأركان والمعالم.
رغم ذلك ذهب بعضهم إلى الخلط بين مصالح الدول الكبرى والشرعية الدولية، فهم يسوغون تصرفات الدول الكبرى على اعتبار أنها الشرعية الدولية، كما يفعل بعضهم الآخر في منطقتنا العربية من تسويغ تصرفات الولايات المتحدة الأمريكية، بزعم أنها القطب الأوحد وتقف وحدها على قمة النظام العالمي الجديد، حيث تملك من المقومات ما يجعلها مرجعاً للشرعية الدولية وأساساً لها، وهم (المارينز العرب).
فنحن العرب ننظر إلى الشرعية الدولية على أنها شيء عالي مقدس، لا يصدر عنها إلا الخير فقط، أو أنها كائن مثالي قائم بذاته، منفصل عن النظام الدولي وعلاقاته، يمسك بميزان العدالة والحق ويحكم بينهما بين أشخاصه وآلياته. وننسى أو نتناسى أن الشرعية الدولية (هي الوجه المعبر في كل لحظة دولية عن تقاطع مصالح الدول الكبرى المتصارعة في العالم وعلى العالم) وليست ولا يمكن أن تكون ذلك الكائن المثالي الذي نتصوره ونعلق عليه آمالنا، ونعتمد عليه في حل كافة أزماتنا الدولية الصغيرة والكبيرة(8).
لو لم يكن ذلك صحيحاً، لما كانت تتبدل المفاهيم لهذه الشرعية، كلما تبدلت موازين القوى، بين عصر وآخر، ولما ظهرت ازدواجية المعايير وتعددها، والكيل بأكثر من مكيال، ولما كانت بعض القرارات العادلة ولو بحدود ضيقة ترمى في سلة المهملات، أو في مزبلة التاريخ، أما القرارات الظالمة فتأخذ طريقها للتنفيذ لكونها تلبى مصالح الدول الكبرى وحلفاؤهم.
تلك حال المجتمع الدولي منذ أمد بعيد، ولا نغالي في القول إذا قلنا إن ذلك حال المجتمع الدولي على مر الدهور وكر العصور، مما أوجد حالة تناقض وفصام بين القانون الدولي قواعد وأحكام ومبادئ وبين النظام الدولي السائد في عصر من العصور، أي إن البون واسع بين القانون الدولي وبين الواقع الدولي.
والحقيقة يجب أن نفصل تماماً بين مفهوم القانون الدولي كشرعية لتنظيم العلاقات الدولية على أسس ومبادئ ثابتة، أي بين الشرعية الدولية، وقرار أو قرارات يصدرها مجلس الأمن أو حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن استعمال كلمة (شرعية) بما لها من حرمة وقدسية لا يمكن حصرها في قرار أو بضعة قرارات صادرة عن مجلس الأمن التي تسيطر عليه الدول الخمس الكبرى سيطرة كاملة أو حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأن القرارات الصادرة عن الجمعية العامة تعبر عن مصالح الدول السياسية والقانون الدولي يحمي حقوق وليست مصالح، لأن المصالح تخضع للسياسة.