مقال الإرهاب: فعلٌ في غياب اليقين (17)
مرسل: الجمعة فبراير 25, 2011 2:21 am
من الأمور التي باتت شائكة وصعبة إلى حد كبير موضوعة تعريف معنى المقاومة في مقابل مصطلح الإرهاب الذي يزداد استخدامه بشكل كبير. وهذا التعريف الذي يحاول إيجاده المسؤولون الحكوميون، على اختلاف مستوياتهم، من خلال المؤتمرات والندوات واللقاءات الثنائية أو العامة، يصدم دائما بحجر الرغبة الشخصية أو الذاتية أو المصلحة الضيقة لأحزاب السلطة الحاكمة، أو حتى أحزاب المعارضة التي تروم الحصول على السلطة في ما يلي من الزمن. يضاف إليه مساهمة وسائل الأعلام في طريقة عرض المواضيع المتصلة، وإطلاق الأوصاف تبعا لأجندتها وسياستها، أو بالأحرى سياسة مموليها.
والأمر لا يقل صعوبة لدى المثقفين والمفكرين الذين يسعون إلى فصل معنى الفعل الواحد إلى معنيين، متناقضين ظاهريا، باختلاف الظروف التي تحيط الفعل، والنتائج التي تتمخض عنه، أو المرجوة من إتيانه. وقد واجه أفلاطون مثل هذا التناقض في دعوته للعمل الصالح. فمتى يُعد فعلٌ ما صالحا، ونفسه قد يُعد غير صالح في أحيان أخرى؟ فالقتل –استنادا إلى أفلاطون- أمر سيء وخطيئة كبرى، لكنه قد يُعد فضيلة إذا ما وجّه إلى الأعداء، أو المجرمين قصاصا لما ارتكبوه من أفعال شنيعة. وإذا كان فعل القتل في الحالين واحد، وأثره واحد، فلماذا يُعد قتل الأعداء فضيلة؟ تترتب هنا عدة مسائل لجعل هذا الفعل صالحا (أو جائزا إن شئت)، أولها أن يكون العدو محاربا، مضمرا الأذى لنا، وان يكون غير اعزل حين تعرضه للقتل، كما انه يجب أن لا تكون هناك وسيلة أخرى لدفع الضرر إلا بالقضاء على هذا المحارب الذي يسعى للقضاء علينا. وهذه المعطيات تشكل ما يعرف بـ"الحرب العادلة".
وبالمقابل، يجب أن يحصل المجرمون على محاكمة عادلة، وان يتم إثبات جرمهم بما لا يدع مجالا للشك بأنهم ارتكبوا تلك الأفعال التي تستوجب سلبهم حياتهم. ومع ذلك فقد ارتكب القضاء، ونحسب أن سيرتكب في المستقبل، أخطاءا تجعل المرء يتساءل عن جدوى إعدام أي شخص يحتمل ولو بنسبة ضئيلة براءته، أو كون مسؤوليته جزئية عن الفعل الإجرامي المتهم به. ليس في نيتي الدعوة إلى رفع عقوبة الإعدام، ولست مناقشا ذلك في هذا المقام. ولكنني وددت أن أشير إلى معضلات كبرى واجهت البشرية منذ أطلت برأسها على هذا الكوكب.
إذا هاجمك احدهم منزلك بغية السرقة، ولم يكن من وسيلة لدفع هذا الأمر إلا بقتله، فلن تجد من يلومك لقيامك بهذا الفعل. وإذا هاجم لص مزرعتك لقطف بعض الفاكهة، فلن يكون لك الحق بقتله، خصوصا إذا ما ولى دبره هاربا. ولكن إذا قامت عصابة منظمة بمهاجمة المزرعة بغية سلب المحاصيل، جاز لك قتلهم جميعا إن استطعت. ورغم أن النتيجة واحدة في الحالتين الأخيرتين، إلا إن مبرراتهما مختلفة. فالسرقة من اجل سد الرمق، أمر يدعو للرثاء والشفقة على الفاعل أكثر منه إلى تجريمه. ولكن السطو على المنزل، يعد مفسدة وتجاوز على الحرمات.. وشبيه به تآمر العصابة لقطع الرزق.
وعلى هذا فانك بطل إذا قـُتلت شهيدا دفاعا عن بيتك أو مزرعتك في القتال مع العصابة التي هاجمتك. وهنا يأتي تعريف آخر علينا تحديده بدقة، تعريف الشهيد. لاشك إن من يموت من اجل المباديء السامية هو شهيد، وان من يقاتل الشر فيهلك دونه هو شهيد. ولكن كيف يمكن إثبات أن من نقاتلهم هم فعلا (أشرار)، وان المباديء التي ندعو إليها هي فعلا (سامية)؟ وهل وصل أي إنسان –إلا من أراد له الله ذلك بالبينة المعجزة- إلى يقين يوما؟ إذا كان يمكن أن يُترك لص المنزل يهرب، فهل يجب قتله، مع احتمال عودته؟ كيف لي أن اعرف انه سيهرب، أو انه لن يعود؟ إن قتله ينهي المسألة، ولكن إبقاؤه يجعلها مفتوحة باستمرار.
إن جمع هذه المفردات الثلاثة في مقام واحد قد يظهر حجم المعضلة التي نواجه:
مقاومة + شهادة + إرهاب
فرياضيا يجب أن تكون هناك نتيجة ما لهذا الجمع، فماذا عساها تكون؟ هناك ثلاث فرضيات، الأولى: مقاومة + شهادة = إرهاب
الثانية: مقاومة = شهادة + إرهاب
الثالثة: شهادة = مقاومة + إرهاب
ولكنها جميعا خاطئة باعتبار احتوائها على النقيضين: المقاومة والإرهاب
لنجعل المعادلة بإضافة المعطيات السابقة كالتالي:
مقاومة (لابد منها) = شهادة
مقاومة (لا جدوى منها) = إرهاب
فالمقاومة موجودة في الحالتين، ولكن التناقض يتضح في معنيي الشهادة والإرهاب، ويقود إلى نتيجة سطحية:
الشهادة = الإرهاب
ذلك أن كلا من (لابد منها) و(لا جدوى منها) لا يمكن إثباته مطلقا.
لقد كان مثالنا عن حالة تعرضنا لاعتداء، لكن الأمر مختلف إذا شعرنا أننا ضحية، وأن علينا المبادرة لرد الاعتداء أو منع اعتداء متوقع، وهو ما يعرف بـ(الجهاد). والجهاد في الحقيقة صورة عن المقاومة تتخذ وضعا ايجابيا، أي يمكن أن يحل محلها في المعادلات لتصبح:
جهاد = مقاومة = شهادة
دون الحاجة إلى تمييز بين من هو لابد منه، وما لا جدوى منه. والواضح أننا سنصل إلى نفس النتيجة السطحية بالإحلال:
جهاد = إرهاب
إن هذا التحليل الرياضي مبسط جدا. ولكن الموضوع أكثر تعقيدا، والنتائج ليست دائما بهذا الوضوح. غير أن احتمالا بسيطا بان يكون ذلك صحيحا، يقودنا إلى مفتاح لحل المعضلة. فإذا لم يكن لديك اليقين الكامل (ولا نحسب انه متوفر لأحد)، فلن تستطيع بان تصف عملك بالمقاومة (أو الجهاد)، وتضحيتك بالشهادة.. خصوصا إذا نجم عن فعلك إزهاق أرواح، وتدمير ممتلكات، وتعطيل لمسيرة الحياة. فإذا كنت تروم الشهادة لذاتها، فلربما لن تحصل عليها أبدا. فالشهادة نتيجة لفعل واجب في لحظة معينة، ولم تكن أبدا مطلوبة لذاتها، لا دينا، ولا عرفا.
إن من يهاجم جمعا ما (لأي سبب كان) مفجرا نفسه فيهم، إنما هو إرهابي، بغض النظر عن أية نتائج محتملة لفعله. فإذا أعلنت القوات المحتلة (أية قوات في أي مكان في العالم) أنها ستنهي احتلالها غدا، تحت وطأة العمليات الانتحارية (أو الجهادية)، فان تلك العمليات ليست بطولية، ومن قاموا بها ليسوا شهداء. فقد قاموا بالتصرف منفردين، وقرروا قتل آخرين، بالإضافة إلى أنفسهم استنادا إلى قناعة غير يقينية.. وما بني على الباطل، فهو باطل شرعا وقانونا، ولا يعتد به.
إن غياب اليقين عن أفعال الإنسان أمر مألوف، فأنت تسعى من اجل اكتساب الرزق، مع إيمانك بان الرزق مكفول لجميع الدواب (التي ينتمي إليها الإنسان). وأنت تتأمل في الخلق، وتجادل في عظمة الخالق.. ولو كنت على يقين تام لما احتجت إلى أية مجادلة. وبنو البشر يحيكون المؤامرات آناء الليل وأطراف النهار، وينهش بعضهم بعضا، وان كانوا متدينين ورعين يرجون الدار الآخرة. فلو كان لأحد أن يكون على يقين تام، لتوقف عن مخالطة الناس، ولأعتزل في صومعة يرجو أن تصيبه رحمة ربه، فان رزقه فليبقيه حيا، وإلا فليقربه منه.
فكيف، والحال هذا، يجزم أي إنسان بـ(يقين) يصل حد إنهاء حياته من اجل قضية ما؟ إذا تواجه جيشان فان احتمال الموت في المعركة يكون كبيرا، ولكنه ليس محتما. وفي الواقع إن احتمالية الموت ربما تكون متعاكسة مع درجة الإيمان التي يتمتع بها الجنود في تلك المعركة، فكلما ازداد إيمانهم كلما تعاظمت فرصة نصرهم، وبالتالي نجاتهم. وربما تفانى بعضهم غير مبال بحياته في القتال، أو ربما عرض نفسه للقتل عمدا من اجل إحراز هذا النصر، لكنه لا يُعد عملا إرهابيا، ففرص الجميع متساوية، والوضع افلاطوني بحت: العدل في قتل الأعداء في ساحة المعركة، دون القتل المطلق.
لقد تطورت وسائل القتال، وباتت المواجهات في كثير من الأحيان مواجهات تقنية أكثر منها عقائدية. وقد ينشأ إحباط لدى الفريق الأضعف تقنيا، يدفعه إلى التصرف بطريقة مغايرة لطبيعة الإنسان، التي تأمره بالحفاظ على النفس، وبالتالي يحقق تقدما على العدو. ولكن تفكير الإنسان قد تطور أيضا، وصار أكثر وعيا ومسؤولية. وقد أثبتت وقائع التاريخ الحديث أن القوة اقل أهمية من السياسة، وان التعاضد الاجتماعي أهم وسيلة للخلاص. فإذا كنا نريد النصر على (العدو)، فعلينا أن نطور فكرنا ليلحق بفكره (أو يسبقه) قبل أن ننصب أنفسنا شراكا، دون أن نعلم على وجه اليقين خاتمة ما نفعل، وما إذا كانت أفعالنا مجرد عبث غير مستند إلى حقيقة جوهرية.
والأمر لا يقل صعوبة لدى المثقفين والمفكرين الذين يسعون إلى فصل معنى الفعل الواحد إلى معنيين، متناقضين ظاهريا، باختلاف الظروف التي تحيط الفعل، والنتائج التي تتمخض عنه، أو المرجوة من إتيانه. وقد واجه أفلاطون مثل هذا التناقض في دعوته للعمل الصالح. فمتى يُعد فعلٌ ما صالحا، ونفسه قد يُعد غير صالح في أحيان أخرى؟ فالقتل –استنادا إلى أفلاطون- أمر سيء وخطيئة كبرى، لكنه قد يُعد فضيلة إذا ما وجّه إلى الأعداء، أو المجرمين قصاصا لما ارتكبوه من أفعال شنيعة. وإذا كان فعل القتل في الحالين واحد، وأثره واحد، فلماذا يُعد قتل الأعداء فضيلة؟ تترتب هنا عدة مسائل لجعل هذا الفعل صالحا (أو جائزا إن شئت)، أولها أن يكون العدو محاربا، مضمرا الأذى لنا، وان يكون غير اعزل حين تعرضه للقتل، كما انه يجب أن لا تكون هناك وسيلة أخرى لدفع الضرر إلا بالقضاء على هذا المحارب الذي يسعى للقضاء علينا. وهذه المعطيات تشكل ما يعرف بـ"الحرب العادلة".
وبالمقابل، يجب أن يحصل المجرمون على محاكمة عادلة، وان يتم إثبات جرمهم بما لا يدع مجالا للشك بأنهم ارتكبوا تلك الأفعال التي تستوجب سلبهم حياتهم. ومع ذلك فقد ارتكب القضاء، ونحسب أن سيرتكب في المستقبل، أخطاءا تجعل المرء يتساءل عن جدوى إعدام أي شخص يحتمل ولو بنسبة ضئيلة براءته، أو كون مسؤوليته جزئية عن الفعل الإجرامي المتهم به. ليس في نيتي الدعوة إلى رفع عقوبة الإعدام، ولست مناقشا ذلك في هذا المقام. ولكنني وددت أن أشير إلى معضلات كبرى واجهت البشرية منذ أطلت برأسها على هذا الكوكب.
إذا هاجمك احدهم منزلك بغية السرقة، ولم يكن من وسيلة لدفع هذا الأمر إلا بقتله، فلن تجد من يلومك لقيامك بهذا الفعل. وإذا هاجم لص مزرعتك لقطف بعض الفاكهة، فلن يكون لك الحق بقتله، خصوصا إذا ما ولى دبره هاربا. ولكن إذا قامت عصابة منظمة بمهاجمة المزرعة بغية سلب المحاصيل، جاز لك قتلهم جميعا إن استطعت. ورغم أن النتيجة واحدة في الحالتين الأخيرتين، إلا إن مبرراتهما مختلفة. فالسرقة من اجل سد الرمق، أمر يدعو للرثاء والشفقة على الفاعل أكثر منه إلى تجريمه. ولكن السطو على المنزل، يعد مفسدة وتجاوز على الحرمات.. وشبيه به تآمر العصابة لقطع الرزق.
وعلى هذا فانك بطل إذا قـُتلت شهيدا دفاعا عن بيتك أو مزرعتك في القتال مع العصابة التي هاجمتك. وهنا يأتي تعريف آخر علينا تحديده بدقة، تعريف الشهيد. لاشك إن من يموت من اجل المباديء السامية هو شهيد، وان من يقاتل الشر فيهلك دونه هو شهيد. ولكن كيف يمكن إثبات أن من نقاتلهم هم فعلا (أشرار)، وان المباديء التي ندعو إليها هي فعلا (سامية)؟ وهل وصل أي إنسان –إلا من أراد له الله ذلك بالبينة المعجزة- إلى يقين يوما؟ إذا كان يمكن أن يُترك لص المنزل يهرب، فهل يجب قتله، مع احتمال عودته؟ كيف لي أن اعرف انه سيهرب، أو انه لن يعود؟ إن قتله ينهي المسألة، ولكن إبقاؤه يجعلها مفتوحة باستمرار.
إن جمع هذه المفردات الثلاثة في مقام واحد قد يظهر حجم المعضلة التي نواجه:
مقاومة + شهادة + إرهاب
فرياضيا يجب أن تكون هناك نتيجة ما لهذا الجمع، فماذا عساها تكون؟ هناك ثلاث فرضيات، الأولى: مقاومة + شهادة = إرهاب
الثانية: مقاومة = شهادة + إرهاب
الثالثة: شهادة = مقاومة + إرهاب
ولكنها جميعا خاطئة باعتبار احتوائها على النقيضين: المقاومة والإرهاب
لنجعل المعادلة بإضافة المعطيات السابقة كالتالي:
مقاومة (لابد منها) = شهادة
مقاومة (لا جدوى منها) = إرهاب
فالمقاومة موجودة في الحالتين، ولكن التناقض يتضح في معنيي الشهادة والإرهاب، ويقود إلى نتيجة سطحية:
الشهادة = الإرهاب
ذلك أن كلا من (لابد منها) و(لا جدوى منها) لا يمكن إثباته مطلقا.
لقد كان مثالنا عن حالة تعرضنا لاعتداء، لكن الأمر مختلف إذا شعرنا أننا ضحية، وأن علينا المبادرة لرد الاعتداء أو منع اعتداء متوقع، وهو ما يعرف بـ(الجهاد). والجهاد في الحقيقة صورة عن المقاومة تتخذ وضعا ايجابيا، أي يمكن أن يحل محلها في المعادلات لتصبح:
جهاد = مقاومة = شهادة
دون الحاجة إلى تمييز بين من هو لابد منه، وما لا جدوى منه. والواضح أننا سنصل إلى نفس النتيجة السطحية بالإحلال:
جهاد = إرهاب
إن هذا التحليل الرياضي مبسط جدا. ولكن الموضوع أكثر تعقيدا، والنتائج ليست دائما بهذا الوضوح. غير أن احتمالا بسيطا بان يكون ذلك صحيحا، يقودنا إلى مفتاح لحل المعضلة. فإذا لم يكن لديك اليقين الكامل (ولا نحسب انه متوفر لأحد)، فلن تستطيع بان تصف عملك بالمقاومة (أو الجهاد)، وتضحيتك بالشهادة.. خصوصا إذا نجم عن فعلك إزهاق أرواح، وتدمير ممتلكات، وتعطيل لمسيرة الحياة. فإذا كنت تروم الشهادة لذاتها، فلربما لن تحصل عليها أبدا. فالشهادة نتيجة لفعل واجب في لحظة معينة، ولم تكن أبدا مطلوبة لذاتها، لا دينا، ولا عرفا.
إن من يهاجم جمعا ما (لأي سبب كان) مفجرا نفسه فيهم، إنما هو إرهابي، بغض النظر عن أية نتائج محتملة لفعله. فإذا أعلنت القوات المحتلة (أية قوات في أي مكان في العالم) أنها ستنهي احتلالها غدا، تحت وطأة العمليات الانتحارية (أو الجهادية)، فان تلك العمليات ليست بطولية، ومن قاموا بها ليسوا شهداء. فقد قاموا بالتصرف منفردين، وقرروا قتل آخرين، بالإضافة إلى أنفسهم استنادا إلى قناعة غير يقينية.. وما بني على الباطل، فهو باطل شرعا وقانونا، ولا يعتد به.
إن غياب اليقين عن أفعال الإنسان أمر مألوف، فأنت تسعى من اجل اكتساب الرزق، مع إيمانك بان الرزق مكفول لجميع الدواب (التي ينتمي إليها الإنسان). وأنت تتأمل في الخلق، وتجادل في عظمة الخالق.. ولو كنت على يقين تام لما احتجت إلى أية مجادلة. وبنو البشر يحيكون المؤامرات آناء الليل وأطراف النهار، وينهش بعضهم بعضا، وان كانوا متدينين ورعين يرجون الدار الآخرة. فلو كان لأحد أن يكون على يقين تام، لتوقف عن مخالطة الناس، ولأعتزل في صومعة يرجو أن تصيبه رحمة ربه، فان رزقه فليبقيه حيا، وإلا فليقربه منه.
فكيف، والحال هذا، يجزم أي إنسان بـ(يقين) يصل حد إنهاء حياته من اجل قضية ما؟ إذا تواجه جيشان فان احتمال الموت في المعركة يكون كبيرا، ولكنه ليس محتما. وفي الواقع إن احتمالية الموت ربما تكون متعاكسة مع درجة الإيمان التي يتمتع بها الجنود في تلك المعركة، فكلما ازداد إيمانهم كلما تعاظمت فرصة نصرهم، وبالتالي نجاتهم. وربما تفانى بعضهم غير مبال بحياته في القتال، أو ربما عرض نفسه للقتل عمدا من اجل إحراز هذا النصر، لكنه لا يُعد عملا إرهابيا، ففرص الجميع متساوية، والوضع افلاطوني بحت: العدل في قتل الأعداء في ساحة المعركة، دون القتل المطلق.
لقد تطورت وسائل القتال، وباتت المواجهات في كثير من الأحيان مواجهات تقنية أكثر منها عقائدية. وقد ينشأ إحباط لدى الفريق الأضعف تقنيا، يدفعه إلى التصرف بطريقة مغايرة لطبيعة الإنسان، التي تأمره بالحفاظ على النفس، وبالتالي يحقق تقدما على العدو. ولكن تفكير الإنسان قد تطور أيضا، وصار أكثر وعيا ومسؤولية. وقد أثبتت وقائع التاريخ الحديث أن القوة اقل أهمية من السياسة، وان التعاضد الاجتماعي أهم وسيلة للخلاص. فإذا كنا نريد النصر على (العدو)، فعلينا أن نطور فكرنا ليلحق بفكره (أو يسبقه) قبل أن ننصب أنفسنا شراكا، دون أن نعلم على وجه اليقين خاتمة ما نفعل، وما إذا كانت أفعالنا مجرد عبث غير مستند إلى حقيقة جوهرية.