- الثلاثاء مارس 01, 2011 6:12 pm
#33052
. عبد اللّطـيف الحنّـاشي
تجدّدت النظرة الرومانسية التي ينظر بها قطاع واسع من الكتاب والصحفيين العرب إلى السياسة العربية لتركيا بمناسبة الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي السيد أحمد داود أوغلو إلى الجمهورية العربية السورية في إطار الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي السوري- التركي الذي انعقد في مدينة حلب والذي تضمن إقامة منطقة حرة وإلغاء تأشيرات دخول مواطني البلدين واتفاقا على إجراء مناورات عسكرية أكبر حجماً وأكثر شمولاً بين البلدين من المناورات السابقة.
ويعود إعجاب العرب و"انبهارهم" بدور تركيا بعد رفض هذه الأخيرة سنة 2003 إعطاء الولايات المتحدة تسهيلات لوجستية لغزو العراق، ثم رفض أنقرة المساهمة في مساعي عماوال سوريا سنة 2005 وتزايد هذا الإعجاب العربي بالسياسة التركية بعد تنديد تركيا الشديد بالمجازر الصهيونية على قطاع غزة، وخاصة عند تصدي رئيس الوزراء التركي الطيب أردوغان، في مؤتمر دافوس، لشمعون بيريس رئيس الدولة الصهيونية والاحتجاج على سلوك منظمي المناظرة المنحاز لبيريز على حسابه ثم تركه القاعة غاضبا.
وتزايد هذا الإعجاب مؤخرا بعد إلغاء القيادة التركية المشاركة الإسرائيلية في مناورات "نسر الأناضول"، وهي المناورات التي تجرى سنويا في الأجواء التركية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية. ويعتقد الأتراك أن مشاركة القوات الإسرائيلية في المناورات والتدريبات العسكرية التي تتم داخل الأراضي التركية أمر يسيء إلى سمعة تركيا، إضافة إلى أنه يرفع من وتائر الغضب والاحتجاجات الشعبية التركية؛ في حين يرى بعض المحللين أن السبب الحقيقي لإلغاء المناورة هو كون إسرائيل تنوي القيام بعملية سرية موازية، الهدف منها هو الرصد والاستطلاع الجوي لبعض مناطق الحدود الإيرانية، إضافة إلى محاولة الرصد الإلكتروني لطبيعة عمل الرادارات ووسائل الدفاع الجوي الإيرانية من خلال التحليق في الأجواء التركية.
والواقع أن علاقة تركيا بالعالم العربي لم تنقطع في أي مرحلة من المراحل، إذ كانت طيّبة مع أغلب الدول العربية "سواء بالنسبة لدول الخليج العربي أو دول المغرب العربي" باستثناء العلاقة مع الجارتين العراق وسوريا التي كانت متوترة ووصلت في بعض الأحيان إلى حافة الصدام العسكري لولا دخول أطراف دولية "الاتحاد السوفياتي سابقا" أحيانا، وعربية "مصر" في أحيان أخرى لعدة أسباب منها التحالف الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل أو مشكل المياه أو بسبب المشكلة الكردية.
أما السياسة الجديدة التي توختها الجمهورية التركية تجاه العالم العربي فتتمثل في استدارتها نحو سوريا، وذلك من بوابة احتضانها للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وهو ما تطلّب إعادة الثقة بين كل من دمشق وأنقرة. وتمثل هذه الاستدارة التركية في عمقها استجابة تركية للتحولات الاستراتيجية العميقة التي عرفها العالم ومنطقة الشرق الأوسط، من ذلك بروز الدور الإيراني بأبعاده الجديدة وإدراك الدبلوماسية التركية لتأثيرات مجمل تلك المتغيرات وخاصة الإقليمية على وضعها الجيو- استراتيجي ورغبتها في الاستمرار في أن تكون دولة ذات شأن حتى في النظام العالمي الجديد، بعد أن فقدت دورها السابق في إطار الحرب الباردة، وذلك من خلال السعي إلى القيام بدور الوساطة بين سوريا وإسرائيل من جهة، وإمكانية تحقيق اختراق ما في العلاقات بين سوريا وإيران مما قد يضاعف من أهمية الدور التركي في المنطقة من جهة أخرى. وقد يضمن لها أيضا رضاء أمريكيّا أوسع واستحسانا أوروبيا قد يؤدي إلى قبول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
لا شكّ أن العلاقة الجديدة بين سوريا وتركيا هي ذات أبعاد استراتيجية اقتصادية وسياسية متعددة تخدم في العمق مصالح البلدين، غير أنها قد تخدم الدولة التركية أكثر مما تخدم الدولة السورية أو حتى مجمل الدول العربية باعتبار اختلال التوازن بين الطرفين.
وتملك تركيا عدة مقومات تساعد على ذلك، فهي ذات مساحة جغرافية واسعة تربط آسيا وأوروبا، وذات حجم سكاني كبير "حوالي 70 مليون نسمة"، كما تمتلك مصادر طبيعية متعددة أهمها المياه. كما تمكنت تركيا من تحقيق نهضة اقتصادية هامة متعددة المجالات، وتصدر تركيا الكثير من المنتجات الصناعية والزراعية إلى أغلب البلدان العربية، وإن بتفاوت "تتجاوز صادرات تركيا سنويا، بدون أي ثروة خام، المائة مليار دولار".
وتعتبر تركيا من أهم المناطق الجاذبة للسياح، ومنهم العرب للاستجمام أو للتجارة أو الاثنين معا، كما تمثل أيضا ممرا مهما بالنسبة إلى سوريا باتجاه آسيا وأوروبا.
أما سوريا فتمثل ممرا أساسيا لتركيا إلى المشرق العربي خاصة في مجال النقل والطاقة والمجالات المختلفة الأخرى. كما أن، الحدود التركية- السورية هي الأطول جغرافياً، إذ تمتد إلى حوالي 900 كيلومتر، وهي أكثر أمانا واستقرارا وتنساب منها السلع والأمواج البشرية بأقل معاناة وأقل تكلفة مقارنة بوضع الحدود التركية العراقية غير المستقرة، وذلك نتيجة نشاط حرب العمال الكردستاني المسلّح الذي يَحدّ من التواصل عبرها.
أما الحدود التركية البرية مع إيران فهي جبلية ،والحركة على جانبيها غير نشطة. لذلك تبقى سوريا إحدى أهم بوابات تركيا الاقتصادية إلى محيطها الشرق أوسطي.
وباستثناء المواقف التركية الإيجابية لصالح القضية الفلسطينية التي جاءت بعد المجازر التي ارتكبتها القوات الصهيونية على قطاع غزة والمواقف المؤيدة لحقوق سوريا في صراعها مع إسرائيل، وخاصة موقفها النزيه غير المتواطئ مع تل أبيب في إطار دورها في الوساطة السورية الإسرائيلية فإن تركيا لم تقدم للعرب ولقضيتهم الشيء الكثير مقارنة بما تقدمه إلى إسرائيل.
ظلت العلاقة بين تركيا وإسرائيل متينة جدا كما كانت عليه قبل الاستدارة التركية نحو سوريا، وهو الأمر الذي عبّر عنه العديد من المسؤولين الإسرائيليين بالاستنكار، رغم المواقف التي ذكرناها سابقا. وترتبط المؤسسة العسكرية التركية بعلاقات متميزة مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعززت بعد التوقيع على اتفاق التحالف العسكري سنة 1996. وتشمل العلاقات عدة مجالات كالتدريبات المشتركة واستخدام الأجواء التركية لتدريبات سلاح الجو الإسرائيلي وتعاون أمني واستخباراتي واسع. وتركيا هي الدولة الوحيدة التي تستهلك معدات عسكرية وتكنولوجية إسرائيلية بكميات كبيرة كقطع غيار دباباتها وطائراتها، كما تتزود بصواريخ إسرائيلية ومنظومات الكترونية متطورة، وإجمالا تصدر إسرائيل إلى تركيا بضائع وخدمات تبلغ نحو مليار ونصف مليار دولار سنويا، وتستورد منها بأكثر من مليار دولار.
لذلك يبدو الإعجاب بالسياسة التركية والتحمّس لها من قبل الكثير من العرب مبالغا فيه حسب الكثير من المتابعين. إذ يتغافل هؤلاء الكتاب والصحفيون العرب عن القدرات المتميّزة للدبلوماسية السورية التي مثلت عاملا أساسيا في هذه الاستدارة السياسية التركية. وتستمد الدبلوماسية السورية أحد أهم دعائمها من الموقع الاستراتيجي الهام للبلد في المنطقة. إذ تمثل سوريا الدولة الوحيدة في المنطقة المتصلة جغرافياً بمناطق النزاع والخلاف في الشرق الأوسط كالعراق وفلسطين ولبنان.
وقد تمكنت تلك الدبلوماسية من تحقيق عدة نجاحات في الفترة الأخيرة. إذ تمكنت مثلا من وضع حدّ لعماوالتها العربية التي فرضتها عليها ما يعرف بدول الاعتدال العربي، ثم تمكنت من تخفيف الضغوط المفروضة عليها من قبل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والإسرائيلية، وذلك من خلال الدخول في مفاوضات سلام غير مباشرة مع إسرائيل بوساطة تركية وحضور مؤتمر أنابوليس؛ وتمكنت في الأخير من جرّ الإدارة الأمريكية والأوروبية "مثل فرنسا وبريطانيا وايطاليا" إلى التعاطي مع الحكومة السورية وإرسال المبعوثين إلى دمشق.
ولم تكتف الدبلوماسية السورية بذلك بل طرحت العديد من المبادرات والتصورات التي تضمنت أبعادا استراتيجية جديدة لعلاقات متوازنة لدول المنطقة، ومنها المبادرة الأخيرة التي تهدف إلى ربط البحار الأربعة وهي: المتوسط وقزوين والأسود والخليج العربي، وتعميق الروابط الاقتصادية والسياسية لتشكيل تكتل إقليمي قوي.
ولا شكّ أن زيارة وزير الخارجية التركية إلى دمشق مباشرة بعد زيارة العاهل السعودي إليها يمثل رغبة سورية مؤكدة من أجل إعادة تنشيط المحور العربي الثلاثي "القاهرة- دمشق- الرياض" وتأكيد سوريا أن علاقاتها الاستراتيجية مع دولتين إسلاميتين محوريتين في المنطقة وهما إيران "الشيعية المناهضة للغرب" وتركيا "السنية القريبة من الغرب" لن يكون على حساب علاقتها مع الدولتين العربيتين الأكبر وهما مصر والمملكة العربية السعودية. وتعتقد الدبلوماسية السورية أن علاقاتها مع كل من إيران وتركيا هي مصدر توازن واستقرار للمنطقة في ظل الظروف الدولية المعقدة، وذلك عكس ما تراه الولايات المتحدة الأمريكية والدولة الصهيونية.
ومن المهم الإشارة أخيرا إلى أن ما تحقق بين تركيا وسوريا لم يتحقق حتى الأدنى منه بين الدول العربية فيما بينها رغم وجود الجامعة العربية و"ترسانة" الاتفاقيات المشابهة غير المطبّقة بين الدول العربية، وذلك نتيجة الإرادة السياسية واستقلالية القرار الوطني المستقل الذي لا يراعي غير المصلحة الوطنية، وهو ما يجسد العقلانية السياسية التي تفتقدها الممارسة السياسية العربية الرسمية وغير الرسمية عامة.
تجدّدت النظرة الرومانسية التي ينظر بها قطاع واسع من الكتاب والصحفيين العرب إلى السياسة العربية لتركيا بمناسبة الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي السيد أحمد داود أوغلو إلى الجمهورية العربية السورية في إطار الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي السوري- التركي الذي انعقد في مدينة حلب والذي تضمن إقامة منطقة حرة وإلغاء تأشيرات دخول مواطني البلدين واتفاقا على إجراء مناورات عسكرية أكبر حجماً وأكثر شمولاً بين البلدين من المناورات السابقة.
ويعود إعجاب العرب و"انبهارهم" بدور تركيا بعد رفض هذه الأخيرة سنة 2003 إعطاء الولايات المتحدة تسهيلات لوجستية لغزو العراق، ثم رفض أنقرة المساهمة في مساعي عماوال سوريا سنة 2005 وتزايد هذا الإعجاب العربي بالسياسة التركية بعد تنديد تركيا الشديد بالمجازر الصهيونية على قطاع غزة، وخاصة عند تصدي رئيس الوزراء التركي الطيب أردوغان، في مؤتمر دافوس، لشمعون بيريس رئيس الدولة الصهيونية والاحتجاج على سلوك منظمي المناظرة المنحاز لبيريز على حسابه ثم تركه القاعة غاضبا.
وتزايد هذا الإعجاب مؤخرا بعد إلغاء القيادة التركية المشاركة الإسرائيلية في مناورات "نسر الأناضول"، وهي المناورات التي تجرى سنويا في الأجواء التركية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية. ويعتقد الأتراك أن مشاركة القوات الإسرائيلية في المناورات والتدريبات العسكرية التي تتم داخل الأراضي التركية أمر يسيء إلى سمعة تركيا، إضافة إلى أنه يرفع من وتائر الغضب والاحتجاجات الشعبية التركية؛ في حين يرى بعض المحللين أن السبب الحقيقي لإلغاء المناورة هو كون إسرائيل تنوي القيام بعملية سرية موازية، الهدف منها هو الرصد والاستطلاع الجوي لبعض مناطق الحدود الإيرانية، إضافة إلى محاولة الرصد الإلكتروني لطبيعة عمل الرادارات ووسائل الدفاع الجوي الإيرانية من خلال التحليق في الأجواء التركية.
والواقع أن علاقة تركيا بالعالم العربي لم تنقطع في أي مرحلة من المراحل، إذ كانت طيّبة مع أغلب الدول العربية "سواء بالنسبة لدول الخليج العربي أو دول المغرب العربي" باستثناء العلاقة مع الجارتين العراق وسوريا التي كانت متوترة ووصلت في بعض الأحيان إلى حافة الصدام العسكري لولا دخول أطراف دولية "الاتحاد السوفياتي سابقا" أحيانا، وعربية "مصر" في أحيان أخرى لعدة أسباب منها التحالف الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل أو مشكل المياه أو بسبب المشكلة الكردية.
أما السياسة الجديدة التي توختها الجمهورية التركية تجاه العالم العربي فتتمثل في استدارتها نحو سوريا، وذلك من بوابة احتضانها للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وهو ما تطلّب إعادة الثقة بين كل من دمشق وأنقرة. وتمثل هذه الاستدارة التركية في عمقها استجابة تركية للتحولات الاستراتيجية العميقة التي عرفها العالم ومنطقة الشرق الأوسط، من ذلك بروز الدور الإيراني بأبعاده الجديدة وإدراك الدبلوماسية التركية لتأثيرات مجمل تلك المتغيرات وخاصة الإقليمية على وضعها الجيو- استراتيجي ورغبتها في الاستمرار في أن تكون دولة ذات شأن حتى في النظام العالمي الجديد، بعد أن فقدت دورها السابق في إطار الحرب الباردة، وذلك من خلال السعي إلى القيام بدور الوساطة بين سوريا وإسرائيل من جهة، وإمكانية تحقيق اختراق ما في العلاقات بين سوريا وإيران مما قد يضاعف من أهمية الدور التركي في المنطقة من جهة أخرى. وقد يضمن لها أيضا رضاء أمريكيّا أوسع واستحسانا أوروبيا قد يؤدي إلى قبول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
لا شكّ أن العلاقة الجديدة بين سوريا وتركيا هي ذات أبعاد استراتيجية اقتصادية وسياسية متعددة تخدم في العمق مصالح البلدين، غير أنها قد تخدم الدولة التركية أكثر مما تخدم الدولة السورية أو حتى مجمل الدول العربية باعتبار اختلال التوازن بين الطرفين.
وتملك تركيا عدة مقومات تساعد على ذلك، فهي ذات مساحة جغرافية واسعة تربط آسيا وأوروبا، وذات حجم سكاني كبير "حوالي 70 مليون نسمة"، كما تمتلك مصادر طبيعية متعددة أهمها المياه. كما تمكنت تركيا من تحقيق نهضة اقتصادية هامة متعددة المجالات، وتصدر تركيا الكثير من المنتجات الصناعية والزراعية إلى أغلب البلدان العربية، وإن بتفاوت "تتجاوز صادرات تركيا سنويا، بدون أي ثروة خام، المائة مليار دولار".
وتعتبر تركيا من أهم المناطق الجاذبة للسياح، ومنهم العرب للاستجمام أو للتجارة أو الاثنين معا، كما تمثل أيضا ممرا مهما بالنسبة إلى سوريا باتجاه آسيا وأوروبا.
أما سوريا فتمثل ممرا أساسيا لتركيا إلى المشرق العربي خاصة في مجال النقل والطاقة والمجالات المختلفة الأخرى. كما أن، الحدود التركية- السورية هي الأطول جغرافياً، إذ تمتد إلى حوالي 900 كيلومتر، وهي أكثر أمانا واستقرارا وتنساب منها السلع والأمواج البشرية بأقل معاناة وأقل تكلفة مقارنة بوضع الحدود التركية العراقية غير المستقرة، وذلك نتيجة نشاط حرب العمال الكردستاني المسلّح الذي يَحدّ من التواصل عبرها.
أما الحدود التركية البرية مع إيران فهي جبلية ،والحركة على جانبيها غير نشطة. لذلك تبقى سوريا إحدى أهم بوابات تركيا الاقتصادية إلى محيطها الشرق أوسطي.
وباستثناء المواقف التركية الإيجابية لصالح القضية الفلسطينية التي جاءت بعد المجازر التي ارتكبتها القوات الصهيونية على قطاع غزة والمواقف المؤيدة لحقوق سوريا في صراعها مع إسرائيل، وخاصة موقفها النزيه غير المتواطئ مع تل أبيب في إطار دورها في الوساطة السورية الإسرائيلية فإن تركيا لم تقدم للعرب ولقضيتهم الشيء الكثير مقارنة بما تقدمه إلى إسرائيل.
ظلت العلاقة بين تركيا وإسرائيل متينة جدا كما كانت عليه قبل الاستدارة التركية نحو سوريا، وهو الأمر الذي عبّر عنه العديد من المسؤولين الإسرائيليين بالاستنكار، رغم المواقف التي ذكرناها سابقا. وترتبط المؤسسة العسكرية التركية بعلاقات متميزة مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعززت بعد التوقيع على اتفاق التحالف العسكري سنة 1996. وتشمل العلاقات عدة مجالات كالتدريبات المشتركة واستخدام الأجواء التركية لتدريبات سلاح الجو الإسرائيلي وتعاون أمني واستخباراتي واسع. وتركيا هي الدولة الوحيدة التي تستهلك معدات عسكرية وتكنولوجية إسرائيلية بكميات كبيرة كقطع غيار دباباتها وطائراتها، كما تتزود بصواريخ إسرائيلية ومنظومات الكترونية متطورة، وإجمالا تصدر إسرائيل إلى تركيا بضائع وخدمات تبلغ نحو مليار ونصف مليار دولار سنويا، وتستورد منها بأكثر من مليار دولار.
لذلك يبدو الإعجاب بالسياسة التركية والتحمّس لها من قبل الكثير من العرب مبالغا فيه حسب الكثير من المتابعين. إذ يتغافل هؤلاء الكتاب والصحفيون العرب عن القدرات المتميّزة للدبلوماسية السورية التي مثلت عاملا أساسيا في هذه الاستدارة السياسية التركية. وتستمد الدبلوماسية السورية أحد أهم دعائمها من الموقع الاستراتيجي الهام للبلد في المنطقة. إذ تمثل سوريا الدولة الوحيدة في المنطقة المتصلة جغرافياً بمناطق النزاع والخلاف في الشرق الأوسط كالعراق وفلسطين ولبنان.
وقد تمكنت تلك الدبلوماسية من تحقيق عدة نجاحات في الفترة الأخيرة. إذ تمكنت مثلا من وضع حدّ لعماوالتها العربية التي فرضتها عليها ما يعرف بدول الاعتدال العربي، ثم تمكنت من تخفيف الضغوط المفروضة عليها من قبل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والإسرائيلية، وذلك من خلال الدخول في مفاوضات سلام غير مباشرة مع إسرائيل بوساطة تركية وحضور مؤتمر أنابوليس؛ وتمكنت في الأخير من جرّ الإدارة الأمريكية والأوروبية "مثل فرنسا وبريطانيا وايطاليا" إلى التعاطي مع الحكومة السورية وإرسال المبعوثين إلى دمشق.
ولم تكتف الدبلوماسية السورية بذلك بل طرحت العديد من المبادرات والتصورات التي تضمنت أبعادا استراتيجية جديدة لعلاقات متوازنة لدول المنطقة، ومنها المبادرة الأخيرة التي تهدف إلى ربط البحار الأربعة وهي: المتوسط وقزوين والأسود والخليج العربي، وتعميق الروابط الاقتصادية والسياسية لتشكيل تكتل إقليمي قوي.
ولا شكّ أن زيارة وزير الخارجية التركية إلى دمشق مباشرة بعد زيارة العاهل السعودي إليها يمثل رغبة سورية مؤكدة من أجل إعادة تنشيط المحور العربي الثلاثي "القاهرة- دمشق- الرياض" وتأكيد سوريا أن علاقاتها الاستراتيجية مع دولتين إسلاميتين محوريتين في المنطقة وهما إيران "الشيعية المناهضة للغرب" وتركيا "السنية القريبة من الغرب" لن يكون على حساب علاقتها مع الدولتين العربيتين الأكبر وهما مصر والمملكة العربية السعودية. وتعتقد الدبلوماسية السورية أن علاقاتها مع كل من إيران وتركيا هي مصدر توازن واستقرار للمنطقة في ظل الظروف الدولية المعقدة، وذلك عكس ما تراه الولايات المتحدة الأمريكية والدولة الصهيونية.
ومن المهم الإشارة أخيرا إلى أن ما تحقق بين تركيا وسوريا لم يتحقق حتى الأدنى منه بين الدول العربية فيما بينها رغم وجود الجامعة العربية و"ترسانة" الاتفاقيات المشابهة غير المطبّقة بين الدول العربية، وذلك نتيجة الإرادة السياسية واستقلالية القرار الوطني المستقل الذي لا يراعي غير المصلحة الوطنية، وهو ما يجسد العقلانية السياسية التي تفتقدها الممارسة السياسية العربية الرسمية وغير الرسمية عامة.