عمر بن الخطاب و علي بن ابي طالب رضي الله عنهما ...
عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: القاسم المشترك بينهما على أرضية دورهما التاريخي
شخصيتان كبيرتان لعبتا دوراً بارزاً في التاريخ الإسلامي, تلاقيا في الكثير, واختلفا في القليل, وقد أصبح كل منهما رمزاً يُستشهد به باستمرار عبر التاريخ الإسلامي بأسره. إنهما الشخصيتان الأبرز بعد الرسول, عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. فما الذي يجمعهما معاً؟ وما الذي يفرقهما؟....
لقد فهم عمر بن الخطاب بعمق، بعد وفاة الرسول، الوضع الاجتماعي السائد في الجزيرة العربية على أعتاب الفتوحات الإسلامية الكبرى. ومن منطق ذلك العصر, كان قد فهم أيضاً أن القاعدة الاجتماعية للدولة الإسلامية الفتية, لم تكن متجانسة. وبحسه الفطري وصل إلى استنتاج أن الاستقرار في هذه الدولة الناشئة لا يمكن أن يتم إلا بالحفاظ على التوازن الاجتماعي الداخلي في هذه الدولة. وبمعنى آخر, كان يعي بدقة, أن الدولة هي عنصر أساسي في تحقيق ذلك التوازن. ومن هنا كان حرصه الشديد مثلاً, على توزيع غنائم الفتوحات توزيعاً يحقق باستمرار هذا التوازن.
ربما كان عمر بن الخطاب هو أول من أبدع سياسة التوازن الاجتماعي في التاريخ الإسلامي بعد محمد.
وإضافة إلى ذلك, فقد كان عمر يعي وبعمق كافٍ, أهمية النموذج في ذلك الوقت بالنسبة للبدوي الذي لم يكن قد اعتاد بعد على النظام, ولا على القوانين, ولا على الضوابط. وبسلوكه الحكيم, قدم هذا النموذج. أي أنه لم يجعل بينه وبين المسلمين أية فوارق تميزه عنهم, مما أعطى شعوراً عاماً أن هذا الخليفة هو واحد منهم. وهذا أيضاً كان أحد شروط الاستقرار المجتمعي في ذلك الوقت. والأمثلة التي يرويها التاريخ على ذلك هي كثيرة وعديدة جداً لسنا بصدد تناولها في هذه المقالة. كما أن النموذج كان ضرورياً أيضاً لشيء آخر, فانتصار الدولة المسلمة الفتية على أعتى إمبراطوريتين في ذلك الوقت, وهما الإمبراطورية البيزنطية, والإمبراطورية الفارسية, كان بحاجة عميقة إلى الوحدة الداخلية للمجتمع الإسلامي. وقد فهم عمر ذلك بدقة كبيرة. كما فهم أيضاً, أن هذه الدولة الفتية التي بناها الإسلام, يجب ألا تكون قوة منفِّرة للآخرين, بل يجب أن تتحول إلى قوة جاذبة للجميع. ولهذا فقد دعا عمر بن الخطاب جيوشه التي فتحت بلاد الشام والعراق(التي كانت شعوبها تعاني من سيطرة واضطهاد هاتين الإمبراطوريتين) إلى أن تتعامل مع شعوب هذه البلاد ليس كجيوش فاتحة وغازية, وإنما كجيوش منقذة لهم من الظلم والاضطهاد.
إذاً, لقد فهم عمر بن الخطاب محتوى عصره فهماً عميقاً, وبنزعته الإنسانية, استطاع أن يعكس هذا المحتوى, بإبداع دقيق, وهذا ما جعل دوره مميزاً بصورة واسعة في تاريخ الدولة الإسلامية. إذ إنه جمع في آن واحد, في ذاته كرجل دولة كبير, جميع الخصائص التي كان يمكن أن تجعل من الدولة الإسلامية دولة موحدة داخلياً, وجاذبة, ولديها القدرة على مجابهة مهماتها خارجياً.
لقد أزعجت سياسة عمر بن الخطاب بعض القوى التي لم تستطع في عهده أن تجيِّر سياسة الدولة الإسلامية لمصالحها الخاصة. وربما يكون سبب اغتياله يعود بالدرجة الأولى لذلك, وأتى بعد عمر بن الخطاب, الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان. وكان أحد من أوصى بهم عمر قبل وفاته. إلا أن فترته قد اختلفت تماماً عن عهد عمر.
وقد تميزت اتجاهاتها العامة بتقويض جميع الركائز التي كانت سائدة في عهد الخليفة الثاني. لقد كانت فترة عثمان بن عفان تتميز بانحياز كامل ومطلق لأغنياء قريش, وخصوصاً من قرابته. وقد كان أسيراً بصورة واضحة لأسرته ـ هذا لا يعني التشكيك بجانبه الإيماني ـ وقد انعكس ذلك في أن دور الدولة قد بدأ بالضعف, وظهر ذلك جلياً في ضعف رأس الدولة عثمان. وبدأ الخلل في التوازن الاجتماعي يظهر واضحاً* وجلياً, إذ أصبح معظم ولاة الدولة الإسلامية من أقربائه, ولم يعد الخليفة حاضناً للجميع, وإنما بدا حاضناً لأسرته وأقربائه فقط. وهنا أخذت السياسة الاقتصادية تخدم مصالح أغنياء قريش في توزيع المغانم, وفي مجال حصص المسلمين من بيت المال, ومن حيث السلطة التي بدأ يستحوذ عليها أقرباؤه رويداً رويداً, والسلطة بحد ذاتها تولد المغانم أيضاً. وبدأ يجري الإبعاد المتواصل لكل من كان ينتقد هذه التصرفات, الأمر الذي ولَّد استياءً عميقاً في أوساط جماهير المسلمين جميعاً. وقد شكل هذا الاستياء أساساً للثورة التي حدثت وأدَّت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
لم يجد الثائرون على عثمان أجدر بالخلافة من علي بن أبي طالب, فيما يتعلق بتلبية مطالب الجماهير الأوسع من المسلمين. وقد كان علي في البداية متردداً في ذلك, إلا أن ضغط الجموع وتحميلهم إياه المسؤولية في حال رفضه, قد أجبره على القبول. وفي الوقت نفسه كان هناك مرشحون آخرون يتطلعون إلى الخلافة, ومن أبرزهم, طلحة, والزبير, وهما من أغنياء قريش, إلا أنهما لم يستطيعا الحصول على تأييد الجماهير الثائرة.
وفي عهد علي بن أبي طالب بدأت مرحلة أخرى من مراحل الدولة الإسلامية تميزت بالعودة إلى النهج العمري من حيث مسألة العدالة, ومن حيث العودة إلى المسائل الأخلاقية في التعامل مع المسلمين. كانت اندفاعات الثوار تضغط على علي وتطالبه بسياسة أكثر جذرية ـ حسب مفاهيمنا المعاصرة. الأمر الذي أدى إلى فقدان أحد الأركان الأساسية في سياسة عمر وهو ركن التوازن الاجتماعي. لم يكن باستطاعة علي الذي انحاز إلى جانب الثائرين أن يحقق هذا التوازن الذي شكّل، كما قلنا سابقاً, إحدى الركائز الأساسية في سياسة عمر بن الخطاب. إن عدم تحقيق هذا التوازن قد أدى إلى الاضطرابات اللاحقة, في عهد علي بن أبي طالب, وإلى عدم تمكنه من توحيد الدولة الإسلامية.
لقد تمرَّد عليه الولاة, وخصوصاً معاوية بن أبي سفيان, والي دمشق. كما أن جبهة الثائرين على عليّ لم تكن موحدة في غاياتها, فالزبير وطلحة, وهما كما قلنا, من أثرياء قريش, لم يكونا مسرورين من خلافة علي, ووجداً في سياسته تهديداً لمصالحهما، وبدلاً من أن تهتم الدولة الإسلامية الفتية بتوطيد دولتها التي بدأت بالاتساع كثيراً, فقد انصب الجهد الأساسي في عهد علي بن أبي طالب باتجاه حل هذه التناقضات الواسعة التي بدأت بتهديد هذه الدولة بالتقويض.
لقد انتهت فترة علي بن أبي طالب باستلام معاوية للخلافة, أي, بانتصاره عملياً. وقد كان ذلك طبيعياً لعوامل عدة, فالصراع كان يجري داخل الدولة الإسلامية من أجل استتباب السلطة للطبقة الاجتماعية المؤهلة لها تاريخياً, في ذلك العصر. أي, سلطة مالكي الثروة. ولم يكن باستطاعة فقراء المسلمين أن يكونوا هم الحكام, لأنهم كانوا آنذاك), غير مؤهلين لذلك. بيد أن فترة علي قد تركت بصماتها التاريخية التي لا تمحى. انطلاقاً من تناوله المسألة الإسلامية من الناحية التي تخدم مصالح الجماهير الشعبية آنذاك, وإضافة إلى الجانب الأخلاقي الرفيع الذي كان يتمتع به علي بن أبي طالب, والذي لم يساوم به ولا عليه إطلاقاًً, وهذا أهم ما كان يجمعه بعمر بن الخطاب, فقد تحول علي تاريخياً, إلى رمز للمعارضة عبر تاريخ الدولة الإسلامية.
لقد اشترك عمر وعلي, في أخلاقية رفيعة ميزتهما عن الآخرين. وإضافة إلى ذلك, فالرجلان, رغم أنهما كانا خليفتين, إلا أنهما لم يتخلَّيا بتاتاً عن مسألة الشورى بين المسلمين. كما أنهما, لم يميزا نفسيهما عن سائر المسلمين الآخرين. وكانا صارمين تجاه نفسيهما, وتجاه أولادهما أيضاً. وبهذا، فإن كلاً من الرجلين قد شكل نموذجاً يحتذى به. وكانا صادقين, ويقترن لديهما القول بالعمل.
وبصرف النظر عما يجمع ويفرق بين الخليفتين عمر وعلي, فقد بقي اسماهما رمزين كبيرين في تاريخ الإسلام, يعكسان طموح المسلمين نحو العدالة وضد الاستبداد. وهذا ما أعطاهما مكانين بارزين في التاريخ, لا يمكن تجاهلهما مطلقاً.